الاسلام ينابيعه. مناهجه. غاياته

محمّد أمين زين الدين

الاسلام ينابيعه. مناهجه. غاياته

المؤلف:

محمّد أمين زين الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: رابطة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة
المطبعة: سپهر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6177-75-1
الصفحات: ٣٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



ليس في كتابي رموز مستغلقة لاتحل الا بعناء ، إلا انني حاولت جهدي أن يكون معناه ملء لفظه ، فمن يشأ القراءة المجدية فليستنطق كل كلمة منه أو فليدع.

١

٢



الفهرس

الموضوع

الصفحة

مقدمة الناشر .....................................................  ٥

بين يدي الاسلام ..................................................  ٧

الدين في ينابيعه الاولى ...........................................  ٢٥

موازين ونتائج .................................................  ١٤٣

في ظلال العقيدة ...............................................  ٢١٥

٣

٤



الحمد لله اعترافاً بالنعمة ، وطلباً للزلفة ، وتطلعاً للمزيد. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وفاءً بالحق ، وتلبية للأمر.

ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا انك رؤوف رحيم.

٥
٦



بين يدي الإسلام

... هذه سبيلي ، أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، ...

بلى. هذه سبيلي ، وإذا لم تكن الدعوة الى الله على بصيرة فهي والألحاد الصريح سواء بسواء.

يعتز الإسلام بأن هذه صبغته منذ أقدم أيامه ويعتز كذلك بأن صبغته هذه لا تقبل النصول ولا التغير مدى الايام والاحقاب.

على بصيرة ، وعلى بينة قوية ، وعلى منطق صحيح لا التواء فيه ولا تعقيد يقيم الإسلام دعوته الى الله ، لا كالأديان المنبجسة من الأرض ، المنطبعة بخصائصها ، المغتذية من ترابها.

أقول : لا كالأديان النابعة من الأرض. لأن الأديان النازلة من السماء لن تكون الا على بصيرة ولن تكون إلا على بينة قوية ، والا على منطق صحيح صريح لا التواء فيه ولا تعقيد.

أما تلك فإنها من نبات الأرض وان نسبت زوراً الى وحي السماء.

وبرهان الكذب فيها هذا الالتواء البيّن في المنطق ، وهذا الوهن البادي على الحجة ، ثم هذه الحيرة السادرة في البصيرة ...

٧

لست أعدد ها هنا مزايا الإسلام وخصائصه التي أوجبت له التقديم والتفصيل. بل أذكر النعوت اللمميزة لدين السماء ...

أجل. فرافع السماء أوسع علماً وأعظم خبراً من أن يلتبس عليه توحيد بتثليث أو يتحد في حكمه قدم بحدوث ، أو يجتمع في عرفانه غنى وحلول ، وباسط الأرض أكبر خطراً وأجل حكمة من أن تختلط في تمييزه نبوة ببنوة ، أو تمتزج في منطقة إلهية ببشرية ، أو يقترن في تعليمه لاهوت بناسوت ، وخالق الانسان أسمى تشريعاً وأدق ملاحظة من أن يغفل ماركب فيه من عناصر ، وما أودعه من غرائز وما مكن فيه من طباع.

وحسب الإسلام انه الين الفريد الذي استطاع أن يحتفظ بصورته الأصيلة بين عصف الاهواء وزلزلة الآراء ، فأقام حولها سداً من المعرفة ، وضرب فوقها سرادقاً من البرهان ، وثبتها على أساس من القرآن ، فلم تأسن لما أسنت الرواسب ولم تحل لما خال الجو ، ولم تضطرب لما اضطربت الأعاصير.

حسب الإسلام أن هداياته وتوجيهاته لن تزال تحت متناول اليد للباحث ، وفوق مستطاع النقد للناقد. شريطة أن يرجع الباحثون والناقدون الى هذه الحقائق في منابعها الأولى لا إليها في صورها الأخيرة.

إلى الإسلام في كتابه المعصوم وفي سننه القويمة الصحيحة .. لا الى ما بأيدي الناس من أشباح.

أما هذه فلا انكر أنا ولا ينكر منصف خبير من الناس ان للمشتهيات فيها سهماً وافراً ، وأن للأيدي فيها خبطاً كثيراً.

