تلخيص البيان في مجازات القرآن

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]

تلخيص البيان في مجازات القرآن

المؤلف:

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]


المحقق: محمد عبد الغني حسن
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

الرضى فى معرض الحديث عن قوله تعالى فى سورة « ق » : ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ فهو من الأخبار النبوية التي أضنانا العثور عليها فى مظان كثيرة ، حتى كاد اليأس يصرفنا عن مواصلة البحث. إلى أن هدانا الله للوقوف عليه فى كتاب « إمتاع الأسماع » للمقريزى. وقد قاله النبي عليه‌السلام يوم فتح مكة حين مضى الزبير بن العوام برايته حتى ركزها عند قبة رسول الله ، وكان معه أم سلمة وميمونة رضى الله عنهما ، وقيل : يا رسول الله ! أ لا تنزل منزلك من الشعب ؟ فقال : وهل ترك عقيل لنا منزلا ؟ وكان عقيل بن أبى طالب قد باع منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنزل إخوته (١) .

وهذا خبر لم تأت به كتب التاريخ والسيرة والمغازي التي بين أيدينا ـ على قدر اطلاعنا ـ فكان للعثور عليه « فى إمتاع الأسماع » للمقريزى فرحة بعد طول المراجعة ، وكثرة التنقير. وقد أفادنا السيد محمد المشكاة محقق المخطوطة المصورة فائدة جليلة حين ذكر هذا الخبر النبوي نقلا عن « تفسير التبيان » للشيخ الطوسي ( طبع طهران ج ٢ ص ٦١٤ ) .

وبمثل هذا الخبر النبوي نستطيع أن نقول إن « تلخيص البيان » قد ذكر من أنباء فتح مكة ـ على الإيجاز ـ ما لم تذكره أكثر المراجع التاريخية وأكبرها وأقدمها تدوينا لحوادث الرسول. وكذلك كان شأنه حين ذكر قوله عليه الصلاة والسلام : ( إنكم تموتون كما تنامون ، وتبعثون كما تستيقظون ) فهذا الحديث النبوي البليغ هو من خطبة

__________________

(١) إمتاع الأسماع ج ـ ١ ص ٣٨١.

٤١

النبي عليه‌السلام ، وهى أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه إلى الإسلام. والخطبة كاملة فى كتاب « جمهرة خطب العرب » ج ١ ص ٥١ ، وقد نقلها صاحب الجمهرة عن « السيرة الحلبية » ج ١ ص ٢٧٢ ، وعن « الكامل » لابن الأثير ج ٢ ص ٢٧.

أما حديث ( نعوذ بالله من الحور بعد الكور ) الذي ساقه الشريف الرضى فى خلال الحديث عن مجازات سورة الزمر ، فهو من الأحاديث التي أوردها المصنف فى كتابه الآخر « المجازات النبوية » وهو الحديث رقم ١٠٧ من الطبعة المصرية. وقد ساقه الشريف الرضى فى « تلخيص البيان » غير تام ، وتمام الحديث ـ كما فى المجازات النبوية ـ : ( اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، والحور بعد الكور ، وسوء النظر فى الأهل والمال ) .

ويقتضينا التحقيق فى سبيل الحق هنا أن نقول إن « الحور » هى بالحاء المهملة المفتوحة والواو الساكنة ، وهو النقصان ، و « الكور » بفتح الكاف هو الزيادة. فنقط الحور بالجيم المعجمة فى نسخة إيران المصورة (١) هو وهم لا محل له ، وخاصة بعد وجود الحديث صحيحا فى المجازات النبوية وفى معاجم اللغة (٢) .

القراءات فى تلخيص البيان

يلاحظ المتأمل عند أدنى نظر إلى هذا الكتاب أن الشريف الرضى يورد كثيرا من الآيات على قراءات غير القراءة فى المصحف الذي بين أيدينا. وهى قراءات صحيحة غير شاذة ، لأنها للأئمة السبعة المروية قراءاتهم بالتواتر ، وهم ابن عامر المتوفى بدمشق سنة ١١٨ ه‍ ،

__________________

(١) انظر صفحة ٩٠ من فهارس « تلخيص البيان » المطبوعة تصويرا فى إيران.

(٢) انظر « أساس البلاغة » للزمخشرى مادة ( حور ) .

٤٢

وابن كثير المتوفى بمكة سنة ١٢٠ ه‍ ، وعاصم بن أبى النّجود المتوفى بالكوفة ـ أو بالسماوة ـ سنة ١٢٧ ه‍ ، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة ١٥٤ ه‍ ، وحمزة بن حبيب الزيات ( المتوفى بحلوان سنة ١٥٦ ه‍ ، ونافع بن عبد الرحمن المتوفى سنة ١٦٩ ه‍ ، والكسائي المتوفى سنة ١٨٩ ه‍ .

ففي سورة البقرة نجد هذه الآية : يخادعون الله والّذين آمنوا وما يخادعون إلّا أنفسهم وقراءة حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر : ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ .

وفى سورة النساء نجد هذه الآية : والّذين عاقدت أيمانكم بفعل المفاعلة وهى قراءة.

