بحر الفوائد في شرح الفرائد - المقدمة

بحر الفوائد في شرح الفرائد - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

١
٢

٣
٤

٥
٦

٧
٨

المقدمة

٩
١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ولعنة الله تعالى على أعداءهم أجمعين إلى قيام يوم الدين

فقه آل محمّد عليهم‌السلام نبراس الدين

لا يزال الفقه ـ فقه أهل البيت عليهم‌السلام ـ يحتلّ المكانة الأولى في المعاهد الدينيّة والعلميّة ، يتناوله الفقهاء بالبحث والتحقيق والتهذيب والتنقيب والتأليف والتصنيف كما أو لوه عناية خاصّة درسا وتدريسا حتى جاءت دراساتهم فيه ذات عمق وتدقيق وبسط وتفريع قلّ ما تجد له من نظير ، بل لا نظير له في دراسات فقهيّة لدى المذاهب الإسلاميّة الأخرى إطلاقا.

ذلك لانه لا يزال يخطو خطوات بعيدة بحيويّة جادّة في تسيير المجتمع الإسلامي على ضوء هدي أهل البيت عليهم‌السلام الذين جعلهم الله عزّ وجل الحجّة بينه وبين خلقه (١) ونوّه الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذكرهم وجعلهم عدل كتاب الله الكريم (٢).

ولربّما يسمع من بعض القاصرين بين حينة وفينة من نقود لاذعة تستهدف رجالات الحوزة العلميّة من الفقهاء لإهتمامهم الأكبر بالفقه وأصوله أكثر من غيره من العلوم.

__________________

(١) كما في الآيات الكريمة من سورة المائدة : ٣ و ٥٥ و ٦٧ وكريمة ٦١ من آل عمران و ٢٣ من الشورى و ٣٣ من الأحزاب وسورة القدر والآيات الستّة الأولى من الدخان وكريمة ١٥ من غافر و ٤٣ من الرّعد إلى عشرات غيرها.

(٢) في أخبار متواترة كثيرة منها : حديث الثقلين ، أنظر « نفحات الأزهار » للعلاّمة المحقق آية الله السيّد علي الميلاني دام ظلّه.

١١

والحقيقة إن هؤلاء لقصورهم وقعوا في التقصير الذي أدّى إلى النكير على المعروف الذي أقام عليه رؤساء المذهب بإشارة من أئمة الدين من آل محمد عليهم‌السلام.

فإن من يرجع إلى تراث أهل البيت عليهم‌السلام يجد العناية الخاصة منهم بالحلال والحرام ما لا يجده في غيره بهذا المستوى.

صحيح أنهم أمروا ـ كما أمر القرآن الكريم ـ بالتفقّه في الدين وهو أعمّ من علم الحلال والحرام الذي هو الفقه بالمعنى الأخص لكنّهم ـ على كلّ حال ـ ركّزوا على الفقه بالمعنى الأخصّ أكثر من تركيزهم عليه بالمعنى الأعمّ ، وهذا واضح لمن أمعن في النظر وأجال البصر في روايات مدرسة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام (١) وقد أشادوا بفقهاء أصحابهم أكثر من تشييدهم بمتكلّمي الأصحاب ومفسّريهم و .... حتى أنّهم أرجعوا الطائفة إليهم وجعلوهم أمناء الله ورسوله على الحلال والحرام.

ألم تسمع قوله صلوات الله عليه : « أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه لو لا هؤلاء إنقطعت آثار النبوّة واندرست » (٢) وكذا قوله عليه الصلاة والسلام : « أوتاد الأرض وأعلام الدين أربعة ... » (٣) إلى غير ذلك من كثير في هذا المضمار.

على أنّ الباحث إذا لم يبلغ مرتبة الفقاهة ـ التي يشترط فيها إتقان جميع المقدّمات التي لها نوع من المدخليّة الرئيسيّة في استنباط الحكم الفقهي ، بل البلوغ إلى الإجتهاد في كلّ صنعة منها كما عليه بعض مشائخنا الأعاظم أعلى الله تعالى مقامه الشريف (٤) ـ كيف

__________________

(١) أنظر على سبيل المثال الخبر ٩ و ١٠ و ١٢ و ١٣ و ١٤ و ١٦ و ١٧ و ١٨ و ١٩ من الباب ٦ من أبواب العلم وآدابه من المجلّد الأوّل من بحار الأنوار وكذلك الخبر ٧ و ٢٤ و ٥٨ من الباب الأوّل من الأبواب المزبورة من المجلّد المذكور من البحار.

