عدّة الأصول

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

عدّة الأصول

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


المحقق: محمد مهدي نجف
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

الدليل الكائن على وجه الدلالة بالعادة ، وهو أشد انطباقاً بما نحن فيه .

لا يقال : هذا الاستدلال صورته صورة الدوران وهو يفيد الظن

لانا نقول : الدوران وجود شيء مع شيء في صورة ، وانتفاؤه مع انتفائه فيها ، ولا يعتبر فيه الضرورة الكلية ، لا العادية ، ولا العقلية ، ولا القدر المشترك بينهما .

فان قلت : الضمير المرفوع في (يكثر ويقل) اما راجع الى شخص العلم الكسبي ، أو الى نوعه ، أو الى العلم مطلقاً ، كما هو ظاهر العبارة لاسبيل الى الأول ، لانه لا يجري في الشخص كثرة ولا قلة . فما قاله بعض في حد النظر بما يتوقف على النظر، من أن المراد توقف شخص العلم لا يجري هنا، ولورجع الى النوع أو الى العلم مطلقاً لتوجه المنع على قوله (ويقل بقلته) لجواز حصول العلم الكسبي بدون نظر .

كما اذا علم أحد كون زيد في الدار بالاستدلال ، وعلمه آخر بالمشاهدة واثبات الاختلاف النوعي بين العلم بشيء اذا حصل ضرورة ، والعلم به اذا حصل كسباً ، دونه خرط القتاد . وأيضاً كون العلم يقل بقلة النظر لغو في الاستدلال لانه يكفي في اثبات الايجاب كونه يكثر بكثرته لان اللازم أعم من الاعم و المساوي .

قلنا : الضمير راجع الى العلم الكسبي ، أي العلم الذي هو من فعلنا ، سواء كان نوعاً من العلم أو صنفاً . والمقصود هنا اثبات انه ليس صادراً عنا بلا فعل موجب له ، وانما احتاج الى زيادة ، ويقل بقلته لدفع حكم الوهم بكون عدم الانفاك المفهوم من قوله (يكثر) اتفاقياً لا عقلياً كما مر الاشارة اليه .

فان قيل : لا نسلم كثرة العلم بكثرة النظر لانه يشترط في افادة النظر الصحيح

١٠١

العلم ، شروط غير لازمة للمنظر الصحيح . قال المحقق الطوسي (۱) في التجريد : و حصول العلم عن الصحيح واجب ولاحاجة الى المعلم . نعم لا بد من الجزء الصوري ، وشرطه عدم الغاية وضدها وحضورها (انتهى) (۲) .

وجعل بعضهم ضمير شرطه راجعاً إلى حصول العلم لا الى الصحيح كما ذهب اليه الشارح الجديد للتجريد (٣) .

قلت : ضمير شرطه راجع الى الجزء الصوري ، كما يدل عليه الاستدراك في (نعم) والمراد بالجزء الصوري فصل النظر . فان حد النظر ، الحركة الذهنية بقصد تحصيل مجهول . فالحركة الذهنية جنس له ، بمنزلة الجزء المادي ، وبقصد تحصيل مجهول ، فصل له بمنزلة الجزء الصوري .

والحاصل ان النظر ، مجموع الحركة الذهنية ، والقصد بها الى تحصيل المجهول ، ومعلوم اشتراط الامور الثلاثة فيه . فالمعنى ان حصول العلم عن النظر الصحيح واجب ، أي ليس له شرط غير لازم للنظر الصحيح، فان الشرط اللازم لا ينافي وجوب العلم عنه ، نعم يشترط في حصول النظر نفسه امور باعتبار جزئه الصوري . وانما ذكر هذه الشروط مع ان الحصول النظر في نفسه شروطاً غير ذلك ، كالعقل والعلم بالضروريات الأولية لان هذه الثلاثة مما كثر التوهم

__________________

(۱) سلطان العلماء والمحققين ، الخواجة نصير الدين ، محمد بن محمد بن الحسن الطوسى الجهرودى كان فاضلا ، محققاً ، عالماً وصنف كتباً و رسائل نافعة نفيسة في فنون من العلم .

كان مولده الشريف بطوس في الحادي عشر من جمادى الاولى من السنة السابعة والتسعين بعد الخمسمائه . وتوفي رحمه‌الله تعالى في يوم الغدير من السنة الثانية والسبعين بعد الستمائه ، ودفن بجوار الأمامين الكاظم والجواد عليهما‌السلام .

(۲) تجريد العقائد البحث في الكيفيات النفسانية) .

(۳) هو القوشجي المتقدم ذكره في ص ۷۲ من هذا الكتاب .

١٠٢

ولانه يقع العلم عنده مطابقاً لما يطلبه بالدليل (۱) .

ألا ترى ان من نظر في صحة الفعل من زيد ، لا يصح أن يقع له العلم بان عمرواً قادر ، وكذلك من نظر في أحكام الفعل ، لا يصح أن يقع له العلم بالهندسة وغيرها . فعلم بوجوب هذه المطابقة انه متولد عن النظر.

