عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم كانوا يدعون أنهم خلقوا غلف القلوب ، أو أنهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم وصنعهم.
ولذلك رد الله سبحانه عليهم بقوله « بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً » فبين أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم وجحودهم للحق ، وكان أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم.
وقد تقدم الكلام في هذا الاستثناء ، وأن هذه النقمة الإلهية إنما نزلت بهم بقوميتهم ومجتمعهم ، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة ، ومطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم ، ولا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم.
قوله تعالى : « بِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً » وهو قذفها عليهالسلام في ولادة عيسى بالزنا ، وهو كفر وبهتان معا وقد كلمهم عيسى في أول ولادته وقال : « إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا » : ( مريم. ٣٠ ).
قوله تعالى : « وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ » قد تقدم في قصص عيسى عليهالسلام في سورة آل عمران أنهم اختلفوا في كيفية قتله صلبا وغير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا ثم ذكر القتل والصلب معا في مقام الرد والنفي لبيان النفي التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما ، ولا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل ، وقد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفي القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلا عاديا ، ولا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله « وَما قَتَلُوهُ » قوله « وَما صَلَبُوهُ » ليؤدي الكلام حقه من الصراحة ، وينص على أنه عليهالسلام لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب ، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح عليهالسلام مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه ، وليس من البعيد عادة ، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجية والهجمة والغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره وقد قتله الجنديون من الروميين ، وليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره ، ومع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه.