النزعة الدينية بين الإلهيين والماديين

السيد فاضل الموسوي الجابري

النزعة الدينية بين الإلهيين والماديين

المؤلف:

السيد فاضل الموسوي الجابري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-336-5
الصفحات: ٥٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١
٢

٣
٤

مقدِّمة المركز

ماذا يقرأ شبابنا اليوم ؟

أو ماذا يمكنه أن يقرأ ؟

ما الذي توفَّر بين يديه من المقروءات التي يجد فيها نفسه المخاطَب الأول .. المقروءات التي تعيش مثل همومه وتطرق أبواب الفكر بمثل ما يطرقه هو ، وتبحث عن الجواب بأدواته التي يعرفها ويستسيغها ويأنس إليها .. ماذا يجد شبابنا وناشئتنا اليوم من هذا النمط من المقروءات ؟

بالرغم من تعدّد مراكز الأبحاث ودور النشر وتنامي سوق الكتاب وتعدّد أطياف المجلات والدوريات ، إلاّ أن الناشئة والشباب الذين هم الأكثر عدداً والأخطر أثراً في حاضرنا ومستقبلنا الاجتماعي والثقافي هم الأقل حظّاً إن كان لهم حظّ من هذا النتاج الواسع .. هذه الشريحة المهمة والواسعة التي نستهدفها دائماً في خطاباتنا الحماسية ، ما زلنا نهمل حقّها الثابت في خطاب علمي موجّه ومدروس ، يكتشف فيه الناشئة والشباب أنفسهم ، ويحسنوا إدراك ذواتهم ، وينفتحوا على أبواب المعارف ليطلّوا على العالم وعلى الحياة بوعي مناسب ومعرفة جديرة بتحقيق ما يطمحون إليه من تقدّم فكري وثقافي وعلمي ، سيعطي بدوره صورة المجتمع المستقبلية.

وفي عالمنا اليوم حيث التسابق العلمي الحثيث ، وحيث تشتدّ زحمة الأفكار والثقافات الوافدة عبر أدوات الاتصال الحديثة التي تيسّرت في البيوت والمجامع العلمية ، أصبحت المسؤولية أكبر ، وأصبح الدور أكثر خطورة لتعميم أدوات الوعي السليم ، وإيصال مفاتح الثقافة السليمة إلى أيدي الناشئة والشباب وهم يواجهون

٥

الغزو الثقافي السيّال عبر الفضائيات وشبكات الاتصال الالكترونية ، التي ما زالت تخلو من خطاب إسلامي مناسب ، يستقطب أبناء هذه الشريحة ويزوّدهم بأسباب الثبات أمام هذا الغزو ومواجهته بمثل أدواته ووسائله.

ولمّا كان مركز الرسالة مركزاً معنياً بالمعارف الإسلامية ، مع أولوية للأبحاث العقائدية بالمعنى الأعمّ ثمّ الأخلاقية والاجتماعية بالدرجة الثانية ، فهو يرى أن المسؤولية التي على عاتقه مهمة وكبيرة ، وأن عليه أن يسهم بكل ما يستطيع أداءه في ملء هذا الفراغ ، وفي توفير الخطاب الإسلامي المناسب لهذه الشريحة المهمة في المجتمع ، ومن هنا انطلقت فكرة هذه السلسلة ، أملاً في أداء بعض المسؤولية وتحقيق بعض طموحات أبنائنا من الناشئة والشباب.. لتجري هذه السلسلة على موازاة سلسلة المعارف الإسلامية التي صدر منها إلى الآن ستةٌ وعشرون كتاباً.

وقد جاء إصدارنا الأوّل هذا في هذه السلسلة ليطرق واحداً من المواضيع المهمة التي تشغل أفكار الشباب المتطلّع إلى العلم والمعرفة ، ثمّ هو من أهمّ الموضوعات التي تسهم في تأسيس مبادئ المعرفة الإسلامة ألا وهو موضوع الدين ، من حيث أصل وجوده في حياة الإنسان ، ودوافع هذا الوجود ، الأمر الذي يُعدّ فيصلاً بين ثقافتين ؛ الثقافة الدينية ، والثقافة المادية أو غير الدينية.

