عدّة الأصول

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

عدّة الأصول

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


المحقق: محمد مهدي نجف
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

والمناقشة في مثال الواحد والعشرة سهلة ، فلا يخفى ما في هذا التوجيه من التعسف ومن الشاهد على ما ذكرنا عبارته في المواقف حيث قال في مبحث النبوات : وجواب الأول منع مساواة حكم الكل لحكم كل واحد ، لما يرى من قوة العشرة على تحريك ما لا يقوى عليه كل واحد (۱) .

وقال شارحه عند قوله (حكم الكل): من حيث هو كل (٢) .

فالتحقيق في الجواب عن الدليل الأول على الشرطية أن يقال : لم لا يجوز أن يكون عدم جواز كذب كل واحد لمنافاة وقوع خبر واحد كذب الآخرين، ان كان العلم الحاصل بالتواتر نظرياً أو لاجراء الله تعالى عادته بفعل العلم عقيب انضمام الاخبار على الشروط الاتيه ان كان بديهياً .

أو يقال : لا نسلم انتفاء المنافاة بين كذب واحد وكذب الاخرين ، و هذا السند ينطبق على زعم من يجوز كذب بعض أقل عدد التواتر وسيجيء ما فيه .

وفي الجواب عن الدليل الثاني على الشرطية أن يقال لا نسلم ان تجويز الملزوم مطلقاً يستلزم تجويز اللازم، انما المسلم ان تجويز الملزوم بالتجويز الواحد يستلزم تجويز اللازم ، وتجويز الملزوم هنا تجويزات متعددة موزعة على اجزائه ملحوظاً كل واحد منها بانفراده .

نعم لو جعل التجويز جزء من المحمول وجعل الشرطية هكذا: لو صدق هذا الخبر جائز الكذب في الجملة ، وهذا الخبر جائز الكذب في الجملة ،

__________________

(۱) المواقف ، الموقف السادس في السمعيات ، المرصد الأول في النبوات ، المقصد الثالث في امكان البعثة .

(۲) شرح المواقف الموقف السادس في السمعيات المرصد الأول في النبوات

٢٤١

مذهب ظاهر البطلان ، لا معنى للتشاغل بابطاله والاكثار في رده ، لان

____________________________________________

لصدق كل واحد من الاخبار جائز الكذب في الجملة ، لتم الدليل على الشرطية .

ولكنه لا يفيد المشكك، انما يفيده كون كل خبر كاذباً بالامكان ، بأن يكون الامكان العقلي جهة القضية الكلية ، وبهذا يخرج الجواب عن شبهة التصديق بالنقيضين في الأواني المشتبهة تدبر .

فان قلت في الجواب عن الدليل الثاني : ان الذي يستلزم تجويز اللازم انما هو تجويز الملزوم بحسب نفس الأمر ، والمتحقق هنا تجويز الملزوم باعتباره مع قطع النظر عن غيره وكما في تجويز عدم العقل الأول نظراً الى ذاته مع عدم تجويز عدم الواجب اللازم له، كما في تجويز صدق مفهوم واجب الوجود على كثيرين .

قلت المتحقق فيما نحن فيه التجويز بحسب نفس الأمر، اما على ماقيل من جواز كون بعض أقل عدد التواتر كاذباً ، فظاهر. واما على التحقيق فيظهر اذا فرض الكلام فيما اذا كان عدد المخبرين أكثر من أقل عدد التواتر بكثير فانا قد نجوز بحسب نفس الأمر على بعض المخبرين الكذب بمعنى مخالفة الاعتقاد، ويحصل لنا الاشتباه في تعيينه .

لا يقال: لا يفيد هذا السمنية لدعواهم الكلية .

لانا نقول : يمكن الاستعانة في التعميم بالقياس العقلي ، اما مع دعوى الأولوية .

بأن يقال: لولم يحصل من الأكثر ، فان لا يحصل من الاقل أولى، وأما مع عدمها فتدبر .

٢٤٢

المشكك فيما يحصل من العلم عند الاخبار ، كالمشكك فيما يحصل عند المشاهدة وغيرها من ضروب الادراكات من السوفسطائية (۱) وأصحاب العنود ومدخل الشبهات في هذا ، كمدخل الشبهات في ذلك . لان نفوسنا تسكن الى وجود البلدان التي لم نشاهدها، مثل الصين، والهند، والروم، وغير ذلك مما لم نشاهدها، والى وجود الملوك وغيرهم، والى هجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله، والى وقوع المغازى ، وحصول الوقائع الحادثة فى الايام الماضية، كما تسكن الى العلم بالمشاهدات فمن ادعى فيما يحصل عند الاخبار انه ظن وحسبان ، كمن ادعى ذلك فى المشاهدات، وهذا القدر كاف في ابطال هذا المذهب، لانه ظاهر البطلان .