(٢) إختيار معرفة الرجال : ١٧٠ ـ ح ٢٨٦.

(٣) المصدر السابق : ٢٣٨ ـ ح ٤٣٢.

(٤) الفقيه المتضلّع الرّاحل السيّد الأستاذ الأعظم السيّد محمّد على الموسوي الأبطحي قدس‌سره المتوفّى ١٣ رجب ١٤٢٣ ه‍.

١٢

يمكنه الغور في مثل التفسير والسيرة والتاريخ والحديث والرجال والفلسفة والكلام والمعارف الإلهيّة؟!!

لا أقول : لا يستطيع ، فهذا شيء لا يتفوّه به من له حظ من العلم ولكنّي أقول : غير الفقيه ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، والمصنّفات بين يديك فلاحظ وانصف ولا تعجل.

وكيف كان : فإن أقرب المقدّمات إليه هو أصوله التي عليها يقوم وإليها يستند ومن هنا جاء في تعريفه المدرسي المشهور : انه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي الكلّي من أدلته التفصيليّة.

والأصول ـ كما قال بعض الأعاظم المؤسّسين في هذا الفن ـ ليس فنّا مستقلاّ ، بل إنّما هو مقدمة جامعة لمسائل شتّى يذكر فيها كثير ممّا اتّضح في سائر الفنون تذكارا وبعض ما لم يتكفّل ببيانه فنّ ، كما يذكر فيها بعض الأمور إستطرادا (١).

هذا إذا نظرنا إليه كقواعد وأبحاث مدوّنة في كتب الأصحاب وأمّا إذا لوحظ كآلة فعليّة أو فنّ تطبيقي يمارسه الفقيه الأصولي كلّ يوم في استنباطاته فهو كما قال المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث عبّر عنه بالصّناعة في مقام تعريفه في مطلع كفايته ، ولا يكون صناعة حتى يكون ملكة طوع يد الفقيه ، وإلاّ فإن القواعد المرقومة على الدفاتر ليست إلاّ حاكية عن تلك الصّناعة ولا أثر عملي يترتّب عليها ما لم تبلغ إلى حدّ الملكة الفعليّة اللهم إلاّ التذكار بها والتعريف عنها.

ومن هنا كانت الإشارة اللطيفة والنّفيسة في الوقت نفسه في تعريف الآخوند الخراساني لم تسطر في مسفورات السابقين ولم يلتفت إلى حقيقتها في زبر الّلاحقين حتّى كثرت المناقشات عليه في المقام وبلغ إلى الحدّ الذي قال عنه بعض الأجلّة قدس‌سره : انّه

__________________

(١) محجّة العلماء : ١ / ٢٠.

١٣

أسوء التعاريف (١).

ومهما يكن من أمر فإنّ المهم للأصولي هو البلوغ إلى المرتبة الفعليّة من ملكة هذه الصناعة كيما يقتدر بها على الخوض في غمار لجج الفقه الجعفري الطاهر ويمارس عمليّة الإستنباط بكلّ جدارة واستعداد وينخرط في سلك فقهاء أهل البيت أعلى الله تعالى كلمتهم الذين هم أمناء الرّسل ونوّاب ائمة الحق وورثة الأنبياء وحجج حجّة المعبود وكلمة المحمود عجّل الله تعالى له الفرج والعافية والنّصر.

نظرة عابرة إلى تاريخ الأصول

... وللأصول تاريخه العريق ، شأنه شأن سائر العلوم الإسلاميّة القديمة التأسيس.

