إستقصاء الإعتبار - المقدمة

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

إستقصاء الإعتبار - المقدمة

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : الحديث وعلومه
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEEsteqsa-Eatebar-introimages001.png

١

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEEsteqsa-Eatebar-introimages002.png

٢

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEEsteqsa-Eatebar-introimages003.png

٣

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEEsteqsa-Eatebar-introimagesrafed.jpg

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة :

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علىٰ سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمّد وآله الطيّبين الطاهرين .

وبعد ، فإنّ ممّا أطبق عليه المسلمون بشتّىٰ طوائفهم ومذاهبهم هو أنّ كتاب الله وسنّة رسوله هما المصدران الأوّلان لمعرفة الاحكام الشرعية والتكاليف المناطة بالفرد المسلم ، ولا يهمنا في محلّ كلامنا هنا الاختلاف بعد ذلك في باقي مصادر التشريع الإسلامي ، إذ المراد هنا هو إلقاء الضوء علىٰ السنّة النبويّة الشريفة ومداليلها الشرعية وتبيانها لتفاصيل مرادات الشارع المقدس من كتاب الله المجيد .

وللأهمية البالغة للسنّة المباركة حرص المسلمون ـ والشيعة الإماميّة منهم قبل باقي الطوائف ـ علىٰ تدوينها والحفاظ عليها ، حتّىٰ أنّهم كانوا يضربون آباط الإبل ويقطعون الفيافي من أجل العثور علىٰ حديث من ‌

٥

أحاديث البشير النذير .

وإذا كان تدوين السنّة الشريفة قد تعثّر شوطاً طويلاً عند أبناء العامّة من المسلمين ، ومن بعد ذلك دوّنت تحت ضغوط وتأثيرات الحكّام والسلطات ، فإنّ التدوين عند الإمامية اتّخذ شكلاً مستقلّاً عن الحكومات ، وفي وقت مبكّر من عصر الإسلام .

ولذلك نجد بصمات الاستقلال ـ وعدم التأثّر بالمؤثّرات الحكوميّة والسياسية والعنصرية والعصبية القبليّة ـ واضحة المعالم في مدوّنات الإماميّة للسنّة الشريفة ، كما نلمس بوضوح آثار منقولات أهل البيت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دون المنقولات عمّن لا يمتّ للتدوين بصلة إلّا بنحو بعيد وبعد زمان متطاول .

فقد حرص أئمّة أهل البيت بدءاً من الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وانتهاءً بالإمام الحجة بن الحسن عليه‌السلام ، علىٰ نقل أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسنّته علىٰ وجهها التامّ دون أيّ تغيير ، بل جهدوا في بيان وتصحيح التحريفات والانحرافات والتصحيفات وسوء الفهم الّذي وقع عند عامة المسلمين ، ففهموا الأحاديث علىٰ غير وجهها الصحيح .

هذا من جهة ، ومن جهة أخرىٰ فإنّ أئمة آل محمّد عليهم‌السلام وضعوا قواعد وقوانين إسلامية ثابتة لمعرفة الحديث ، صحيحه من سقيمه ، والمعوّل عليه من المطرّح ، وما صدر فعلاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما تقوِّل فيه عليه .

وقد تمخّض ذلك المسير العلميّ الطويل عن بروز أربعمائة أصل من الأصول المعوّل عليها إجمالاً في الأحاديث النبوية التي نقلها أهل البيت للمسلمين ، ومن ثمّ تناقلتها عنهم الأجيال .

٦

وبعد ذلك ، تلخّصت زُبدة تلك الأصول الأربعمائة في الكتب الحديثية الأربعة التي عُني بجمع شتاتها وتبويبها المحمّدون الثلاثة في كتاب الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار .

الاستبصار من الكتب الأربعة :

وإذا لاحظنا هذه الأسفار الحديثية النفيسة ، وجدناها تترتب وفق التسلسل الزمني لتأليفها علىٰ النحو التالي :

١ ـ الكافي : لثقة الإسلام أبي جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني ، المتوفّىٰ سنة ٣٢٩ هـ.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه : لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي ، المتوفّىٰ سنة ٣٨١ هـ.

