مدارك الأحكام - المقدمة

السيد جواد الشهرستاني

مدارك الأحكام - المقدمة

المؤلف:

السيد جواد الشهرستاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

١
٢

٣
٤

٥
٦

المقدمة‌

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

إن العلم من الأمور التي مجّدها الإسلام ، وحثّ عليها المسلمين ، ونصّت آيات عديدة من الذكر الحكيم على مدح العلم والعلماء ، والأمر بطلب العلم.

فقد أمر الله تعالى بالنظر والتفكر والتدبر ومدح اولي الألباب ، بل وحصر خشيته بالعلماء حيث قال تعالى ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ).

ووردت ـ أيضا ـ أحاديث كثيرة على لسان الرسول الأكرم وخلفائه المعصومين صلّى الله عليهم أجمعين تنص على تمجيد العلم وأكبار العلماء والحث على طاعتهم وإعانتهم في إقامة أحكام الدين وبأنهم أمناء الله على دينه وهم الذين تضع الملائكة أجنحتها لهم ، ويستغفر لهم الطير في السماء والسمك في الماء. حتى ان الامام المعصوم عليه‌السلام قد جعل العلماء نوابه من بعده لقوله : « من كان من الفقهاء صائنا لنفسه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فعلى العوام ان يقلدوه ».

فمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام لم تخل يوما من عالم أو متعلم ، فقدمت بذلك خدمات جلي للإسلام من أول أيام الرسالة والى يومنا هذا.

٧

وما تأسيس الإمام الصادق عليه‌السلام لمدرسته الكبرى التي تخرج منها أربعة آلاف عالم في مختلف أنواع العلوم والمعرفة إلا دليل بيّن على ما قدمته مدرسة أهل البيت ، فإذا أردنا استقصاء جميع تلامذة الإمام عليه‌السلام ومن ثم أهم الأفكار والأصول التي كان يطرحها الامام لرأينا عمق الامتداد والتأثير الذي مارسته هذه المدرسة على مختلف المذاهب والعلوم الإسلامية ، وما تصريح بعض أقطاب المذاهب الإسلامية بفضل الامام عليهم الا دليلاً لما قدمناه.

والعلم الذي أولاه أهل البيت عليهم‌السلام كثير اهتمامهم ودعوا الناس الى تعلمه ودراسته هو علم الفقه فيه نظام معاشهم وصلاح معادهم ، ولانه قانون الشريعة الذي إن سار الناس على هديه ضمن لهم الفوز والنجاح في الدارين.

وان أهم ما يميز الجانب الفقهي لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام هو الحيوية الدائمة والعطاء الخصب والنمو الذاتي المستمر مما لا نجد له نظيرا في المدارس الأخرى التي تجمد فقهها عند مقطع زمني محدد يتجاوزه التاريخ باستمرار ، أو عند اراء فقيه معين لا يتميز عن غيره بشي‌ء.

لذا كان من الطبيعي ان يجتاز فقه آل البيت عليهم‌السلام بعدة أدوار فقهية ، وكان لكل دور نوابغ من الفقهاء الزهاد والعلماء الأبرار الذين محصوا الأمور وبينوا الاحكام.

فابتدأت مسيرة الفقه الشيعي من بعد الغيبة الصغرى بمدرستي « القميين » و « القديمين » اللتين سارتا بالفقه خطوات موفقة.

حتى جاء من بعدهم الشيخ المفيد قدس‌سره والذي له فضل كبير في حفظ الفقه الشيعي ، حيث محص ـ رحمه‌الله ـ اراء القديمين المعتمدين على العقل ، والقميين الذين اعتمدوا على الحديث ، وخرج لنا بمدرسة متوسطة شاملة جامعة بين العقل والحديث.

٨

وتبلورت من تلك المدرسة مدرسة كبرى الا وهي مدرسة الشيخ الطوسي الذي يعد مجددا للمذهب ورافعا لراية الإسلام ، حيث كان متبحرا في فنون المعرفة وملما بفقه المذاهب الإسلامية ، عارفا به ويشهد لذلك كتابه القيم « مسائل الخلاف ».

