في مقارنة الأديان

الدكتور صائب عبد الحميد

في مقارنة الأديان

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-11-0
الصفحات: ١٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وحي إلهي ، وهو يشهد بصراحة على اليهود بتحريفهم للتوراة ، فيقول : « ووحي الله لا تذكروا بعد ، لأن وحي الله للرجل كلامه ، وقد حرفتم كلام الاله الحي رب الجنود ، إلهنا » (١).

ويقول أيضاً نافياً مزاعم اليهود بأنهم يحتفظون بالتوراة ، ومصرحاً بنسبتها الى الكتبة الكذابين ، ما نصه : «كيف تقولون حكماء نحن ، وتوراة الله معنا ! لكن هُوَ ذا للكذب عملها فلم كذب الكتبة » (٢).

وليس كلام أكثر صراحة من هذا على أن نصوصاً غير قليلة في هذه التوراة منتحلة ، وضعها كتبة كذابون.. وفي هذا الكلام شهادة دينية تاريخية. فهو كلام النبي عليه‌السلام ، الذي يشهد في عصره على ما وقع في العصور السالفة وعلى التوراة التي يراها عند أبناء قومه.

٢ ـ نموذج من المنتحل : ومن أبرز نماذج الوضع في التوراة الفصل الخاص بقصة وفاة موسىٰ عليه‌السلام ومدفنه ومناحة بني إسرائيل عليه ثلاثين يوماً ! (٣) فإذا كانت التوراة وحي الله الى موسىٰ ، فمن كتب هذا الفصل الذي يتحدث عن وفاة موسىٰ ودفنه وما جرىٰ بعده على بني اسرائيل ؟ هل أملاه موسىٰ عليهم بعد موته ؟ انه شيء من أخبار بني إسرائيل وتاريخهم ، فينبغي أن يوضع في أسفار العهد القديم ، لا في أهل التوراة التي هي وحي الله إلى موسىٰ عليه‌السلام.

_______________________

(١) سفر ارميا ـ الفصل ٢٣ ـ العدد ٣٦.

(٢) سفر ارميا ـ الفصل ٨ ـ العدد ٨.

(٣) سفر التثنية ـ الفصل ٣٤.

٤١

الفقرة الثانية : تاريخ التوراة (١)

من هو مؤلف العهد القديم ؟

احياناً يكتفي مؤلف مقدمة الكتاب المقدس بأن يجيب بأن مؤلف كل هذه الكتب هو الرب ، لكي يسد الطريق على أي تساؤل ! وأحياناً اخرىٰ يضيف الى هذه الاجابة تصحيحاً يقول فيه : إن هناك تفاصيل قد أضافها بشر الى النص الاول ، وإن الطابع المشكوك فيه لفقرةٍ ما في هذا النص لا تحرّف الحقيقة العامة التي تنبع منه !

ولكن إذا حدث ورجع القارئ الى المؤلفات التي كتبها بعض رجال الدين للخاصة وليس لعامة الجمهور ، فسيكتشف أن مسألة أسفار الكتاب المقدس مسألة أكثر تعقيداً مما كان يظن بداءة.

وهناك دراسات فيها معطيات دقيقة ، كدراسة ادموند جاكوب « العهد القديم » التي تعطي رؤية شاملة عن الموضوع.

يثبت جاكوب الى انه في البدء لم يكن هناك نصّ واحد فقط ، بل كان هناك تعدد في النصوص ، ففي القرن الثالث قبل الميلاد تقريباً كان هناك على الأقل ثلاث مدونات للنص العبري للتوراة :

ـ النص المحقق الماسوري.

ـ النص الذي استخدم جزئياً في الترجمة الى اليونانية.

ـ النص المعروف بالسامري ، أو أسفار موسىٰ الخمسة.

ثم بعد ذلك في القرن الأول قبل الميلاد صار الاتجاه الى تدوين نصّ واحد ، ولكن تدوين نص الكتاب المقدس لم يتم إلّا في القرن الأول بعد الميلاد (٢).

_______________________

(١) هذا المبحث أخذناه باختصار عن : القرآن والتوراة والإنجيل والعلم ـ دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة / موريس بوكاي.

(٢) موريس بوكاي / المصدر المذكور : ٢٠ ـ ٢١.

٤٢

الأصول الأولى للتوراة :

يثبت خبراء التاريخ المتخصصون بدراسة العهد القديم أنه في حدود القرن العاشر قبل الميلاد تم تحرير النص المعروف بالرواية « اليهوية » التي شكلت في ما بعد بنية الأسفار الخمسة التي عرفت باسم أسفار موسى الخمسة.

وسمي هذا النص بالرواية اليهوية لأن اسم الله فيه هو « يهوه ».

ثم اضيفت الى هذا النص بعد ذلك الرواية الأخرىٰ للتوراة المعروفة بالهيمية ( لأن اسم الله فيها هو « ألهيم » ).

ثم جاءت الرواية الثالثة المعروفة بالكهنوتية ، والتي كتبها الكتبة الذين كتبوا كتاب حزقيال بعد موته ، وهي رواية خاصة بسفر التكوين ، أول اسفار التوراة الخمسة.