____________________________________________

في كونها شروطاً للافادة ، لا للنظر نفسه . ولا ينافي ذلك ما ذكره المصنف بقوله ( وهذه العلوم التي ذكرناها شرط في توليد النظر للعلم لا في صحة وجوده الخ) لان المراد انها ليست شروطاً لوجود النظر مطلقاً ولا ينافي ذلك كونها شروطاً لوجود النظر الصحيح في نفسه .

(۱) قوله (ولانه يقع العلم عنده مطابقاً لما يطلبه بالدليل) المطلوب بالدليل هو الواقع من طرفي النقيض في قضية بدون العلم بخصوصه، والدليل يوجب علماً متعلقاً به بخصوصه .

والمراد بـ (المطابقة) المطابقة باعتبار الموضوع والمحمول الذين بينهما النسبة الحكمية ، دون كيفية النسبة الحكمية ، من الايجاب الواقع أو السلب الواقع ، فان المطابقة للواقع من لوازم العلم ولا دخل لها في هذا الاستدلال وعدم المطابقة في العلم بأن عمراً قادراً باعتبار الموضوع وفي العلم بالهندسة باعتبار المحمول ان اريد به العلم بهندسة زيد أي مقداره في النظر في احكام الفعل بكسر الهمزة أي احكام فعل زيد . والهندسة في اللغة : معرب (أندازة) (۲)

__________________

(۲) قال في القاموس : الهندسة مشتق من الهنداز معرب (آب انداز) فابدلت الزاى لانه ليس لهم دال بعده زاى ، باب السين فصل الهاء) .

١٠٣

والنظر لا يولد الجهل (۱)

____________________________________________

ولو اريد بالهندسة مسائل علم الهندسة كان عدم المطابقة باعتبار الموضوع و المحمول معاد .

حاصل الدليل انه لو كان حصول العلم عقيب النظر الجامع للشروط اتفاقياً بدون ايجاب ، لكان نسبة النظر الى جميع العلوم على السوية ، فيستحيل أن يكون مطابقاً لما يطلبه دائماً . وهذا نظير الاستدلال بمطابقة كلام زيد للغة العرب في كل ما يتكلم به ، في بيان أغراضه على أنه عارف باللغة العربية ، بناء على استحالة أن يكون الاتفاقى بهذا الاستمرار والمطابقة الا ولم يبق فرق بين الواجب والاتفاقي أصلا كما في تقرير الدليل الأول .

لا يقال : لوتم هذا الدليل لكانت الامارة موجبة للظن، لان الظن الحاصل بها لا يكون الا مطابقاً .

لانا نقول : المراد بقوله (يقع) انه يقع دائماً ، فلا يستدل بمحض المطابقة بل بدوامه مع المطابقة .

أو نقول : تقرير الدليل هكذا ، لو كان العلم عقيب النظر اتفاقياً وبدون ايجاب ، لكان اما لعدم المقتضي ، أو لوجود المانع . والثاني باطل ، اذ لا يتصور مانع الا المعارض ، وهو محال . لان تعارض الدليلين محال، والامارة تضمحل بمعارضة الدليل ، وكذا الأول لاستحالة المطابقة كما مر . وفيه انا لا نسلم انحصار المانع فيما يعارض الدليل ، فان مانع العلم أعم من مانع المعلوم .

(۱) قوله (والنظر لا يولد الجهل) أي ليس شيء من النظر موجباً عقلا للجهل المركب بشيء من حيث أنه نظر، أي بدون أن ينضم اليه شيء خارج

١٠٤

عن حقيقة النظر ليس من جنس النظر ولا لازماً لما هو من جنس النظر كالاعتقاد الباطل ونحو ذلك .

واعلم ان الذين قالوا : النظر الصحيح يستلزم العلم ، قد اختلفوا في النظر الفاسد هل يستلزم الجهل ؟ على مذاهب ثلاثة :

أحدها : واختاره الفخر الرازي ، انه يستلزمه مطلقاً، سواء كان فساده من جهة المادة ، أو من جهة الصورة . لان من اعتقد ان العالم قديم ، وكل قديم غني عن العلة ، امتنع أن لا يعتقد ان العالم غني عن العلة ضرورة وهو جهل و مراده تحقق الاستلزام في القسمين في الجملة ، لان كل نظر فاسد يستلزمه بقرينة دعواه الجزئية ، في استلزام النظر الصحيح للعلم ، وقد مرما فيه .

وقال شارح المواقف (۱) : قد يقال ان دليله هذا يرشد الى ان المختار عنده هو المذهب الثالث ، أعني التفصيل . كيف والقول بأن الفاسد من جهة الصورة يستلزمه ظاهر البطلان (۲) .

وقال شارح المقاصد (۳) : التحقيق أنه لا نزاع ، لان الفاسد صورة لا يستلزم بالاتفاق ، والفاسد مادة فقط ، قد يستلزم وقد لا يستلزم (انتهى) (۴) .

وأنت خبير بعد ما حررناه بفساد دليله ، ان أراد ايجاب النظر من حيث أنه نظر . وصحته ان أراد الاستلزام في الجملة ، وبانه لافرق بين فساد المادة، و

__________________

(١) أبو الحسن ، علی بن محمد بن على الجرجاني الحنفى الشهير بالسيد الشريف. ولد بجرجان سنة ٧٤٠ هـ . وتوفى بشیر از سنة ٨١٦ هـ .

