الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٧٢
من كلامه رضي الله عنه
عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام ، قال :
جلس جماعة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينتسبون ويفتخرون وفيهم سلمان رحمه الله فقال له عمر :
ما نسبتك أنت يا سلمان ، وما أصلك ؟
فقال : أنا سلمان بن عبد الله ، كنت ضالاً ، فهداني الله بمحمد ، وكنت عائلاً ، فأغناني الله بمحمد ، وكنت مملوكاً فاعتقني الله بمحمد ، فهذا حسبي ونسبي يا عمر .
ثم خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : فذكر سلمان ما قال عمر وما أجابه به .
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يا معشر قريش ؛ إن حسب المرء دينه ، ومروته خلقه ، وأصله عقله ، قال الله تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا ... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » .
ثم أقبل على سلمان فقال له : « سلمان ، إنه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله عز وجل ، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه . » (١)
__________________
(١) : الدرجات الرفيعة ٢٠٥ / ٢٠٦ .
البلاذري بسنده عن أحمد بن يحيى الجوني :
« قال سلمان الفارسي حين بويع أبو بكر « كرداذ وناكرداذ » ـ أي عملتم وما عملتم ـ لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . » (١)
قال عمر لسلمان : أملك أنا أم خليفة . ؟
قال له سلمان : إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حق ، فأنت ملك غير خليفة . فبكى عمر . (٢)
وكان إذا قيل له : ابن من أنت ؟ يقول : أنا سلمان بن الإسلام أنا من بني آدم . (٣)
صنع سلمان طعاماً لإخوانه ، فجاء سائل ، فأراد بعضهم أن يناوله رغيفاً ، فقال سلمان : ضع ، إنما دعيت لتأكل .
ثم قال : وما علي أن يكون لي الأجر ، وعليك الوزر . (٤) ولا يخفى ما في هذه الفقرة من الدقة الفقهية ، فللضيف الحق في أن يأكل هو ، ولا يجوز له التصرف في أكثر من ذلك إلا بإذن المضيّف . ولو تصرف المرء بمال غيره وتصدق به ، فإن الأجر يكون للمالك ، والوزر على المتصدق لأنه غاصب .
وروى الكشي بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
تزوج سلمان إمرأةً من كندة ، فدخل عليها فإذا لها خادمة وعلى بابها عباءة .
فقال سلمان : إن في بيتكم هذا لمريضاً ، أو قد تحولت الكعبة فيه .
فقيل : إن المرأة أرادت أن تستر على نفسها فيه .
__________________
(١) : الأنساب / ٥٩١ .
(٢) : الكامل ٣ / ٥٩ .
(٣) : شرح النهج ١٨ / ٣٤ .
(٤) : الأنساب / ٥٩١ .
قال : فما هذه الجارية . ؟
قالوا : كان لها شيء فأرادت أن تخدم .
قال : إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : أيما رجل كانت عنده جارية ، فلم يأتها أو لم يزوجها من يأتيها ، ثم فجرت كان عليه وزر مثلها .
ومن أقرض قرضاً فكأنما تصدق بشطره ، فان أقرضه الثانية ، كان رأس المال وأداء الحق إلى أن يأتيه به في بيته أو في رحله فيقول : ها خذه (١) .
عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
قال سلمان رحمة الله عليه : عجبت بستّ ، ثلاث أضحكتني وثلاث أبكتني .
فأما التي أبكتني ، ففراق الأحبة محمد وحزبه . وهول المطلّع . والوقوف بين يدي الله عز وجل .
وأما التي أضحكتني ، فطالب الدنيا والموت يطلبه . وغافل وليس بمغفول عنه ، وضاحك ملىء فيه لا يدري أرضي الله أم سخط . (٢)
__________________
(١) : أعيان الشيعة ٣٥ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦ .
(٢) : الخصال / ٣٢٦ .
قال سلمان ، فصدق !