وفى سورة الأنعام نجد هذه الآية : فالق الإصباح وجاعل اللّيل سكنا أي أن جاعل بصيغة فاعل ، وهى قراءة رويس عن يعقوب ، وبها يقرأ أهل المدينة ، أما قراءة حمزة والكسائي والحسن وعيسى بن عمر فهى ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وهى القراءة التي نقرؤها نحن.

وفى سورة الأعراف ذكر الشريف الرضى قراءة « ورياشا » مع قراءة « وريشا » فى قوله تعالى : ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ .

وفى سورة يونس نجد قراءة « فاجمعوا أمركم » من الجمع ، بدلا من « فأجمعوا أمركم » من الإجماع. والأولى هى قراءة عاصم الجحدري ، وهو غير عاصم بن أبى النجود ، وقد روى عنه عيسى الثقفي من أصحاب القراءات الشاذة.

وفى سورة هود يروى الشريف الرضى قوله تعالى : ﴿ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ

٤٣

مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ بكسر الواو المشددة ، ومسوّمين بفتحها ، والكسر هو قراءة أبى عمرو وعاصم وابن كثير ، والفتح هو قراءة بقية السبعة.

وفى سورة التحريم ذكر المصنف رضى الله عنه قراءة « نصوحا » مع قراءة « نصوحا » بضم النون فى القراءة الأولى وفتحها فى الثانية فى قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا والضم هو قراءة أبى بكر بن عياش قرأها عن عاصم بن أبى النجود.

وقس على ذلك كثيرا من الآيات التي أوردها الشريف الرضى على بعض القراءات السبعة الصحيحة. وقلّ أن نراه يلجأ إلى قراءة شاذة كما صنع فى قراءة « فاجمعوا أمركم » التي أشرنا إليها سابقا.

ولا شك أن هذه القراءات التي روى بها الشريف الرضى فى كتابه هذا تجعل منه مرجعا لمن يطلبون معرفة القراءات ، وتصنيف إلى قيمة الكتاب قيمة جديدة يهتم بها طلاب القراءات.

إفاضة الشريف الرضى فى البيان

لقد كان يقال عند مؤرخى الأدب فى الخمسين الماضية : إن « مجازات أبى عبيدة » هو أول كتاب فى علم البيان تناول كتاب الله من الناحية البيانية فيه. ولقد تابع مؤرخو الأدب أستاذنا الشيخ أحمد الإسكندرى ـ رحمه‌الله ـ زمانا طويلا ونقلوا عنه كلامه هذا الذي ذكره فى كتابه « الوسيط » . فلما طبع كتاب « مجاز القرآن » لأبى عبيدة فى عامنا هذا بتحقيق الأديب التركي فؤاد سزكين بجامعة استنبول وبمعاونة المستشرق ه. ريتر. تبين أن « مجاز القرآن » لأبى عبيدة ليس إلا تفسيرا وجيزا لألفاظ القرآن الكريم ، وليس فيه من المعاني البيانية

٤٤

فى كتاب الله ما يغرى به عنوانه ، وما يوهم بأنه « أول كتاب دون فى علم البيان » كما ذكر ذلك فى « الوسيط » للأستاذين أحمد الإسكندرى ، ومصطفى عنانى.

وعذر القائلين بهذا ومن تابعهم على هذا الرأى أنهم لم يطلعوا على « مجازات القرآن » لأبى عبيدة ، وقد كان مطويا فى ضمائر الغيب ، ولم يأخذوا إلا بظاهر عنوان الكتاب ، وبما صنعه ابن النديم من عدّه كتاب أبى عبيدة فى كتب مجازات القرآن.

على أن الله قد أذن لمجازات أبى عبيدة أن يرى النور فى هذه الطبعة الوثيقة المحققة التي نشرها السيد سامى الخانجى ، فخدم بها الحقيقة خدمة لا تقل عن خدمته لكتاب الله تعالى بنشر هذا الأثر القديم ، الذي أصبح الآن أول وأقدم كتاب فى تفسير معانى القرآن الكريم ، بعد أن كان تفسير الطبري له مكان الأقدمية فى هذا.

ولكن أبا عبيدة ـ رحمه‌الله ـ لم يكن فى تفسيره هذا ـ أو فى مجازاته ـ طويل النفس ، ممدود الأمراس. فهو يوجز فى تأويل اللفظة القرآنية إيجازا قد يبلغ فى أكثر الأحيان إلى حد وضع اللفظة المفسّرة مكان اللفظة المفسّرة. كقوله فى تفسير سورة آل عمران.

﴿ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ الحسرة : الندامة.

﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ أي إذا أجمعت.

﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ : أن يخان.

﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا : أي لو نعرف قتالا.

﴿ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ : أي ادفعوا عن أنفسكم.

٤٥

﴿ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ : يختار.

﴿ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا : سيحفظ.