وقد تناول هذا الكتاب أسئلة هذا الموضوع الحساس بما نرجو أن يكون مناسباً لما ينتظره شبابنا وناشئتنا.

وبالله التوفيق

مركز الرسالة

٦

المقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين ، سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.

وبعد ، فإنّه ما انفك الإنسان يوماً من الأيام يبحث لمعرفة الحقيقة الكونية ، فيجول بفكره آفاق الكون الواسع ، متأملاً في مظاهره وأحواله وعجائبه ، نجومه وكواكبه ، وليله ونهاره ، والكثير من خصائصه العجيبة ، ثم يهبط بنظره إلى الأرض وما فيها من الغرائب والعجائب ، من بحارها ، وأنهارها ، وأشجارها ، وثمراتها ، وحيواناتها ، وكيفية معيشتها ، وتنظيمها وغيرها من الأُمور ، ثم يرجع إلى نفسه وشخصه ، ليجد فيها من القدرات الكامنة والطاقات المتفجرة ، في حركة وجوده الدائبة ما يذهل العقول ويحيّر الألباب.

وأمام كل تلك المظاهر ، الكونية والأرضية والانفسية ، لم يفت ذلك الإنسان أن يتساءل عن الذي صنع كل هذا ودبره ، وخلقه ونظّمه ، فهل وجدت هذه الأشياء بهذا الاتساق العجيب صدفة من تلقاء نفسها ؟

ثم يعود مرة أُخرى إلى نفسه ويناجيها بأنواع المناجاة ، ويخوض معها حواراً طويلاً حول وجوده ، ووجود كل هذه الأشياء حوله ، فيقول لها : ما هو المصدر ؟! ولماذا أنا هنا في هذا الوجود ؟! والى أين سوف أصير ؟!

وبينما هو في هذه الحيرة والتفكر ، وإذا بالجواب يأتيه من أعماق نفسه ووجدانه ، بأن الصدفة مستحيلة ، فلا بد أن يكون لك ولكل هذا الكون خالق ومدبر ، فوق ما تراه من الأُمور المحسوسة ، ولا بد أنّه خلق كل هذا العالم من أجل غاية عظيمة ، وهي أنت أيها الإنسان ، فكل هذا العالم من أجل خدمتك وسعادتك ورقيك

٧

ووصولك إلى الكمال المنشود ، وعلى هذا فلا بد أن يكون لوجودك ووجود كل ما حولك معنىً وحكمة ، والذي يتوجب عليك حنيئذٍ ان تبحث عن هذه الحكمة.

ثم ان العقل والفطرة تدعوان الإنسان للتأمل من جديد ليحكم بعد ذلك بحتمية ان يكون لهذا الخالق منهج وقانون يتحتم على الإنسان السير عليه ، لكونه غير شاذ عن كلِّ الموجودات الّتي حوله ، حيث يحكمها قانون الله سبحانه بدون ان تتخلف عنه أبداً ، وتحقق بذلك كمالها ، وتصل إلى حقيقتها.

( فلحبة الحنطة في مسيرها الحياتي طريق خاص بها ، وفي داخل بنيتها الوجودية ثمة انظمة وتحضيرات معينة ، تكون فعّالة في شرائط خاصة ، تعمل على جذب ما تحتاج إليه من عناصر ومواد تناسب مقدارها ، مع ما تحتاجه نبتة الحنطة في نموها ، وما تقدر على استهلاكه ، وتقودها إلى غايتها المحددة.