ويضيف بحاثة آخرون نصاً ثالثاً لسفر التثنية أيضاً ، وبهذا اذن يمتد تحرير نص أسفار موسى الخمسة على ثلاثة قرون بأقل تقدير. (١)

ثم تم بعد ذلك تأليف التوراة من التوفيق بين النصوص الثلاثة ، لكن التوفيق الذي حمل الكثير من الاضطراب ، وركز أصل الشبهة في نسبة هذا النص إلى موسى عليه‌السلام.

وقد نظم موريس بوكاي جدولاً مفصلاً لهذا التلفيق في الاصحاحات الأحد عشر الأولى من سفر التكوين ، أول أسفار التوراة ، نذكر منه أمثلة قليلة فقط ، فهو يقول :

« على سبيل المثال ، في ما يخص الخلق والطوفان والفترة التي تمتد من الطوفان وحتى ابراهيم ، وهي الفصول التي تحتل الأحد عشر فصلاً الأولى من سفر التكوين ، نرىٰ في رواية التوراة جزءاً من النص اليهوي ، يتبعه جزء من النصّ الكهنوتي ، وليس النص الإلهيمي حاضراً هنا ، ويظهر بجلاء تام هنا

_______________________

(١) موريس بوكاي / مصدر سابق : ٢٦ ـ ٢٧ ، ٣٢.

٤٣

تداخل وتعقد الاسهامات اليهوية والكهنوتية. أما في ما يتعلق بالخلق وحتى نوح (أي الفصول الأولى) فانتظامها بسيط : فقرة يهوية ، تعقب فقرة كهنوتية ، وهكذا من البداية حتى نهاية الرواية.

اما ما يتعلق بالطوفان ، وخاصة الفصلين السابع والثامن فإن تقسيم النص حسب مصادره يعزل فقرات قصيرة جداً قد تصل الى جملة واحدة ، في أكثر قليلاً من مئة سطر من النص الفرنسي ننتقل سبع عشرة مرة من مصدر لآخر. ومن هنا كانت تلك المتناقضات والأمور غير المعقولة التي تدرك عند قراءة هذا النص اليوم ». (١)

نتيجة البحث باختصار :

يقول بوكاي : ظلت اليهودية والمسيحية لقرون طويلة تعتبر أن موسىٰ نفسه هو كاتب التوراة ، أما اليوم فقد هجر هذا الفرض تماماً ، والكل يتفق على تلك النقطة ، ويتسلح بأدلة قاطعة ، ففي القرن السادس عشر أشار كارلتشاد الى استحالة أن يكون موسىٰ قد كتب بنفسه كيف مات ! (٢)

وَيَذْكُر بعد ذلك نقاداً آخرين يرفضون اُبوّة موسىٰ على الأقل لجزء من الأسفار الخمسة ، ويذكر على وجه الخصوص دراسة ريشارسيمون « التاريخ النقدي للعهد القديم » وفيها يؤكد سيمون على الصعوبات الخاصة بتسلسل الأحداث ، والتكرارات ، وفوضىٰ الروايات ، وفوارق الأسلوب في أسفار موسىٰ الخمسة. (٣)

_______________________

(١) موريس بوكاي / مصدر سابق : ٣٤ ـ ٣٦.

(٢) سفر التثنية ـ الاصحاح ٣٤ ـ الآيات ٥ ـ ١٢.

(٣) موريس بوكاي / مصدر سابق : ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١.

٤٤

الفصل الثاني معالم في الانجيل

الانجيل المعروف أيضا بـ « العهد الجديد » ليس بكتاب واحد ، بل تألف العهد الجديد من أربعة أناجيل معروفة ، معتمدة عند الامة النصرانية ، وهي : إنجيل متّىٰ ، إنجيل مرقص ، إنجيل لوقا ، وإنجيل يوحنا. فإذا أطلق لفظ الانجيل فالمراد به هذه الاناجيل الاربعة ، على الرغم من وجود كتابات (أناجيل) أخرى تكشف عن الكثير من حقيقة الديانة المسيحية ، لكن اتباع العهد الجديد لم يذعنوا لها.

وهذا الفصل يسلط الضوء على معالم اساسية في الاناجيل الاربعة ، وما وراءها مما هو ضروري لاكتمال الصورة ، وباختصار مناسب.

١ ـ تاريخ الاناجيل

لم يكن كتّاب الاناجيل الاربعة شهود عيان على حياة المسيح ، كما يعتقد المسيحيون ، ولم تظهر هذه الاناجيل في عهد المسيح ، ولاقريباً منه بسنين قليلة ، بل تراوح ظهورها بين ٧٠ إلى ١٠٠ سنة بعد السيد المسيح ، وكان أولها ظهورا انجيل مرقص ، ثم تلاه متّىٰ ، ثم لوقا ، ثم يوحنا (١).

_______________________

(١) موريس بوكاي / مصدر سابق : ٧٨ ، نظرة عن قرب في المسيحية / بربارا براون : ٦٦.