أمّا في مجاله الميداني قبل أن تؤسّس في مقام التدوين فقد كانت حجّيّة الكتاب الكريم وحجّيّة السنة المطهّرة مثلا من الأمور الواضحة إجمالا منذ عصر التشريع الأوّل وعليه درجت القرون الأولى بعد صاحب الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أنهم لمّا تركوا الإعتصام بحبل الله الممدود من آل بيت النبي المحمود صلوات الله تعالى عليهم ، ورضوا بالحياة الدّنيا واطمئنّوا بها وأخلدوا إلى الأرض وأشربوا في قلوبهم العجل ، وأذلّوا رقابهم لدولة القردة والخنازير حتّى قلّبوا الشريعة ظهرا لبطن وقتلوا الأطائب من آل محمّد عليهم‌السلام وهدموا قواعد العلم من بيت النّبوّة وردموا بابه وأقاموا على خرابه وأزالوا أهل البيت عن مراتبهم التي رتّبهم الله جل جلاله فيها لم يستفحل عليهم إلاّ الجهل ولم يتردّدوا إلاّ في مضماره ولم يتفيّؤوا إلاّ بظلاله ولم يخوضوا إلاّ في غماره بين تيه وضلال ، وطينة من خبال.

لم يزالوا على ذلك حتى أذن الله عزّ وجل لحجّته على عباده وخليفته في بلاده وصيّ الأوصياء وباقر علوم الأنبياء صلوات الله تعالى عليه وعليهم بالنطق.

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الأصول : ١ / ٤٧.

١٤

فكشف السّتر عن بعض معالم النّبوّة ومآثر الرّسالة وسارت بعلومه الرّكبان فأحيى النّفوس وجدّد الطقوس على ما جاءت به النواميس الإلهيّة ، فأسفر الحقّ عن محضه واندحض الباطل من أصله ، وبان الحابل من النّابل لأهله ، وعلى ذلك جرت شيعته من بعده متمسّكة بخلفه الطّاهر صاحب سؤدده ومجده الإمام جعفر الصّادق صلوات الله تعالى عليه ، فساروا على هديه ورشده ، ولمّا أتيح لهم مجال التدوين كتبوا في الفنون المختلفة من فقه وأصول وتفسير وحديث ورجال وفهارس وسيرة وتاريخ وكلام ولغة وأدب وشعر وغيره ، فكانوا هم السابقون إلى كلّ فضيلة.

دفع وهم

ومن الشطط : القول بان الشافعي هو أوّل من أسّس الأصول وأرسى قواعده ، أو هو أوّل من ألّف في الموضوع كتابا جامعا يضمّ أبحاثه المتفرّقة ويجمع شوارده.

ذلك لأن أصول الفقه يختلف من طائفة إلى أخرى ؛ لاختلاف فقه المذاهب الإسلاميّة بطبيعة الحال ، نعم ، إن أصول الفقه الإسلامي طالما تكون له مصادر مشتركة فلا بد أن تكون له أصول مشتركة أيضا.

ولا بد ان يعقد البحث في خصوص المشتركات العامّة فحسب ، وأمّا الإختصاصات الطائفيّة فلها حسابها الخاص ، كما انه لا بد من أن يعلم بان المذاهب الإسلاميّة التي عليها الجمهور أيضا لها مشتركات لا تمّت إلى الفقه الإمامي بصلة أبدا ، وذلك لاعتزال الجمهور عن تعاليم مدرسة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام واختصاصهم بمدرسة الصحابة ، وإذا عرفت ذلك تبيّن لك ان الإماميّة هم المؤسّسون في مشتركات الأصول العامّة على الإطلاق وهم السبّاق في التدوين أيضا.

وعليه : فإن الشافعي ـ وقد سبقه الثاني في وضع القياس تبعا لسلفه الذي قاس الطين بالنّار ـ هو أوّل من كتب في مشتركات أصول مدرسة الصحابة فحسب ، وهو ـ مع الفارق الجوهري بين الأصولين ، متأخّر في هذه الحلبة عن الإماميّين بمراحل كما هو غير

١٥

خفي على أهل الإنصاف ومن جانب العصبيّة والإعتساف.

وكان من جملة ما زيّنوا به الدفاتر ـ والكلام في الإماميّين ـ أن ضبطوا شطرا من مباحث الأصول من أيّام الإمام جعفر بن محمّد عليهما الصلاة والسلام وامتد ذلك إلى يومنا هذا ولا يزال.