وجاء من بعده تلامذته المتأثرون بأفكاره وإراءة ، والذين لم يستطيعوا غالبا في صياغة تأسيس جديد أو مستقل في الفقه والأصول يتجاوزوا به مدرسة الشيخ حتى ظهور ابن إدريس الذي استطاع بمناقشة الكثير من اراء الشيخ ان يحرك الأجواء العلمية التي سكنت الى اراء الشيخ.

هذا وكان الفقه الشيعي ـ في هذه المرحلة وحتى عصر العلامة الحلي وما بعده ـ يدرس جنبا الى جنب مع فقه بقية المذاهب. ويظهر ذلك جليا في الكثير من كتب القدماء كالغنية لابن زهرة وتذكرة الفقهاء ومنتهى المطلب للعلامة الحلي.

وكان هناك اتجاه أخر هو الابتعاد عن الغور في المسائل الخلافية. والخوض في الأبحاث الفقهية عند العامة ، بل تهدف التمحض بالفقه الإمامي دون غيره كالمحقق الآبي في كتابه كشف الرموز حيث خصص كتابه للفقه الشيعي ، ومنح اراء علماء الفقه الإمامي أهمية خاصة. وكذلك فخر المحققين في كتابه إيضاح الفوائد الذي ينقل الفتاوى والاستدلالات الفقهية الشيعية فقط.

* * *

بعد أقول نجم معهد بغداد العلمي وظهور الجامعة العلمية الكبرى في النجف الأشرف ـ التي كنا وما نزال ندين بالفضل لها ـ ومن ثم معهد الحلة الفيحاء بأعلامها ومفكريها وفقهائها. بدأ يظهر اسم معهد علمي آخر يضاهي هذه المعاهد آنذاك ـ الا وهو معهد جبل عامل الذي اغدق على الطائفة الشي‌ء الكثير واروى الفقه الشيعي ما يعجز القلم عن ذكره.

٩

معهد جبل عامل :

لجبل عامل دور مهم في الولاء لآل البيت عليهم‌السلام فقد بذر بذرة الولاء الطاهرة في هذه التربة الخصبة الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري ـ رضوان الله عليه ـ لما نفي الى الشام في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، وإلى الآن يوجد في جبل عامل مقامان ينسبان لهذا الصحابي الجليل ، أحدهما في قرية الصرفنة على ساحل البحر الأبيض ، والآخر في مخاليس الجبل في الجهة الجنوبية الشرقية من جبل عامل على رابية تطل على الأردن ، ولا يزال هذان المسجدان باسمه ( رضوان الله عليه ) في هاتين القريتين.

ثم نمّت هذه البذرة المباركة القبائل الموالية للإمام علي عليه‌السلام التي دخلت مع جيوش الفتح ، واستقرت في جبل عامل ، أمثال الهمدانيين وخزاعة التي منها الحرافشة.

وكان الجبل ـ بسبب موقعه الجغرافي ـ نقطة الوصل بين بلاد الشيعة في العراق وإيران ونقطة الاشعاع للولاء لآل البيت عليهم‌السلام في البلاد البعيدة عن العراق وإيران ، مثل مصر والشام وما والاها.

وكان لنوابغ هذا الجبل من الشيعة أثر في الدراسات الإسلامية في البلاد المجاورة للجبل ، فان التاريخ يحدثنا أن الأوزاعي الذي درس في كرك نوح يبدو متأثرا بطريقة الشيعة في الرواية عن أهل البيت عليهم‌السلام علما بان علماء كرك نوح على طول التاريخ كانوا شيعة.

والمستقرئ للتاريخ الفقهي لهذا المعهد لا بد ان يتوقف عند اسمين كان لهما شأن كبير في تطوير الدراسات الفقهية عموماً ، واستطاعا ان يؤسسا مدرستين فقهيتين رسمت كل واحدة منهما مستقبل الدراسات الفقهية لعقود طويلة من‌

١٠

الزمن الأول منهما هو محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول ، والثاني الشيخ علي بن الحسين بن عبد العال المعروف بالمحقق الكركي.

١ ـ مدرسة الشهيد الأول :

لقد ظهر مما سبق ان البيئة التي ينشأ فيها الفرد ويتلقى افكاره وثقافته الأولية لها أثرها الفعال في سائر أطوار حياته ، ولها فعلها القوي في صياغة شخصيته وبلورة افكاره وصقل مواهبه.