ولا يزيد أبو عبيدة على هذا التفسير اللفظي كلمة واحدة توضح المعنى ، أو تؤيده من شواهد العرب ، أو توثقه برأى بعض المفسرين السابقين عليه. ويمضى فى الكتاب كله على هذا الضرب من الإيجاز كأنه يفصّل التفسير على القدّ ، لا يزيد على الكلمة المفسرة حرفا ... وإن كان فى كثير من الألفاظ يزيد الشرح ويسوق الشاهد من شعر صحيح فصيح يحتج به ، ويعرب اللفظة على الوجه الذي يستقيم به المعنى المراد ، ويذكر اللغة أو اللغات فى اللفظة القرآنية (١) .

فإذا انتقلنا إلى ابن قتيبة ـ فى القرن الثالث ـ فى « تأويله لمشكل القرآن » وجدناه يطيل الشرح ويتوسع فى التفسير ويزيد فى بيان المعنى بما يتضح به المراد. وإذا كان الكلام لا يبين إلا بالمثال ، فإن مثلا واحدا هنا هو أبلغ فى الدلالة على ما نقول ، فإن أبا عبيدة فى « مجاز القرآن » يفسر قوله تعالى فى سورة النساء ﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا بقوله : [ الفتيل الذي فى شق النواة ] (٢) ولا يزيد على هذا حرفا واحدا يبين مرامى هذه الآية ، على حين أن ابن قتيبة فى « تأويل مشكل القرآن » يقول فى هذه الآية : [ والفتيل ما يكون فى شق النواة ، والنقير النقرة التي فى ظهرها ، ولم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه ، وإنما أراد أنهم إذا حوسبوا لم يظلموا فى الحساب شيئا ، ولا مقدار هذين التافهين الحقيرين ] (٣)

__________________

(١) انظر الصفحات ١٩٤ ، ١٩٦ ، ٢٠٣ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٢٣٤ ، ٢٥٦ ، ٢٨٩ ، ٣١٦ من « مجاز القرآن » لأبى عبيدة.

(٢) مجاز القرآن لأبى عبيدة ص ١٢٩.

(٣) تأويل مشكل القرآن ص ١٠٤.

٤٦

فإذا انتقلنا إلى الشريف الرضى ـ فى القرن الرابع الهجري ـ وجدناه يفيض فى الشرح ، ويتوسع فى التأويل بما لا يكشف عنه إلا الموازنة بين هؤلاء الثلاثة فى مواضع متحدة ، وآيات بعينها من كتاب الله.

فأبو عبيدة يقول فى تأويل قوله تعالى : ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ من سورة الإسراء : [ مجازه فى موضع قولهم : لا تمسك عما ينبغى لك أن تبذل من الحق ، وهو مثل وتشبيه ] على حين أن الشريف الرضى يقول فى مجاز هذه الآية : [ وهذه استعارة. وليس المراد بها اليد التي هى الجارحة على الحقيقة ، وإنما الكلام الأول كناية عن التقتير ، والكلام الآخر كناية عن التبذير. وكلاهما مذموم ، حتى يقف كل منهما عند حده ، ولا يجرى إلا إلى أمده ، وقد فسر هذا قوله سبحانه : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ] .

وأبو عبيدة يقول فى تأويل قوله تعالى : ﴿ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ : [ الخيط الأبيض هو الصبح المصدق ، والخيط الأسود هو الليل ، والخيط هو اللون ] (١) ثم لا يزيد على هذا كلمة واحدة فى تفسير هذه الآية ، على حين أن الشريف الرضى يقول فى بيان مجازها : [ وهذه استعارة عجيبة. والمراد بها على أحد التأويلات : حتى يتبين بياض الصبح من سواد الليل ، والخيطان هاهنا مجاز ، وإنما شبها بذلك لأن خيط الصبح يكون فى أول طلوعه مستدقا خافيا ، ويكون سواد الليل منقضيا موليا ، فهما جميعا ضعيفان ، إلا أن هذا يزداد انتشارا ، وهذا يزداد استسرارا ] فهل ترك الشريف الرضى ـ رضى الله عنه ـ بهذا الشرح اللطيف ، والبيان الدقيق ، والبلاغة

__________________

(١) مجاز القرآن ، لأبى عبيدة ص ٦٨.

٤٧

الواضحة مجالا لسائل ، أو محلا لمستوضح عن التعبير هنا بالخيط ؟ اللهم إنك واهب البيان ، ومعطى البلاغة بقدر لكلّ لسان ! .

ومثال آخر حتى تجرى الموازنة إلى مداها ... وهو قول أبى عبيدة فى تفسير قوله تعالى : ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ من سورة آل عمران : [ تنقص من الليل فتزيد فى النهار ، وكذلك النهار من الليل ] (١) . فاسمع هنا قول الشريف الرضى فى مجاز هذه الآية الكريمة : [ وهذه استعارة ، وهى عبارة عجيبة جدا عن إدخال هذا على هذا ، وهذا على هذا. والمعنى : أن ما ينقصه من النهار يزيده فى الليل ، وما ينقصه من الليل يزيده فى النهار. ولفظ الإيلاج هاهنا أبلغ. لأنه يفيد إدخال كل واحد منهما فى الآخر ، بلطيف الممازجة ، وشديد الملابسة ] فنقص هذا من ذاك هو المعنى المشترك المردّد بين أبى عبيدة والشريف الرضى. أما النكتة البلاغية الدقيقة فى التعبير بلفظ الإيلاج بدلا من لفظ الإدخال ، فهو مراد بعيد جاء متأخرا عن عصر أبى عبيدة ، ولكنه لم يجد أحسن من الشريف الرضى فى التعبير عن لطف مسلكه ، ودقة سبيله.