٤٥

وإنجيل مرقص الذي هو أقدم هذه الاناجيل هو أيضا أقصرها ، ولكنه ليس كتاب أحد الحواريين ، بل هو على الأكثر كتاب حرره تلميذ لأحد الحواريين (١). يؤكد هذا أنه على الرغم من الاعتراف به كانجيل كنسي ، إلّا أن محققي المسيحية المحدثين يعدون خاتمته (الاصحاح ١٦ ، الآيات ٩ ـ ٢٠) كمؤلف مضاف ، وتشير الترجمة المسكونية إلى هذا بشكل صريح (٢).

أما إنجيل متّىٰ فيحتل المكانة الاولى من بين الاناجيل الاربعة في نظام ترتيب أسفار العهد الجديد ، إذ جاء هذا الانجيل وكأنه امتداد للعهد القديم بشكل ما ، يقول المعلقون على الترجمة المسكونية : إن هذا الانجيل كتاب يثبت أن المسيح يكمل تاريخ بني إسرائيل ، ولكي يحقق متّىٰ هذا الغرض فإنّه يستشهد دائماً بفقرات من العهد القديم تشير إلى أن المسيح يتصرف كالمسيح الذي ينتظره اليهود (٣).

من هو متّى ؟

يقول بوكاي : لنقل صراحة أنه لم يعد مقبولاً اليوم القول إنه أحد حواريي المسيح بالرغم من أنه يعرّف بأنه «كان عشاراً أو جابياً بكفر ناحوم عندما دعاه المسيح ليجعل منه أحد تلامذته ». وذلك ما كان يعتقده آباء الكنيسة. ولكن لم يعد أحد يعتقد هذا في عصرنا. هناك نقطة لاجدال فيها وهي أن هذا الكتاب يهودي ، فمفردات كتابه فلسطينية ، اما التحرير فيوناني. ويقول

_______________________

(١) موريس بوكاي / المصدر نفسه : ٨٦.

(٢) موريس بوكاي : ٨٩.

(٣) موريس بوكاي : ٨٢.

٤٦

ا. كولمان إن الكاتب ، أي متّىٰ ، يخاطب « أناسا ، وإن كانوا يتحدثون اليونانية ، فإنهم يعرفون العادات اليهودية واللغة الآرامية » (١).

أما بالنسبة للمعلقين على الترجمة المسكونية فإن أصل هذا الانجيل يبدو كما يلي : « يقدر غالبا أن انجيل متّى قد كتب بسوريا ، وربما بأنطاكيا أو بفينقيا ، ففي هذه المناطق كان يعيش عدد كبير من اليهود وقد يمكن أن نستشف معركة فكرية ضد اليهودية المعبدية الاورثوذكسية الغريزية التي ظهرت بالمجمع الكنسي اليهودي بجامينا في نحو عام ٨٠ م ، في ظل هذه الظروف يكثر عدد الكتاب الذين يؤرخون للأنجيل الأوّل ما بين عامي ٨٠ ، و ٩٠م ، أو ربما قبل ذلك بقليل ، ولايمكن الوصول إلى يقين كامل في هذا الموضوع.

ولما كان اسم المؤلف غير معروف بالتحديد ، فالأنسب هو الاكتفاء ببعض الخطوط المرسومة في انجيل متّىٰ نفسه ومنها : أن الكاتب معروف بمهنته ، وأنه متبحر في الكتب المقدسة والتراث اليهودي ، وأنه يعرف ويحترم رؤساء شعبه اليهود ، وإن أغلظ في خطابه لهم ، كما أنه استاذ في فن التدريس ، وفي إفهام قول المسيح لمستمعيه مع تأكيده الدائم على النتائج العملية لتعاليمه. وأنه يتفق جيداً مع ملامح يهودي متأدب اعتنق المسيحية ، وهو معلم حاذق « يخرج من كنزه جديداً وقديماً » ، كما يشير إلى هذا إنجيله نفسه (الإصحاح ١٣ ، الآية ٥٢). تلك صورة بعيدة كل البعد عن صورة الموظف البيروقراطي بكفر ناحوم الذي يطلق عليه مرقص ولوقا اسم ليفي ، والذي اصبح واحداً من

_______________________

(١) موريس بوكاي : ٨٣.

٤٧

حواريي المسيح الاثني عشر ... (١).

ويتفق الجميع على الاعتقاد بأن متّىٰ قد كتب انجيله اعتماداً على مصادر مشتركة بينه وبين مرقص ولوقا. ولكن روايته تختلف ، في نقاط جوهرية كما سنرىٰ فيما يلي : ومع ذلك فقد استخدم متّىٰ بشكل واسع إنجيل مرقص الذي لم يكن أحد حواريي المسيح (٢).

من هو لوقا صاحب الانجيل الثالث ؟

لقد أراد بعضهم التعرف على هويته في شخصية الطبيب الذي يحمل اسم لوقا ، والذي يذكره بولص في بعض رسائله. لقد كان هناك لوقا ما قد رافق بولص في رحلاته. فهل هو نفس الشخص ؟ إن ا. كولمان يعتقد ذلك.

ويمكن تقدير تاريخ انجيل لوقا بالنظر إلى عوامل عدة. فقد استعان لوقا بانجيل مرقص ومتّىٰ. وكما تقول الترجمة المسكونية فيبدو أنه قد عايش حصار القدس وتدميرها تحت جيوش تيتوس عام ٧٠ م. وعلى ذلك يكون الانجيل لاحقاً على ذلك التاريخ. ويحدد النقاد الحاليون غالباً تاريخ تحريره بما بين ٨٠ ـ ٩٠ م. ولكن هناك معلقين آخرين ينسبونه إلى تاريخ أكثر قِدماً (٣).