ومهما كانت قابلية الإنسان فريدة ، ونبوغه عاليا ، فان البيئة تؤثر فيه وتعطيه بقدر ما تأخذ منه ، فيندمج بها فكريا ويتأثر بها عاطفيا.

ونحن إذا أردنا دراسة الشهيد الأول ، فلا بد من دراسة ـ ولو إجمالية ـ للبيئة التي نشأ فيها الشهيد ، والابعاد التي أثرت في تكوين شخصيته وافكاره.

يقول الشيخ الحر العاملي : أن علماء الشيعة في جبل عامل يبلغون نحو الخمس من علماء الشيعة في جميع الأقطار مع ان بلادهم أقل من عشر عشر بلاد الشيعة.

ففي هذه البيئة الزاخرة بالعطاء العلمي ، والمليئة بالعلم والعلماء ، فتح الشهيد عينيه ليحضر مجالس العلماء وندوات الأدباء ، وليسعى الى المساجد دارسا متعبدا ، ويدرس في تلك المدارس. ثم يأبى عليه ذكاؤه الوقاد الا ان يطلب العلم في أرض الله الواسعة ، ليعود الى بلاده فيكون منهلا صافيا يرتحل اليه العلماء من كل حدب وصوب للارتواء من نمير علوم أهل البيت عليهم‌السلام التي وقف لها الشهيد عمره.

وكان والده ( جمال الدين مكي ) يحثه ويشجعه دوما على المضي في دراسته حتى ينال أعلى المراتب العلمية.

١١

وكانت المجالس العامرة في جبل عامل وفي جزين وفي بيته بالذات مدرسة حرة ومجالا واسعا لابداء الرأي ، وللمناقشات الفكرية التي ثمرتها تنمية القابليات.

ساعدت هذه العوامل مجتمعة على تفوق الشهيد على أقرانه وبشكل ملحوظ.

لقد كان الشهيد ـ رحمه‌الله ـ من الرحالين في طلب العلم ، فطاف في كثير من البلدان الإسلامية كمكة المكرمة والمدينة المنورة ومصر وبيت المقدس ودمشق وبغداد.

وكان في كل مكان يحل فيه ينهل من دروس علمائه ، فقد روى ـ فضلا عن علماء الشيعة ـ عن جمع من علماء أهل السنة ، فقال في إجازته لابن الخازن : إني أروي عن نحو أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم عليه‌السلام.

وهذا النص دليل واضح على ان الشهيد قد جمع بين علوم الشيعة والسنة في الحديث والفقه وبقية العلوم الإسلامية ، وكان من جراء ذلك تبحره في علوم المذاهب الإسلامية ، وتدريسه ومناقشته لكل المذاهب.

وبالرغم من قولنا بالتمايز بين معهدي الحلة الفيحاء ، والجبل الأشم ، فان معالم تأثير الأول على الثاني واضح ، لسبقه الزمني أولا ، ولقوة من يمثله ثانيا ، ولان الفكر الواحد مهما عملنا على تحقيبه زمنيا أو فكريا تتصل حلقاته من جوانب اخرى ثالثا. لذا فان الشهيد الذي كان يعتبر ثمرة طيبة لمدرسة الحلة استطاع ان يؤسس مدرسة فقهية في جبل عامل لها خصائصها الفكرية والبيانية والمنهجية المميزة.

فقد كان لهذه المدرسة الفضل الكبير في تنقيح عبارات الفقه وإخراجها من الجمود السابق ، وذلك بحكم كون مؤسس هذه المدرسة من الشعراء الأدباء.

١٢

وكان لها الفضل أيضا في التنسيق الفني الجيد ، والتنظيم الرائع لفصول الفقه مع دقة متناهية في العبارات.

وقد أولت هذه المدرسة الفقه الشيعي اهتماما خاصا ، فبعد ان كان علماؤنا يبحثون في كتبهم الآراء الشيعية والسنية انصرفوا في هذا الدور الى بحث أقوال فقهاء الشيعة فقط ، والتبحر في فحصها ونقدها وتقويتها.