إن النظام الخاص الّذي يتحكم بمسير ونمو حبة الحنطة ، وسط محيط من تنوّع العوامل الداخلية والخارجية ، لا يمكن ان يتخلف أبداً ؛ إذ لم يحصل أبداً أن تغير مسار حبة الحنطة ، بعد شوط من النمو ، ليتماثل مع بيئة الحياة الخاصة ، لشجرة التفاح مثلاً ، حيث لم نشاهد ـ إلى الآن ـ حبة حنطة ، تحولت بعد جهد إلى شجرة لها جذوع وأغصان وفروع ...

وهذه القاعدة تجري في جميع أنواع الوجود ، والإنسان بدوره غير مستثنى من هذه الضابطة الكلية ، فله في حياته مسيره الطبيعي الفطري ، وغاية مقصودة تمثل سعادته وكماله ، بالاضافة إلى أنّ بنيتهُ الوجودية مجهزة بأدوات تشخص له مسيره الفطري الطبيعي ، وتهديه إلى منافعه الواقعية ) (١).

إلى هنا اكتمل الشوط الأوّل من مسيرة الإنسان الفكرية والتطلعية ، فبعد أن ثبت له أن له خالقا ، وثبت كذلك حتمية وجود المنهج والبرنامج الّذي لا بد أن يسير

__________________

(١) مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي / الطباطبائي : ٨٢ ـ ٨٣.

٨

عليه ، أخذ يبحث عن هذا الخالق وهذا المنهج.

والحق أن الإنسان عاش في دوامة كبيرة في ذلك البحث ، والتنقيب ، فقسم من الناس هداه عقله النيّر ، وفطرته السليمة فتوصل إلى الواقع ، ولكن الكثير ضلوا طريق الهداية ، وساروا بشكل متخبط في متاهات بعيدة ، وهم على قناعة في قرارة أنفسهم أنهم تائهون ضالون لم يصلوا إلى الواقع الذي يبحثون عنه ، فعبدوا الاصنام والكواكب والمظاهر الكونية وغيرها ، وكثر الفساد في الأرض ، وسالتْ الدماء ، واستُعبد الأحرار ، وانتهكت الأعراض.

كل ذلك كان في حياة البشر ، وتاريخ البشرية زاخر بألوان كثيرة من ذلك الواقع المؤلم ، ولا زالت الآثار تعطي صورة ولو مجملة عن فصول تلك المسرحية المأساوية ، بل ان واقعنا المعاصر خير دليل على همجية الإنسان المنفصل عن الله تعالى ودينه القيم.

من أجل ذلك كله ـ وغيره ـ كان لازماً على ذلك الخالق أن يبعث لهذا الإنسان من يأخذ بيده نحو طريق النجاة والسلام ، ويُعرّفه مطلوبه وهدفه الّذي يبحث عنه ، ويبرمج له حياته بكل أبعادها ، ويؤمّن له طريق الوصول إليه سبحانه ، فكان الأنبياء والرسل هم سفراء الخالق للإنسان الظلوم الجهول ، ولم يترك الله سبحانه اُمّةً إلاّ وبعث فيها نبياً أو رسولاً لهداية الناس إلى صراطه المستقيم ، قال تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) (١).

وقد بلغ عدد الأنبياء مع نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الّذي هو خاتمهم وسيدهم ـ مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ورسول ، إضافة إلى الكتب الأربعة ، الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن ، وعشرات الصحف والتعليمات ، وكان جميع هؤلاء الأنبياء يدعون إلى دين واحد ، وعقيدة واحدة ، وهي : « لا إله إلاّ الله » ، فهو التوحيد الّذي من

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٤.

٩

خلاله تثبت كل المبادئ الحقة ، الّتي من أهمها النبوة والمعاد ، المتمثلة بالإسلام الّذي هو دين الله كما قاله سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ ) (١).

فالدين منهج تقتضيه فطرة الإنسان وعقله ـ كما سوف نرى إن شاء الله ـ ، لذلك لا نجد قوماً من الأقوام ، وعلى مرور الأزمان ، ليس لهم دين يدينون به ، ومعبود يعبدونه .