وأخيراً يختلف « انجيل يوحنا » جداً عن الاناجيل الثلاثة الأخرىٰ ، إلى درجة أن الاب روجي في كتابه « مقدمة إلى الانجيل » ، وبعد أن علّق على الاناجيل الاخرى ، يعطي صورة معبرة عن هذا الانجيل الرابع : «إنه عالم

_______________________

(١) موريس بوكاي : ٨٤.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) موريس بوكاي : ٩١.

٤٨

آخر ». والواقع أنه كتاب مختلف تماماً : فهو يختلف في ترتيب وفي اختيار الموضوعات والروايات والخطب ، وبه اختلافات أسلوبية وجغرافية ، وأخرى خاصة بالتعاقب الزمني للأحداث ، بل إنه يحتوي على اختلاف في الآفاق اللاهوتية (١).

وهذا الانجيل هو آخر الأناجيل الأربعة تدويناً ، وقد كتب بعد سنة ١٠٠ م ، فصاحبه يوحنا إذن ليس هو يوحنا الحواري الذي تتحدث عنه الأناجيل (٢).

ماذا قبل الانجيل الأول ؟

من أين استمد مرقص مادة كتابه ، إذا كان يُشَك في كونه من حواريي المسيح ؟

إن الحقيقة التاريخية التي تتحدث عن هذا السر ستؤكد مرة أخرى أن مرقص لم يكن حوارياً للمسيح. فثمة حقيقة معترف بها تكشف عن أن المؤسس الأوّل لمادة الانجيل التي أخذها مرقص ، ثم متّىٰ ولوقا ، اللذين جاء كتاباهما مشابهين كثراً للانجيل الأوّل ، حتى عرفت بالاناجيل المتشابهة ، إن المؤسس الأوّل لهذه المادة هو رجل آخر ، ورجل تدور حوله أسئلة شتىٰ.

لقد ولد شاؤول في طرطوس غير متأخر كثيراً عن ولادة عيسىٰ نفسه. وقد أصبح شاؤول عضواً في طائفه يهودية تسمّىٰ الفريسيّين (تتميز بتمسكها الأعمىٰ بالمظاهر والطقوس).

إن « نسور الشريعة » هؤلاء اصبحوا مدفوعين بالتعصب في ملاحقة « النصارى » ، وبعد إعدام اصطيفان ابتدأ شاؤول يأخذ دوراً فعالاً جداً في هذا المضمار. لقد كان أداؤه لهذا الدور من القوة بحيث تم تعيينه لوظيفة رئيس

_______________________

(١) موريس بوكاي : ٣٩ و ٩٥.

(٢) موريس بوكاي : ١٢٤.

٤٩

الوكلاء في القدس ، وقد زود بالوثائق الضرورية ليتوسع في « التطهير » إلى المدن المجاورة.

وبعد ما يقارب الخمس سنوات من صعود عيسىٰ إلى السماء كان هذا الشاب المتحمس ذوالخمسة والعشرون عاما في طريقه إلى دمشق ليختطف مجموعة من النصارى ويعود بهم إلى القدس. وفي هذا الاثناء حصلت له رؤيا أدعى أنّ عيسىٰ ظهر وسأل شاؤول لماذا هو مصرّ على اضطهاده ؟

لقد غير شاؤول اسمه إلى بولص ، وساح في الصحاري العربية حتى يتمكن من التفكير حول كيفية المسلك الذي سيسلكه ليُنفّذ مااعتقد بأنه أمر من عيسى ليخرج إلى الناس ويبشّر.

وبالضبط ماذا كان عليه أن يعمل شكّل مسألة عويصة له ، لأنّ اليهود رفضوا عيسىٰ ورسالته. ولهذا فإن بولص اعتقد بأنه لايملك فرصة أكثر من المسيح لكسب اليهود. ولذا صمّم على ترك اليهود واستهداف الأميّين (غير اليهود) بدلاً عنهم. وحتى يستطيع أن يفعل ذلك فإن تحليلاً فكرياً خلّاقاً من جانبه كان ضرورياً بالتأكيد (١).

إن الرومان والاغريق الذين كانوا يألفون السكان غير اليهود في العالم الذي عاش فيه بولص كانوا وثنيّن يعبدون وفرة وافرة من الآلهة والآلهات ، وإن معابد وتماثيل آلهتهم هذه كانت منتشرة في كل مكان. وكان القانون الروماني يحتّم على الناس ، باستثناء اليهود ، أن يقدّموا الولاء للآلهة.

وكان بولص يعرف أن أناساً لهم هكذا عقائد وثنية عميقة سوف لن يقبلوا

_______________________

(١) بربارا بروان / نظرة عن قرب في المسيحية : ١٩ ـ ٢٠.