وخذ أي آية شئت ـ أيها القارئ الكريم ـ من كتاب الله العزيز ، وتتبعها عند أبى عبيدة فى مجازه ، وعند ابن قتيبة فى مشكله ، وعند الشريف الرضى فى تلخيص بيانه ، فإنك مؤمن معنا فى النهاية بأن سليل البيت النبوي الكريم كان أغزر الثلاثة بيانا ، وأفصحهم لسانا ، وأبلغهم فى التعبير عن مرامى القرآن بعبارة أدبية مشرقة ناصعة ، يتضح فيها ذوق الأديب ، ورقة الشاعر ، وحسّ البليغ ، أكثر مما يتضح فيها فقه اللغوي ، وعلم النحوي ...

__________________

(١) مجاز القرآن ، لأبى عبيدة ص ٩٠.

٤٨

خذ قوله تعالى فى سورة آل عمران : ﴿ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ واسمع ما يقوله فيها أبو عبيدة : [ أي لم يلتفتوا إليه. يقال : نبذت حاجتى خلف ظهرك ، إذا لم تلتفت إليها. قال أبو الأسود الدؤلي :

نظرت إلى عنوانه فنبذته

كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا ]

ثم اسمع ما قاله الشريف الرضى فى كتابنا هذا : [ وهذه استعارة. والمراد بها : أنهم غفلوا عن ذكره ، وتشاغلوا عن فهمه ، يعنى الكتاب المنزل عليهم ، فكان كالشيء الملقى خلف ظهر الإنسان ، لا يراه فيذكره ، ولا يلتفت إليه فينظره ] .

الحق أن أبا عبيدة لغوى ، على حين أن الشريف الرضى أديب شاعر مطبوع ! .

وخذ قوله تعالى فى سورة الأنعام : فالق الإصباح وجاعل اللّيل سكنا ، والشّمس والقمر واسمع ما يقول أبو عبيدة هنا : [ منصوبتين ؛ لأنه فرق بينهما وبين الليل المضاف إلى جاعل قوله : سكنا. فأعملوا فيهما الفعل الذي عمل فى قوله : سكنا ، فنصبوهما كما أخرجوهما من الإضافة ] (١) ثم اسمع واقرأ هنا ما كتبه الشريف الرضى : [ وهذه استعارة ، والمعنى شاقّ الصبح ومستخرجه من غسق الليل. وقوله سبحانه : فالق الإصباح ، أبلغ من قوله : شاق الإصباح ، إذ كانت قوة الانفلاق أشد من قوة الانشقاق ، أ لا تراهم يقولون : انشق الظّفر ، وانفلق الحجر. وقوله تعالى : ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) استعارة أخرى ، ومعناها على أحد القولين أنه سبحانه جعل الليل بمنزلة الشيء المحبوب الذي تسكن إليه النفوس وتحبه القلوب. يقال : فلان سكن فلان ، على هذا المعنى. والتأويل الأخير يخرج الكلام عن معنى الاستعارة ، وهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل الليل مظنة لانقطاع الأعمال ، والسكون بعد الحركات ] .

__________________

(١) مجاز القرآن ، لأبى عبيدة ص ٢٠١.

٤٩

أ لا ترى أن أبا عبيدة في مجاز هذه الآية الكريمة أو فى تأويلها ـ لم يكن أكثر من نحوى إمام فى النحو ، يبين لنا كيف انتصب الشمس والقمر باسم الفاعل « وجاعل » . وأن اسم الفاعل لما أضيف إلى مفعوله الأول وهو كلمة الليل جرت بالإضافة ، على أن المعطوف على هذا المفعول الأول نصب لأن محله النصب.

أما الشريف الرضى فقد خرج فى هذه الآية من زمرة النحو والنحاة لأنه أديب شاعر بليغ يلتمس مواطن البلاغة والإعجاز فى الكلام ، فيبين لنا الفرق الدقيق بين فلق الصباح وشقه ، ولم قال الله : ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ولم يقل شاق الإصباح ؟ وما وجه الاستعارة فى قوله تعالى : ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) ؟ وكيف ينتفى المجاز عن هذا التعبير إذا فسرنا السكن بمعناه الحقيقي وهو السكون بعد الحركة ؟

وقد يقول قائل : إن الموازنة بين الشريف الرضى وأبى عبيدة فى مجازيهما للقرآن الكريم جائزة السبيل لأن سبيلهما فى المجاز غير واحدة ، فأبو عبيدة مفسر ( وجائز ) إلى معانى القرآن من أخصر طريق ، والشريف الرضى موضح لوجوه البلاغة والبيان فى القرآن. وفى هذا الكلام كثير من الحق الذي لا تنعقد معه موازنة بين اثنين مختلفى السبيل. ولكن ما ظن القارئ فيما عقده ابن قتيبة من مجاز بيانى واستعارة فى كتابه « تأويل مشكل القرآن » وما تناوله الشريف الرضى من مجازات القرآن فى كتابه « تلخيص البيان » الذي نقدمه اليوم ؟

إن ابن قتيبة لم يفهم « المجاز » على أنه التأويل والتفسير والجواز إلى المعنى كما فهمه أبو عبيدة من قبل ، ولكنه فهمه على أنه المجاز المقابل للحقيقة أو الذي تقوم العلاقة فيه على التشبيه ، وهو ما سماه ابن قتيبة نفسه بالاستعارة ، وعقد له بابا مستقلا فى كتابه « تأويل مشكل القرآن » .