فأما كيفية حصول هذا العلم ، فقد اختلف العلماء في ذلك.

فذهب أبو القاسم البلخي ومن تبعه، الى أن الاخبار المتواترة التي تحصل عندها العلوم لكل عاقل كلها مكتسبة . والى ذلك يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله

وذهب أبو على (۲) وأبو هاشم ، والبصريون، وأكثر الفقهاء، و

__________________

(۱) قالت السوفسطائية: لا حقيقة للاشياء، وانما هي خيالات ليس لها صفات ولا حالات متغايرات، ولا يقال موجودة ولا معدومة قياساً على ما يرى ولا حقيقة له .

(۲) محمد بن عبد الوهاب الجبائي بن سلام بن خالد بن حمران بن ابان مولی عثمان ابن عفان من رؤساء المعتزلة. توفي سنة (۳۰۳هـ .) .

٢٤٣

أصحاب الاشعرى الى أن العلم بهذه الاخبار، يحصل ضرورة من فعل الله تعالى، لا صنع للعباد فيها .

وذهب سيدنا المرتضى أدام الله علوه (۱) الى تقسيم ذلك فقال ان أخبار البلدان والوقائع والملوك وهجرة النبي صلى الله عليه و آله ومغازيه وما يجرى هذا المجرى، يجوز أن يكون ضرورة من فعل الله تعالى، ويجوز أن تكون مكتسبة من فعل العباد .

وأما ماعدا أخبار البلدان وما ذكرناه مثل : العلم بمعجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكثير من أحكام الشريعة ، والنص الحاصل على الأئمة عليهم‌السلام ، فيقطع على انه مستدل عليه

وهذا المذهب عندى أوضح من المذهبين جميعاً. وانما قلنا بهذا المذهب، لانه لا دليل هاهنا يقطع به على صحة أحد المذهبين

____________________________________________

(۱) قوله ( وذهب سيدنا المرتضى أدام الله علوه الخ ) السيد ذهب الى تقسيم الاخبار المتواترة مطلقاً، لا تقسيم الاخبار المتواترة التي يحصل عندها العلوم لكل عاقل، كما تدل العبارة المنقولة من الذخيرة بعد ذلك، بل الظاهر من الذريعة ان المرتضى توقف في القسم الأول. ثم بعد تسليم كونها ضرورية توقف في القسم الأخير، وان كان عبارته في الشرط المختص ظاهرها يدل على عدم توقفه في الاخير وكذا الظاهر منها أن أبا هاشم جعل القسم الأول ضرورياً ، وتوقف في الاخير (۳) .

__________________

(٣) الذريعة : ٤٨٥

٢٤٤

دون الآخر ، فالادلة فيها كالمتكافئة (۲) واذا كان كذلك وجب الوقف ، وتجويز كل واحد من الموهبين. ونحن نعترض ما استدل به كل فريق من الفئتين ، ونبين ما في ذلك .

ولانه أيضاً لا يمتنع أن يكون العالم بهذه الاخبار قد يقدم له على الجملة العلم بصفة الجماعة التي لا يجوز أن يتفق منها الكذب ، ولا يجوز على مثلها أيضاً التواطؤ ، لان علم ذلك مستند الى العبادة، فجائز أن يكون قد عرف ذلك ، وتقدر في نفسه ، فلما أخبره عن البلدان وأخبار الملوك والوقائع من هو على تلك الصفة، فعل لنفسه اعتقاد الصدق لهذه الاخبار ، وكان ذلك الاعتقاد علماً للجملة المتقدمة ، فيكون كسبياً له لا ضرورياً فيه .

وليس لاحد أن يقول : ان ادخال التفصيل في الجملة ، انما يكون فيما له أصل ضرورى على سبيل الجملة ، كما نقول: ان من شأن الظلم أن يكون قبيحاً ، علم على الجملة ضروري. فاذا علمنا في ضرر بعينه انه ظلم فعلنا اعتقاداً لقبحة وكان علماً لمطابقته للجملة المتقررة ، وانتم قد جعلتم علم الجملة مكتسباً والتفصيل كذلك. وذلك انه لا فرق بين أن يكون علم الجملة حاصلا بالضرورة أو الاكتساب في جواز ان يبنى عليه التفصيل، لان من علم منا

____________________________________________

(۲) قوله ( كالمتكافئة) لعله اشارة الى رجحان دليل النظرية ، لكن لا بحيث يفيد القطع .