قال سلمان مخاطباً المسلمين حين غزوا بلنجر وغنموا وفرحوا بالغنائم :
« إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد ، فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم . . »
قال المسيب بن نجبة الفزاري : لما أتانا سلمان الفارسي قادماً ، تلقيناه فسار حتى انتهى إلى كربلاء ، فقال ما تسمون هذه الأرض ؟ قالوا : كربلاء . فقال : هذه مصارع اخواني ، هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم ، يقتل بها ابن خير الأولين ، ويقتل بها خير الآخرين . (١)
قال سلمان ذلك قبل أن يكون هناك قتال في كربلاء ، فقد كانت غزوة بلنجر في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة أي قبل واقعة كربلاء بثلاثين سنة تقريباً كما يظهر (٢)
ومرت السنين تتوالى ، ومات خليفة وقام خليفة حتى جاء عهد يزيد الطاغية ، فكانت ثورة الإمام الحسين الخالدة . . . وبينما الحسين في طريقه إلى كربلاء إذ به ينزل على ماء ويخيم مع أهل بيته هناك ، وكان زهير بن القين قادماً من الحجاز بعد أن أنهى مناسك حجه فيها ، فنزل بالقرب من الحسين
__________________
(١) : فتوح البلدان / ٤٠٦ .
(٢) : الكامل ٣ / ١٣٢ .
وكان عثماني العقيدة منحرفاً عن أهل البيت عليهم السلام إلا أن الماء جمعهم في ذلك المكان ، وعلم الحسين به فاستدعاه ذات يوم . فشق عليه ذلك ، ثم أجابه على كره ، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين ، ثم قال لأصحابه :
من أحب منكم أن يتبعني ، وإلا فانه آخر العهد ، وسأحدثكم حديثاً : غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، وكان معنا سلمان الفارسي ، فقال لنا : إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم . فأما أنا فأستودعكم الله . ، ثم طلق ـ زهير ـ زوجته وقال لها : الحقي بأهلك فاني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير ، ولزم الحسين حتى قتل معه » (١)
قـال سلمان :
« لتحرقن هذه الكعبة على يدي رجل من أهل الزبير » (٢) أي بسببه .
قالها قبل زمن بعيد من دعوة عبد الله بن الزبير الناس إلى نفسه ولجوئه إلى الكعبة المشرفة .
وفي سنة أربع وستين للهجرة حوصر ابن الزبير ومن معه من أصحابه في البيت ، واستمر القتال بينه وبين أهل الشام قرابة الشهرين « حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ، رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار وأخذوا يرتجزون ويقولون :
خطارة مثل الفنيق * المزبد |
|
نرمي بها أعواد هذا المسجد |
وقيل : إن الكعبة إحترقت من نار كان يوقدها أصحاب عبد الله حول
__________________
(١) : الكامل ٤ / ٤٢ .
(٢) : أخبار مكة ١ / ١٩٧ .
* : الفنيق : فحل الناقة .
الكعبة وأقبلت شررة هبت بها الريح فاحترقت ثياب الكعبة واحترق خشب البيت . (١)
ومر سلمان ـ في طريقه إلى المدائن ـ بالكوفة ، فسأل من كان معه :
هذه الكوفة . ؟
قالوا نعم .
قال : قبة الإسلام . « يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها ، أو يهوي قلبه إليها . . » (٢)
__________________
(١) : الكامل ٤ / ١٢٤ .
(٢) : فتوح البلدان / ٤٠٦ وأعيان الشيعة م ٣٥ / ٢٥٠ ـ ٢٥١ والقصة فيه مفصلة .
سلمان على لسان أئمة أهل البيت عليهم السلام
سئل علي أمير المؤمنين عليه السلام عن سلمان ، فقال :
« إمرء منا وإلينا أهل البيت ، من لكم بمثل لقمان الحكيم ، علم العلم الأول والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحراً لا ينزف . ! » (١)
عن أبي جعفر عليه السلام ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال :
« ضاقت الأرض بسبعة ، بهم ترزقون ، وبهم تنصرون ، وبهم تمطرون ، منهم : سلمان الفارسي والمقداد ، وأبو ذر ، وعمار ، وحذيفة . وكان علي ( ع ) يقول : وأنا إمامهم ، وهم الذين صلوا على فاطمة عليها السلام . » .
أخرج الشيخ الطوسي في أماليه ، عن منصور بن بزرج ، قال :
قلت لأبي عبد الله الصادق ( ع ) ما أكثر ما أسمع منك ـ سيدي ـ ذكر سلمان الفارسي . ؟
قال ( ع ) : لا تقل سلمان الفارسي ، ولكن قل سلمان المحمدي ، أتدري ما أكثر ذكري له . ؟ قلت : لا .
قال : لثلاث خصال ، إيثاره هوى أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه .
__________________
(١) : الأعلام للزركلي م ٣ / ١٦٩ .
والثانية : حبه للفقراء واختياره إياهم على أهل الثروة والعدد . والثالثة : حبه للعلم والعلماء .
وأخرج الكشي عن محمد بن حكيم ، قال :
ذكر عند أبي جعفر ( ع ) سلمان المحمدي ، فقال : إن سلمان منا أهل البيت ، إنه كان يقول للناس : هربتم من القرآن إلى الأحاديث . ، وجدتم كتاباً دقيقاً حوسبتم فيه على النقير والقمطير والفتيل وحبة الخردل ، فضاق عليكم ذلك ، وهربتم إلى الأحاديث التي اتسعت عليكم . (١)
وبسنده عن الحسين بن صهيب عن أبي جعفر ، قال : ذكر عنده سلمان الفارسي قال فقال أبو جعفر عليه السلام :
لا تقولوا سلمان الفارسي ، ولكن قولوا : سلمان المحمدي ، ذاك رجل منا أهل البيت . (٢)
الصدوق ، بسنده عن إبن نباته قال :
سألت أمير المؤمنين عليه السلام عن سلمان الفارسي رحمة الله عليه وقلت : ما تقول فيه ؟
فقال : ما أقول في رجل خلق من طينتنا ، وروحه مقرونة بروحنا ، خصه الله تبارك وتعالى من العلوم بأولها وآخرها وظاهرها وباطنها وسرها وعلانيتها ، ولقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمان بين يديه ، فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى در العرق بين عينيه واحمرتا عيناه ثم قال : يا أعرابي ، اتنحي رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء ويحبه رسوله في الأرض ! يا أعرابي ، أتنحي رجلاً ما حضرني جبرئيل إلا أمرني عن ربي عز وجل أن أقرئه السلام ! يا
__________________
(١) : الدرجات الرفيعة / ٢٠٩ ـ ٢١٠ .
(٢) : البحار ٢٢ / ٣٤٩ .
أعرابي
، إن سلمان مني ، من جفاه فقد جفاني ومن آذاه فقد آذاني ، ومن باعده فقد
باعدني ، ومن قربه فقد قربني ، يا أعرابي لا تغلطن في سلمان ، فان الله تبارك وتعالى قد أمرني أن أطلعه على علم المنايا والبلايا * والأنساب وفصل الخطاب . قال
: فقال الأعرابي : يا رسول الله ، ما ظننت أن يبلغ من فضل سلمان ما ذكرت ، أليس كان مجوسياً ثم أسلم ؟ فقال
النبي ( صلى الله عليه وآله ) يا أعرابي أخاطبك عن ربي ، وتقاولني ؟ ! إن سلمان ما كان مجوسياً ، ولكنه كان مظهراً للشرك ، مبطناً للإيمان . يا
أعرابي ، أما سمعت الله عز وجل يقول : « فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا »
أما سمعت الله عز وجل يقول : « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا .
» يا أعرابي خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ولا تجحد فتكون من المعذبين ، وسلم لرسول الله قوله تكن من الآمنين . (١) عن
جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «
دخل أبو ذر على سلمان وهو يطبخ قدراً له ، فبينا هما يتحادثان إذ انكبت القدر على وجهها على الأرض ، فلم يسقط من مرقها ولا من ودكها شيء ! فعجب من ذلك أبو ذر عجباً شديداً ، وأخذ سلمان القدر فوضعها على حالها الأول على النار ثانيةً ، وأقبلا يتحدثان فبينما يتحدثان إذ انكبت القدر على وجهها فلم يسقط منها شيء من مرقها ولا من ودكها ! قال
: فخرج أبو ذر ـ وهو مذعور ـ من عند سلمان ، فبينما هو متفكر إذ __________________ * : علم المنايا والبلايا : ربما يقصد به
إطلاعه على ما يجري على بعض الناس ، ومنه اخبار علي عليه السلام لميثم التمار بأنه سيقتل ويصلب وأخباره لرشيد الهجري كذلك ، وأمثال
هذا مما هو معروف مشهور .
(١) : البحار ٢٢ / ٣٤٧ .