(۲) شرح المواقف (المرصد الثالث في أقسام العلم ، المقصد الثامن) .

(۳) المقاصد في علم الكلام : للعلامة سعد الدين ، مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة (۷۹۱هـ) وقد شرحه بنفسه .

(٤) شرح المقاصد الفصل الثالث (بحث التفطن) .

١٠٥

فساد الصورة ، فانه قد تكون المادة صحيحة ، والصورة من الضروب الغير المنتجة للمطلوب مع الاعتقاد جهلا بأنه منتج له .

ألا يرى الى ان شارح المواقف توهم في حاشية المطالع (۱) تبعاً لظاهر عبارة شرح المطالع ، في بحث تقسيم اللازم الخارج عن الماهية، بانه اما بوسط أو غيره ، ان الاكبر لو كان ذاتياً للوسط ، والوسط عرضاً مفارقاً شاملا للاصغر في الشكل الاول ، كانت النتيجة ضرورية . لان القياس من الصغرى المطلقة ، و الكبرى الضرورية في الشكل الاول ، ينتج الضرورية وهو ظاهر البطلان . لان الأكبر لو كان ذاتياً ، والوسط عرضاً مفارقاً عن الاصغر ، كانت الكبرى مشروطة عامة مؤلفة مع صغرى مطلقة ، وهما لا ينتجان ضرورية ، بل النتيجة هي المطلقة لو أراد كون الاكبر ذاتياً لافراد الوسط ، لا كونه ذاتياً لمفهومه فقط لخرج عن المبحث الذي هو فيه من تقسيم اللازم الخارج عن الماهية .

فاعتقاد من يعتقد الضرورية في النتيجة جهلا لفساد الصورة فقط ، وان كان توهم محشي المطالع الفساد المادة ، وهي صغرى القياس المشار اليه بقوله (لان القياس من الصغرى المطلقة الخ) .

ثم الفرق فيه بين الدليل على اصطلاح من جعل المفرد دليلا كالاصولين و اصطلاح من يجعل القول المؤلف من القضايا دليلا كالمنطقيين، وجعل النظر في الدليل المفرد من وجه دلالته مستلزماً للعلم ، وفي الشبهة المفردة غير مستلزم للجهل أصلا . وجعل المؤلف سواء كان شبهة أو دليلا مستلزماً للاعتقاد بالنتيجة كما توهمه شارح المواقف باطل .

__________________

(۱) هي حاشية لوامع الاسرار لمؤلفه قطب الدين الرازي التحتاني المتوفى سنة ٧٦٦ هـ . على مطالع الانوار للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الارموى المتوفى سنة ٦٨٢ هـ

١٠٦

على وجه لانه لو ولده لم يخل أن يكون (۱) النظر في الدليل يولده (۲) أو النظر في الشبهة.

__________________

لان النظر فى الشبهة المفردة والمؤلفة من حيث انها شبهة ، يوجب الجهل و استلزام الدليل المفرد للمدلول عليه غير استلزام النظر فيه ، للعلم به كما مر فلا يصلح للفرق .

ويظهر بما حررنا انه لا فرق بين المفرد والمركب في الدليل والشبهة. فان النظر في الدليل المفرد والمركب يستلزم العلم كمامر. والنظر في الشبهة المفردة ، والمركبة يستلزم الجهل .

وثانيها : انه لا يستلزمه مطلقاً ، وهو المختار عند الجمهور ، وقد مر ما يكفي في ابطاله .

وثالثها : ان الفساد ان كان في المادة استلزمه ، والمقصود الجزئية كمامر والا فلا . اذ الضروب الغير المنتجة لا يستلزم اعتقاداً أصلا ، لاخطأ ولا صواباً وفيه ما مر .

فان قيل : النظر في الضروب الغير المنتجة لا يستلزم الخطأ بذاته ، بل بما يقارنها من اعتقاد الانتاج .

قلت : فحينئذ لا فرق بين المادة والصورة كما مر .

(۱) قوله (لم يخل الخ) الحصر مبني على أن المراد في الشق الثاني النظر فيما عدا الدليل ، على الوجه الذي يدل ، وانما سماه شبهة لان افضاءه الى الجهل انما يكون لاشتباهه بالدليل عليه ، في ذهن من يقضيه اليه .

(۲) قوله (النظر في الدليل يولده) أي النظر في الدليل من الوجه الذي يدل كما مر بيانه .

١٠٧

ولا يجوز أن يولد النظر فى الدليل الجهل ، لانا قد بينا ان النظر في الدليل يولد العلم ، ولا يجوز في شيء أن يولد الشيء و ضده . ولو ولد النظر في الشبهة الجهل لكان يجب ان كل من نظر فيها أن يولد له الجهل (۱) . كما ان كل من نظر في الدليل ولد له

____________________________________________

(۱) قوله (لكان يجب ان كل من نظر فيها أن يولده الخ) أي على أن يولد أو حاله أن يولد قال في المواقف : لوصح هذا لم يكن النظر الصحيح مفيداً للعلم ، والا لكان نظر المبطل في حجة المحق يفيده العلم .

