وساكنها [ مغترب ] بين أهل عمارة موحشين ، وأهل محلة متشاغلين ، لا يستأنسون بالعمران ، ولا يتواصلون تواصل الجيران والاخوان ، على ما بينهم من قرب الجوار ، ودنو الدار.
وكيف يكون بينهم تواصل؟ وقد طحنهم بكلكه البلى ، وأكلتهم الجنادل والثرى ، فابحوا بعد الحياة أمواتا ، وبعد غضارة العيش رفاتا ، فجع بهم الاحباب وسكنوا التراب ، وظعنوا فليس لهم إياب ، هيهات هيهات ، إنها كلمة هوقائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.
فكأن قد صرتم إلى ما صاروا اليه من البلى ، والوحدة في المثوى ، وارتهنتم في ذلك المضجع ، وضمكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو قد تناهت الامور ، وبعثرت القبور ، وحصل ما في الصدور ، ووقفتم للتحصيل بين يدي ملك جليل ، فطارت القلوب لاشفاقها من سالف الذنوب ، وهتكت عنكم الحجب والاستار ، وظهرت منكم العيوب والاسرار ، هنالك تجزى كل نفس بما كسبت.
إن الله عزوجل يقول : «ليجزي الذين آمنوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى» (١) وقال : «ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا» (١).
جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابه ، متبعين لاوليائه ، حتى يحلنا وإياكم دار المقامة من فضله ، إنه حميد مجيد.
وقال عليهالسلام : أنظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها ، فانها والله عن قليل تزيل الثاوي الساكن ، وتفجع المترف الآمن ، لا يرجع ما تولى عنها فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر ، سرورها مشوب بالحزن ، وآخر الحياة فيها إلى الضعف والوهن ، فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها.
____________________
(١) النجم : ٣١.
(٢) الكهف : ٤٦.