وكان من نتاج ذلك كتب فقهية مهمة معروفة بعمق الفكرة ودقة المطلب وروعة البيان ومن أهمها : الذكرى ، واللمعة الدمشقية ، والدروس الشرعية ، والبيان ، وشرح نكت الإرشاد ( غاية المراد ) والقواعد الفقهية وغيرها.

وبذلك تمكن الشهيد رحمه‌الله من وضع اللبنة الاساسية لمدرسته العلمية في جبل عامل وليكون رائد النهضة الفقهية في زمانه.

الشهيد الأول وحكومة سربداران‌

ان نشاط الشهيد الأول الواسع لم يقتصر على قريته جزين ولا جبل عامل ، وانما تعداه الى دمشق حيث صرف الشهيد جزء كبيرا من عمره الشريف في دمشق.

ولسعة اطلاعه على المذاهب الإسلامية كلها فقد أسرع الناس الى مجلسه للدراسة عنده والاستماع لمواعظه ، ففرض لنفسه وجودا كبيرا في مجتمع دمشق بحيث امتد تأثيره إلى الحكام والسلاطين فكان يجتمع بهم ويسدي لهم النصح والتوجيه. واما بيته فكان ناديا علميا يعج بالزوار من كبار العلماء والفضلاء والأدباء وملجأ لكل المسلمين ـ شيعة وسنة.

وكان الشيعة في كل ارجاء المعمورة يتشوقون لزيارته أو يقوم بزيارتهم خصوصا بلاد فارس والري وخراسان ، ولكن لم يكن بوسعه اجابة طلبهم والسفر‌

١٣

الى بلادهم.

وكانت حكومة سربداران في خراسان على صلة وثيقة بالشهيد خصوصا في أيام أخر ملوكها علي بن مؤيد الذي كانت له مراسلات مع الشهيد أيام كان الشهيد في العراق ، واستمرت العلاقة بينهما في جزين ودمشق.

وكان الشهيد يروم السفر الى خراسان ليكون مرجع الشيعة فيها استجابة لالتماس علي بن المؤيد ، ولكن الظروف السياسية ـ آنذاك ـ في دمشق حاصرت الشهيد وحالت بينه وبين هذا السفر.

فاكتفى الشهيد بإرسال كتابه القيم ، اللمعة الدمشقية ليكون دستورا للبلاد بناء على طلب من حاكم خراسان ، وقد جمع فيه أبواب الفقه مع الاختصار وروعة البيان ، وتمكن من تأليفه في سبعة أيام فقط ولم يكن تحت يديه من كتب الفقه غير كتاب المختصر النافع للمحقق الحلي. وهذا يدل على مدى تبحره في هذا الفن واستحضاره لأمهات المسائل وفروعها.

ولما أكمل الكتاب دفعه الى الشيخ محمد الآوي وزير علي بن المؤيد وطلب منه الإسراع في إيصال الكتاب الى حاكم خراسان ولشدة حرص الوزير على الكتاب لم يستنسخه إلا الأوحدي من طلبة الشهيد.

وكانت حياة مؤسس مدرسة جبل عامل غنية بالفضل ، زاخرة بالعلم ، وتوجت بالشهادة.

شهادته :

في الوقت الذي كان الشهيد ـ رحمه‌الله ـ يسعى لردم الصدع بين الشيعة والسنة ، ظهر فجأة شخص يسمى محمد اليالوشي ـ ويقال انه من تلامذة الشهيد ـ

١٤

داعيا الى مذهب جديد هدفه بث روح الطائفية والتفريق بين المسلمين ، وقد تمكن الشهيد من القضاء على هذه الفتنة في مهدها حينما أخبر حكومة دمشق بالأمر فجهزت جيشا قضى على هذه الفتنة ومزق شمل اتباع اليالوشي.

ولكن رجلين من اتباع اليالوشي هما يوسف بن يحيى وتقي الدين الجبلي حقدا على الشهيد وأخذا بالوشاية به لدى حكام دمشق ، فالقي القبض عليه ، فأفرج عنه بعد حين واستمر في أداء دوره الرسالي لا تأخذه في الله لومة لائم ويصدع بكلمة الحق مهما كانت الظروف.