٢٤٥

بالاكتساب ، ان من صح منه الفعل يجب أن يكون قادراً ، ثم علم في ذات بعينها ، انه يصح منها الفعل فعل اعتقاداً لكونها قادرة فيكون ذلك الاعتقاد علماً لمطابقته للجملة المتقدمة وان كانت تلك الجملة مكتسبة .

وكذلك اذا علم بالاكتساب ، ان من شأن القادر أن يكون حياً ، ثم علم فى ذات بعينها انها قادرة فعل اعتقاداً لكونها حية، فيكون علماً لمطابقته للجملة المتقررة ، فلا فرق اذاً في ادخال التفصيل في الجملة المتقدمة بين الضرورى والمكتسب .

وكما ان ما ذكرناه ممكن ، يمكن أيضاً أن يكون الله تعالى أجرى العادة ، بأن يفعل العلم فينا عند سماع الاخبار عن البلدان وما شاكلها على ما ذهب اليه آخرون ، وليس في العقل دليل على أحد القولين ، فلا يخل الشك في ذلك بشيء من شرائط التكليف ، فيجب أن يجوز كلا الامرين .

ونحن نتتبع أدلة كل فرقة من الفريقين ليتم لنا ما قصدناه .

فما استدل به أبو القاسم البلخي ومن تبعه على ان هذه العلوم مكتسبة أن قال : لا يجوز أن يقع العلم الضروري بماليس بمدرك و مخبر الاخبار عن البلدان أمر غائب عن الادراك، فلا يجوز أن يكون

٢٤٦

ذلك ضرورياً، لانه لو جاز (۱) كون العلم بالغائبات ضرورياً، جاز أن يكون العلم بالمشاهدات مستدلا عليه .

واستدل أيضاً بأن العلم بمخبر الاخبار، انما يحصل بعد تأمل أحوال المخبرين بها وصفاتهم، فدل ذلك على انه مكتسب .

فيقال له فيما ذكره أولا : لم زعمت ان العلم بالغائب عن الحس لا يكون ضرورياً ، أوليس الله تعالى قادراً على فعل العلم بالغائب مع غيبته، فما المنكر من أن يفعل بمجرى العادة عند اخبار جماعة مخصوصة ، وليس له أن يدعى ان ذلك غير مقدور له تعالى كما يقول : ان العلم بذاته تعالى (۲) لا يوصف بالقدرة عليه .

لانه يذهب الى أن العلم بالمدركات قد يكون من فعل الله تعالى على بعض الوجوه وليس يفعل العلم بذلك الا وهو في مقدورة وليس كذلك على مذهبه العلم بذاته تعالى، لانه لا يصح وقوعه منه على وجه من الوجوه ، وعلى هذا أي فرق بين أن يفعل العلم

____________________________________________

(۱) قوله (لانه لوجاز الخ) ظاهره انه استدلال على الشرطية ، فيتوجه عليه منع ظاهر، ويمكن أن يكون تنظيراً للشرطية، والمصنف رحمه‌الله راعى في الجواب كلا الاحتمالين لان قوله (فيقال الى قوله وانما لم يجز ناظر) الى الاحتمال الثاني. وقوله (وانما لم الخ) ناظر الى الاحتمال الاول .

(۲) قوله ( كما يقول: ان العلم بذاته) أي علم غيره بكنه ذاته، وفيه اشارة الى توجه المنع على دليل امتناع العلم .

٢٤٧

بالمدرك عند ادراكه ، وبين أن يفعل هذا العلم بعينه عند بعض الاخبار عنه ؟ .

وانما لم يجز أن يكون المشاهد مستدلا عليه ، لان المشاهد معلوم ضرورة للكامل العقل، فلا يصح ان يستدل وينظر فيما يعلمه لان من شرط صحة النظر ارتفاع العلم بالمنظور اليه .

وأما الشبهة الثانية فبعيدة عن الصواب ، لانها مبنية على الدعوى (۱) لان خصومه لا يسلمون ان العلم بمخبر الاخبار عن البلدان، وماجرى مجراها يقع عقيب التأمل لصفات المخبرين. بل يقولون: انه يقع من غير تأمل لاحوال المخبرين ، وانه انما يعلم أحوال المخبرين بعد حصول العلم ( ۲ ) الضرورى له بما أخبروا عنه .