والذي يلاحظ ما ورد من الأخبار من لسان مولانا الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام في علاج تعارض الأخبار لا محيص له من الإذعان بذلك ، وقد أشارت فهارس الأصحاب إلى عدد غير قليل مما كتب في مباحث الالفاظ واختلاف الحديث وغيره من المباحث الأصوليّة بقلم أصحابنا الإماميّة ، وقد ضاع هذا التراث ـ كغيره ـ نتيجة حقد دولة الباطل وفروعها على أتباع مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

« طليقة الكتب الأصوليّة »

ولعلّ أقدم ما وصل الينا ـ سوى ما جاء في الأخبار ـ من تراث أصوليّ مدوّن اليوم هو كتاب « تذكرة الأصول » للشيخ الجليل محمّد بن محمّد بن النّعمان المفيد ( م ٤١٣ ه‍ ).

ومن يعرف الأحقاد الواردة على طول الخطّ المرير الذي عاشه المضطهدون من شيعة آل محمّد عليهم‌السلام لا يتسنّى له التّردد في وجود التراث الضخم الضائع ـ في مختلف المجالات ـ أو بالأخرى أن نقول : المضيّع حقدا ، والاّ فانّنا وجدنا الأصحاب سبّاقون إلى كلّ فضيلة من سلمان والمقداد وأبي ذر ومالك بن الحارث الأشتر وشهداء الطفّ وثابت بن دينار وأبان بن تغلب وحمران ومحمّد بن مسلم وزرارة وبريد وهشام وجميل وصفوان وابن أبي عمير ويونس والعبيدي والبزنطي وابن مهزيار والوشّاء وأيّوب والأشعريّين والوكلاء الأربعة وعشرات غيرهم.

وكيف كان : لا يمكن الجزم بأنّ المفيد هو أوّل من دوّن من الأصحاب في القواعد الأصوليّة في الغيبة الكبرى إذ لم يصل من تراث بدايات الغيبة إلاّ النّزر القليل بل قد يقال : انّه لم يصل شيء.

١٦

وعلى أيّة حال فالكتاب الثاني ـ الواصل اليوم ـ هو « العدّة » للشيخ الطوسي ولعلّه مقدّم في التأليف على « ذريعة » السيّد الشريف أعلى الله تعالى مقامه ـ كما احتمله بعض الباحثين وفّقه الله تعالى ـ وإن لم يخل من نظر.

وثالثها ـ إن لم يكن الثاني ـ هو « الذريعة ».

والمدار في حلقات الإستنباط على هذين الأخيرين إلى عدّة قرون وإن كان قد كتب غير واحد من الأعلام في هذا الباب أكثر من كتاب كـ « التقريب في أصول الفقه » لسلاّر الديلمي المتوفى سنة ٤٤٨ ه‍ و « الغنية » لابن زهرة الحلبي المتوفى سنة ٥٥٨ ه‍ و « المصادر » لسديد الدين محمود الحمّصي المتوفي سنة ٦٠٠ ه‍ و « المعارج في أصول الفقه » للفقيه الأعظم المحقق نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي المتوفي سنة ٦٧٢ ه‍.

ولا بد من الاعتراف للأخيرين بعبقريّتهما الفذّة خصوصا الأخير منهما حيث استطالت القرون من بعده وإلى ساعتنا هذه ، ولو لا ان الزّمان ادّخر لنا أبطالا من نظراء المحقق الحلّي فيما بعد الحمّصي رضوان الله تعالى عليه لما سكن دويّ عظمة الرجل كما طبّقت الأمصار في عصره وفاقت الأقران في دهره وشهد له بذلك المؤالف والمخالف وأقرّ له القريب والبعيد.