فان قلت : شرط افادة العلم اعتقاد المقدمات ، والمبطل لا يعتقدها .

قلنا : هو مشترك ، اذ شرط افادته للجهل اعتقادها (انتهى) (۲) .

وأنت بما حررنا به محل النزاع عالم ببطلانه . قال المصنف في الاقتصاد: فان قيل : لوولد النظر العلم ، لولده لمخالفيكم مع انهم ينظرون كنظر كم .

قلنا : لو نظروا كنظرنا ، لولد لهم العلم ، كما ولد لنا . فاذا لم يحصل لهم العلم ، علمنا انهم اخلوا بشرط من شرائطه . ومتى فرضنا انهم لم يخلو بشيء من ذلك ، فهم عالمون الا أنهم مكابرون (انتهى) (۳) .

ومراده بقوله لو نظر و اكنظرنا أن لا يزيدوا على النظر ، الاماهو من جنس . النظر والحركة الذهنية، الى أن يبلغوا جميع المواد الضرورية الأولية للمطلوب، ويرجعوا منها الى المطلوب رجوعاً مخصوصاً كما مر تفصيله .

ويندفع ما اعترض الفخر الرازي على هذا الدليل، بان عدم حصول الجهل

__________________

(۲) شرح المواقف (المرصد الثالث في اقسام العلم ، المقصد الثامن)

(۳) الاقتصاد ٩٥ ـ ٩٦ .

١٠٨

العلم ، ونحن نعلم انا ننظر في شبة المخالفين فلا يتولد لنا الجهل، ولانه لو كان شيء من النظر يولد الجهل ، لادى الى قبح كل نظر (۱) لان الانسان لا يفرق بين النظر الذي يولد العلم ، والنظر الذي يولد الجهل ، ولا بين الدليل والشبهة .

وانما يعلم كون الدليل دليلا اذا حصل له العلم (۲) بالمدلول. فاما قبل حصوله ، فلا يعلمه دليلا .

وما أدى الى قبح كل نظر ينبغى أن يحكم بفساده ، لانا نعلم

____________________________________________

للمحق الناظر في شبهة المبطل ، يجوز أن يكون بناء على عدم اطلاعه على ما فيها من جهة الاستلزام ، أو عدم اعتقاد حقيقة المقدمات ، كما ان نظر المبطل في دليل المحق لا يستلزم العلم لذلك

(۱) قوله (ولانه لو كان شيء من النظر يولد الجهل الخ) قد ظهر بما حررنابه المتنازع فيه ، ان النظر لو كان مولداً للجهل لم يكن ذلك لاعتقاد فاسد ،لافي المادة، ولافي الصورة ، بل للحركة الذهنية من حيث أنها حركة ذهنية . أي بدون انضمام ماليس بحركة ذهنية اليه . ومعلوم ان الحركة لو كانت قبيحة بما هي حركة مخصوصة ، ولا نعلم الخصوصية قبل انتهائها كانت كل حركة قبيحة .

(۲) قوله (اذا حصل له العلم أي في زمان حصوله أو بعده .

فان قيل : العلم بالدليل مقدم على العلم بالمدلول زماناً .

قلت : المقدم زماناً هو العلم بذات الدليل لانه قبل الترتيب الذي يتوقف عليه العلم بالمدلول زماناً ، والترتيب قبل العلم بالمطلوب زماناً . وأما وصف كونه دليلا فهواما بعد العلم بالمطلوب زماناً أو معه .

١٠٩

ضرورة حسن نظر كثير (۱) من أمر الدين والدنيا معاً.

والنظر الذي ذكرناه (۲) لا يصح الا من كامل العقل (۳) فلابد

____________________________________________

(۱) قوله (حسن نظر كثير ) فيه اشارة بالمفهوم الى قبح بعض الانظار المعلومة خصوصيتها قبل انتهائها كالنظر فيما لا ينفع في الدنيا والدين ، أو ينفع مع ترك الاحوج الانفع .

(۲) قوله (والنظر الذي ذكرناه أي الحركة الذهنية المخصوصة بقصد تحصيل مجهول ، التي تولد العلم . ويمكن أن يراد جنس النظر .

(۳) قوله (لا يصح الامن كامل العقل) أي لا يتحقق ولا يصدر الأمن كامل العقل ويمكن أن يراد انه لا يخلو عن الفساد الامن كامل العقل .

المرادبـ ( كامل العقل) العاقل، وهذا اشارة الى رد ما ذهب اليه ابن سینا (۴) واتباعه من انه يشترط في افادة النظر في الدليل من الوجه الذي يدل تفطن الاندراج ، أي اندراج الاصغر تحت الأوسط حين الحكم في الكبرى . فان المتناهي في البلادة قد يرتب المقدمتين البديهيتين الأوليتين على هيأة الشكل الأول ، بقصد تحصيل مجهول ، ولا يحصل له العلم بالمطلوب فلا يكون النظر مولداً للعلم ، لاحتياجه في حصول العلم عقيبة الى انضمام ماليس بنظر اليه . ووجه الرد ان النظر لا يمكن وجوده من غير العاقل والعاقل لا يكون الامتفطناً

__________________

(٤) أبو على ، الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري ، الملقب بالشيخ الرئيس . كان أبوه من بلخ في شمال افغانستان وسكن مملكة بخاري في زمن نوح بن منصور من الدولة السامانية فولد ولده بها سنة ٣٧٠ هـ . كان يفتى في بخاري على مذهب أبي حنيفة وهو في سن الثانية عشر وصنف القانون وهو ابن ست عشر سنة .