٣ ـ تهذيب الأحكام في شرح المقنعة : لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي المتوفّىٰ سنة ٤٦٠ هـ.

٤ ـ الاستبصار فيما اختلف من الأخبار : لشيخ الطائفة أيضاً .

فمن هذا الترتيب يظهر جليّاً أنّ الاستبصار هو آخر الكتب الأربعة تأليفاً ، إذ أنّه يقع زمنيّاً بعد كتاب تهذيب الأحكام ، وقد صرّح شيخ الطائفة نفسه فيه بأنّه ألّفه بعد التهذيب ، فأحال علىٰ التهذيب في عدّة مواضع منه .

والّذي نريد أن نقوله هنا هو : إنّنا ـ عندما دقّقنا النظر في علّة تأليف شيخ الطائفة للاستبصار بعد التهذيب ـ رأينا أنّ للشيخ عناية خاصّة بهذا المؤلّف النفيس ، ربّما يدركها الحاذق من خلال عنوان الكتاب ، إذ أنّ الغرض الأصلي للشيخ من كتابه الاستبصار هو بيان وجوه الجمع بين ما قد يبدو متعارضاً من الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت ، وهو ما يسمّىٰ في ‌

٧

المصطلح الأصولي « بالتعارض البدوي » أو « التعارض غير المستقر » ، وهذه ميزة انفرد بها الاستبصار من بين الكتب الأربعة ، وله قدم السبق في هذا الميدان من بينها .

ولا نكاد نبتعد عن الصواب إذا قلنا أنّ لتأخر الشيخ الطوسي عن سابِقَيه ، وتأخّر الاستبصار عن التهذيب ، دوراً فاعلاً في نضوج فكرة التأليف ، وتقدّم هذه المدوّنة ـ المتأخّرة زماناً ـ خطوة أو خطوات إلىٰ الأمام من حيث النضوج العلمي ، فالكافي والفقيه والتهذيب كلها لم تضع في منهجها طريقة الجمع بين المختلف من الأخبار بالدرجة الأساسيّة ، فإن جاء شي‌ء من ذلك فيها كان عرضيّاً ومن فيوضات الأقلام الشريفة لمؤلّفيها ، بخلاف كتاب الاستبصار الّذي جعل جُلّ همّه وغاية سعيه إلىٰ حلّ ما اختلف من الأخبار الواردة عن أهل البيت والخروج بنتيجة فقهيّة ، بعد الفراغ من النتيجة الترجيحية لرواية علىٰ أخرىٰ أو لطائفة من المرويّات علىٰ طائفة أُخرىٰ .

كلّ هذا من حيث نفس منهجيّة الكتاب ، ومن حيثية أخرىٰ نرىٰ أهميّة هذا الكتاب من خلال عبقريّة مؤلّفه وإلمامه الواسع بمرويّات أهل البيت عليهم‌السلام ، ومن خلال كونه شيخَ الطائفة وفقيهها في زمانه ، وقد عرف واشتهر ـ بحقّ ـ بصواب استنباطاته وعلميّته الفائقة في تشخيص مرادات المعصوم من المرويّات ، حتّىٰ أنّ آرائه ما زالت حتّىٰ اليوم شاخصة للعيان ينهل منها كلّ فقيه ، ويستفيد منها كلّ عالم ، فلا تضع يدك علىٰ كتاب من كتب الفقه الإماميّ إلّا وتطالعك آراء الشيخ الطوسي شامخة ، موضوعة موضع الاحترام ـ أخذاً وردّاً ـ من قبل الأعلام .

كلّ هذه الأمور مجتمعة تجعل لكيفيّة الجمع بين مختلفات الأخبار‌

٨

عند الشيخ الطوسي أهميّة قصوىٰ وبرمجة رائعة في الفقه الإمامي ، كما تضفي علىٰ كتاب الاستبصار مسحة اضافية من العبقريّة والإبداع ، لا نجدها في نظائره الثلاثة الاُخر .