٥٠

فلننظر كيف يوضح ابن قتيبة مجاز آية من القرآن ، وكيف يتناول الشريف الرضى هذه الآية بعينها وكيف يكشف عن المجاز فيها.

يقول ابن قتيبة فى مجاز قوله تعالى : ﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ وهى من سورة الرحمن : [ والله تبارك وتعالى لا يشغله شأن عن شأن. ومجازه : سنقصد لكم بعد طول الترك والإمهال. وقال قتادة : قد دنا من الله فراغ لخلقه ، يريد أن الساعة قد أزفت وجاء أشراطها ] (١) .

ويقول الشريف الرضى فى مجاز هذه الآية : [ وهذه استعارة. وقد كان والدي الطاهر الأوحد ذو المناقب أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي ـ رضى الله عنه وأرضاه ـ سألنى عن هذه الآية فى عرض كلام جرّ ذكرها ، فأجبته فى الحال بأعرف الأجوبة المقولة فيها ، وهو أن يكون المراد بذلك : سنعمد لعقابكم ، ونأخذ فى جزائكم على مساوئ أعمالكم ، وأنشدته بيت جرير كاشفا عن حقيقة هذا المعنى ، وهو قوله :

ألان وقد فرغت إلى نمير

فهذا حين صرت لها عذابا ؟

فقال : فرغت إلى نمير ، كما يقول : عمدت إليها ، فأعلمنا أن معنى فرغت هاهنا معنى عمدت ، وقصدت. ولو كان يريد الفراغ من الشغل لقال : فرغت لها ولم يقل فرغت إليها. وقال بعضهم : إنما قال سبحانه : سنفرغ لكم ، ولم يقل : سنعمد. لأنه أراد : أي سنفعل فعل من يتفرغ للعمل من غير تمجيع (٢) فيه ، ولا اشتغال بغيره عنه ، ولأنه لما كان الذي يعمد إلى الشيء ربما قصر فيه لشغله معه بغيره ، وكان الفارغ له ـ فى الغالب ـ هو المتوفر

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص ٧٧.

(٢) التمجيع فى العمل : هو عدم أخذه مأخذ الجد.

٥١

عليه دون غيره ، دللنا بذلك على المبالغة فى الوعيد من الجهة التي هى أعرف عندنا ، ليقع الزجر بأبلغ الألفاظ ، وأدلّ الكلام على معنى الإيعاد. وقال بعضهم : أصل الاستعارة موضوع على مستعار منه ، ومستعار له ، فالمستعار منه أصل ، وهو أقوى : والمستعار له فرع ، وهو أضعف ، وهذا مطرد فى سائر الاستعارات. فإذا تقرر ذلك كان قوله تعالى : ﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ من هذا القبيل. فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه الشغل وهو أفعال العباد ، والمستعار له ما لا يجوز فيه الشغل ، وهو أفعال الله تعالى ، والمعنى الجامع لهما الوعيد ، إلا أن الوعيد بقول القائل : سأتفرغ لعقوبتك أقوى من الوعيد بقوله : سأعاقبك ، من قبل أنه كأنما قال : سأتجرد لمعاقبتك ، كأنه يريد استفراغ قوته فى العقوبة له ، ثم جاء القرآن على مطرح كلام العرب ، لأن معناه أسبق إلى النفس وأظهر للعقل. والمراد به تغليظ الوعيد ، والمبالغة فى التحذير ... ]

ولا يقف الشريف الرضى عند هذا المدى من بيان الاستعارة فى هذه الآية ... ولكنه يمضى فى البيان نصف صفحة أخرى حتى يوفى البيان حقه ، ويبلغ البحث أجله. فأين هذه الإفاضة فى توضيح مغازى الكلام ومرامى القول فى هذه الآية من قول ابن قتيبة فى مجازها وهو لا يعدو ثلاثة أسطر ؟ .