ولا يضر بهذه القاعدة العامة اولئك الذين انحرفوا عن هذا الأمر الفطري ، حيث أنكروا الله في ألسنتهم إلاّ أن قلوبهم مطمئنة به قطعاً ، ولكن الظلم والتكبّر هو السبب الكامن وراء ذلك الانكار الظاهري ، ثم إنّ انحراف هؤلاء لا يضر بفطرية الدين أو كون التصديق بالمعبود وعبادته أمراً فطرياً .

ان بحثنا هذا ، يتناول موضوعاً مهماً وأساسياً في سير الإنسان الفكري والعملي ، وهو « فطرية الدين » والذي نطقت به الآية المباركة : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (٢).

وسوف نناقش بعض النظريات الوضعية في تفسيرها لظاهرة وجود الدين عند الإنسان ، معتمدين الاختصار والتيسير تمشياً مع الحاجة إلى ثقافة دينية ميسرة. والله من وراء القصد.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٣٠ ـ ٣٢.

١٠

المحور الأوّل

ما هو الدين ، وكيف وجد عند الإنسان ؟

المعنى اللغوي للدين :

١ ـ ان كلمة « الدين » تؤخذ تارة من فعل متعدٍ بنفسه نحو « دانه يدينه » . وتارة أُخرى من فعل متعد باللام ، نحو : « دان له » . وتارة من فعل متعد بالباء نحو : « دان به » .

٢ ـ ومن الطبيعي أن الاختلاف في الاشتقاق ينشأ من الاختلاف في المعنى ، فإذا قلنا : « دانه ديناً » عنينا بذلك أنّه ملكه ، وحكمه ، وساسهُ ، ودبره ، وقهره ... .

فهو هنا بمعنى الملك والتصرف ، بما هو شأن الملوك في السياسة والتدبير وغيره . ومن ذلك قوله تعالى : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (١) ، أي مالك يوم المحاسبة والجزاء . وفي الحديث ، « الكيّس من دان نفسه » أي حكمها وضبطها . « والديّان » : الحاكم والقاضي (٢).

وأما إذا قلنا : « دان له » أردنا بذلك أنّه أطاعه ، وخضع له . فالدين هنا هو الخضوع والطاعة والعبادة.

وكلمة « الدين لله » يصح أن ينطبق عليها كلا المعنين ، أي : الحكم لله ،

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٣.

(٢) لسان العرب / ابن منظور ـ دين ـ ١٣ : ١٦٦ ، مفردات الراغب الأصفهاني مادة دين : ١٧٧.

١١

والخضوع والطاعة له.

أمّا إذا قلنا : « دان بالشيء » أي اتخذه ديناً ومذهباً ، أي : اعتقد وتخلق به ، فالدين هنا بمعنى المذهب والطريقة ، الّتي يسير عليها المرء ، نظرياً وعملياً.

إذن « ان كلمة الدين عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين ، يعظم أحدهما الآخر ويدين له . فإذا وصف بها الطرف الأوّل ، كانت خضوعاً وانقياداً ، وإذا وصف بها الطرف الثاني ، كانت أمراً وسلطاناً ، وحكماً وإلزاماً ، وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين ، كانت هي الدستور المُنظِّم لتلك العلاقة ، والمظهر الذي يعبر عنها » (١).

هكذا تعرفنا على المعنى اللغوي للدين ، وبقي علينا ان نحدد المعنى الاصطلاحي من أنحاء متعددة.

المعنى الاصطلاحي للدين

مما ينبغي الاشارة إليه ان التعريفات الاصطلاحية ، لكثير من القضايا الخارجية ، والمفاهيم والمعاني الفكرية وغيرها ، تخضع لفكر الإنسان وفلسفته عن تلك القضايا ، فأولئك الذين يتبنّون المنهج المادي ولا يؤمنون بعالم الغيب ، نجدهم يفسرون الكثير من القضايا تفسيراً ينسجم مع ذلك الإيمان المادي ، في حين أن أصحاب المنهج الالهي لهم تفسير مخالف لاُولئك الماديين ، ومن هنا نشأت تعريفات مختلفة للدين تبين معناه.