توفى رحمه‌الله تعالى بهمدان سنة ٤٢٨ هـ . وخلف مجموعة من آثاره المهمة في مختلف الفنون .

١١٠

أن نبين ماهية العقل (۱) ، والعقل هو مجموع علوم اذا حصلت كان الانسان عاقلا (۲) مثل أن يجب أن يعلم المدركات اذا أدركها .

____________________________________________

للاندراج .

فقولكم : ( ان المتناهي في البلادة قدير تب الخ ) باطل فان كل من يرتب كذلك يعلم المطلوب لانه عاقل ، وكل من لا يعلم لا يقدر أن يرتب كذلك ، لانه غير عاقل. فتفطن الاندراج شرط لوجود النظر أولازم لوجوده، لانه شرط لافادته العلم بعد وجوده. وكذا الكلام لو جعل العلم بالضروريات الأولية شرط الافادة النظر العلم .

(۱) قوله (فلا بد أن نبين الخ) ذلك ليتضح أنه لا يمكن صدور النظر المذكور الأمن العاقل .

(۲) قوله (والعقل هو مجموع علوم اذا حصلت كان الانسان عاقلا) العقل يطلق بالاشتراك على معان منها : ما هو مناط التكاليف الشرعية والعقلية ويفسر بغريزة يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات . وهذا غير مانع ، لان المجنون ليس جهله الالعدم سلامة الآلة .

وأيضاً معرفة الضروري والنظري قبل معرفة العقل مما يتعسر أو يتعذر وقريب منه تفسيره بالوصف الذي يفارق به الانسان ساير البهائم، أو غريزة يتهيأ بها درك العلوم النظرية ، لانه يرد على الأول الأول ، وعلى الثاني الثاني .

فالاولى أن يفسر بغريزة يكشف عنها مجموع علوم ذكرها المصنف . و ضابطها العلم بنحو قولنا : الموجود اما قديم أو حادث ، أي بعد التوجه اليه والعلم بنحو قولنا : هذا الثوب أبيض مع ارتفاع اللبس كالبعد المفرط ، و الرمد . والعلم بنحو وجود مكة بعد تواتره اليه . وهذا يستلزم العلم بقسمي

١١١

الضروريات وبالنظريات التي تجري مجراها .

ولو اكتفي بواحد من الثلاثة لكفى ، لانها متلازمة . هذا ولكن ظاهر الاقتصاد عدم التلازم حيث قال (واذا حصل بعضها أو لم يحصل شيء أصلا لم يكن عاقلا) .

وقد أشار المصنف الى أن هذه العلوم ليست نفس العقل بل هي كاشفة عن الغريزة التي لا يمكن حدها الا بها بقوله (اذا حصلت كان الانسان عاقلا) فانه لولا أن المراد ما ذكرنا لكان ذكره لغواً ومشتملا على الدور .

ولو رد عليه أيضاً ، ان الغافل عن العلوم والنائم يسميان عاقلين مع فقد العلوم المذكورة ، ويظهر بذلك ان كون العلوم الضرورية نفسها أحمد معاني العقل ، كما توهم الغزالي (۱) في الاحياء باطل .

ومنها : كون الشخص مستفيداً لعلوم تستفاد من التجارب بمجاري الاحوال فان من حكمته التجارب ، وهذبته المذاهب ، يقال أنه عاقل في العادة ، ومن لا يتصف به يقال انه غبي ، غمر ، جاهل .

ومنها : النفس الناطقة باعتبار مراتبها الاربع في استكمالها بزعم الفلاسفة وموافقيهم ، وتطلق على نفس تلك المراتب ، وعلى قواها في تلك المراتب.

ومنها : ملكة أعمال العقل ، الذي هنا مناط التكليف ، فيما خلق لاجله ، كما روي عن أبي عبد الله الا انه قال : (العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان) (۲) وعليه اطلاقات الكتاب والسنة في نحو قوله تعالى نقلا عن الكفار :

__________________

(١) أبو حامد ، محمد بن محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسى الشافعي المولود سنة ( ٤٥٠ هـ .) والمتوفى سنة (٥٠٥ هـ .) .

(٢) الکافی ١ : ١١ حدیث ٣ .

١١٢

وارتفع عنها اللبس ، وأن يعلم أن الموجود لا يخلو من قدم أو حدوث، وان المعلوم لا يخلو (۱) من وجود أو عدم ، ويعلم وجوب كثير من الواجبات (۲) وحسن كثير من المحسنات ، مثل وجوب رد الوديعة، وشكر النعمة، وحسن الاحسان .