وتعلق من ذهب الى أن هذا العلم ضرورى بأشياء :

منها : ان العلم بمخبر هذه الاخبار لو كان مكتسباً وواقعاً عن تأمل حال المخبرين وبلوغهم الى الحد الذي لا يجوز أن يكذبوا، لوجب أن يكون من لم يستدل على ذلك، ولم ينظر فيه من العوام

____________________________________________

(۱) قوله (مبنية على الدعوى) أي على ما هو في حكم الدعوى، في انه مسلم للخضم مثله .

(۲) قوله (بعد حصول الخ) لاحاجة الى دعوى البعدية، بل يكفي المعية بل يكفي القبلية أيضاً بدون الترتيب .

٢٤٨

والمقلدين وضروب من الناس لا يعلمون البلدان والحوادث العظام ومعلوم ضرورة الاشتراك في ذلك (۱) .

ومنها : ان حد العلم الضرورى قائم في العلم بمخبر الاخبار لانا لا نتمكن من ازالة ذلك عن نفوسنا ، ولا التشكيك فيه ، وهذا حد العلم الضروري .

ومنها : ان اعتقاد من ذهب الى أن هذا العلم ضرورى صارف عن النظر فيه والاستدلال عليه، فكان يجب أن يكون كل من اعتقد ان هذا العلم ضرورى غير عالم بمخبر هذه الاخبار ، لان اعتقاده يصرفه عن النظر ، فكان يجب خلو جماعتنا من العلم بالبلدان وما اشبهها، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك .

فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا : ان طريق اكتساب العلم بالفرق بين الجماعة التي لا يجوز أن تكذب في خبرها وبين من يجوز ذلك عليه قريب لا يحتاج الى دقيق النظر (۲) وطويل التأمل، وكل

____________________________________________

(۱) قوله (ومعلوم ضرورة الاشتراك الخ) انما يتم في القسم الأول من المتواتر، فهو مؤيد لما مر من أباهاشم انما ادعى الضرورة في القسم الأول، وكذا الدليل الثاني، وأما الثالث فيجري في القسم الثاني أيضاً، ألا أن يمنع عدم خلو من يعتقد الضرورة في القسم الثاني عن العلم .

(۲) قوله (قريب لا يحتاج الى دقيق النظر الخ) وبهذا يبطل ما قيل من أنه لو كان نظرياً لافتقر الى توسط المقدمتين ، واللازم منتف. لانا نعلم قطعاً

٢٤٩

عاقل يعرف بالعادات الفرق بين الجماعة التي قضت العادات بامتناع الكذب عليها فيما ترويه، وبين من ليس كذلك، والمنافع الدنيوية من التجارات وضروب التصرفات مبنية على حصول هذا العلم فهو مستند الى العادة ويسير التأمل كاف في ذلك، فلا يجب في المقلدين والعامة ألا يعلموا مخبر هذه الاخبار، من حيث لم يكونوا أهل تحقيق وتدقيق لما ذكرناه .

و يقال لهم فيما تعلقوا به ثانياً : لا نسلم لكم ، ان حد العلم الضرورى هو ما يمتنع على العالم دفعه عن نفسه ، بل حده ما فعله فينا من هو أقدر منا، على وجه لا يمكننا دفعه عن انفسنا ، ولا ينبغى أن يجعلوا ما تفردوا به من الحد دليلا على موضع الخلاف .

ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثاً : ان العالم بالفرق بين صفة الجماعة التي لا يجوز عليها الكذب لامتناع التواطؤ عليها ، واستحالة الكذب منها ، كالملجأ عند كمال عقله . وحاجته الى التفتيش و التصرف الى العلم بذلك (۱) ، والدواعى اليه قوية ، والبواعث

____________________________________________

على علمنا بما ذكرنا من المتواترات مع انتفاء ذلك . وأيضاً لو كان نظرياً لساغ الخلاف فيه، ولوادعى ذلك مدع لم يعد بهتاً ومكابرة كغيره من النظريات ، واللازم منتف ضرورة (انتهى) وذلك لان من النظريات ما هو بين لا يجوز الخلاف فيه بين العقلاء المزاولين له كبعض الهندسيات .

(۱) قوله (الى العلم بذلك أي بمخبر هذه الاخبار ، وجعله اشارة الى الفرق بعيد .

[ الى هنا سقط من النسخة المطبوعة ]

٢٥٠

فعله متوفرة .

و قد حصل للعقلاء هذا العلم ، وهذا الفرق قبل أن يختص بعضهم بالاعتقاد الذى ذكروه انه صارف لهم ، فاذن لا يجب خلوا مخالفينا من هذه العلوم ، لاجل ما ادعى من الاعتقاد .