ونحن سنذكر بعض تلك التعريفات ، مع مناقشة بعضها ، بما يتلاءم مع طبيعة البحث :

__________________

(١) الدين / محمد عبدالله دراز : ٣١.

١٢

١ ـ عرّف المسلمون الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول ـ باختيارهم إياه ـ إلى الصلاح في الحال ، والفلاح في المآل (١).

٢ ـ أما العلماء الغربيون والشرقيون ، فقد عرّفوا الدين بتعريفات متعددة ، ومشوشة كثيراً ، وهي كالآتي (٢) :

١ ـ يقول سيرون في كتابه ( القوانين ) : الدين هو الرابط الّذي يوصل الإنسان بالله.

٢ ـ يقول كانتْ في كتابه ( الدين في حدود العقل ) : الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية.

٣ ـ يقول الاب شاتل في كتاب ( قانون الإنسانية ) : الدين مجموعة واجبات مخلوق نحو الخالق ؛ واجبات الإنسان نحو الله ، وواجباته نحو الجماعة ، وواجباته نحو نفسه.

٤ ـ يقول تايلور في كتاب ( المدنيات البدائية ) : الدين هو الإيمان بكائنات روحية.

٥ ـ يقول جوبوه في كتاب ( لا دينية المستقبل ) : الديانة هي تصور المجموعة العالمية بصورة الجماعة الإنسانية ، والشعور الديني ، هو الشعور بتبعيتنا لمشيئات أُخرى ، يركزها الإنسان البدائي في الكون.

ولا ريب أن الكثير من هذه الآراء لم يراع فيها الجانب الشمولي لحقيقة الدين ، ولكن سنكتفي بهذا العرض اعتماداً على ما سوف يأتي من بيان حقيقة الدين عند الانسان.

__________________

(١) الانباء بما في كلمات القرآن من أضواء / الكرباسي ٢ : ٢٨٥.

(٢) اقتبسنا هذه التعريفات من كتاب الدين / دراز : ٣٤ ـ ٣٦.

١٣

نظريات في سبب تكون الشعور الديني لدى الإنسان

ذكرنا سابقاً أن البشرية لم تحيَ يوماً من الأيام بلا دين ، ولا وجد مجتمع غير متدين عبر العصور ، كما أثبت ذلك علماء الآثار والانثروبولوجيا (١) ، حيث أثبت هؤلاء العلماء أنّ النزعة الدينية متأصلة في وجود الإنسان ( فإن المصريين ، منذ آلاف السنين قبل ميلاد السيد المسيح عليه‌السلام ، بدأوا يسجلون عقائدهم ، ووقائعهم ، وألوان حياتهم ، أقوالأ متفرقة مسطورة في قراطيس البردي ، أو منقوشة على جدران المقابر والمعابد ، ... فتركوا لكلِّ إقليم حريتهُ في تقديس ما شاء ) (٢).

وهذا الكلام ليس تخرصاً بلا دليل ، بل إن بعض هذه الآثار محفوظ إلى الآن في متاحف العالم ، ( وتدلّ بعض أوراق البردي المخطوطة والموجودة الآن في برلين ، وفي لندن ، على أن المصريين منذ القدم ، كانوا يعرفون الإله الواحد الأزلي ، الّذي لا تصوّرهُ الرسوم ولا تحصره الحدود » (٣).