على أن موازنة واحدة قد يكون فيها من الجور فى الحكم ما لا نرضى لأنفسنا به ، ونحن هنا لا نوازن قصد التعصب لرجل على رجل ، ولكن لنبين عن مدى التطور فى النظرة إلى تأويل القرآن الكريم والكشف عن مجازه ، ووجوه إعجازه. فأبو عبيدة فى القرن الثاني الهجري يوجز فى التأويل والتفسير إيجازا كان من طبيعة العصر الذي عاش فيه ، وابن قتيبة فى القرن الثالث يمد فى حبل البيان بما يوائم زمانه وما اقتضته سنة التدرج

٥٢

فى نشأة البيان. والشريف الرضى فى القرن الرابع الهجري يرخى الطّول لحبل البيان ، ويمزج فى ذلك بين التطور البلاغى الذي صار إليه الأمر فى عصره ، وبين ذوقه الأدبى الخاص الذي انحدر إليه من ميراث آبائه الكرام ، والذي صار إليه من طبيعته الأدبية الشعرية الخاصة. فإذا بلغنا القرن الخامس رأينا الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة ٤٧١ ه‍ والذي جمع فى البلاغة بين العلم والعمل ، فكان بجانب نظرياته وقوانينه البلاغية التي وضعها ، أديبا عمليا بليغا يختلف عن المتأخرين بعده من البلاغيين الذي سلكوا بالبيان العربي مسلك العلوم النظرية الجافة ، فأحالوا البلاغة العربية إلى ألغاز وأحاج ومعميات ، بعد أن كانت عند رجل ـ كالشريف الرضى ـ تطبيقا عمليا رائعا للبيان العربي الناصع المشرق الملامح ، الواضح القسمات.

ولن ننسى هنا موازنة ثانية بين ابن قتيبة والشريف الرضى فى بيان المجاز فى قوله تعالى فى سورة ق : ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ ، وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ قال ابن قتيبة : [ وليس يومئذ قول منه لجهنم ، ولا قول من جهنم. وإنما هى عبارة عن سعتها (١) ] ولم يزد ابن قتيبة على هذا كلمة واحدة ، مع أنه ساق هذه الآية فى باب المجاز المغاير للحقيقة. أما الشريف الرضى فإنه قال فى هذه الآية : [ وهذه استعارة. لأن الخطاب للنار والجواب منها فى الحقيقة لا يصحان. وإنما المراد ـ والله أعلم ـ أنها فيما ظهر من امتلائها ، وبان من اغتصاصها بأهلها ، بمنزلة الناطقة بأنه لا مزيد فيها ، ولا سعة عندها ، وذلك كقول الشاعر:

امتلأ الحوض وقال قطنى

مهلا رويدا ! قد ملأت بطني !

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن ، لابن قتيبة ص ٧٩.

٥٣

ولم يكن هناك قول من الحوض على الحقيقة ، ولكن المعنى : أن ما ظهر من امتلائه فى تلك الحال جار مجرى القول منه ، فأقام تعالى الأمر المدرك بالعين ، مقام القول المسموع بالأذن. وقيل المعنى : إنا نقول لخزنة جهنم هذا القول ، ويكون الجواب منهم على حد الخطاب. ويكون ذلك من قبيل : ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ فى إسقاط المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وذلك كقولهم : يا خيل الله اركبي. والمراد : يا رجال الله اركبي. وعلى القول الأول يكون مخرج هذا القول لجهنم على طريق التقرير لاستخراج الجواب بظاهر الحال ، لا على طريق الاستفهام والاستعلام ، إذ كان الله سبحانه قد علم امتلاءها قبل أن يظهر ذلك فيها. وإنما قال سبحانه هذا الكلام ليعلم الخلائق صحة وعده ، إذ يقول تعالى : ﴿ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ والوجه فى قوله تعالى فى الحكاية عن جهنم : ﴿ هَلْ مِن مَّزِيدٍ بمعنى لا من مزيد فىّ. وليس ذلك على طريق طلب الزيادة ، وهذا معروف فى الكلام ، ومثله قوله عليه‌السلام : « وهل ترك عقيل لنا من دار ؟ » أي ما ترك لنا دارا. ]

وليس بعد كلام الشريف الرضى فى هذه الآية بيان ولا مزيد لمستزيد ... فقد أفاض ـ كعادته ـ فى الكشف عن وجوه الاستعارة فى الآية الشريفة ، وأبان أن اغتصاص جهنم بأهلها كان بمنزلة النطق منها بأنها لا زيادة فيها ، ولا سعة عندها ، كما أيّد ذلك المجاز بقول الراجز : امتلأ الحوض وقال قطنى ، أي حسبى. فإن الحوض لا يتكلم ، وكذلك جهنم لا تتكلم ، ولكن ما يظهر من امتلاء الاثنين جرى مجرى النطق منهما. ثم أبان بعد ذلك أنه يجوز أن يكون المراد بالقول لجهنم هو القول لأهلها ، فكأن الله تعالى قال : يوم نقول لأهل جهنم ، وهذا المجاز جائز لغة وهو الذي سماه البيانيون الاصطلاحيون بعد

٥٤

ذلك بالمجاز الذي علاقته المحلية ، لأن جهنم محل لأهلها ، فكأنه ذكر المحل وأراد الحالّ.

لعلنا قد بلغنا ما نريد من الحديث عن إفاضة الشريف الرضى فى كشفه لوجوه البيان فى القرآن ، وهى إفاضة سيراها القارئ الكريم واضحة فى كل صفحة من الكتاب ، وفى كل موطن من مواطن بيانه.