هذا ولم يستحوذ الجانب الفقهي ـ الفكري على كامل شخصية الشهيد بل كانت تتملك هذه الشخصية ابعاد اجتماعية وسياسية مختلفة تكاملت فيما بينها لتصوغ شخصية ذات حضور قوي ومؤثر في مجريات الأمور العامة ، فقد كان عمر الشهيد سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح والجهاد لخدمة المسلمين ، وإشاعة العلم والمعرفة بينهم ، وبث روح الاخوة بين طائفتي المسلمين الكبيرتين ولذا فقد اجتمعت الطائفتان على حبه وانتهال العلم من معينة ، واما من الناحية السياسية فقد كان ( بيدمر ) حاكم دمشق يهاب الشهيد ويخشاه.

ولكن وعاظ السلاطين الذين لا يروق لهم ان يروا الشهيد بهذه المنزلة كانوا يتحيّنون الفرص للإيقاع به. ومن أولئك الأشخاص رجل يدعى برهان الدين بن جماعة الذي عابه بعض علماء السنة بقلّة العلم ، لكنه استطاع ان ينكل بهم بل وبكل من يقف في طريقه.

فقد اصطدم ابن جماعة بجمع من الاعلام منهم زين الدين القرشي وشهاب الدين الحسباني وألقاهما في السجن عدة سنوات ، فخافه الطلاب والفقهاء.

وقد اجتمع يوما بالشهيد في مجلس ضم حشدا من العلماء وألقيت مسألة فقهية عجز عن إيضاحها فعز عليه ذلك ، وأراد انتقاص الشهيد فقال : إني أجد‌

١٥

حسا من وراء الدواة ، ولا افهم ما يكون معناه ، تعريضا بنحافة جسم الشهيد رحمه‌الله.

فأجابه الشهيد على الفور : نعم ، ابن الواحد لا يكون أعظم من هذا.

فخجل ابن جماعة وسكت ، ولكنه اضمرها في نفسه ، وأخذ يخطط للإيقاع بالشهيد.

واجتمع تخطيط ابن جماعة مع تخطيط اتباع اليالوش ، وكثرت وشاياتهم بالشهيد عند ( بيدمر ) حاكم الشام ، وكان لهم ما أرادوا ، فألقوا القبض على الشهيد ، وحبس في مكان مظلم ، ولما كانوا خائفين من سخط الطائفتين عليهم قرروا الإسراع في الحكم عليه.

فقام اتباع اليالوش بتنظيم عريضة يشنعون فيها على الشهيد ويتهمونه بما هو منه بري‌ء ، ووقّعها وشهد عليها سبعون رجلا ، وأضيفت إليها شهادة ألف رجل من اتباع ابن جماعة وقدمت إلى قاضي المالكية ، وهدد ابن جماعة القاضي المالكي بالعزل ان لم يحكم على الشهيد.

وعقد مجلس القضاء وحضره الملك بيدمر والقضاة وجمع من الناس ، والشهيد بين أيديهم فنسبوا اليه التهم المذكورة في العريضة فأنكرها كلها ولكنه لم يقبل منه ، وقيل له : قد ثبت ذلك شرعا وحكم الحاكم لا ينقض.

فقال الشهيد : الغائب على حجته ، فان اتى بما ينقض الحكم جاز نقضه والا فلا ، وها أنا أطعن بكل شهادات الشهود ، ولي على كل واحد حجة بينة ، ولم يسمع منه ذلك ، فقام القاضي المالكي ، وتوضأ وصلى ركعتين ثم قال : قد حكمت بإهراق دمه.

وقد ظهر الحقد الدفين جليا واضحا بعد إعدام الشهيد. فان الذين حكموا بإعدامه كشفوا عن سوء سريرتهم وخبث نفوسهم ، فقد صلبوه ثم رموه بالحجارة ثم احرقوا جسده.

١٦

ولو كانوا كما يدعون انهم يريدون الخلاص منه لكونه مرتدا أو فاعلا لإحدى التهم التي نسبوها اليه ، لاكتفوا بإعدامه ، ولم يتجاوزوه بما لا يقره شرع ولا عقل ، ولكنهم كانوا حاقدين كاذبين خاسرين في الدنيا والآخرة.