لقي أمير المؤمنين عليه السلام على الباب ، فلما أن بصر به أمير المؤمنين عليه السلام ، قال له : يا أبا ذر مالذي أخرجك من عند سلمان وما الذي ذعرك ؟
فقال له أبو ذر : يا أمير المؤمنين ، رأيت سلمان صنع كذا وكذا ، فعجبت من ذلك !
فقال أمير المؤمنين : يا أبا ذر ، إن سلمان لو حدثك بما يعلم لقلت : رحم الله قاتل سلمان . . الحديث . (١)
__________________
(١) : معجم رجال الحديث ٨ / ١٩٣ ـ ١٩٤ . وإذا صح هذا الحديث فان الفقرة الأخيرة تكون كناية عن عدم تحمله لعلم سلمان .
أزواجه وأولاده
الرجل كل الرجل ، ذلك الذي يعظم في أعين الناس ، فينسون كل شيء حوله ، ينسون محيطه وأبنائه ، وماله وما عليه إلا شخصيته ، وهذا أمر نلمسه وندركه ، فالأنظار عادةً تصوب نحو العظماء دون التفكير بمن حولهم حتى ولو كانوا أبنائهم .
والذي يبدو أن سلمان من هذا النمط النادر ، فلا هو يهتم بالتحدث عن عائلته وبيته ، ولا الناس يتحدثون عن ذلك ، اللهم إلا ما يتصل منه بعالم المثل والأخلاق .
عن عبد الرحمن بن السلمي قال : إن سلمان الفارسي تزوج إمرأة من كندة ، فلما كان ليلة البناء عليها ، جلس عندها فمسح بناصيتها ودعا لها بالبركة ، وقال لها :
أتطيعيني فيما آمرك ؟
قالت : جلست مجلس من تطيع .
قال : فان خليلي صلى الله عليه وآله أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي ، أن أجتمع على طاعة الله .
فقام
وقامت إلى المسجد فصليا ما بدا لهما ، ثم خرجا فقضى منها ما تقضي
الرجال من النساء ، فلما أصبح ، غدا عليه أصحابه وقالوا : كيف وجدت أهلك ؟
فأعرض عنهم ، ثم قال : إنما جعل الله الستور والخدور والأبواب لتواري ما فيها ؛ حسب امرىءٍ منكم أن يسأل عما ظهر له ، فأما ما غاب عنه فلا يسئلن عن ذلك . سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : التحدث عن ذلك كالحمارين يتشامان في الطريق .
وفي مهج الدعوات : انه كان له ولد إسمه عبد الله .
وذكر صاحب « نفس الرحمن » أن من أحفاده ضياء الدين ، وهو من علماء خجند ، وله شرح على كتاب ( محصول الرازي ) . . وكان متكفلاً للأمور الشرعية في بخارى ، وتوفي بهرات سنة ٦٣٣ . (١)
__________________
(١) : نفس الرحمن / الباب الرابع عشر ، غير مرقم .
كيفية وفاته رضي الله عنه
لقد آن لهذا الفارس أن يترجل بعد أن حاز قصب السبق في ميدان الإيمان ، لقد كان أروع مثل للعبقرية التي تنجبها أمة فكان « سابق فارس » نحو الإيمان ورائدها نحو الإسلام ، قضى عمره المديد مجداً في طلب الحق حتى كان له ما أراد ، وقد شاء الله له أن يعود من حيث أتى ، إلى وطنه وأهله وعشيرته دالّاً لهم ومرشداً ، وأمير عدل يحكم بينهم بالحق .
ومضت سنين أحسبها تنوف على ربع قرن ، كان سلمان خلالها ينفض عن نفسه غبار هذه الدنيا الزائفة مزمعاً الرحيل نحو العالم الخالد . . عالم الآخرة . لينعم هناك برضوان الله ورحمته في جنته الخالدة مع الأنبياء والشهداء والصديقين .
قال الأصبغ بن نباته : كنت مع سلمان الفارسي رحمة الله عليه وهو أمير المدائن ، فأتيته يوماً وقد مرض مرضه الذي مات فيه . . فلم أزل أعوده في مرضه حتى اشتد به الأمر ، فالتفت إلي وقال :
يا أصبغ ، عهدي برسول الله صلى الله عليه وآله يقول : يا سلمان ، سيكلمك ميت إذا دنت وفاتك . (١)
__________________
(١) : راجع البحار ٢٢ / ٣٧٤ والقصة طويلة ومفصلة اقتضبنا منها ما يناسب الموضوع .