____________________________________________

( لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) (۳) وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) (۴) .

(۱) قوله (وان المعلوم لا يخلو) لا ينا في ذلك ذهاب بعض العقلاء الى الواسطة لانهم خصصوا المعدوم بما هو أخص من نقيض الموجود .

(۲) قوله (ويعلم وجوب كثير من الواجبات) أي وجوبها العقلي الواصلي وكذا المراد بحسن كثير من المحسنات ، وبقبح كثير من المقبحات ، والضابط لهذا الكثير ما كان وجه وجوبه أو حسنه أو قبحه فيه لا يتعداه الى غيره ، بأن يكون لطفاً فيه ، وسيجيء بيانه في (فصل في ذكر ما يصح معنى النسخ فيه) وفي (فصل في ان العبادة لم ترد بوجوب العمل بالقياس) وفي آخر فصول الكتاب .

ولا ينافي ذلك انكار بعض العقلاء قاعدة التحسين والتقبيح العقليين (اما أولا) فلانه محض اتباع هوى المعارضة وهمية ناشئة عن أمرين :

الأول : شبهة لا يقدرون على دفعها ، وقد بينا الحق في دفعها ، في المقدمة الثانية ، من مقدمات بيان الحاجة .

الثاني : حبهم حوالة ذنوبهم على الغير .

( و اما ثانياً ) فلان بعضهم أقروا باستحقاق الذم على الترك ، وانكروا استحقاق

__________________

(۳) الملك : ١٠

(٤) الحجرات : ٤ .

١١٣

ويعلم قبح كثير من المقبحات مثل: الظلم المحض، والكذب العارى من نفع، ودفع ضرر، وغير ما عددناه (۱) ويعلم تعلق الفعل بالفاعل (۲)، وقصد المخاطبين (۳) .

____________________________________________

العقاب وتوهموا اشتمال القاعدة عليه .

وبعضهم أقروا باستحقاق الذم على الترك ، وانكرواكونه نفس الفعل بدون ملاحظة العادات والشرايع . ومقصود المصنف أصل استحقاق الذم على الترك ولم ينكره أحد . واحترز بقوله ( كثير ) عن الواجبات الشرعية والتجربية والعادية فان العلم بوجوبها لا يلزم العقل المبحوث عنه هنا .

(۱) قوله (وغير ما عددناه) أي من المحسنات والمقبحات الداخلة في ضابطة (الكثير) المذكورة .

(۲) قوله (و يعلم تعلق الفعل بالفاعل) أي كون حادث له محدث ، اما بلا واسطة أو بواسطة ما هو موجب ، فلا ينافي هذا ذهاب بعض العقلاء الى كون الافعال المولدة حوادث ، لا محدث لها ، كثمامة بن أشرس (۴) .

(۳) قوله (وقصد المخاطبين) بكسر الطاء أي المتكلمين . والمراد العلم بالمتداول من اللغة التي فشابين أهلها ، ويمكن أن يدخل فيه العلم بعدم حمل اللفظ على محض منطوقه فيما يعلم بمجرى العادة الى القصد ، الى زائد مع معاشرة أهل العرف والعادة ، كأن يقول السيد لعبده المعاشر للناس : ارفع

__________________

(٤) قال ابن النديم في الفهرست ۲۰۷ : هو أبو بشر ثمامة بن أشرس النميري من بني نمير صليبة من جلة المتكلمين من المعتزلة ، كاتب بليغ ، بلغ من المأمون منزلة جليلة ، وأراده على الوزارة فامتنع . وكناه ابن حجر في لسان الميزان ۲ : ۸۳ بأبي

١١٤

هذا الكوز من عندي ، فيرفعه ثم يضعه في موضعه الأول ، ويعتل بانك ما أمرتني الا بالرفع وأنا رفعته .

فان قيل : بعض العقلاء يفعلون مثل ذلك كما في الحيل التي يتخلص بها المشتاق الى اقراض الربا واقراضه ، والمشتاق الى منع الخمس والزكاة عن ظاهرها ، كأن يباع ما يعلم البائع والمشتري انه لا يسوى الابدرهم بالف دينار بملاحظة ما يقرضه البائع، أو يقصد انه يحسب الألف دينار من الخمس والزكاة وانه ليس الالتغيير الصورة لا الحقيقية .

قلنا : بعض من يفعل ذلك ، لم يباشر أهل العرف بقدر ما يعلم به ذلك ، وبعضهم يعملون ويفعلون بمققضى هواهم . قال تعالى في سورة يونس: ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) (۱).

عبر عن ارسال الكتبة لاعمالهم، أو عن خذلانهم باعطائهم المال ، مع علمه تعالى بانه يفضي الى مكرهم بالمكر ، ومن عجيب مكرهم في آيات الله تعالى ما مكروا في آية سورة البقرة : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (۲).