رحم الله الشهيد يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.

* * *

هذا وقد أنجبت مدرسة الشهيد عددا من كبار الاعلام والفقهاء منهم : احمد بن عبد الله المعروف بابن المتوج البحراني (١).

والفاضل المقداد عبد الله السيوري الحلي (٢).

__________________

(١) الشيخ فخر الدين احمد بن عبد الله بن سعيد بن المتوج البحراني كان معاصرا للمقداد السيوري ، وقد تلمذ على فخر الدين ابن العلامة.

وكان شيخا لأبي العباس احمد بن فهد الحلي.

ومن أهم كتبه النهاية في تفسير الخمسمائة آية.

ذكره ابن جمهور الأحسائي واثنى عليه ، وأسند إليه في طرقه في أول كتابه عوالي اللآلي.

وفي روضات الجنات : الشيخ فخر الدين أحمد بن عبد الله بن سعيد بن المتوج المشهور بابن المتوج البحراني فاضل معظم معروف بالعلم والفضل والتقوى. فمن جملة ألقابه الواقعة في بعض إجازات مقاربي عصره : خاتمة المجتهدين المنتشرة فتاواه في جميع العالمين شيخ مشايخ الإسلام وقدوة أهل النقض والإبرام.

وكان عالما بالعلوم العربية أديبا شاعرا له أكثر من عشرين ألف بيت في الأئمة عليهم‌السلام.

(٢) الشيخ المقداد بن عبد الله السيوري الحلي ، المعروف بالفاضل المقداد.

عالم فاضل فقيه متكلم محقق مدقق.

من جملة كتبه المعتمد عليها :

١ ـ نهج المسترشدين في أصول الدين.

٢ ـ كنز العرفان في فقه القرآن.

٣ ـ التنقيح الرائع في شرح مختصر الشرائع.

وغير ذلك. يروي عن الشهيد الأول ، ويروي عنه محمد بن شجاع القطان الحلي.

١٧

واحمد بن محمد بن فهد الحلي (١). وغيرهم.

هذا ويعدّ الشهيد الثاني المتمم والمكمل لهذه المدرسة الفقهية الكبرى ، وتمكن بفضل خبرته العالية بالمذاهب الإسلامية أن يسافر الى دمشق ومصر للأخذ من علمائها ، فحضر ابحاثهم وتداول معهم في أمهات المسائل العلمية. وكان هدفه الإلمام العميق بالمباني الفقهية والأصولية عند المذاهب.

وقد اثنى على جل الاعلام الذين حضر عندهم ، وبهذا يتجلى ان الشهيد. لم تكن في قلبه حزازة على مخالفيه في المذهب بل كان يحبهم ويحترمهم ويؤكد على لمّ الشمل وجمع الكلمة.

وهذا الأدب السامي كان له اثر كبير في نفوس أساتذته ومعاشريه.

وقد بذل الشهيد الثاني علمه لخدمة الدين والمذهب ، ومن الأمور التي حققها في النجف هو أمر القبلة ، فقد كان الشهيد يرى ان القبلة في العراق لا بدّ‌

__________________

(١) الشيخ جمال الدين أبو العباس احمد بن شمس الدين محمد بن فهد الأسدي الحلي.

وصفه مترجموه بأنه : عالم فاضل ثقة زاهد عابد ورع جليل القدر.

وفي رياض العلماء : العالم الفاضل العلامة الفهامة الثقة الجليل الزاهد العابد الورع العظيم القدر.

كان رحمه‌الله يميل إلى الزهد الذي سبقه اليه أبن طاوس ونصير الدين الطوسي ، وهو ليس إلاّ الانقطاع إلى الله والتخلي عن علائق الدنيا.

وقد تتلمذ عند الشيخ علي بن هلال الجزائري ، ويروي عن جملة من تلامذة الشهيد الأول وتلامذة فخر المحققين.

ودرس عنده جماعة من العلماء كالشيخ حسن علي الكركي العاملي ( ابن العشرة ) والشيخ عبد السميع بن فياض الأسدي الحلي وغيرهم.