وقيل : أنه صارف ، لانا قد بينا انه غير ممتنع أن يكون العلم بما قلناه قد سبقه ، وتقدم عليه . ويلزم على هذا الوجه ، أن لا يكون أبو القاسم البلخي عالماً بأن المحدثات تفتقر الى محدث ، لانه يعتقد ان العلم بذلك ضرورى . واعتقاده ذلك صارف له عن النظر فيجب أن لا يكون (۱) عالماً بذلك ، و يجوز (۲) أن يكون غير عارف بالله تعالى وصفاته وأحواله . فأى شيء قالوه فيه ، قلنا مثله فيما تعلقوا به .

وفي الناس من قال : ان العلم الحاصل عند الاخبار ، متولد عنها ، وهو من فعل فاعل الاخبار .

والذي يدل على بطلان هذا المذهب انه لو كان العلم الحاصل

____________________________________________

(۱) قوله (فيجب أن يكون الخ) لانه نظري عندنا وعندكم، لتوقفه على ابطال الترجيح من غير مرجح المتوقف على نفي الأولوية الذاتية .

(۲) قوله (ويجوز) بصيغة المعلوم المجرد من جواز الشيء في الذهن الراجع الى تجويز الذهن اياه، وهو معطوف على (لا يكون) .

٢٥١

عند الاخبار متولداً ، لوجب ان يتولد عن خبر آخر المخبرين (۱) لان العلم عند ذلك يحصل ، فلو كان كذلك ، لوجب أن يكون لو اخبرنا (۲) ابتداءاً ، أن يحصل لنا العلم بخبره . لان خبره هو الموجب للعلم وكان يجب اذا أخبرنا عما يعلم باستدلال أيضاً ، أن يحصل لنا العلم به .

كما يحصل لنا العلم بما يعلم ضرورة ، لان خبره هو الموجب و اختلاف حاله في كونه عالما ضرورة واستدلالا ، لا يؤثر في ذلك . فاذا بطل ذلك ، ثبت ما قلناه .

فان قيل : اذا جوزتم حصول هذا العلم ضرورة فما شرائطه (۳) وهل هي التي راعاها البصريون أم لا ؟

قيل : الشرائط التي اعتبروها نحن نعتبرها ، و نعتبر شرطاً

____________________________________________

(۱) قوله (لوجب ان يتولد عن خبر آخر المخبرين) لانه لو تولد من المجموع، لكان فاعله مجموع المخبرين، وهو باطل. لانه لو أخبر المخبر الأول ومات ، ثم أخبر الباقون يحصل العلم مع أن الفاعل يجب وجوده في زمان حدوث الأثر بالاتفاق .

(۲) قوله (لوجب أن يكون لو أخبرنا الخ) هذا مبني على ما ذهبوا اليه، من أن شخص الفعل المولد ـ بالكسر لو وجد، وجد الفعل المولد ـ بالفتح ـ من غير توقف على شرط منتظر، أو معد خارج عن مشخصات المولد ـ بالكسر .

(۳) قوله ( فما شرائطه ) أي على تقدير كونه ضرورياً ، واما على تقدير كونه نظرياً، فشرائطه بعينها شرائط ما قطع على نظريته كما سيجيء .

٢٥٢

آخراً لا يعتبرونه . فالشرائط التي اعتبروها هي :

أن يكون المخبرون أكثر من أربعة، ولا يقطعون على عدد منهم دون عدد .

ومنها : أن يكونوا عالمين بما يخبرونه ضرورة .

ومنها : أن يكونوا ممن اذا وقع العلم بخبر عدد منهم، أن يقع العلم بكل عدد مثلهم .

وأما ما نختص به (۱) فهو أن نقول: لا يمتنع أن يكون من شرطه

____________________________________________

(۱) قوله ( وأما ما نختص به الخ ) هذا كسابقه انما هو شرط عند المصنف والسيد المرتضى رحمهما الله تعالى، لافادة العلم الضروري في الجملة، كما سيجيء، لا لافادته العلم مطلقاً كما توهم الشيخ حسن (۲) رحمه‌الله تعالى، في معالم الدين (۳) ، ونسبه الى السيد المرتضى أعلى درجته .

__________________

(۲) جمال الدين أبو منصور الحسن بن زين الدين بن على العاملي المتوفى سنة (۵۱۰۱۱). أمره في العلم والفقه والتبحر والتحقيق وحسن السليقة وجودة الفهم وجلالة القدر وكثرة المحاسن والكمالات أشهر من أن يذكر. صنف العديد من الكتب منها : معالم الدين وملاذ المجتهدين، وهو على قسمين قسم في الفقه، والآخر في اصول الفقه. وقد حظى قسم الاصول درجة رفيعة في هذا العلم، وكان موضع اهتمام العلماء والباحثين حتى اشتهر الكتاب بمعالم الاصول .