القرآن الكريم بين الحقيقة والمجاز

لم يكن قبول فكرة ( المجاز ) فى القرآن الكريم أمرا سهلا عند المسلمين جميعا ، فهم مجمعون ـ على اختلاف مللهم ونحلهم ـ على وقوع الحقيقة فيه ، ولا يفترق فى ذلك بعض أصحاب المذاهب عن بعض. والحقيقة عندهم هى كل لفظ بقي على موضوعه ولا تقديم فيه ولا تأخير. وأكثر القرآن من الحقائق. أما المجاز ـ المقابل للحقيقة ـ فالجمهور على أنه واقع فى القرآن ، وإن كان أنكره الظاهرية ، وابن القاص من الشافعية ، وابن خويز منداد من المالكية. وشبهتهم أن المجاز غير الحقيقة ، فهو كذب ، والقرآن منزه عن الكذب ، كما أن المتكلم لا ينصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة أو عجز عن التعبير بها فيستعير ، وذلك محال على الله تعالى القادر المنزه عن العجز. فالمنكرون لوقوع المجاز اللغوي والعقلي فى القرآن يحتجون لذلك بحجتين : أولاهما أن المجاز كذب والكذب محال على الله ، وثانيتهما أن الالتجاء إلى المجاز هو عجز عن التعبير بالحقيقة ، والعجز محال على الله.

٥٥

وقد رد على هذه الشبه جماعة من المسلمين ، وكان من أسبقهم إلى ذلك ابن قتيبة الذي يقول فى حرارة : ( ولو كان المجاز كذبا ... كان أكثر كلامنا فاسدا ، لأنا نقول : نبت البقل وطالت الشجرة ، وأينعت الثمرة ، وأقام الجبل ، ورخص السعر ، ونقول كان هذا الفعل منك فى وقت كذا وكذا ، والفعل لم يكن وإنما كوّن ) .

ومن الذين ردوا على هذه الشبه أيضا الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ٩١١ ه‍ حيث يقول : ( وهذه شبهة باطلة ، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن ، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة ، ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها ) (١)

ولعل للظاهرية ـ وهم أتباع الإمام داود بن على الظاهري المتوفى سنة ٢٧٠ ه‍ ـ عذرهم فى إنكار المجاز فى القرآن ، لأنهم يتمسكون بظاهر الكتاب والسنة ـ كما يدل على ذلك اسمهم ـ ولهذا لا يأخذون بالمجاز إلا إذا كان مشهورا وكانت القرينة واضحة معلنة عنه ، كاشفة له (٢) . فإذا غمض المجاز أو خفيت القرينة فإنهم لا يأخذون به.

وقد جرى ابن حزم الأندلسى المتوفى سنة ٤٥٦ مجرى داود الظاهري فى الأخذ بالمجاز المشهور الواضح وعدم التأويل فيه ما دام يجرى على سنن الفصيح فى اللغة ، وذلك الظاهر هو الذي كان يفهمه العربي عند قراءة القرآن ، وكان يفهمه الصحابة والتابعون كما يدل عليه ظاهره ، سواء أ كان مجازا أم حقيقة ، فإن المجاز لا يخرج الكلام عن الدلالة الظاهرة الواضحة المبينة ، ما دامت له قرينة واضحة (٣) .

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن ، للسيوطى طبعة محمود توفيق ، سنة ١٣٥٢ القاهرة. ج ٢ ص ٣٦.

(٢) ابن حزم ـ حياته وعصره. للشيخ محمد أبو زهرة ص ٢٢٦ ، ٢٩٥.

(٣) المصدر السابق ص ٢٢٦.

٥٦

وقد أودع الإمام السيوطي فى « الإتقان » كثيرا من المجازات والاستعارات القرآنية ، وردها إلى أنواع المجاز اللغوي ـ وهو المجاز فى المفرد لا فى التركيب ـ وبلغت هذه الأنواع عنده عشرين نوعا ، ثم انقسم النوع العشرون ـ وهو إقامة صيغة مقام أخرى ـ إلى أنواع أخر تزيد على العشرين.

على أن هذه الأقسام والأنواع للمجاز والاستعارة لم يتعرض لها الشريف الرضى وهو يكشف عن مجازات القرآن كشفا تطبيقيا بلاغيا ، فإن تلك المسميات والمصطلحات لم تكن قد وضعت أو عرفت بعد فى عصر الشريف ، الذي يقول مثلا فى مجاز قوله تعالى فى سورة يوسف عليه‌السلام : ﴿ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [ وهذه استعارة من مشاهير الاستعارات ، والمراد : واسأل أهل القرية التي كنا فيها ] . أما السيوطي فيتكلم عن هذه الآية بطريقة اصطلاحية فى علم البيان فيقول فى خلال حديثه عن أنواع المجازات القرآنية : [ الرابع عشر : إطلاق اسم المحل على الحال نحو : ﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ أي أهل ناديه أي مجلسه ، ومنه التعبير باليد عن القدرة نحو : ﴿ بِيَدِهِ الْمُلْكُ ... وبالقرية عن ساكنيها نحو : ﴿ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ] (١) .