٥٠

فكرة تقول إن الرحمة والخلاص يمكن أن تأتي على يدي فرد من البشر يعتبر فقط شخصاً مستقيماً وإنساناً صالحاً. فإذا أراد بولص نتائج سريعة لمهمته فإنه كان يعرف أنه يجب عليه أن « يُلطّف أو يعدّل » الأمور قليلاً آخذاً بنظر الاعتبار ثقافة السكان غير اليهود (١).

لقد كان نجاح بولص ساحقاً في جهوده التبشرية اللاحقة خصوصاً مع التنازلات التي أعطاها لغير اليهود. وبالرغم من أن الديانة المسيحية تأخذ اسمها من عيسىٰ المسيح ، فأن بولص الطرطوسي يجب أن يعتبر هو مؤسسها الحقيقي لأنه الشخص الذي اختمرت في ذهنه كل عقائدها وأقام كنائسها في كل العالم المعروف في زمانه. والمسيحيون لاينكرون ذلك أيضاً : « ليس هناك شخص في التاريخ المسيحي يمكن أن يُضاهي أو أنّ له ذلك التأثير الهائل مثل ذلك الذي لشاؤول الطرطوسي » ففي كتابه « المئة : تقييم الأشخاص الأكثر أهمية في التاريخ » فإنَّ المؤلف مايكل هارت يوافق على ذلك بقوله :

« ليس هناك شخص لعب دوراً من الضخامة كالدور الذي لعبه بولص في إشاعة المسيحية » (٢).

ولكن هناك مشكلة كبيرة في هذه الصورة على أية حال ، وهي أنّ تعاليم بولص ، والمؤسس الحقيقي للمسيحية ، لايمكن العثور عليها في أي مكان من تعاليم عيسىٰ أو في تعاليم الأنبياء الذين سبقوه. ليس هذا فقط ولكن بولص لم يكن له إلّا اتصال قليل مع الحواريين الحقيقيين لعيسى ، والذين كان من

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٢٠ ـ ٢١.

(٢) المصدر : ٢١ ـ ٢٢.

٥١

الممكن أن يوجهوه إلى الطريق الصحيح. فهؤلاء لم يكونوا على وفاق مع تعاليم بولص المبتكرة وأخبروه بذلك كلّما كان ذلك ممكناً.

وفي النهاية على أي حال ، فإنّ نوع المسيحية التي نادىٰ بها بولص إنّما أحرز فيها النجاح بفضل شخصيّته الساحرة ، إضافة إلى حقيقة أنه وأصحابه غلبوا الحواريين الحقيقيين لعيسى في أمور مهمة كالوجاهة الاجتماعية والثروة والتعليم ، ولذلك حصل على اتباع كثيرين من بين السكان غير اليهود. فالمسيحية ـ اليهودية ، أي عقيدة حواريي عيسىٰ ، لم تكن لها أيّة فرصة للنهوض (١).

ماذا أنجز بولص ؟

بقوله إن عيسىٰ كان إلهاً ، فإنّ بولص استطاع أن يتقرب إلى الجماهير غير اليهودية في عبارات كانت مألوفة لديها جيداً ، وكان نجاحه لذلك مؤكداً. إن حماسه وشخصيته الجذابة مضافين إلى استعداده التام ليضع حلاً توفيقياً بين الرسالة الحقيقية لعيسىٰ وبين العقائد الوثنية ، قد قادته لأن يخلع صفة « البُنوة الالهية » على عيسىٰ.

وهذه عقيدة مشكوك فيها على أحسن الفروض ، لأن « البُنوة » تصف شخصاً قد خُلِق ، بينما « الالهية » تصف كائناً أزلياً في طبيعته.

وفي وقت لاحق فإن قادة الكنيسة فكروا بطريقة أنيقة يُنهون بها هذا اللبس بقولهم إن عيسىٰ كان هو الله ـ مجسداً على هيئة انسان ـ وهو كائن أزلي اختار أن يصبح إنساناً في رحم مريم. أي إن عيسىٰ ـ بكلمة أخرى ـ له طبيعتان : إلهية وبشرية ، وقد تم اتحادهما في شخص واحد. وربما كانت نية

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٢٢.

٥٢

رجال الكنيسة حسنة ، ولكن مقولتهم هذه قادت فقط إلى التباس أكثر (١).

وبولص هو الذي وضع عقيدة الخلاص ، وبالدافع الأوّل نفسه ، ليحصل على معتنقين من بين الاميين (غير اليهود). اولئك الذين كانوا مترددين في أن يلتزموا بالمسيحية بسبب رغبتهم الحادة في تجنّب كل القواعد والأنظمة الموجودة في الشريعة الموسوية ، وهذا المعتقد الأخير ـ وهو الخلاص بالايمان بعيسىٰ وحده ـ كان في الواقع الأكثر جذرية ، ولكنه هو الذي أكّد نجاح مهمة بولص لأنّ هذا الاعتقاد أعطاهم بالضبط ما كانوا يريدون ، ولذا هرعوا إليه زُرافاتٍ ووحداناً (٢).