ولذلك قال العلّامة الطهراني في حقّ الكتاب : الاستبصار فيما اختلف من الأخبار ، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ . . . ، هو أحد الكتب الأربعة والمجاميع الحديثية التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعيّة عند الفقهاء الأثني عشرية منذ عصر المؤلف حتّىٰ اليوم . . . . غير أنّ هذا مقصور علىٰ ذكر ما اختلف فيه من الأخبار وطريق الجمع بينها ، والتهذيب جامع للخلاف والوفاق (١) .

وقال السيّد حسن الصدر الكاظمي : وأمّا الاستبصار فهو بضعة من التهذيب ، أفردها مقتصراً علىٰ الأخبار المختلفة ، والجمع بينها بالقريب والغريب (٢) .

شروح الاستبصار :

ولهذه الخصوصيّة المتطوّرة فكريّاً التي امتاز بها كتاب الاستبصار ـ مضافاً إلىٰ كونه ركناً من أركان الحديث الإمامي ـ عكف عليه العلماء قرنا بعد قرن بالشرح والتحشية والتعليق ، بعد الفراغ عن أنّ ما من عالم إمامي إلّا وهو ينتهل من معين هذا الكتاب الذي ضمّ بين دفّتيه كنوزاً من علوم ومرويات محمّد وآل محمّد عليهم‌السلام .

قال العلّامة الطهراني : وهو [ أيّ الاستبصار ] أحد الكتب الأربعة

__________________

(١) الذريعة إلىٰ تصانيف الشيعة ٢ : ١٤ .

(٢) نهاية الدراية في شرح الوجيزة : ٦٠٢ .

٩

والمجاميع الحديثية التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعيّة عند فقهاء الشيعة الإمامية الاثني عشرية منذ عصر مؤلّفه حتّىٰ اليوم ، ولذلك كثر شرّاحه والمعلّقون عليه منذ القرن الخامس إلىٰ الآن (١) .

وقد ذكر ثلاث عشرة حاشية علىٰ الاستبصار ممّا عثر عليه هو بنفسه قدّس الله سرّه (٢) ، دون ما طمسته يد الزمان وأخفاه الحدثان ، وغير ما ذكره الطهراني من تعليقاته وحواشيه بأسماء خاصّة لا بعنوان الشرح والتعليقة .

وعلىٰ كلّ حال فإنّ الذي يهمّنا هنا هو شروح الاستبصار ، لأنّ ما نحن بصدد الكلام عنه هو أحد شروح الاستبصار ، فكان لا بُدّ من معرفة أهمّية ومحلّ هذا الشرح بين الشروح الاُخرىٰ ، وميزاته الّتي يمتاز بها عن باقي الشروح ، وأين يقع مكانه زمنيّاً من مراحل التطوّر والمواكبة في الفقه الإماميّ ، وشروحات الكتب الأربعة .

والذي نراه بارزاً وشاخصاً للعيان من أمّهات الشروح للاستبصار هي الشروح التالية :

١ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة الفقيه السيّد محمّد بن عليّ بن الحسين الموسوي العاملي ( صاحب المدارك ) ، المتوفّىٰ سنة ١٠٠٩ هـ.

٢ ـ شرح الاستبصار : للسيّد ماجد بن السيّد هاشم الجد حفصي البحراني ، المتوفّىٰ سنة ١٠٢١ هـ.

٣ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة المولىٰ عبدالله بن الحسين التستري ، المتوفّىٰ سنة ١٠٢١ هـ.

٤ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة السيّد ميرزا محمّد بن عليّ بن إبراهيم ‌

__________________

(١) الذريعة إلىٰ تصانيف الشيعة ١٣ : ٨٣ .

(٢) انظر الذريعة ٦ : ١٧ ـ ١٩ .

١٠

الأسترآبادي ، الرجالي المعروف ، المتوفّىٰ سنة ١٠٢٨ هـ.

٥ ـ شرح الاستبصار ( استقصاء الاعتبار ) ، للشيخ الجليل فخر الدين أبي جعفر محمّد بن جمال الدين أبي منصور الحسن ، بن زين الدين الشهيد الثاني ، المتوفّىٰ سنة ١٠٣٠ هـ.

٦ ـ شرح الاستبصار ، الذي هو تعليقات للسيّد يوسف الخراساني ، كتبها سنة ١٠٣٠ هـ.