مشى المسلمون مع الأهواء يوم توزعوا على أنفسهم شيعاً ، ويوم

٨

انقلبوا ـ لا كما اراد الله منهم ـ أعداءً ، وهل تلد الفرق وتنشرها إلا الأهواء ؟ وهل تثير الخصومات وتغريها سوى المطامع ؟

( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ).

ثم اتسع الهوى فكانت لكل شخص غاياته ، وتقطعت العصم فعاد كل فرد أمة ، ووهت الصلة بالدين فأصبح كل رأي مذهباً !!.

وامتد الزمن ، واطردت الأحداث ، وتلبد الأفق ، وبعدت الشقة عن الدين ، وجاء دور المبادىء الملونة. فكان المبدأ ديناً يقرر الأيمان والكفر ، وكانت مقتضياته فروضاً توجب الشقاوة والسعادة ، وكان الأعتصام به صلة تفرض الحب أو البغض !! فهل سمعت بأغرب من هذا ؟!.

نحن مسلمون قبل أن نكون رأسماليين أو شيوعيين ، فما بالنا لانتبع محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يقول ؟!.

محمداً العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم يجد العالم له سقطة في قول ، ولا كبوة في عمل ولا وهناً في تشريع ، ولا ضعفاً في ملاحظة.

أفهل بلونا مبدأ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في مشكلاتنا الحاضرة أو الغائبة فوجدناه لا يصلح بعلاجها لنلجأ الى طرائق أخرى يسنها ناس آخرون غربيون أو شرقيون ؟!.

أم هل ترك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله مشكلة من مشاكل الحياة لم يتعرض لها بحل فاصل وتشريع حكيم ؟.

لا يزال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعد ـ صادقاً في قوله ، حكيماً في تشريعه ، لم يذهب بصدقه الدهر ولم تحل من تشريعه الحكمة ، ولم تتغير فيه وجوه المصلحة ،

٩

ولا يزال مبدأ محمد هو المبدأ الحق في أمره وزجره ، وفي أخذه ورده ، ولا يزال دين محمد هو الدين القيم الحنيف الذي لا سرف فيه ولا تقصير ولا امت ولا عوج :

( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ).

ألا تعجب لفريق من مدعية الإسلام يقرون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوة ، ويعترفون لكتابه بالعصمة ، ويثبتون لشريعته البقاء والخلود ، ثم ينبذون أحكام نبيهم وكتابهم ظهرياً سعياً وراء كل غربي ، والتماساً لكل غريب ؟!.

ألا تعجب لمن يهيب به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليقوده الى العزة ، وليرتفع بموضعه الى الكرامة ، وليجعله قواماً لله بالحق ، شهيداً على الناس بالقسط ، كيف يستحوذ عليه الهوى حتى يضل وتركه المطامع حتى يذل ، وحتى تحيله الأهواء سائمة تقاد أو معلوفة تربط ؟!.

أضاع المسلمون دينهم الحق ومبدأهم الصواب الذي وجد العالم بركته ايام كان سائراً على هداه.

اضاعوا الحق فاختلفوا وتخلفوا ، وسيختلفون بعد ويتخلفون ، وتشتد الفرقة وتبعد الشقة ، حتى لا أخوة ولا حب ولا عصمة ولا قربى.

* * *

ونبت مع الحوادث كتاب مسلمون.

كتاب في الادِّعاء ، ومسلمون في التوهم.

قال لهم التطفل كونوا كتاباً ، وقال لهم الافتراء كونوا مسلمين.

نبت هؤلاء ونشأوا مع الحوادث ليلصقوا بالإسلام ما تأباه قواعد

١٠

الإسلام ويبرأ منه كتاب الإسلام !.

يبغون أن يكيفوا الدين بصبغة الزمن ، وحجتهم لهذه المحاولات ان الإسلام دين القرون. وأنه مرن لا يأبى الجديد.

يقولون : إن الانسان حلقت به قوادم الفكر ، وتقدمت به تجارب العلم ، وارتقت بيديه اساليب الحضارة ، ولا يسوغ لدين الإسلام أن يتخذ من هذا التقدم المطرد موقف الحائر فلا يدري ما يصنع ، أو المتفرج فلا يهمه اكثر من ان ينظر.