٢ ـ اختلافات الاناجيل

تقدمت الاشارة إلى التشابه الحاصل بين الأناجيل الثلاثة الأولى (مرقص ، ومتّىٰ ، ولوقا) حتى عرفت بالاناجيل المتشابهة ، وقد اُحصيت مواضع التشابه بينها على النحو الآتي :

ـ آيات مشتركة بين ثلاثة أناجيل : مرقص ، ومتّىٰ ، ولوقا

ـ آيات مشتركة بين إنجيلي مرقص ومتّىٰ

ـ آيات مشتركة بين إنجيلي مرقص ولوقا

ـ آيات مشتركة بين إنجيلي متّىٰ ولوقا

= ٣٣٠ آية.

= ١٧٨ آية.

= ١٠٠ آية.

= ٢٣٠ آية.

وقد تفرد كل واحد من هذه الأناجيل الثلاثة بعدد من الآيات ليس لها

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٠.

(٢) نظرة عن قرب في المسيحية : ٥٣.

٥٣

ذكر في غيره منها ، وكما يلي :

ـ متّىٰ = ٣٣٠ آية.

ـ مرقص = ٥٣ آية.

ـ لوقا = ٥٠٠ آية.

أما إنجيل يوحنا فهو إنجيل آخر مختلف عنها في نصه وصياغته (١).

وفي مواضع الاختلافات الكثيرة بين الأناجيل هناك اختلافات صارخة تسجل تناقضاً داخلاً بينها ، ومن أمثلة هذه الاختلافات ، التناقضات :

١ ـ إن انجيل متّىٰ ينطوي على شجرة عائلة عيسىٰ (متّىٰ ١ : ٧) وهي تتابع شجرة العائلة إلى إبراهيم ابتداء من سليمان أحد أولاد داود ، بينما الشجرة الموجودة في إنجيل لوقا (٣ : ٣١) تتابع شجرة عائلة عيسىٰ إلى آدم من خلال ناثان ، وهو ابن آخر لداود مختلف تماماً عن سليمان. فحتّىٰ دراسة خاطفة سوف تظهر أسماء موجودة في سلسلة متّى لاتوجد في الشجرة التي يعطيها لوقا والعكس بالعكس.

والسلسلة التي يضعها لوقا بين إبراهيم وآدم عليهما‌السلام تتألف من عشرين اسماً فقط ، أي أن الفاصلة بين إبراهيم وآدم يؤلفها هؤلاء الأجداد العشرون ! فهل يمكن أن تتصور أن عشرين جيلاً فقط من البشر عاش قبل إبراهيم ؟!

ومن النقاط التي يجب ملاحظتها هنا ، هي أنّ إعطاء شجرة عائلة تنطوي على ذكر اسم لعيسىٰ من خلال يوسف (زوج اُمّه مريم) ينطوي على نوع من الغرابة ، وذلك أنّ عيسىٰ لم يكن له أب بشري ، وإنّ سلسلة أكثر انسجاما تكون

_______________________

(١) موريس بوكاي : ٩٨.

٥٤

عن طريق اُمه مريم وليس زوجها يوسف (١).

٢ ـ إنّ إنجيل يوحنّا في تعارض مع الأناجيل الثلاثة الاُخرىٰ في كلّ وجه تقريبا من حياة عيسىٰ ورسالته ، مثل أين وُلد وترعرع وقصة تعميده ، وحتّى الأمكنة التي زارها ومدة رسالته.

وممّا يُقال في الحقيقة فإنّ ٩٢% من المادة الموجودة في إنجيل يوحنّا هي غير مذكورة في الأناجيل الاُخرى.

ومن الاختلافات المثيرة للانتباه بين إنجيل يوحنّا وبين الأناجيل الثلاثة الاُخرى ، هي أنّ يوحنّا لايذكر شيئا مطلقا عن طريقة العشاء الربّاني.

ففي سرد يوحنّا للعشاء الأخير الذي يوجد في الفصول ١٣ ـ ١٧ يقوم عيسىٰ بغسل أقدام حوارييه ، وبعد ذلك يلقي عليهم خطبة طويلة حول مجيء شخص مواسٍ ومُعزٍّ COMFORTER من بعده. ولا يوجد حتّى مجرد ذكر في هذه الفصول حول تقديس الخبز والخمر التي تعتبر اليوم من أعمدة الديانة المسيحية (٢).

٣ ـ لا يتكلّم كلّ من إنجيل متّى ويوحنّا عن صعود المسيح إلى السماء. فبينما يتكلّم لوقا عن الصعود في إنجيله ، وفي كتابه الآخر المعنون بـ « أعمال الرُّسُل » ، فإنّ الوقت والمكان لهذا الصعود يختلفان في هذين الكتابين.

أمّا مرقص فهو أيضاً يتكلّم عن الصعود ، ولكن المختصين في الكتاب المقدّس يتّفقون على أنّ سجل هذه الفترة بأكمله كما جاء في إنجيل مرقص

_______________________

(١) بربارا براون : ٦٢ ، موريس بوكاي : ١٠٨ ـ ١٢٢.

(٢) بربارا براون : ٦٣ ، موريس بوكاي : ١٢٤.

٥٥

« ليس موثوقاً به ».

ففي مرقص (١٦ ، ١٩) فإنّ المسيح « قد رفع إلى السماء ، وجلس على يمين الله » أما لوقا الذي يذكر حدث الصعود ففيه (٢٤ ، ٥١) : « انفصل المسيح عنهم وحمل إلى السماء » ويحدد ذلك بيوم قيامة المسيح ، التي ظهر بعدها بحسب بعض الأناجيل كما سيأتي (١).