٧ ـ شرح الاستبصار ( جامع الاخبار في شرح الاستبصار ) : للشيخ عبداللطيف بن أبي جامع العاملي ، تلميذ الشيخ البهائي الذي توفي سنة ١٠٣١ هـ.

٨ ـ شرح الاستبصار : للمولىٰ محمّد أمين بن محمّد شريف الاسترآبادي ، المتوفّىٰ سنة ١٠٣٦ هـ.

٩ ـ شرح الاستبصار : لسيّد الفلاسفة مير محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني المشهور بـ « الداماد » المتوفّىٰ سنة ١٠٤١ هـ.

١٠ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة الشيخ عبداللطيف بن الشيخ نور الدين عليّ الجامعي العاملي ، المتوفّىٰ سنة ١٠٥٠ هـ.

١١ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة السيّد مير شرف عليّ بن حجّة الله الشولستاني ، المتوفّىٰ سنة ١٠٦٠ هـ.

١٢ ـ شرح الاستبصار : للشيخ زين الدين عليّ بن سليمان بن الحسن ابن درويش بن حاتم البحراني ، المعروف بـ « عليّ القدمي » ، المتوفّىٰ سنة ١٠٦٤ هـ.

١٣ ـ شرح الاستبصار : للمولىٰ عبدالرشيد بن المولىٰ نور الدين التستري ، المتوفّىٰ سنة ١٠٧٨ هـ.

١١

١٤ ـ شرح الاستبصار : للفاضلة حميدة الرويدشتي بنت المولىٰ محمّد شريف بن شمس الدين محمّد الاصفهاني ، المتوفّاة سنة ١٠٨٧ هـ.

١٥ ـ شرح الاستبصار : للشيخ الفقيه قاسم بن محمّد جواد المعروف بـ « ابن الوندي » وبالفقيه الكاظمي ، المتوفّىٰ سنة ١١٠٠ هـ.

١٦ ـ شرح الاستبصار : للفقيه المحدّث الجزائري ، السيّد نعمة الله بن عبدالله الموسوي التستري ، المتوفّىٰ سنة ١١١٢ هـ.

١٧ ـ شرح الاستبصار : للسيّد عبدالرضا بن عبدالصمد الحسيني الأوالي البحراني ، معاصر المحدّث الجزائري .

١٨ ـ شرح الاستبصار : للسيّد مير محمّد صالح بن عبدالواسع الخواتون آبادي ، صهر العلّامة المجلسي ، المتوفّىٰ سنة ١١١٦ هـ.

١٩ ـ شرح الاستبصار : للعلّامة السيّد عبدالله بن نور الدين الجزائري التستري ، المتوفّىٰ سنة ١١٧٣ هـ.

٢٠ ـ شرح الاستبصار : للميرزا حسن بن عبدالرسول الحسيني الزنوزي الخوئي ، المتوفّىٰ سنة ١٢٢٣ هـ.

٢١ ـ شرح الاستبصار : للمحقّق المقدس السيّد محسن بن الحسن الأعرجي الكاظمي ( صاحب المحصول ) ، المتوفّىٰ سنة ١٢٢٧ هـ.

٢٢ ـ شرح الاستبصار : للشيخ عبدالرضا الطفيلي النجفي ، الّذي كان حيّاً في سنة ١٣٠٥ هـ.

فهذه اثنان وعشرون شرحاً للاستبصار ، كلّها كتبت بيد علماء ومجتهدي زمانهم ، عناية منهم بهذا السفر العظيم .

ويلاحظ أنّه تتابعوا عليه قرناً بعد قرن بالشرح والتحشية والتعليق ، رأينا في هذه العجالة كيف أن أجلّة العلماء من القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر ، قد توافروا عليه بالشرح والاهتمام .

١٢

استقصاء الاعتبار :

ولعلّ من أبرز شروح الاستبصار هو « استقصاء الاعتبار » ، لعبقرية كاتبه من جهة ، ولميزاته وفوائده الغزيرة من جهة أخرىٰ كما سيأتي ، فلا غرو أن يحتلّ هذا الشرح المكانة المرموقة بين شروح الاستبصار .