ثم جاء دور نابغة العراق والعلاّمة على الإطلاق جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن علي بن المطهّر الأسدي الحلّي ـ حيث تقدّم السابقين واستطال اللاحقين وانخرط في البارزين الأوّلين ممّن يحقّ للطائفة أن تعتزّ به على كلّ من دبّ على هذه المعمورة أو ركض ، كيف لا؟ وقد تحلّى بخصال رفعته إلى السماء حتى تقاصرت عن إدراكه نجومها ، فهو من نوابغ البشريّة والأوّلين من بني نوع الإنسانيّة في طبقة الرعيّة « زاد الله في شرفه وكرامته » وكم له من أياد جميلة على هذه الطائفة الطاهرة المتمسّكة بحبل آل محمّد عليهم الصلاة والسلام ـ فكتب في الأصول المقارن ـ كما الفقه ـ وبسط القول فيها وله في هذا العلم المختصر والمتوسط والمفصّل ، تدرّج في التأليف

١٧

مراعيا حال المبتدي والمتوسط والمنتهي فنسخ الكتب الماضية وأتعب المحصّلين وذوي الفضل ببنات أفكاره إلى قرون متمادية ، وكلّ من جاء بعده فهو إمّا شارح أو ملخّص أو مدرّس أو مقتبس منه.

ومؤلفاته في هذا الفن عبارة عن الكتب التالية :

١ ـ « غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح مختصر منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل » لابن الحاجب المتوفي سنة ٦٤٦ ه‍.

٢ ـ « مباديء الوصول إلى علم الأصول ».

٣ ـ « منتهى الوصول إلى علمي الكلام والأصول ».

٤ ـ « نهج الوصول إلى علم الأصول ».

٥ ـ « تهذيب الوصول إلى علم الأصول ».

٦ ـ « نهاية الوصول إلى علم الأصول » وهو آخرها وأكبرها.

وقد اعتنت الحوزات العلميّة بمدرسته الأصوليّة أيّما اعتناء منذ أيّام حياته وإلى عدّة قرون من بعده ، وقد شغلت كتبه الشريفة مساحات كبيرة وحظيت بالإقبال الوافر ، لما فيها من غزارة في المادّة ومنهجيّة علميّة جادّة وقوّة في البيان وطلاقه في التعبير وتنوّع في العرض بالإضافة إلى الدراسات المقارنة التي ألمّت بآراء أبطال الأصول العامي ورجالات مدرسة الجمهور ، وفنّدتها باسلوب متين وناقشتها بروح موضوعيّة بحتة بعيدة عن العصبيّة العمياء ، متّسمة بقوّة الحجّة وجودة الإستدلال وصراحة الدليل ووضوح البرهان.

والذي يعزّز ما ذكرناه انّ « تهذيبه » لم يزل محورا للدراسات الأصوليّة في معاهد العلم إلى طبقة تلامذة الوحيد البهبهاني المتوفي سنة ١٢٠٥ ه‍ بل وتلامذتهم قبل قرنين تقريبا ويشهد على ذلك كثرة الشروح المكتوبة عليه في الآونة الأخيرة كما فيما سلفها من الأزمنة.

ولم يستطع أحد ممن جاء من بعده أن ينسخ محوريّة كتبه كما ذكرنا مع وفرة من

١٨

كتب في الباب من جهابذة وفحول ، فقد كتب ولده فخر المحققين كتابه « غاية الأصول في شرح تهذيب الأصول » وكذا ابنا اخته السيّدان عميد الدين وضياء الدين « المنية » و « النقول في شرح تهذيب الأصول » ، بل وكتب الشهيد الأوّل « جامع البين من فوائد الشرحين » للأخوين المزبورين ، وهذا كلّه إنّما يعزّز المحوريّة والمدار على لباب هذه الأفكار لصاحب هذه المدرسة ، فالآخرون إنّما يستطعمون على مائدته ويتدرّجون في مدرسته.

حتى جاء دور ولد الشهيد الثاني الشيخ حسن بن زين الدين المتوفي سنة ١٠١١ ه‍ فألّف كتابه الشريف « معالم الدين وملاذ المجتهدين » وقدّم له مدخلا في الأصول فحظى بعناية بالغة من قبل أعلام الطائفة لم يبلغ « تمهيد » والده ـ الذي كتبه في الأصول ـ عشر معشار ما حصل عليه الأخير حتى أصبح الكتاب الأوّل في الحوزات العلميّة وانخرط في عداد كتب العلامة الحلّي بالعناية والإقبال وربّما زاد عليها بل كاد أن ينسخها ، بل نسخها بعد أكثر من قرنين من تأليفه.