على الإسلام أن يبارك الحضارة وان يؤازر العقل وان يواكب العلم ، لأنه دين الابد ، ودين الناس أجمعين ، فلو وقف حيث تتطور الحياة ، أو تتقهقر حيث تطرد الحركة فيها ، لعدت رسالته ناقصة ولأصبحت أدواره منتهية ، وكان وقوفه هو البرهان الدامغ على قصوره .. هذا ما يقولون.

وهذا حق كله ولا مساغ لمسلم أن يجادل فيه.

يبتغون من الإسلام أن يساند العقل ، وهل انزل الإسلام الا لمساندة العقل ونظم حركاته وتسديد خطواته ؟ وسنعلم اي مبلغ بلغه الإسلام من هذا الشأو.

ويتطلبون منه أن يبارك الحضارة ، وتعاليم الإسلام وتأريخه المشرق الوضاء شاهدا صدق بما لهذا الدين من يد في بناء الحضارة ، ودعم اسسها وإعلاء مستواها.

ويريدون منه أن يساير العلم ، والخبيرون بطبيعة هذا الدين المطلعون على اسراره يعلمون مدى اتصاله بالعلم وارتكازه على قواعده.

كل هذا حق لاجدل فيه. ولقد قام به الإسلام خير قيام.

١١

ولكن :

أيتوقعون أيضاً أن ينزلق الناس وراء أهوائهم ، ويمنعوا في ارضاء شهواتهم ثم يقولون لدين الله : عليك ان تصحب الزمن وتناصر الحركة وتساير الركب لانك مرن تتسع لكل جديد وتنسجم مع كل حادث ؟!.

أو يأملون كذلك ان تختلف العقول وتتباين نظراتها ، وتتناقض نتائجها ثم يهتفون بالإسلام : عليك أن تؤمن بكل رأي ، وتصفق لأي قائل وتتبنى كل نظرية لانك الدين الذي وضعه الله للقرون ؟!.

أيطمعون بهذا كله وبأمثاله من دين الإسلام ، لأنه مرن يتسع لكل جديد ، ولأنهم يؤثرون أن يفسروا مرونته بما يشتهون ؟!.

أي دين هذا الذي يتلون مع الحوادث تلون الحرباء ؟! وأية شريعة هذه التي لاتحتفظ لذاتها بجوهر ولا تتميز بصبغة ، عدا هذا الانسجام البارد ، والتكليف المتناقض ؟!.

يعرف الإسلام من معنى التوجيه أن يأخذ بيد المتردي حتى ينهض به الى القمة ، لا أن ينزلق معه الى الهاوية ، وأن يتولى قيادة الغريق فينجيه الى الساحل ، لا ان يرتكس معه في اللجة ، وأن يسعف المبتلى حتى ينيله الصحة ، لا أن يرتطم معه في العلة !!.

ويعرف الإسلام من معنى التوجيه ان يحفز العقول على التسامي ويحضها على الاستكمال ويدلها على مواقع النظر ، ويومي لها الى وجوه البرهنة ، لا أن يؤمن بكل ما تستنتجه من نتيجة وبكل ما تلوج لها من لائحة.

الإسلام مرن يقبل كل جديد من الحق ويحترم كل ثابت من العلم ، وهذه إحدى بينات الصدق فيه وإحدى المميزات الغفيرة التي يعتز بها.

١٢

يرحب بكل جديد من الحق ، لأن الحق واحد وليس بجديد ولا قديم. ويحترم كل ثابت من العلم ، لأن العلم يرقى بالانسان عن أفن الجهل ويطهره من درن الشك وينقذه من غوائل الاضطراب والقلق. وهذه بذاتها هي الغاية التي ارادها الله سبحانه للانسان لما شرع له الدين :

( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ).

أما نظريات العلم فقد علم المطلعون انها ( حوّل قلَّب ) وليس من النصف أن نكلف ديناً ما بتصديقها كلها أو بتصديق شيء منها على الخصوص.

ومرونة الدين في هذه المواقف ان يكون رحيب الصدر أمام الحوادث ، يحفز العقول أن ترتقي ويذكي المواهب أن تتفق ، ويحض العلم أن يتقدم ويطرد ، ويتخذ هو لنفسه موضع الاشراف على الحركة ، فيقبل من النتائج مامحصته التجربة وأثبتته الملاحظة حتى استحال عليه التغير ، وينتظر بما سواه حكم العلم في أدواره المقبلة.