قال الشيخ آغا بزرك الطهراني : استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار للشيخ أبي جعفر محمّد بن أبي منصور الحسن . . . كبيرٌ ، خرج منه ثلاثة مجلّدات في الطهارة والصلاة والنكاح والمتاجر إلىٰ آخر القضاء . . . بدأ فيه بمقدّمة فيها اثنتا عشرة فائدة رجالية ، نظير المقدمات الاثنتي عشرة لمنتقىٰ الجمان لوالده الشيخ حسن ، وبعد المقدمة اخذ في شرح الأحاديث ، فيذكر الحديث ويتكلّم أوّلاً فيما يتعلّق بسنده من أحوال رجاله تحت عنوان « السند » ، ثمّ بعد الفراغ عن السند يشرع في بيان مداليل ألفاظ الحديث وما يستنبط منها من الأحكام تحت عنوان « المتن » (١) . . .

وقد ذكر هذا التأليف القيّم كلّ من ترجم للشيخ المترجم له ، مضافاً إلىٰ تآليف أخرىٰ قيّمة له في عدّة علوم .

وكتاب الاستقصاء فيه من الفوائد ما يعسر أن تجده في غيره من الكتب ، خصوصاً في المسائل الدرائية والرجالية ، فإنّه قدس‌سره كان ذا باع طويل في هذا المجال ، وحسبك أنّ المحدّث النوري في خاتمة المستدرك أفاد كثيرا من تلكم الفوائد . وسنشير إلىٰ ميزات اُخرىٰ لشرحه هذا عند التعرّض لذلك في هذه المقدمة .

__________________

(١) الذريعة ٢ : ٣٠ .

١٣

المؤلّف‌ ـ ولادته :

هو الشيخ الجليل فخر الدين أبو جعفر محمّد بن جمال الدين أبي منصور الحسن ، بن زين الدين الشهيد الثاني .

ولد شيخنا المترجم له ضحىٰ يوم الاثنين العاشر من شهر شعبان المعظّم عام ثمانين وتسعمائة .

وقد وجد تاريخ ولادته هذا بخطّ والده الشيخ حسن بن الشهيد الثاني ، كما صرّح بذلك الشيخ عليّ ابن المترجم له في كتابه « الدرّ المنظوم والمنثور » .

ويبدو أنّ والده كان يتوسّم فيه مخايل النجابة والفقاهة والعلم ، فأحبّه وحرص علىٰ ضبط تاريخ ولادته بالشعر ، بعد أن فدّاه وأخاه بنفسه ، وإليك النص الذي نقله الشيخ عليّ في كتابه الدر المنظوم والمنثور ، قال :

وعندي بخطّ جدي المرحوم المبرور الشيخ حسن ، ما هذا لفظه ـ بعد ذكر مولد ولده زين الدين عليّ ـ : ولد أخوه فخر الدين محمّد أبو جعفر ـ وفّقهما الله لطاعته وهداهما إلىٰ الخير وملازمته ، وأيّدهما بالسعد والإقبال في جميع الأمور ، وجعلني فداهما من كلّ محذور ـ ضحىٰ يوم الاثنين ، العاشر من الشهر الشريف شعبان عام ثمانين وتسعمائة ، وقد نظمت هذا التاريخ عشية الخميس تاسع شهر رجب عام واحد وثمانين وتسعمائة بمشهد الحسين عليه‌السلام بهذين البيتين ، وهما :

أحمد ربي الله إذ جاءني

محمّد من فيض نُعماه

تاريخه لا زال مثل اسمه

« بجوده يسعده الله » (١)

__________________

(١) روضات الجنات ٧ : ٤٤ .

١٤

نشأته :

لم تذكر المصادر التي ترجمت للمؤلف مكان ولادته علىٰ وجه الدقة والتحديد ، إلّا أنّ قرائن الأحوال وعباراتهم في شرح أحواله تدلّ علىٰ أنّه ولد في لبنان ، مضافاً إلىٰ أنّ الحر العاملي ذكره في القسم الأوّل من أمل الآمل الّذي ذكر فيه علماء جبل عامل ، وكان أوّل اشتغاله لطلب العلم فيها .