وليس المصريون وحيدين في هذا المضمار ، فقد نقل عن اليونانيين في العصر الاغريقي ذلك أيضاً ، حيث وجد العلماء أنّ أقدم الآثار الّتي حصلوا عليها تؤكّد وجود الدين عندهم ، كما هو في الديوانين المنسوبين إلى

__________________

(١) مصطلح الاثروبولوجيا يقصد به علم الإنسان بجوانبه العديدة مثل الدين والثقافة والعادات وغيرها من أنشطة الإنسان.

(٢) الدين / دراز : ١٠.

(٣) الدين / دراز : ١٠ نقلاً عن موسوعة التاريخ العام للديانات ١ : ٢٥١.

١٤

« هوميروس » : « الإلياذة » ، و « الأوديسا » ، وهما سلسلتان من القصص الشعرية عند قدماء اليونان ، حيث نرى فيها ذكر أسماء آلهتهم ، وآلهة خصومهم ، ووصف القبريات والضحايا والتوسلات.

أما في الشرق الأقصى ، فإنّ الأمر واضح جداً ، كما تؤكّد ذلك الأبحاث المعمّقة للانثروبولوجيا ، الّتي تثبت أنّ النزعة الدينية لم تفارق العالم الشرقي أبداً ، هذا ما تؤكّده الأبحاث العلمية.

ولكن إذا أردنا وجهة نظر الدين نفسه ، فإنّ الإسلام وغيره من الديانات السماوية ، تؤكّد بأنّ الشريعة الإلهية صاحبت البشرية منذ أول الخليقة ( آدم عليه‌السلام ) ، وذلك من خلال تعليمه الأسماء الّتي فيها الأحكام المتعلّقة بسلوكه وسلوك بنيه نحو خالقه ، بعد انتهاء فصول تلك المعركة الّتي دارت رحاها ما بين آدم عليه‌السلام وإبليس ، وما ترتّب عليها من خروج آدم عليه‌السلام من الجنة ، ثمّ توبته وتلقّيه الكلمات الإلهية ، وأُوضِح له الحلال والحرام وحدود العلاقات الاجتماعية وما شابه ذلك ، قال تعالى : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (١).

إذا اتضح هذا بقي لدينا سؤال يطرح في المقام وهو أنّه لماذا يعتنق الإنسان الدين ـ أي دين كان ـ ؟ وما هو سبب تجذّر النزعة الدينية في النفس البشرية ؟ وهل يمكن للإنسان أن يعيش يوماً من الأيام من دون دين ؟

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٨ ـ ٣٩.

١٥

ان هذه الأسئلة خاطَرَتْ الكثير من العقول المفكرة ، وأصحاب النظريات الفلسفية والاجتماعية ، فأدلى كلٌ منهم بدلوه ، وظهرت نتيجة ذلك نظريات واتجاهات متعددة ، في تفسير الظاهرة الدينية عند الإنسان ، وسوف نعرض قسماً من هذه النظريات محاولين مناقشتها بموضوعية وبشكل مختصر بما يتلائم وطبيعة البحث متجنبين الإسهاب ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

أوّلاً : نظرية الجهل

وهي النظرية القائلة : بأنّ ( الدين كان وليد الجهل بالمظاهر الطبيعية ) ، لأن الإنسان القديم كان يتألم من تلك المظاهر الطبيعية ، كالزلازل ، والصواعق والفيضانات والسيول ... إلى آخره . وهو لا يعلم مصدرها وعلّتها وكيفية تكونها.

وحينما لم يستطع أنّ يعلل تلك الظواهر الطبيعية ، ويحللها ويصل إلى أسبابها الحقيقية كان يضنّ أنّ لكل ظاهرة طبيعية روحاً ، وكان يتخذ من هذه الروح إلهاً.

وعليه فإذا كان منبع الدين هو الجهل بحقيقة هذه الظواهر ، فإنّه يزول قطعاً عند معرفة الأسباب الحقيقية لها ، ( ولما كان العلم الحديث القائم على أُسس التجربة العينية قد أزال النقاب عن كثير من ألغاز الطبيعة ومجهولاتها ، وعرّف الإنسان الأسباب الطبيعية لهذه الظواهر ... فلم يعد هناك ما يبرّر الإيمان بهذا المبدأ الغيبي ، واستطاع العلم أن يحلّ بكفاءة محلّ التفسيرات الغيبية الميتافيزيقية.