لا يضيق الإسلام بشيء من الأشياء ولا برأي من الآراء اذا كان لذلك الشيء أو لذلك الرأي متسع من الحق لأن الإسلام دين الحق عليه يرتكز ومنه يقتبس :

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ )

( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ).

١٣

أما علوم الكون واكتشاف سنن الحياة واجتلاء نواميس الطبيعة فان الإسلام يتخذ منها أدلة قاهرة على توحيد بارئ الكون ، وأمثلة ملموسة لقدرته الكاملة وتدبيره الحكيم المتقن ، والقرآن الكريم يذكر هذا في كثير من آياته ويصل به وفرة كبيرة من تعاليمه.

فيقول مثلاً في الآية المائة والثالثة والستين وما بعدها من سورة البقرة :

( وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ).

ويقول في الآية الخامسة وما بعدها من سورة الحج :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ).

علم الفلك وعلم طبقات الأرض وعلم الحياة وعلم الاحياء وعلم الأجنة وعلم النبات وعلم النفس وعلم الأنواء وعلم الملاحة وعلم أسرار التكوين ، كل هذه أدلة قاطعة على وحدة الله خالق الكون وعلى قدرته التامة. وعلى حكمته البالغة وعلى علمه المحيط وعلى انه سبحانه هو

١٤

المبدأ والمنتهى لهذا العالم ولكل مافيه من حي ، والقوة والمدد لكل مافيه من شيء. هذا ما تقوله الآيات الكريمة المتقدمة وتكرره آيات اخرى موفورة العدد.

والثمرة الواضحة المحتومة لذلك أن العلوم الكونية كلما اطردت في التقدم وكلما ازدادت نتائجها في الوضوح كانت افادة الإسلام منها أكبر ، وكانت دلالتها على صدقه أظهر.

وللاسلام علوم خاصة ولدت في أحضانه ، وعلوم اخرى عامة تبناها في كتابه ، حسبي أن أومي إليها هنا ايماءة عابرة ، فهي مشهورة يعلمها الناظرون في الكتاب المتدبرون لقوانين الشريعة.

واذا استثنينا علوماً شاذة منع الإسلام عنها من حيث إنها لاتقتبس من واقع ، ولا تمت الى عقل ولا تتكىء على حجة ، ومن حيثُ إِنها تعاكس المجرى الطبيعي للحياة ، وتخالف الاتجاه المستقيم للفكر ، وهذه كعلم السحر والشعوذة والكهانة وبقية العلوم المضللة ـ اذا تجاوزنا بهذه الكلمة عن معناها فاعتبرنا هذه من العلوم ـ اقول اذا استثنينا هذا الصنف وحده امكننا أن نحكم دون تردد ولا استثناء أن الإسلام نصير كل علم وعدو كل جمود ، وقد شهد التأريخ بصحة هذا الحكم في جميع أدوار الإسلام ، وفي القرآن اشادة بفضل العلماء من كل صنف ، وفي وصايا الشريعة تحريض على طلب العلم من أي نوع ، وفي مذهب الأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم‌السلام يجب طلب أي علم يتوقف عليه تنظيم الحياة.

ومظهر آخر للمرونة في دين الإسلام أنه سن للحوادث كلها أحكاماً عامة شاملة لجميع الأزمان ، ثم وضع لهذه الاحكام استدراكات قد تسوق

١٥

اليها الحجة وتحويرات قد يدعو إليها تعارض وجوه المصلحة. فهو الدين الذي يرعى الصوالح العامة ، ويتخذ الأهبة للطوارىء الخاصة ، ويعالج الأمراض بما يجتث الداء ويضمن الشفاء ، وهو الدين الذي لن يضيق على أحد في حال ولن يكون حرجاً في زمان.

هذه طبيعة التشريع في دين الاسلام ؛ قوة ليس فيها اسراف وتسامح ليس معه اسفاف ، واعتدال ليس به عوج وتطهير ليس فيه حرج.

والاسلام هو الدين الذي فتح باب الاجتهاد في الاحكام فوضع له القواعد وقرر له المناهج ، ويسر اليه السبيل ، واثاب المجتهد أجرين حين يصيب ، ولم يحرمه من المثوبة حين يخطىء.