قال الشيخ يوسف البحراني : وكان اشتغاله أوّلاً عند والده والسيّد محمّد صاحب المدارك ، قرأ عليهما وأخذ عنهما الحديث والاُصولين وغير ذلك من العلوم ، وقرأ عليهما مصنّفاتهما من المنتقىٰ والمعالم والمدارك ، وما كتبه السيّد علىٰ المختصر النافع ، ولما انتقلا إلىٰ رحمه الله بقي مدّة مشتغلاً بالمطالعة .

ثمّ سافر إلىٰ مكّة المشرّفة واجتمع فيها بالميرزا محمّد الاسترآبادي صاحب كتاب الرجال ، فقرأ عليه الحديث .

ثمّ رجع إلىٰ بلاده وأقام بها مدّة قليلة ، ثمّ سافر إلىٰ العراق ، خوفاً من أهل النفاق وعداوة أهل الشقاق ، وبقي مدّة في كربلاء مشتغلاً بالتدريس .

ثمّ سافر إلىٰ مكّة المشرّفة ، ثمّ رجع منها إلىٰ العراق وأقام فيها مدّة .

ثمّ عرض ما يقتضي الخروج منها ، فسافر إلىٰ مكّة المشرّفة ، وبقي فيها إلىٰ أن توفّي رحمه الله (١) .

وذكر الآغا بزرك أنّه اختصّ بالميرزا محمّد الرجاليّ خمس سنين (٢) .

__________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٨٢ ـ ٨٣ . وعنه في روضات الجنات ٧ : ٤٣ . وتنقيح المقال ٣ : ١٠٢ .

(٢) طبقات أعلام الشيعة ٥ : ٥١٩ .

١٥

وأوضح الخوانساري أنّ ملازمته للميرزا الاسترآبادي كانت في مكّة المكرّمة ، وأنّ المترجم له كان معجباً غاية الإعجاب ، بأستاذه الرجاليّ النحرير ، فقال : وكان هو أيضاً مجاوراً بمكّة المعظّمة ، وملازماً لمجلس مباحثة صاحب الترجمة المتقدمة [ أي الميرزا محمّد الاسترآبادي ] ، ومعتقداً لغاية نبله وفضله وتحقيقه ، بل مفتخراً بالاهتداء إلىٰ سبيله وطريقه (١) .

ونقل الخوانساري في الروضات عن ولد المترجم له في كتابه « الدرّ المنثور » قوله : وكان وهو في البلاد يذهب إلىٰ دمشق ويقيم بها مدّة بعد مدّة ، واختلط بفضلاء العامّة ، وصاحبهم وعاشرهم أحسن عِشرة ، وقرأ عندهم في علوم شتّىٰ (٢) .

وهذا ما يؤكّد لنا أنّ هذا العالم الجليل ، وغيره من علماء وفضلاء الطائفة كانوا حريصين أشدّ الحرص علىٰ تتبّع الحقائق ، وأخذ الشاردة والواردة من العلماء ، أيّاً كان انتماؤهم المذهبيّ ، لأنّ الحقيقة العلمية مناطها الدليل والبرهان ، لا المذاهب والمشارب .

فقد تتلمَذَ المؤلّف رحمه‌الله منذ نعومة أظفاره علىٰ كبار علماء الطائفة الإماميّة ، مثل والده وصاحب المدارك ، كما يبدو واضحاً جليّاً أنّه كان مولعاً بعلم الرجال ، وقد مرّ أنّه لازم الميرزا محمّد الاسترآبادي خمس سنين يباحث ويدرس معه في علم الرجال . ولذلك برزت عبقريته وقدرته العلميّة في هذا المجال أكثر من أيّ مجال آخر ، وهذا ما سنوضّحه في ميزات الكتاب ، وما يبدو شاخصاً للعيان من خلال مباحث شرح الاستبصار ، وقد وقعت تحقيقاته الرجالية موقع إجلال وإكبار علماء الطائفة ‌

__________________

(١) روضات الجنات ٧ : ٣٩ .

(٢) روضات الجنات ٧ : ٤١ .