وبينما هو في مرضه إذ دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده ، فبكى سلمان ، « فقال له سعد : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ توفي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو عنك راضٍ ، وترد عليه الحوض .
فقال سلمان : أما اني لا أبكي جزعاً من الموت ، ولا حرصاً على الدنيا ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلينا فقال : ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب ، وحولي هذه الأساود .
وإنما حوله إجانة ، وجفنة ، ومطهرة . (١)
واشتد به المرض ، فمر على المقابر ـ وكأنه أراد أن يستعلم أمره ـ فقال : السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين والمسلمين ، يا أهل الدار هل علمتم أن اليوم جمعة .
وحين عاد إلى مقره استلقى على فراشه ، فغفى ونام « فأتاه آتٍ فقال : وعليكم السلام يا أبا عبد الله ، تكلمت فسمعنا ، وسلمت فرددنا ، وقلت : هل تعلمون أن اليوم جمعة ، وقد علمنا ما تقول الطير في يوم الجمعة : قدوس . . قدوس . . ربنا الرحمن الملك . . » (٢)
وأفاق سلمان من غفوته ، ثم التفت إلى من حوله قائلاً لهم : أسندوني ، فلما أسندوه رمق السماء بطرفه وقال :
« يا من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ، وهو يجير ولا يجار عليه بك آمنتُ ، ولنبيك إتبعت ، وبكتابك صدقتُ ، وقد أتاني ما وعدتني ، يا من لا يُخلف الميعاد إقبضني إلى رحمتك ، وانزلني دار كرامتك ، فأنا أشهد أن لا إله إلاه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . » (٣) والتفت إلى من حوله قائلاً :
__________________
(١) : نفس المصدر / ٣٨١ خبر معروف .
(٢) : سلمان الفارسي / ١٣٨ ـ ١٣٩ .
(٣) : البحار ٢٢ / ٣٧٩ .
« قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله « إذا حضرك أو أخذك الموت ، حضر أقوام يجدون الريح ولا يأكلون الطعام ـ يعني الملائكة ـ . »
ثم أخرج صرةً من مسك . فقال : هبة أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وآله . . ثم بلّها ونضحها حوله ، ثم قال لإمرأته : قومي أجيفي الباب . » (١)
« قالت زوجته : ففعلت ، وجلست هنيئة ، فسمعت هسهسةً ، فصعدت ، فإذا هو قد مات وكأنما هو نائم . » (٢)
« تجهيزه ودفنه »
قالوا : وإن الذي قام بتجهيزه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ! (٤) وكيفية ذلك هو ما رواه الأصبغ بن نباتة ، قال :
« فبينما نحن كذلك ـ منشغلين بموت سلمان ـ إذ أتى رجل على بغلة شهباء متلثماً ، فسلم علينا ، فرردنا السلام عليه . »
فقال : يا أصبغ جدوا في أمر سلمان ، وأردنا أن نأخذ في أمره ، فأخذ معه حنوطاً وكفناً فقال : هلموا ، فان عندي ما ينوب عنه ، فأتيناه بماءٍ ومِغْسل ، فلم يزل يغسِّلُه بيده حتى فرغ ، وكفَّنهُ وصليْنا عليه ودفنَّاه ولحدَّه علي عليه السلام بيده ، فلما فرغ من دفنه وهمَّ بالإنصراف تعلقت بثوبه ، وقلت له : يا أمير المؤمنين ، كيف كان مجيئك ؟ ومن أعلمك بموت سلمان ؟
قال : فالتفت عليه السلام إلي وقال : آخذُ عليك ـ يا أصبغ ـ عهدَ الله وميثاقه أنك لا تحدث به أحداً ما دمتُ حياً في دار الدنيا .
فقلت : يا أمير المؤمنين ، أموت قبلك ؟
فقال : لا يا أصبغ ، بل يطول عمرك !
__________________
(١) : نفس المصدر / ٢٨٣ ومعجم رجال الحديث ٨ / ١٩٥ .
(٢) : سلمان الفارسي / ١٣٩ .
قلت يا أمير المؤمنين ، خذ علي عهداً وميثاقاً ، فإني لك سامع مطيع ، اني لا أحدث به حتى يقضي الله من أمرك ما يقضي ، وهو على كل شيء قدير .