كان مولده الشريف في ۱۷ رمضان سنة (٩٥٩ه .) يجبع وتوفي رحمه‌الله تعالى بجمع أيضاً في مفتتح المحرم سنة (۱۰۱۱ه .) .

(۳) معالم الدين : ۱۸۵ المطلب السادس في الاخبار، الفصل الأول ( في أقسام الخبر)

٢٥٣

أن يكون من يسمع الخبر لا يكون قد سبق (۱) الى اعتقاد يخالف ما تضمنه الخبر بشبهة أو تقليد . ونحن ندل على وجوب جميع ذلك ان شاء الله تعالى .

انما قلنا : انه لابد أن يكونوا أكثر من أربعة ، لانه لو جاز أن يقع العلم بخبر أربعة ، لكان شهود الزنا اذا شهدوا بالزنا وهم أربعة كان يجب أن يحصل العلم للحاكم بصحة ما شهدوا به ، ان كانوا صادقين (۳) ومتى لم يحصل له العلم ، علم انهم كاذبون ، فكان يجب

____________________________________________

(۲) قوله (أن يكون من يسمع الخبر لا يكون قد سبق الخ) ينبغي أن يراجع الى ماذكره في حد الضروري، من أنه لا يمكن دفعه عن النفس بشك أو شبهة ويتأمل في الجمع بينهما، بأن يقال: المراد هنا اشتراط عدم امكان الدفع بشبهة في تجويز الضرورية، أو اشتراط عدم وقوع الشبهة، أو عدم امكانه كما يظهر من قوله بعد ذلك (وذلك انه يمكن أن يقال: ان المعلوم الخ) فانه لو اندفع بها، ظهرت نظريته فتأمل .

(۳) قوله (ان كانوا صادقين) أي ان وجد فيهم الشرط الثاني، وهو العلم الضروري، اذ المفروض وجود باقي الشروط. فالمراد بقوله (علم انهم كاذبون) انه علم انتفاء الشرط الثاني، ولا ينتقض هذا بالخمسة ، لجواز كون عدم العلم فيهم، لانتفاء العلم الضروري في واحد، فيبقى نصاب الشهادة سليماً .

ويتوجه عليه ان انتفاء الشرط الثاني، لا يوجب اقامة الحد في الاربعة أيضاً، لجواز انتفائه بانتفاء العلم الضروري عن واحد منهم، الا اذا ثبت انه يجب اقامة الحد في هذه الصورة أيضاً على المجموع، والأولى الاقتصار على

٢٥٤

ان برد شهادتهم ، ويقيم حد القذف عليهم ، وان كان ظاهرهم ظاهر العدالة مزكين . وقد أجمع المسلمون على خلاف ذلك

وليس لاحد (۱) أن يقول : انهم لا يأتون بلفظ الخبر ، فلذلك لا يقع العلم بشهادتهم ، لانه لا اعتبار عندنا بالالفاظ ، لانه لو أخبر المخبر بالعجمية أو النبطية ، لكان كاخباره بالعربية ، بل لو عرف قصد المشير ، لكان حاله حال المخبر في وجوب العلم عنده ، فما ذكروه لا يصح .

____________________________________________

رد الشهادة كما فعله المرتضى رحمه

(۱) قوله (وليس لاحد الخ) قال سيدنا المرتضى أعلى الله درجته في الذريعة ويمكن الطعن على هذه الطريقة ، بأن يقال: لفظ الشهادة وان كان خبراً في المعنى، فهو يخالف لفظ الخبر الذي ليس بشهادة، فألا جاز أن يجري الله تعالى العادة بفعل العلم الضروري عند الخبر الذي ليس فيه لفظ الشهادة، ولا يفعله عند لفظ الشهادة، وان كان لفظ الكل اخباراً، كما انه تعالى أجرى العادة عندهم، بأن يفعله عند خبر من أخبر عن مشاهدة، ولا يفعله عند خبر من أخبر عن علم استدلالي، وان كان الكل علوماً ويقيناً (انتهى) (٢) .

وحاصله منع انحصار الشروط فيما ذكر مع سند على تقدير الضرورية وما ذكره المصنف رحمه‌الله فى الجواب لو تم على تقدير الضرورية، لكان دفعاً للسند الاخص، وكذا في الثاني (٣) .

__________________

(٢) الذريعة: ٤٩٥ .

(۳) من هنا سقط من النسخة المطبوعة .