١٦

ومحدّثيهم ، حتّىٰ أنّ العلّامة المحدّث النوري عبّر عنه تارة بـ « المحقّق الشيخ محمّد » (١) ، وتارة بـ « المدقّق الشيخ محمّد » (٢) ، وقد أفاد منه ونقل الكثير من تحقيقاته الرجالية التي دوّنت في استقصاء الاعتبار ، وذلك لأهميتها وضخامة فكر صاحبها في التنقيحات والتحقيقات الرجالية .

ولا يخفىٰ حرصه علىٰ طلب العلم ومدارسته ، حيث كان بعد وفاة أستاذيه يطالع ويقرأ ولم يركن إلىٰ الراحة والهدوء ، بل راح يجدّ ويثابر ، بل الذي نستشمّه من عبارة ولده أنّه كان بعد تحصيله علوم المذهب ، ووفاة أستاذيه ، يذهب ليدارس ويتتلمذ علىٰ أيدي فضلاء العامّة ، ممّا يظهر مدىٰ جدّه ومثابرته في تحصيل العلوم ، وذلك هو الذي جعل من هذا الرجل عالماً مجدّاً يغني المكتبة الإسلامية بشتّىٰ التآليف القيّمة .

وكان الشيخ محمّد قد برز علىٰ أقرانه من العامّة في حلقة الدرس ، قال ولده الشيخ عليّ : وكان من جملة من قرأ عليهم رجل فاضل في علوم العربية والتفسير والاُصول اسمه الشيخ شرف الدين الدمشقي ، وكان يجتمع في درسه خلق كثير ، رأيته أنا وشاهدت حلقة درسه ، وهو طاعن في السنّ ، وكان إذا جرىٰ بحث في مجلسه وتكلّم والدي في مسألة بكلام ، وبحث معه يعارضه أهل ذلك المجلس عناداً أو لسوء فهم ، فيقع البحث بينهم والشيخ ساكت ، وإذا انتهىٰ الأمر ليحكم بينهم يقول : يا إخوان لا يغيّر في وجوه الحسان ، يعني به والدي رحمه‌الله ، فإذا سمعوا هذا سكتوا (٣) . . .

__________________

(١) انظر خاتمة مستدرك الوسائل ٥ : ٢٣ .

(٢) انظر خاتمة مستدرك الوسائل ٥ : ٨٩ و٣٧٠ .

(٣) روضات الجنات ٧ : ٤١ ـ ٤٢ .

١٧

زهده وتقواه :

وقد كان المؤلّف من الزهّاد الورعين ، يمتاز بتقوىٰ وورع فائق ، وكان يحتاط أشدّ الاحتياط في أمر الدين ، عملاً بقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتَط لدينك بما شئت (١) ، وكان من جملة احتياطه وتقواه أنّه بلغه أنّ بعض أهل العراق لا يخرج الزكاة ، فكان كلّما اشترىٰ من القوت شيئاً زكويّاً زكّاه قبل أن يتصرّف فيه (٢) .

ولذلك قال ولده في حقّه : كان عالماً عاملاً ، وفاضلاً كاملاً ، وورعاً عادلاً ، وطاهراً زكيّاً ، وعابداً تقيّاً ، وزاهداً مرضيّاً ، يفرّ من الدنيا وأهلها ويتجنّب الشبهات . . . كانت افعاله منوطة بقصد القربة (٣) . . .

فيظهر جليّاً أنّ من أهمّ ما كان يتمتّع به هذا الرجل الفقيه الرجاليّ هو التقوىٰ والزهد ، والأنس بالله ، وأنّه كان ينيط كلّ أعماله بقصد التقرّب إلىٰ الله ، وهذا ما لا يناله إلّا من رحمه الله وكان ذا حظ عظيم .

ومع أنّ الطائفة المحقّة أجمعت علىٰ جواز أخذ الهدايا حتّىٰ من الحكّام والأمراء ، لكنّنا نرىٰ شيخنا المصنّف يتورّع عن أخذها احتياطاً لدينه ومبالغة في التقوىٰ والتقرّب إلىٰ الله ، ساعياً أن لا يعيش إلّا ممّا رزقه الله ، بل نراه إذا وقع في محذور من قبول الهدايا جعل لذلك طريق حلٍّ لارجاع تلك الأموال إلىٰ معطيها .