١٦

لقد أثبت « نيوتن » أنه لا وجود لاِله يحكم النجوم ، وأكد « لابلاس » بفكرته الشهيرة أنّ النظام الفلكي لا يحتاج إلى اُسطورة لاهوتية ، وقام بهذا الدور العالمان « دارون » و « باستور » في ميدان البيولوجيا ) (١).

والذين يطرحون هذه النظرية عديدون على رأسهم « تايلر » ، و « سبنسر » ، و « راسل » (٢).

مناقشة النظرية :

إن هذه النظرية ـ كما هو واضح ـ تجعل جهل الإنسان بالسبب الطبيعي للظواهر الكونية أو الطبيعية ، علة لنشوء واعز الدين في نفسه ، فالجهل هو الذي يشده إلى العالم الغيبي ، طلباً للمعونة ، وخوفاً من الأخطار ، فهو يتصوّر أن في تلك الظواهر روحاً لا بد أنّ يتقرب إليها ، ويتملّق لها كسباً لرضاها ، ودفعاً لغضبها ، وعلى هذا لا بدّ أن يزول الدين بمجرد معرفة الأسباب الطبيعية لتلك الظواهر.

لكنّ هذا التفسير لا يصمد أمام النقد ، كما أنّ هؤلاء لا يستطيعون أن يقدّموا البرهان الواقعي لفكرتهم ؛ لاَننا نرى أن الناس يزدادون تديناً كلما ازدادوا علماً ، بل إن العلماء أكثر تديناً من الجهلاء ، وما ذلك إلاّ لكون العلم لا يؤدّي إلى الالحاد ، في أيّ عصرٍ من العصور ، فالعالم المنقّب عن الحقائق يجد في هذا الوجود عالماً لا حدود له ، يسوده نظام محكم دقيق ، بلا فوضى ولا اختلاف أو تخلف ، فلا يلبث بعد النظر والتأمّل أن يقع ساجداً لله ، الّذي أوجد هذا الكون العظيم وما يحمل من أسرار وحقائق ، وصدق

__________________

(١) دور الدين في حياة الإنسان / الآصفي : ٦١.

(٢) الفطرة / المطهري ١٣٨.

١٧

الله إذ يقول : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (١).

( نشر الدكتور « ديزت » الألماني بحثاً حلل فيه الآراء الفلسفية لأكابر العلماء ، الذين أناروا العقول في القرون الأربعة الأخيرة ، وتوخّى أن يدقّق في معرفة عقائدهم ، فتبين له من دراسة [ ٢٩٠ ] منهم ما يلي :

١ ـ « ٢٨ » منهم لم يصلوا إلى عقيدة ما.

٢ ـ « ٢٤٢ » منهم أعلنوا على رؤوس الأشهاد الإيمان بالله.

٣ ـ « ٢٠ » فقط تبين أنهم غير مبالين بالوجهة الدينية ، أو ملاحدة ) (٢).

وبعد هذا ، فهل تصح هذه النظرية الّتي توعز علة نشوء الدين إلى الجهل بالظواهر الطبيعية ؟!

وتأكيداً على خطأ هذه النظرية ، ننقل هذه الطائفة المختارة من أقوال أكابر العلماء الغربيين ، والتي تؤكّد بأنّ الإيمان بالله لا يتعارض مع العلم مطلقاً :

١ ـ يقول العالم الكبير « باستور » . ـ والذي جعل أصحاب هذه النظرية اكتشافاته البيولوجية تقوم مقام الإيمان بالله تعالى ـ : ( الإيمان لا يمنع أي ارتقاء كان ؛ لأنّ كلّ ترق يبين ويسجل الاتساق البادي في مخلوقات الله ، ولو كنت علمتُ أكثر مما أعلم اليوم ، لكان إيماني أشد وأعمق مما هو عليه الآن ، ... إنّ العلم لا يمكن أن يكون مادياً ، ولكنه على خلاف ذلك يؤدي إلى زيادة العلم بالله ؛ لأنّه يدلّ بواسطة تحليل الكون

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٨.