٤ ـ ومن أمثلة « التعاليم الغريبة » فإنّنا إذا نظرنا إلى العقيدة المسيحية في الغفران ، نجده يرتكز على مبدأ أنّ عيسىٰ هو كائن كامل من جميع الوجوده.

ويعجب المرء في ضوء ذلك ، كيف يبرِّر المسيحيون الإشارات في الأناجيل إلى أنّ عيسىٰ ليس شخصاً يتمتّع بالكمال تماماً ، فعلىٰ سبيل المثال :

أ ـ في إنجيل متّىٰ ١٦ : ٢٣ فإنّ عيسىٰ يُسمّي بطرس « الشيطان » و « مصيدة خطرة » عندما يحاول بطرس أن يُحامي عنه.

ب ـ في إنجيل مرقص ١١ ، يلعن عيسىٰ شجرة التين لأنّها ببساطة لم تكن تحمل أثماراً في غير موسمها ، وكان جائعا عندما عثر عليها.

ج ـ في إنجيل يوحنّا ٢ : ١ ـ ٤ يبدو عيسىٰ قليل الاحترام بوضوح عندما يتعامل مع والدته.

وفي متّىٰ ٢٨ : ١٩ يأمر عيسىٰ حواريّيه أن يذهبوا ويعمّدوا باسم « الأب والابن وروح القدس ». وللبرهان على أنّ هذه الكلمات الأربع هي من إضافات الكنيسة المتأخرة إلى نص كلام عيسىٰ من الممكن إيجاده من قراءة رسائل بولص أنّه يقول في هذه الرسائل : إنّ التعميد في أيّام الكنيسة الاُولى

_______________________

(١) بربارا براون : ٦٣ ، موريس بوكاي : ١٢٩.

٥٦

كان يتمّ باسم عيسىٰ وحده.

ومن الجدير بالذكر أن نلاحظ أنه في مرقص ١٦ : ١٥ عيسىٰ يقول : « اذهبوا أنتم إلى كل العالم واكرزوا (١) بالإنجيل على كلّ مخلوق ».

أمّا مرقص فإنّه يورد نفس الحادث في ١٦ : ١٥ كما يفعل متّىٰ في ٢٨ : ١٩ ، فأين بالضبط جاءت هذه الكلمات الزائدة عن تلك التي نجدها في سرد مرقص ؟ (٢)

٥ ـ من التناقضات الأخرى الإخبار عن ظهور المسيح بعد قيامته :

ففي يومنا هناك امرأة واحدة ، وهي مريم المجدلية ، أتت القبر ، فلم تعرف أين هو ... وفي إنجيل متّىٰ فإن ملاكاً هو الذي يعلن لمجموعة النساء أتين القبر أنهن سيرين المسيح بالجليل ، لكنه يقابلهن بعد لحظة على مقربة من القبر.

ويشير لوقا إلى ظهور المسيح ثلاث مرات بعد قيامته ، أما يوحنا فيقول إنّه ظهر مرتين على ثمانية أيام بمجمع بيت المقدس. وهذه كلها تتناقض مع الاشارات إلى ظهور المسيح في رسالة بولص الاولى (١٥ ، ٥ ـ ٧) إذ يقول : إنه قد ظهر لأكثر من خمسمئة شخص في وقت واحد ، ولكل الحواريين.

يقول بوكاي : إن التناقض جلي بين بولص ، وهو الشاهد المعاين الوحيد ، ولكنه مشكوك فيه ، وبين الاناجيل. ومن رواية لوقا في (أعمال الرسل) عن ظهور المسيح لبولص فهي تناقض ما يقوله بولص نفسه عن ذلك الظهور (٣).

_______________________

(١) كَرَزَ : أي وعظ ونادى ببشارة.

(٢) بربارا براون : ٦٤.

(٣) موريس بوكاي : ١٢٧ ـ ١٢٨.

٥٧

خلاصة القول في هذه الملاحظات :

يخلص المحققون المسيحيون المحدثون إلى أنّ مؤلفي الأناجيل أنفسهم لايزالون محل تساؤل. ورغم عدم تأكدهم حول مَن هم المؤلفون الحقيقيّون فإنّ المختصين في الكتاب المقدّس يتّفقون على أنّ متّىٰ ومرقص لم يكونا مؤلّفي الإنجيلين اللّذين يحملان اسميهما.

أمّا إنجيل لوقا فيعتقد أنه كتبه صديق لبولص من الاُميين (غير اليهود) لم تتح له حتّى فرصة الالتقاء بعيسىٰ ، وإنّ الجزء الأوّل من كتابه حول المسيحية المبكرة هو الذي يحتوي أيضاً على كتاب « الأعمال ».

وبينما يقول العديد من المسيحيين إنّ إنجيل يوحنّا كتب من قبل أحد حواريي عيسىٰ الذي له هذا الاسم ، فإنَّ المختصّين في الكتاب المقدّس يتساءلون الآن وفي ضوء الحقيقة المعروفة من أنّ يوحنّا كتب إنجيله حوالي عام ١٠٠ ميلادية ، وأنّ يوحنّا الحواري كان قد استشهد في عام ٧٠ بعد الميلاد ، أي قبل أكثر من ٣٠ عاماً من كتابة هذا الإنجيل.