فان هذه الآية تسمى في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام بينة كما في الكافي في كتاب الايمان والكفر ، في الثالث ، والثامن ، والعاشر من كتاب الكبائر، وفي کتاب المعيشه في الأول من باب السحت فانهم عليهم‌السلام عدوا في تلك الاحاديث

__________________

(۱) یونس : ۲۱

(٢) البقرة : ٢٧٥

١١٥

من الكبائر الربا بعد البينة ، ووجه التسمية انها موعظه صريحة الدلالة على تحريم البيع المشتمل على هذه الحيل ، باعتبار أن المراد بالقيام في قوله : « لا يقومون » القيام بالحجة والعذر في استحلال البيع المشتمل على الحيلة ، للتخلص عن الربا .

و المراد بـ « الذي يتخبطه الشيطان من المس » من يشرب الخمر ويسكر بحيث كلما قام سقط ، و (من) للسببيه والظرف متعلق بـ (يتخبطه) و (المس) كناية عن الجماع وذلك اشارة الى التشبيه في السقوط و ( اللام ) في البيع للعهد الخارجي ، وهو الذي شاع وذاع بين آكلي الربا من البيع المشتمل على الحيلة .

والمراد بـ (مثل الربا) انه ليس ربا ، بل هو شبه الربا ، بقرينة زيادة لفظة (أنما) وبقرينة أنه لم يقل ان الربا مثل البيع وقوله (  وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) (۱) عطف على الاقرب ، وهو قوله ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) (۲) فهو تتمة كلام آكلي الربا .

ومرادهم ان الله أحل أحد المثلين وحرم الآخر ، ومع ذلك أهل المكر قالوا في تأويل هذه الآية اموراً عجيبة خارجة عن سياق هذه الآية وعن قواعد العربية منها : انهم جعلوا قوله ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) (۳) من قول الله تعالی رداً على قول آكلي الربا . اما عطفاً على (قالوا) واما حالا عن ضميره ، واما نحو ذلك .

وقالوا : انه لم يقل انما الربا مثل البيع ، لارادة المبالغة في استحلالهم الربا وهذا عجيب مبني على الغفلة ، أو التغافل عن ان المبالغة في المنهي عنه

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥

(٢) البقرة : ٢٧٥

(۳) البقرة : ٢٧٥ .

١١٦

و يمكنه معرفة ما يمارسه من الصنائع ، ويمكنه أيضاً معرفة مخبر الاخبار وغير ذلك

فاذا حصلت هذه العلوم فيه كان كامل العقل يصح منه الاستدلال على الله تعالى، وعلى صفاته ، وعلى صدق الانبياء عليهم السلام . ووصفت هذه العلوم (۱) التي ذكرناها بالعقل لوجهين .

أحدهما : انه لما كان العلم بقبح كثير من المقبحات صارفاً له عن فعلها (۲) و علمه لوجوب كثير من الواجبات داعياً له الى فعلها

____________________________________________

يستلزم ضعف النهي ، والتخصيص في العلة مع عموم المعلل يوجب قصور التعليل ولاسيما تخصيصها بأمر نادر جداً أو غير متحقق أصلا .

ومثل هذه الركاكة لا تليق بكلام أوساط الناس ، فضلا عن القرآن المعجز وفي نهج البلاغة في ذيل ، ومن كلام له عليه‌السلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : ( يا علي ان القوم سيفتنون بأموالهم ) الى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والاهواء الساهية ، فيستحلون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع) (۳) .

(۱) قوله (ووصفت هذه العلوم) هى مسامحة كما ذكرنا ، والمقصود وصفتها هذه العلوم كاشفة عنه .

(۲) قوله (صارفاً له عن فعلها) ليس المرادانه لا يقع معها شيء من المقبحات للعلم بصدورها عن كثير من العقلاء ، بل المراد انه يقتضي عدم فعلها اقتضاء

__________________

(۳) نهج البلاغه ، خطبة رقم ١٥٦ ، ص ۲۲۰ من الطبعة البيروتيه لصبحي الصالح .

١١٧

وصارفاً عن الاخلال بها ، سمى عقلا تشبيهاً بعقال الناقة التي يمنعها من السير .

والثاني: انه لما كانت العلوم الاستدلالية لا تثبت (۱) الامع ثبوت هذه العلوم سميت عقلا تشبيهاً أيضاً بعقال الناقة . ولاجل ما قلناه (۲) لا يصح وصف القديم تعالى بانه عاقل ، لان هذا المعنى لا يصح فيه (۳) .

وأما الامارة فليست موجبة للظن (۴) بل يختار الناظر فيها عندها الظن ابتداءاً لانا نعلم انه ينظر جماعة كثيرة في امارة واحدة من جهة واحدة ، فلا يحصل لجميعهم الظن ، فلو كانت مولدة لوجب ذلك، كما يجب ذلك في الدليل.

____________________________________________

هداية ، وكذا الكلام في الداعي والتشبيه بالعقال ، لا يجب أن يكون تشبيها له من جميع الوجوه .

(۱) قوله (لا تثبت) أي لا يحصل شيء منها ، ولما كان حصول العلم ممتنعاً بدون ثبوته ورسوخه قال (لا تثبت) .

(۲) قوله (ولاجل ما قلناه) أي في الوجه الثاني .

(۳) قوله (لان هذا المعنى الخ) أي لان كون بعض العلوم لا يثبت الا ببعض آخر ، لا يصح فيه تعالى .