ولم يزل هو المقدّم المرشّح إلى أيّامنا هذه فكنت في آخر الطبقات ونهاية الحلقات التي منّ الله جل جلاله عليها بدراسة هذا الكتاب الشريف ثم انقرض دارسوه واستبدلوه بكتاب المجدّد المعاصر الشيخ محمد رضا المظفّر أعلى الله تعالى مقامه الشريف.

ومن هنا كانت الكتب التي جاءت من بعده مهمّشة عليه أو شارحة له أو ناقدة ، وقلّما صدر كتاب مستقل إلى حقبة من الزّمن أمثال كتاب « الوافية » للفاضل التوني المليء بالفوائد والتحقيقات التي استفاد منها الكثير من أهل العلم والفضيلة وكتب عليها الشروح العديدة مما يشهد على أنّها كانت محورا للبحوث الأصوليّة في النوادي العلميّة ومن هذه الشروح ، بل أهمّها هو « شرح السيد صدر الدين الرضوي » المتوفي قبل سنة ١١٦٠ ه‍ ويتلوه « الوافي في شرح الوافية » للسيّد المحقق الأعرجي الكاظمي المتوفى سنة ١٢٢٨ وكذا « شرح السيد بحر العلوم » المتوفي سنة ١٢١٢ ه‍ وقد استفاد منها الأعلام بعدهم ، ومنهم المحقق الأصولي الميرزا الآشتياني قدس‌سره. ولا تزال كالنجم اللائح في سماء

١٩

الأصول وازدادت اهميّة حينما قام بنقدها الأصولي المؤسس الشيخ الأعظم أعلى الله تعالى قدره وقدس سره. وكتاب « زبدة الأصول » لفخر الطائفة وبهاء الملّة الشيخ محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي عامله الله عزّ وجل بلطفه الخفي والجلي ، وقد وفّق هذا الكتاب إلى حدّ بعيد جدّا في المعاهد العلميّة وصار محورا للدراسات الأصوليّة إلى ما ينيف على القرنين وكتب عليه الشروح الكثيرة ، ولعلّ من أحسن هذه الشروح ما كتبه تلميذه الفذ الفاضل الجواد المعروف بالمحقق الكاظمي ـ وإن اختصّ باللقب الأوّل وشاركه السيد محسن الأعرجي في الثاني ـ وهو المسمّى « بغاية المأمول في شرح زبدة الأصول » وهو كتاب كبير مبسوط.

كما حشّاه عدد من الأكابر منهم المولى محمد صالح المازندراني قدس‌سره المتوفي سنة ١٠٨٠ ه‍.

وأمّا الآخرون فهم بين معلّق ومهمّش وشارح ومدرس وناقد « للمعالم » ليس أكثر ، ولنشر إلى أهمّ هذه الحواشي والشروح التي نالت إعجاب الأساطين :

فنها : حاشية سلطان العلماء المتوفي ١٠٦٤ ه‍.

ومنها : حاشية المولى محمد صالح المازندراني على « معالم الدين ».

ومنها : حاشية المدقق الشيخ محمد بن الحسن الشيرواني ( م ١٠٩٩ ه‍ ).

ومنها : حاشية الشيخ محمد تقي الرازي الأيوان كيفي الأصفهاني المتوفي سنة ١٣٤٨ ه‍ المعروفة « بهداية المسترشدين في شرح معالم الدين ».

والأخيرة أقبل عليها علماء الدين حيث أثارت إعجاب أرباب التحقيق وصارت من الكتب التي يعكف عليها المنتهون والمحقّقون ولا تزال هي المادّة الأولى في مباحث الالفاظ من الأصول مشبعة بالتحقيق ، وكلّ من جاء من بعده فهو عيال عليه في هذا المضمار بشهادة الكثير من أرباب التدقيق وقد عكف الشيخ الأعظم على تدريسها أكثر من مرّة ، وأفاد منها وتأثّر بها وكان يكنّ لمبدعها من الإحترام والتعظيم الشيء الكثير ، ومن الطريف أن تعلم بأنّه درّسها لولد المصنّف المحقق الجليل الشيخ محمد باقر

٢٠