فقال لي : يا أصبغ ، بهذا عهدني رسول الله ، فاني قد صليت هذه الساعة بالكوفة ، وقد خرجت أريد منزلي ، فلما وصلت إلى منزلي إضطجعت ، فأتاني آتٍ في منامي وقال : يا علي ، إن سلمان قد قضى نحبه !
فركبت وأخذت معي ما يصلح للموتى ، فجعلت أسير ، فقرّب الله لي البعيد ، فجئت كما تراني ، وبهذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال الأصبغ : ثم إنه دفنه وواراه ، فلم أرَ صعد إلى السماء ، أم في الأرض نزل ، فأتى الكوفة والمنادي ينادي لصلاة المغرب . (١)
رواية ثانية عن ( مناقب ابن شهراشوب )
روى حبيب بن حسن العتكي ، عن جابر الأنصاري قال :
صلى بنا أمير المؤمنين عليه السلام صلاة الصبح ، ثم أقبل علينا فقال : معاشر الناس ، أعظم الله أجركم في أخيكم سلمان ، فقالوا في ذلك ـ أي صاروا بين مصدق ومكذب ـ فلبس عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله ودراعته ، وأخذ قضيبه وسيفه ، وركب على العضباء (٢) وقال لقنبر (٣) : عدَّ عشراً ! قال : ففعلت ، فإذا نحن على باب سلمان .
قال زاذان : فلما أدركت سلمان الوفاة قلت له : من المغسل لك . ؟
قال : من غسل رسول الله . ( يعني علياً ) .
فقلت : انك بالمدائن وهو بالمدينة !
__________________
(١) : البحار ٢٢ / ٣٨٠ .
(٢) : ناقة النبي .
(٣) : خادم الإمام .
فقال : يا زاذان ، إذا شددت لحيي ، تسمع الوجبة ! فلما شددت لحييه سمعت الوجبة ، وأدركت الباب ، فإذا أنا بأمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : يا زاذان ، قضى أبو عبد الله سلمان ؟
قلت : نعم يا سيدي ، فدخل وكشف الرداء عن وجهه . . الخ الرواية (١)
وهناك رواية أخرى بنفس المضمون ، لكنها تشير إلى أن ذلك حدث في خلافة عمر بن الخطاب .
ومن الواضح أن هذه الروايات يناقض بعضها بعضاً ، فالأولى تقول : أنه ـ يعني علياً ـ كان في الكوفة ، والثانية تقول : أنه جاء من المدينة ، والثالثة : أن ذلك تم في خلافة عمر . إلى غير ذلك .
ولكن لنا أن نقول : بأن هذا الأمر شائع بين الناس ، بل بين الخاصة إلى عصرنا الحاضر ، فالمعروف أن الذي جهز سلمان رضي الله عنه هو أمير المؤمنين علي عليه السلام ، ولعل عدم اثبات المؤرخين لمثل هذا في كتبهم يرجع إلى تكذيب القصة من أساسها ، حيث أن أذهانهم لا تتحمل فكرة إنتقال الأجسام من مكان إلى مكان بسرعة غير طبيعية تفوق سرعة ( الحصان والجمل ) .
أما نحن ، فعلينا أن ننظر لهذا الأمر من زاوية فكرية متحررة ، فنقول :
إن حدوث مثل هذا الأمر ممكن عقلاً ، بل هو واقع أيضاً في عصرنا الحاضر بفضل التقنية والتقدم العلمي الذي يهيىء الوسيلة لذلك .
إذن ، يبقى السؤال : كيف وما هي الوسيلة في ذلك العصر ؟
إن قدرة الله سبحانه لا يقف دونها شيء ، فهو مسبب الأسباب ، والقادر على تهيئتها متى يشاء ، وقد ورد في كتابه الكريم مثل لما نحن في صدده ، في عرضه لقصة « عرش بلقيس » حيث قال تعالى :
« قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ
__________________
(١) : البحار ٢٢ / ٣٧٣ .
الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي . » (١)
وهكذا في طرفة عين كان عرش بلقيس ينقل من اليمن إلى القدس على يد صاحب سليمان ( آصف بن برخيا ) (٢) الذي عنده علم من الكتاب !
فما ظنك بصاحب محمد صلى الله عليه وآله الذي قال فيه : أنا مدينة العلم وعلي بابها .
__________________
(١) : النمل / ٣٨ ـ ٣٩ .
(٢) : راجع مجمع البيان ٧ / ٢٢٣ .