(٤) قوله (وأما الامارة فليست موجبة للظن الخ) يعني ان النظر في الامارة ليس موجباً للظن ، ويظهر مما حررناه في استلزام النظر في الدليل العلم ، و عدم استلزام النظر في الشبهة الجهل . ان المقصود هنا ان النظر في الامارة لا يصل الى حد يستلزم بدون انضمام شيء آخر ، خارج عن حقيقته ، ليس من

١١٨

جنس النظر ، ولا لازماً له الظن بشيء .

والمراد بالامارة أمر معلوم تحققه ، وانه يكون الغالب مع تحققه تحقق شيء آخر، هو امارة له . وانه لا يستلزم عقلا تحققه من حيث انه كذلك ، فقولنا معلوم تحققه ، احتراز عن قول من يقول بالاجتهاد ، والسلام واجب في الصلاة والغالب في الواجب فيها ان تر که مبطل لها ، فانه ليس امارة للابطال بتركه انما الامارة لما هو امارة لوجوبه ان لم يضعف ، بحيث ينتفي الظن بابطال الترك كما سيجيء بيانه بعيد هذا .

وقولنا : وانه يكون الغالب معه تحقق ما هو امارة له ، احترازاً عما يفيد الاعتقاد المبتداء ، كاتباع الهوى والميل الشهواني، فانه ليس الغالب معه وجود المعتقد ، وان كان الغالب معه وقوع الاعتقاد . بل ان فرضنا انه يستلزم الاعتقاد .

وقولنا : وانه لا يستلزم عقلا ، احتراز عن الدليل ، سواء علم كونه على الوجه الذي يدل ، أو ظن ، أو اعتقد ، أو لم يصدق به أصلا .

وفي الأول يحصل العلم بالنتيجة ، وفي الثاني الظن ، لكن امارته امارة الظن الأول ، وفي الثالث الاعتقاد ، وفي الرابع لا يحصل تصديق بها أصلا . ولو اكتفي عن هذا القيد بسابقه كان ممكناً ، لان الغالب يشعر بتحقق مغلوب .

وقولنا من حيث انه كذلك احتراز عما يصلح ، لكونه امارة بالنسبة الى من لم يعلم تحققه أو كونه مستتبعاً لما هو امارة له في الغالب ، أو اعتقد استلزامه له عقلا، فانه ليس امارة ولا شبهة، بالنسبة الى الأولين، وهو شبهة بالنسبة الى الأخير.

والمنطقيون يجعلون ذات الامارة : مجموع قضايا دالة على تحقق القيود التي اعتبرناها في الامارة قبل الحيثية ، وقولنا : زيد يطوف بالليل ، والغالب دون اللازم في الطائف بالليل انه سارق . فمفهوم الامارة ، أي حدها عندهم، قول مؤلف من قضايا متى سلمت غلب عنها قول آخر ، ولا يستلزمه عقلا، من

١١٩

حيث انه كذلك . وليعلم ان قول من يحكم بالظن والاجتهاد ، بان السلام واجب في الصلاة ، وكل واجب فيها فتركه فيها مبطل لها ، ليس بامارة عند المنطقيين لكون ترك السلام مبطلا لها ، بل هو دليل لانه يصدق عليه حد الدليل عندهم الزيادة قيد متى سلمت في الحد عندهم .

وليس امارة له عند الاصوليين أيضاً ، بل الامارة المجموع المركب من امارة الصغرى ، وامارة الكبرى ، ان اقتضى الظن بالنتيجة بتوسطهما . والا فلاظن ولا امارة هنا . بيان ذلك ان الظن بالصغرى والكبرى ، المترتبتين على الشكل الأول ، لا يستلزم عقلا الظن بالنتيجة ، لجواز أن يكون كل واحد من الظنين في الضعف بحيث لا يورثان الظن بالنتيجة. ولنبين ذلك بوجه، هو أن الصغرى لو كانت مظنونة بأضعف الظنون ، بحيث لا يمكن أضعف منه ، وكانت الكبرى معلومة قطعاً كان الظن بالنتيجة ، كالظن بالصغرى في القوة .

ولا شك انه كلما تطرق الضعف في الاعتقاد ، باحدى المقدمتين ، مع بقاء الأخرى على ما كانت عليه ، تطرق الضعف بالنتيجة . فاذا كانت الكبرى في الصورة المذكورة ظنية لم تكن النتيجة مظنونة ، اذ لا يمكن الاضعف من الاضعف المذكور .

ولو قال قائل : ان الظن في قوته قابل للقسمة الى غير النهاية ، فلا يوجد أضعف بحيث لا يمكن أضعف منه .

قلنا : أولا : انه مكابرة .

وثانياً : انا نجري الكلام في أضعف ما تحقق بالفعل في أحد الازمنة الثلاثة ، و فيه انه لا يتعلق بمقدمة الاحين كون الأخرى معلومة ، وهو بحيث لو تعلق بها مع كون الأخرى مظنونة ، لوجد أضعف منه .

وثالثاً : ان المقصود القدح فيما قيل من أن قولنا ( فلان يطوف بالليل ،

١٢٠