ولن يشذ المجتهد المسلم عن طبيعة التشريع في الاسلام مادام يقبس مادة اجتهاده من أصول هذا الدين ويرتبط بنصوصه ويتقيد بمفاهيمه ، ولن يحمل عليه أثقال سواه مادام يعلم غنى الاسلام بروحه واستقلاله بمناهجه ، ومادام يعلم أن للاسلام وحدة متماسكة لن تتجزأ ، وان لأحكامه صبغة واحدة لن تتغير.

ومن اثر الاجتهاد المستمر انه يغذي الأفكار المتطورة ويبحث الحقائق المتجددة ويسد الحاجات المتسلسلة.

ولا يزال الاثنا عشرية من شيعة أهل البيت عليهم‌السلام يستمسكون بهذا المبدأ الذي وضعه الاسلام ، وهم ينيطون بالمجتهد العادل أهم المناصب الاجتماعية كالافتاء والحكم وأكثر الولايات العامة وبعض الولايات الخاصة ، ولا يرون غير المجتهد العادل لها أهلاً ، ولذلك فالاجتهاد عندهم من

١٦

فروض الكفاية (١).

أما المذاهب المسلمة التي حرمت أنفسها فضل هذه النعمة ، وسدت عنها باب هذه الرحمة ، أما اهل هذه المذاهب فلا يفتأون يتعلقون بأذيال سياسة زمنية قديمة كان من رأيها ان تحصر الافتاء في رجال ، وان تحشر الناس الى آراء ، فخصصت موارد الفتوى ، واقفلت باب الاجتهاد ، ثم انتهى عمر هذه السياسة ولم ينته أمد هذا الرأي.

وقد لاحت في الآونة الأخيرة بوادر دعوة جديدة الى حل هذا الوثاق القديم ، وهي ـ بعد ـ لم تبرح فكرة فتية لها مؤيدون من رجال الدين ، ولها معارضون ، وأمل المسلمين كبير أن يدركهم اليوم الذي يكسر فيه القيد وتجنى فيه ثمار الفكر الحر.

وبعد كل هذا الذي قدمناه فهل يرتاب منصف في مرونة الإسلام وفي انسجامه مع طبائع الأشياء ؟ وهل يحتاج في تفسير مرونته الى اقاويل هؤلاء الذين أملى عليهم مالا يفهمون ، وعرضهم التطفل لما

__________________

١ ـ الفرض الكفائي ماوجب على جميع المكلفين أو على جماعة منهم ، ثم كان الامتثال ولو من بعضهم سببا لسقوط التكليف عنهم جميعاً.

وسر ذلك أن يكون للآمر غرض جزئي بصدور عمل من الاعمال ، بحيث لا خصوصية فيه لفاعل ولا استيعاب له لأفراد. وأثر ذلك أن يصدر الخطاب عاماً إذ لاخصوصية لواحد ، وأن يسقط التكليف عن الجميع باطاعة البعض فان المفرض وفاؤها بالغاية.

ومن آثار هذا الواجب أن العصيان من الجميع يوجب استحقاقهم جميعاً للعقاب.

وأمثلته في الشرعيات كثيرة ووقوعه في العرفيات أكثر.

١٧

لا يحسنون.

* * *

وناشئة من الكتَّاب كلفت بأحلام الغروب وبهرتا نظمه ومناهجه ، فأرادت أن تحمل دين الإسلام أثقال تلك الفلسفة وان تطعمه خلاصة تلك النظم ، سواء كره الإسلام ذلك أم احب ..

تلقن هؤلاء الناشؤن من أساتذتهم أن المادة هي المحور الذي يدور عليه كل شيء في هذا الكون ، وأنها هي الحقيقة الوحيدة التي تفسر بها مفاهيمه ، وتناط بها قوانينه.

تلقنوا هذا النص من أساتذتهم في الغرب ، فما عساهم ينتظرون ؟

ما ينتظرون وهم مسلمون ؟

وأخبرهم آباؤهم ان الإسلام دين الحق ، وعرفوا من مجتمعهم أنه شريعة الأبد. فما هي نتيجة الجمع بين هذه النصوص ؟

إن النتيجة واضحة في أنظارهم لا يتطرقها ريب. ولا تحوم حولها شبهة. فالإسلام ـ دين الحق ـ وشريعة الأبد ـ ماهو إلا جماع تلك الأنظمة. وخلاصة تلك الفلسفة.

الأنظمة الغربية التي أعجبتهم ، وفلسفتها المادية التي بهرتهم.