٢٥٥

و ليس لهم أيضاً أن يقولوا : ان الشهود يشهدون مجتمعين غير متفرقين، وكونهم كذلك يوجب أن يكونوا في حكم من تواطىء وعلى ما اخبر به ، ومن شرط من يقع العلم بخبرهم أن لا يتواطؤا ، فلذلك لا نعلم بشهادتهم ، وذلك ان هذا فاسد من وجهين :

أحدهما : انالو فرقنا (۱) الشهود وهو الافضل عندنا ، لما وقع العلم بخبرهم ، فكونهم مجتمعين ككونهم متفرقين في انتفاء العلم عند شهادتهم .

والوجه الآخر : انا لا نجعل (۲) من شرط من يقع العلم بخبره أن لا يتواطؤا ، فان ذلك انما يشترط في الخبر الذي يستدل على صحة مخبره دون ما يقع العلم عنده ضرورة ، ولا فرق فيما يخبرون به بين أن يكونوا مجتمعين ، أو متفرقين، أو متواطئين ، أو غير ذلك اذا علموا ما أخبروا به ضرورة في وجوب حصول العلم عند خبرهم.

ولولا هذا الدليل لما وقف على أربعة أيضاً فكان يجوز أن يحصل العلم عند كل عدد دون ذلك كما ، ان ما زاد على أربعة لم

____________________________________________

(۱) قوله (لوفرقنا الشهود الخ) تفريقهم في الاقامة بعد الاجتماع، لا ينافي مظنة التواطؤ بالكلية .

(۲) قوله (لا نجعل الخ) لأحد أن يمنع عدم اشراط عدم التواطؤ ، بل له أن يجوز اشتراط امتناع التواطؤ عادة . نعم لا يشترط العلم بعدم التواطؤ، أو بامتناع التواطؤ على تقدير الضرورية ، انما هو شرط على تقدير الكسبية .

٢٥٦

يقف على عدد دون عدد ، بل جوزنا أن يحصل العلم عند كل عدد زاد على الاربعة ، فنظير هذا أن نجوز حصول العلم عند كل عدد دون الاربعة، لانه ليس هاهنا دليل على وجوب مراعاة هذا العدد المدعاة فلما لم نقطع على عدد زاد على الاربعة، لفقد الدليل على ذلك، فكذلك هاهنا .

وقول من قال: انهم عشرون تعلقاً بقوله تعالى ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ ) (۱) وانه لما أوجب الجهاد عليهم، وجب أن يكونوا ممن اذا دعوا الى الدين علم ما دعوا اليه، لا يصح من وجهين :

أحدهما : ان البغية بالاية، التنبيه على وجوب ثبات الواحد للعشرة، لا ايجاب الجهاد على هذا العدد بل قد اتفقت الامة على وجوب الجهاد على الواحد اذا كان له غناً، ولم يوجب وقوع العلم بخبره .

والوجه الثاني : (۲) ان ما يدعون اليه من الدين معلوم باستدلال ونحن نبين ان ما يعلم بالدليل لا يقع العلم بخبرهم وان كثروا، ولابد من أن يكون عالمين به ضرورة .

____________________________________________

(۲) قوله (والوجه الثاني) هذا سند لمنع أن يكون وجوب الجهات عليهم لاجل كون عند خبرهم مفيداً للعلم ، فلا يضره ان بعض ما يدعونه اليه كصدور المعجزات عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ضروري .

__________________

(١) الانفال : ٦٥

٢٥٧

وأما من قال: انهم سبعون مثل عدد الذين أحضرهم موسى عليه‌السلام عند الميقات ، لانه انما أحضرهم ليقوم بخبرهم حجة على غيرهم، لا يصح أيضاً لاخر الوجهين الذين ذكر ناهما في الشبهة الاولى، ولانه لا يمنع أن يكون من دونهم بمنزلتهم، سيما وخبر موسى عليه‌السلام عن ربه كان يغنى عن خبرهم فاذا اجاز أن يختاروا مع خبره يغنى عن خبرهم، فيجب أن يكون اختيار السبعين وان وقع العلم بمن دونهم ، أولم يقع العلم بخبرهم أصلا كذلك ، فمن أين ان سبب اختيارهم كان ما ادعاه السائل .

فأما من اعتبر الثلاثمائة، لانهم العدد الذين جاهد بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة بدر (۱) فليس له تعلق بوقوع العلم بخبرهم، والكلام عليه يقارب الكلام على الوجهين الأولين .