إنّ قبول نظريّة أنّ أشخاصاً غير حواريي عيسىٰ كتبوا الأناجيل الأربعة يحتّم قبول الاحتمال بأنّ هؤلاء المؤلفين لم يكونوا شهود عيان ولا سامعين لعديد من الأحداث التي كتبوا عنها.

وحتّى إذا رغب المرء أن يتعلّق بفكرة أنّ حواريي عيسىٰ كانت لهم يد في كتابة الأناجيل ، فإنّنا نعرف أنّهم لم يكونوا شهوداً على الأحداث التي جرت بعد أن أخذ عيسىٰ من قبل الجنود من حديقة « الجثمانية » ، لأننا نقرأ : « ثُمّ تركهُ الحواريون وهربوا ... » في كلّ من إنجيل متّىٰ ٢٦ : ٥٦ وفي إنجيل

٥٨

مرقص ١٤ : ٥٠.

وباختصار فإنّ كثيراً ممّا نجد في الأناجيل مرتكز على القيل والسماع ، وليست هي كتابات رجال شهدوا تلك الأحداث.

ونقطة اُخرى يجب أخذها بعين الاعتبار بخصوص الأناجيل ، هي أنه لم يكتب ولا واحد منها في حياة عيسىٰ ، لأنه لم يُحتفظ بأي سجل عن فعّالياته خلال حياته. وفي الحقيقة فقد مرّت ٤٠ سنة تقريباً بين الوقت الذي غادر فيه عيسىٰ الأرض وبين ظهور أوّل إنجيل.

وعندما صدر إنجيل متّىٰ في النهاية ، فإنّ بولص كان قد مضى على وعظه ودعوته ما يقارب العشرين عاماً. لقد كتب رسالته إلى الرومان ، وفيها وضع كل معتقداته في المسيحية. وفي هذا الضوء نستطيع أن نرى أنّ تعاليم بولص قد أثّرت بلاشك على كاتبي الأناجيل إلى درجة كبيرة.

إنّ الأناجيل كتبت بأجمعها مابين ٧٠ ميلادية و ١٠٠ ميلادية ، وقد جاء مرقص أولاً ثمّ تلاه متّىٰ ثمّ لوقا ثمّ يوحنّا.

إنّ الأناجيل الثلاثة الاُولى تسير على نفس الخطوط عموماً. وفي الحقيقة فإنّ نظرة سريعة تظهر أنّ مؤلفي إنجيلي متّىٰ ولوقا استعارا كثيراً جدّاً من مرقص عندما كتاب إنجيليهما. وهذا هو السبب الذي جعل هذه الثلاثة تبدو وكأنها تسرد نفس الحكاية ، وبهذه الصفة أطلق عليها اسم « الأناجيل المتشابهة ».

أمّا إنجيل يوحنّا فإنه مختلف تماماً عن الثلاثة الاُخرى ، وهو لايزال يثير جدالاً لأنّ مؤلّفه كان ببساطة مُهتمّـا بقيمة عيسىٰ للديانة المسيحية أكثر من

٥٩

اهتمامه بما قال عيسىٰ وما فعل.

وهكذا يمكننا أن نستنتج بصورة معقولة أنه بسبب عامل الوقت والكتابة من القيل والسماع وتأثير بولص ، فإنّ صورة عيسىٰ التي تعكسها لنا الأناجيل ليست هي صورة عيسىٰ كما عرفه التاريخ.

وبدلاً من ذلك فإنَّ هؤلاء المؤلفين كتبوا عن عيسىٰ « اسطوري » مستخدمين وجهة نظر لاهوتية « مَسَّحَتْ » الحقيقة التي جرت في زمان عيسىٰ. إنّ مؤلفي الأناجيل كانوا ملتزمين بالعقائد المسيحية ، وقد كتبوا وفي أذهانهم وجهة النظر هذه.

والنتيجة أنّ الأناجيل الأربعة تحتوي على أساطير أكثر من احتوائها على حقائق. إنّ رسالة المسيح السماوية كادت أن تُطمس تماماً تحت ركامٍ ممّا تمنّى الناس وأرادوا من عيسىٰ أن يقول وأن يفعل بدلاً ممّا جرى في الواقع من قبل المسيح (١).

٣ ـ إشكاليات عقائدية في الاناجيل الاربعة

الاناجيل الاربعة والتوحيد :

أكد المسيح عليه‌السلام منذ بعثته أنه إنسان ، ابن الانسان ، ليقطع الطريق أمام التأليه الذي كان يسري في عقائد أتباع الدينات الأرضية ، فمن قوله عليه‌السلام في نفسه : « إن ابن الانسان قد جاء ليستنقذ ذلك الذي ضاع » (متّىٰ ١٨ : ١١).

كما أكد دائماً أنه رسول مرسل من الله تعالى وأنه عبد من عبيده :

ـ « إن من يؤمن لي لا يؤمن بي أنا ، بل يؤمن بالذي أرسلني »

_______________________

(١) بربارا براون : ٦٧.

٦٠