وهل يستحق الإسلام أن يذكر بتلك الممادح إلا بأن تكون له هذه السمات ؟!

ولقد فات هؤلاء الناشئين أن أساتذتهم قد يجنون على الحق وهم يفكرون ، وقد يضلون طريقه وهم لا يشعرون.

فاتهم أن الإسلام شريعة مستقلة بذاتها ، غنية بنظمها. وان للقرآن

١٨

فلسفة خاصة تنتهض عليها أصوله وتنشعب عنها مناهجه ، وفلسفة القرآن هذه ليست مادية خالصة ولا روحانية محضا ، بل تستقصي جميع انطباعات المادة وجميع خصائص الروح ، ثم تقيم موازنة شاملة عادلة بين شتى المناحي وشتى الاتجاهات من هذه ومن تلك ، وتبني على ذلك لهما وحدة في التشريع تضاهي وحدتها في التكوين.

فاتهم أن الإسلام ليس بمادي متطرف يحسب ان المادة كل مافي الحياة فيجب أن ترتكز عليها كل فلسفة للحياة. وليس بروحاني جائر يخال ان الروح كل مافي الانسان فيلزم أن يخصها كل تشريع يسن للانسان ، بل هو واقعي متزن يحس أن في الانسان مادة لاغنى بها عن الروح وأن له روحاً لا استقلال لها عن المادة. ويرى أن التشريع العادل ما وفى حقوق المادة في ظل الروح ، وضمن مآرب الروح في هيكل المادة. فات هؤلاء ان الإسلام ليس بشرقي ولا غربي ، بل هو دين إلهي يصلح ادواء الشرق ، ويطب أمراض الغرب ، ويسمو بالانسانية جمعاء الى نصابها الأعلى من الكمال والى حظها الأوفى من السعادة.

ليست ميزة التشريع في الإسلام أن يشبه القوانين المتحضرة في القرن العشرين أو الاربعين. وليس دليل عظمته أن يوائم المبادئ السياسية أو الاقتصادية الحاضرة في حل بعض المشكلات وإن من الجهل الفاضح بنا أن نقول هذا القول وان نسوم الإسلام هذه المهانة.

اي وربك انه لمن الجهل الفاضح ، وانه لمن ضعف النفوس .. والعقول أيضاً.

يترفع دين الله أن يشبه بأنظمة واطئة تنشأ بين الرواسب ، وتقيم في

١٩

الأوحال ، ثم لا ترفع أرؤسها الى فوق ، ولا تطمح بأبصارها نحو القمة. تحسب ان البشر كتلة من الدود ، من الأقذار تولد ، ومنها تغتذي ، وفي وسطها تقيم ، وإليها آخر الأمر تعود.

نعم. يترفع دين الله عن هذه الأنظمة التي تلاحظ الانسان من أخفض نواحيه وتنظر الى الحياة من أحط مرافقها ، ثم لا تثبت للانسان ولا للحياة معنى أرقى من هذه المنحدرات.

ليس الإسلام رأسمالياً ولا شيوعياً ، ولا ينتسب الى غيرهما من المذاهب المادية الخالصة. وان اتفق معها في علاج بعض المشكلات ، وليست المقابلة بين مبدأ ومبدأ أن يباينه في جميع الفروع وأن يفترق عنه في جميع النقاط. بل الفارق الأصيل بين المباديء أن تتباين الروح ، وأن تتقابل في وجهة النظر والإسلام ـ دون شك ـ يباين هذه المبادئ في روحه ويقابلها في وجهة نظره.

ويؤثر بعض الكتبة أن يفسر الإسلام بالرأسمالية لأنه يعترف ـ مثلا ـ بالملكية الفردية ، أو يصفه بالشيوعية لانه يقرر حقوقاً للعامل على المالك ، ويفرض أنصبة في مال الغني للفقير ، يحاول هؤلاء ان يفسروا الإسلام بما يرتأون ويتخذون من وجوه الموافقات سنداً لما يحاولون ، تضليلاً للعقول وتلبيساً للحق بالباطل.

لغة وضعت السياسة مفرداتها ، ولقن المستعمرون تراكيبها ، وردد الثرثارون منا أصدائها. يصنعون ذلك ليستعبدوا أربعمائة مليون ونيفاً من المسلمين.

ان الإسلام صريح في دعوته ، صريح في بيان فلسفته ، صريح في نشر

٢٠