وقد خلف مؤلفات قيّمة أهمها :

١ ـ المهذب البارع في شرح المختصر النافع في الفقه.

٢ ـ مصباح المبتدي وهداية المهتدي.

٣ ـ عدة الداعي ونجاح الساعي ، في آداب الدعاء وتهذيب النفس ، معروف نافع.

وغير ذلك من الكتب المهمة ناهزت الثلاثين كتابا.

١٨

ان تكون منحرفة قليلا وقدّر قدر انحرافها على ما ادى اليه اجتهاده مخالفا بذلك كل الناس.

وقد أذعن له علماء عصره عدا شخص واحد خالفه في ذلك ولم يزره كما زاره بقية العلماء. حكى السيد الخوانساري « ان هذا الرجل رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامه ، وانه دخل الى الحضرة العلوية المشرفة وصلى بالجماعة على السمت الذي صلى عليه الشهيد منحرفا لانحرافه ، فانحرف معه أناس وتخلف عنه آخرون فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصلاة التفت الى الجماعة وقال : كل من صلى ولم ينحرف كما انحرفت فصلاته باطلة » (١).

والذي يمعن النظر في كتب الشهيد قدس‌سره يتجلى له نبوغا وعبقرية خاصة فهو يكتب لمستويات مختلفة من الأمة ، فمرة تراه يكتب لأكابر العلماء والفقهاء وينافسهم في مختلف المسائل ويخرج منها بجبين وضاح. واخرى لعامة الناس بما ينفعهم ويبصرهم بأمور دينهم ودنياهم فيكتب في الأخلاق وفي التربية وفي.

يقول صاحب الروضات عند ذكره لكتاب مسالك الافهام : ويقال انه صنف ذلك الكتاب أيضا في مدة تسعة أشهر ، والله يعلم ان الكاتب المؤجر نفسه لمحض الكتابة يصعب عليه مثل ذلك غالبا إلاّ ان التأييد من عند الله.

ويؤيد صحة هذا القول ما نقله صاحب حدائق المقربين عن جماعة من العلماء أنه ألّف المسالك في زمان قليل ، وكذلك كتابه شرح اللمعة فقد صنفه في عدة أشهر مع انه كتاب تصنع وتجويد.

ونقل صاحب أمل الآمل عن بعض ثقاته ان الشهيد خلف ألفي كتاب منها مائتا كتاب بخطه الشريف من مؤلفاته وغيرها.

__________________

(١) روضات الجنات ٣ : ٣٧٨.

١٩

وذكر الشيخ اسد الله الكاظمي في مقدمة المقابيس : ان من جملة كرامات الشهيد انه يكتب بغمسة واحدة في المداد عشرين أو ثلاثين سطرا. وربما قيل أربعين أو ثمانين.

نعم ان نجم الشهيد قد تلألأ حتى ملأ الدنيا نورا ، وصار مهوى أفئدة الناس ، فتوجه اليه أبناء السنة ـ فضلا عن الشيعة ـ ليدرسوا على يديه ، وأقر له البعيد والقريب بطول الباع وسعة الاطلاع وهو لم يبلغ الثالثة والثلاثين من عمره.

وهذه الشخصية النزيهة الخيرة التي كان كل همها التأليف بين المسلمين وحب الخير لكل الناس لم تكن مورد قبول المنافقين والفاسقين ، كما لم يكن الشهيد الأول مع عظمته وجلالة قدره محبوبا عندهم.

فكادوا له كيدا حتى استشهد وهو حزين على هذه الأمة التي يدير أمورها المنافقون والجهلاء.

فظهر مما سلف ان مدرسة جبل عامل كانت تقوم بثلاث خطوات مهمة في آن واحد :

١ ـ الاتصال بمراكز الشيعة في العراق وإيران.

٢ ـ الاشعاع الفكري للبلدان العربية المجاورة لها بحكم موقعها الجغرافي.

٣ ـ حفظ وتطوير العلوم الشيعية من فقه وأصول وغيرهما.

* * *

٢ ـ مدرسة المحقق الكركي :

من المدارس الكبرى التي جادت بها مدرسة جبل عامل الاصيلة هي مدرسة المحقق الكركي.

٢٠