فقد أرسل له الأمير يونس بن الحرفوش إلىٰ مكّة المشرّفة خمسمائة‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٧ / ٣٣٥٠٩ .

(٢) روضات الجنات ٧ : ٤٢ .

(٣) أمل الآمل ١ : ١٣٩ ، وعنه في رياض العلماء ٥ : ٥٩ ـ ٦٠ .

١٨

قرش ، وكان هذا الرجل له أملاك من زرع وبساتين وغير ذلك . . . وأرسل إليه معها كتابة مشتملة علىٰ آداب وتواضع ، وكان له فيه اعتقاد زائد ، والتمس منه أن يقبل ذلك ، وأنّه من خالص ماله الحلال ، وقد زكّاه وخمّسه ، إلىٰ أن يقبل .

فقال له الرسول : إنّ أهلك وأولادك في بلاد هذا الرجل ، وله بك تمام الاعتقاد ، وله علىٰ أولادك وعيالك شفقة زائدة ، فلا ينبغي أن تجبهه بالردّ .

فقال : إن كان ولا بُدّ من ذلك فأبقها عندك ، واشترِ في هذه السنة مائة قرش منها شيئاً من العود والقماش ، وتوصله إليه علىٰ وجه الهديّة ، وهكذا تفعل كلَّ سنة حتّىٰ لا يبقىٰ منها شي‌ءٌ ، فأرسل له ذلك تلك السنة وانتقل إلىٰ رحمة الله ورضوانه (١) .

وطلبه سلطان ذلك الزمان ـ عفىٰ الله عنه ـ مرّة من العراق ، فأبىٰ ذلك ، وطلبه من مكّة المشرّفة ، فأبىٰ ، فبلغه أنّه يعيد عليه أمر الطلب ، وهكذا صار ، فإنّه عيّن له مبلغاً لخرج الطريق ، وكان يكتب له ما يتضمّن تمام اللّطف والتواضع ، وبلغني أنّه قيل له : إذا لم تقبل الإجابة فاكتب له جواباً .

فقال : إن كتبت شيئاً بغير دعاء له كان ذلك غير لائق ، وإن دعوت له فقد نُهينا عن مثل ذلك ، فألحّ عليه بعض أصحابه ، وبعد التأمّل قال : ورد حديث يتضمّن جواز الدعاء لمثله بالهداية ، فكتب له كتابة ، وكتب فيها من الدعاء « هداه الله » لا غير (٢) .

__________________

(١) روضات الجنات ٧ : ٤٢ .

(٢) روضات الجنات ٧ : ٤٢ .

١٩

اساتذته ومشايخه :

لقد مرّ في أثناء ما تقدم ما يتعلّق ببعض أساتذته ، غير أنّ ذكرهم علىٰ نسق واحد يمكن معه استيضاح واستجلاء معالم أكثر وضوحاً عن دراسة هذا الرجل وتعلّمه علىٰ يد كبار العلماء ، فمن أساتذته :

١ والده الفقيه الحسن بن الشهيد الثاني .

٢ السيّد محمّد بن عليّ بن أبي الحسن الموسوي العاملي صاحب « المدارك » .

٣ الميرزا أحمد بن عليّ الاسترآبادي .

٤ الميرزا محمّد الاسترآبادي.

٥ الشيخ شرف الدين الدمشقي .

٦ وروىٰ عن خال والده ، الشيخ عليّ بن محمود العاملي .

٧ وروىٰ عن ابن خال والده ، وهو الشيخ زين الدين بن الشيخ عليّ ابن محمود العاملي .

٨ وروىٰ عن عمه الشيخ علي بن محمّد بن علي الحرّ .

إلىٰ غير هؤلاء من المشايخ الّذين روىٰ عنهم أو قرأ عليهم أو باحث معهم في مسائل الدين والفقه .

وأمّا تلامذته :

فقد أقرأ المؤلف الكثير ، وتتلمذ عليه الفضلاء ، وروىٰ عنه المشايخ ، وقد مرّ أنّه قضىٰ عمره كلّه في القراءة والإقراء والدرس والتدريس والتأليف والتصنيف ، ومن تلامذته ومن قرأوا عليه‌ :

٢٠