(٢) روح الدين الإسلامي : ٨٤.

١٨

على مهارة وتبصّر وكمال عقل الحكمة الّتي خلقت النواميس المدبّرة للوجود ).

٢ ـ يقول العالم الكيمياوي « وتز » : ـ ( إذا أحسست في حين من الأحيان أنّ عقيدتي بالله قد تزعزعت ، وجهت وجهي إلى أكاديمية العلوم لتثبيتها ).

٣ ـ يقول الفلكي الكبير « فاني » : ( من الخطأ القول بأن العلم يُفضي بصاحبه إلى نكران وجود الله ).

٤ ـ يقول الجيولوجي الكبير « امون هدبرت » : ( العلم لا يمكن أن يؤدّي إلى الكفر ، ولا إلى المادية ، ولا يفضي إلى التشكيك ).

٥ ـ قال العلاّمة والمؤرخ الطبيعي « فاير » : ( كل عهد له أهواء جنونية ، فإنّي أعتبر الكفر بالله من الأهواء الجنونية ، وهو مرض العهد الحالي ، وأيسر عندي أن ينزعوا جلدي ، من أن ينتزعوا مني العقيدة بالله ) (١).

وقد سئل الدكتور « اندرو كوانواي إيفي » من قبل أحد رجال الأعمال هذا السؤال : سمعت أنّ معظم المشتغلين بالعلم ملحدون ، فهل هذا صحيح ؟!

فأجاب الدكتور قائلاً : ( إنني لا أعتقد أنّ هذا القول صحيح ، بل إنني على نقيض ذلك ، وجدت في قراءتي ومناقشتي أنّ معظم من اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا ملحدين ، ولكن الناس أساءوا نقل أحاديثهم ، أو أساءوا فهمهم ) (٢).

ولو أردنا إحصاء التصريحات التي أدلى بها العلماء في إثبات وجود الله

__________________

(١) روح الدين الإسلامي / عفيف طبارة : ٨٤ عن مجلة الأزهر ـ المجلد ١٩.

(٢) الله يتجلى في عصر العلم / مجموعة من العلماء : ١٥٢.

١٩

تعالى ، وضرورة وجود الدين ، لتطلّب ذلك مئات الصفحات.

وبعد هذه الأقوال الّتي صدرت من أساطين العلم وعباقرته ، هل يسع أصحاب نظرية الجهل أن يتحفونا بتعليل لهذه الأقوال ، أو يأتونا بدليل أقوى من أدعائهم السابق ؟

قال تعالى ، وقوله الحقّ : ( ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (١) . و ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (٢).

التوجه الديني في نظر الاسلام : أما لو رجعنا إلى الدين الإسلامي لرأينا أنه يؤكد على أن التوجّه الديني لا بد أن ينساق مع فكر الإنسان وعلمه لا عن جهله وتقليده ، ومن هنا وردت عشرات النصوص التي تدعو الإنسان إلى التفكّر في ملكوت السموات والأرض ، وهو ما يعبر عنه في علم العقيدة ببرهان النظم الذي يقوم على أساس أن الاهتداء إلى وجود الله سبحانه إنما يكون عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في عالم الكون ، حيث نرى أن القرآن الكريم يلفت نظر الانسان إلى السير في الآفاق والأنفس ويقول : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ) (٣). ويقول : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٣٠.

(٢) سورة الانعام : ٦ / ٨٣.

(٣) سورة فصلت : ٥٣.

٢٠