وأما الشرط الثاني: وهو انه يجب أن يكونوا عالمين بما اخبروا به ضرورة. فانما اعتبرناه ، لان جماعة من المسلمين يخبرون الملحدة، بأن الله تعالى أحد، ويخبرون اليهود والنصارى بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله، فلا يحصل لهم العلم بصحة ذلك، ويخبر

__________________

(۱) بدر : ماء مشهور بين مكة والمدينة ، أسفل وادى الصفراء بينه وبين الجار ، وهو ساحل البحر ليلة، وبهذا الماء كانت الوقعة المشهورة التي أظهر الله بها الاسلام ، وفرق بين الحق والباطل ، فكانت وقعة بدر يوم الجمعة . صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية .

٢٥٨

بعضهم عن البلدان وما اشبهها، فيحصل العلم بخبرهم .

والعلة في ذلك على التقريب (۱) ان العلم الضروري لو وقع بذلك، لادى الى أن يكون حال المخبر (۲) أقوى من حال المخبر (۳) وهذا لا يجوز (٤) واذا لم يقع العلم بخبر من يعلم ما اخبر عنه باكتساب فبان لا يقع بخبر من لا يعلم المخبر عنه أصلا، من المقلدين والمبختين أولى وأحرى .

وأما الشرط الثالث: وهو ان كل عدد وقع العلم عند خبرهم، فيجب أن تطرد العادة فيه، فيقع العلم عند كل عدد مثله اذا ساووهم في الاخبار بما علموه ضرورة .

____________________________________________

(۱) قوله ( على التقريب ) أي بحيث يقرب الى الفهم بدون تكثير المقدمات

(۲) قوله (حال المخبر ) على لفظ اسم المفعول ، أي السامع .

(۳) قوله (من حال المخبر على لفظ اسم الفاعل ، أي المتكلم (٥) .

(٤) قوله (وهذا لا يجوز) لان الكلام في علم أقل عدد التواتر ، ويفرض التساوي في جميع ماعدا كون أحدهما مخبراً ، والآخر مخبراً ، كما في المخبر الاخير اذا سمع الاخبار المتقدمة ، و هذا يدل على اشتراط العلم مطلقاً في الخبر الذي يعلم مخبره استدلالا ، وانما لم يذكره فيه للزومه لما ذكر فيه فبطل ما قيل : من ان شرط كونهم عالمين ، باطل ان اريد وجوب علم الكل به لانه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين مقلداً فيه ، أو ظاناً أو مجازفاً .

__________________

(٥) الى هنا سقط من النسخة المطبوعة .

٢٥٩

وانما قلنا ذلك، لانا لو جوزنا خلاف ذلك لم نأمن أن يكون في الناس (۱) من تخبره الجماعة الكثيرة ولا يعلم بخبرها، وهذا يوجب

____________________________________________

(۱) قوله (لم نأمن أن يكون في الناس الخ) هذا على تقدير تمام أدلة من ذهب الى ضرورية العلم ، فلا يرد عليه ان من النظريات ما لا نجوز الخلاف فيه بين العقلاء ، لكن يرد عليه أن هذا يدل على ان بعض الاعداد التي وقع عند خبرهم العلم تطرد العادة فيه ، فيقع العلم الضروري بكل عدد مثله، وهو العدد الذي يحصل خبرهم لكل من كان في الناس بوجود مكة مثلا ، أو الجانب الغربي ، ولا يدل على أن كل عدد يفيد العلم في شخص ، أو واقعة ، وان كان أقل من مخبري مثل مكة تطرد فيه العادة في كل شخص ، وكل واقعة .

نعم اختلاف الاعداد والوقائع باعتبار القرائن ، انما يتأتى على تقدير الكسبية ، لا على تقدير الضرورية، فبطل ما قيل على تقدير الضرورية ، من انه يختلف بالقرائن التي تتفق في التعريف غير زائدة على المحتاج اليها في ذلك عادة من الجزم ، و تفرس آثار الصدق ، و باختلاف اطلاع المخبرين على مثلها عادة ، كد خاليل الملك بأحواله الباطلة وباختلاف ادراك المستمعين وفطنتهم ، وباختلاف الوقائع وتفاوت كل واحد منهما يوجب العلم بخبر عدد أكثر أو أقل لا يمكن ضبطه ، فكيف اذا تركبت الاسباب (انتهى) .

وأما اختلافها لا باعتبار القرائن، بل بحسب ما يعلمه الله تعالى من المصلحة فلا دليل على نفيه ، كما يدل عليه ظاهر قوله (انما قلنا انه لا يمتنع الخ) اللهم الا ان يقال : المراد الاطراد مع استجماع الشرائط فيما هي شرايط فيه، وحاصله عدم الاختلاف بالقرائن .

٢٦٠