وقد اشتدت حاجة مفسرى القرآن الكريم إلى طائفة من العلوم كان على رأسها ما عرف فى القرن الخامس وما بعده بعلوم البيان والمعاني ، فقد وضعوا لمفسر القرآن شروطا ، وأوجبوا عليه أن يعرف علم اللغة ليعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع ، وأن يعرف علم النحو ، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب ، وأن يعرف علم الصرف ، فإن الجهل بالصرف قد يفضى إلى الخطأ فى التفسير ، وللإمام الزمخشري هنا كلمة نفيسة فقد قال :

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن. ج ٢ ص ٣٧.

٥٧

[ من بدع التفاسير قول من قال : إن « الإمام » فى قوله تعالى : ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ جمع أم ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم. قال : وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف ، فإن أمّا لا تجمع على إمام ] .

كما أوجبوا على المفسر أن يعرف طائفة أخرى من العلوم يبلغ مجموعها خمسة عشر علما. ولم يفتهم أن يضعوا البيان والمعاني بين هذه العلوم لمعرفة خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى ، وخواصها من حيث اختلافها بحسب خفاء الدلالة ووضوحها.

وقد عد السيوطي علوم البلاغة من أعظم أركان المفسر ، لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز ، وإنما يدرك هذا بهذه العلوم (١) .

مكان « تلخيص البيان » بين كتب التفسير

ليس « تلخيص البيان فى مجازات القرآن » للشريف الرضى تفسيرا للقرآن الكريم بالمعنى العام الذي تدل عليه كلمة التفسير. فهو هنا لم يفسر القرآن كله آية آية ، وإنما تناول من كل سورة ما فيها من الآيات المشتملة على مجاز. ولذا كان من الدقة أن نقول إن « تلخيص البيان » هو التفسير للآيات المجازية فى كتاب الله.

على أن للشريف الرضى كتابه الكبير فى تفسير القرآن ، وهو « حقائق التأويل »

__________________

(١) المصدر السابق ، ج ٢ ص ١٨١.

٥٨

الذي يشير إليه فى « المجازات النبوية » وفى « تلخيص البيان » ، فيسميه تارة حقائق التأويل (١) ، ويسميه تارة بالكتاب الكبير فى مواضع غير قليلة.

ولسنا الآن بصدد الحديث عن « حقائق التأويل » ، فليس هنا موضعه ، ولكننا نشير إشارة عابرة إلى قول النسابة العمرى فى المجدي : ( شاهدت له ـ أي للشريف ـ جزءا من مجلد من تفسير منسوب إليه فى القرآن ، مليح ، حسن ، يكون بالقياس فى كبر تفسير أبى جعفر الطبري أو أكبر (٢) ) كما نشير إلى قول المؤرخ ابن خلكان صاحب « وفيات الأعيان » وهو يقول : ( وصنف كتابا فى معانى القرآن الكريم يتعذر وجود مثله. دل على توسعه فى علم النحو واللغة ) (٣) ولعل كتابه هذا فى معانى القرآن الذي يشير إليه ابن خلكان هو كتاب حقائق التأويل أو الكتاب الكبير الذي يشير إليه الشريف نفسه (٤) .

ولقد اختلفت طرائق المفسرين لكتاب الله بحسب الزوايا التي نظروا منها إليه ، وبحسب النواحي التي تخصصوا فيها ، ووقفوا دراساتهم عليها. فالنحوى لا همّ له فى تفسير القرآن إلا الإعراب وتكثير الأوجه المختلفة فيه ، ونقل قواعد النحو ومسائله وأصوله وفروعه وخلافاته ، فهو لا ينظر فى تفسيره إلا فى هذه الناحية النحوية التي غلبت عليه كما فعل الزجاج والواحدي فى « البسيط » ، وكما فعل أبو حيان فى تفسيره الكبير المسمى « البحر » ، وكما فعل فى « النهر » أيضا. واللغوي لا ينظر فى تفسيره إلا إلى ناحية لغات

__________________

(١) انظر « المجازات النبوية » طبع مصر ص ٢٥ ، وانظر « تلخيص البيان » فى مجازات سورة المائدة والتوبة والرعد والزخرف والتكوير.

(٢) الغدير للعلامة عبد الحسين أحمد ، ج ٤ ص ١٧٥ ، طبع النجف.

(٣) ابن خلكان ج ٢ ص ٣.

(٤) الغدير ج ٤ ص ١٧٥.

٥٩

القرآن. والأخبارى لا هم له فى تفسير القرآن إلا العناية بالقصص وأخبار الأمم البائدة ، وما جرى للرسل مع أقوامهم ، وما أرسل الله عليهم من ألوان العذاب وأنواع الهلاك ، سواء أ كانت هذه الأخبار صحيحة أم باطلة. وممن فسر القرآن على هذا النحو « الثعلبي » أبو إسحاق أحمد بن محمد النيسابورى المتوفى سنة ٤٢٧ ه‍ ، وقد كان الثعلبي بفطرته ميالا إلى الأخبار وقصص الأمم الماضية والقرون الخالية ، وله غير التفسير كتاب « عرائس المجالس » فى قصص الأنبياء ، وهو مشهور معروف وقد طبع غير مرة. أما الفقيه فإنه ـ إذا فسر القرآن ـ يكاد يسرد فيه أبواب الفقه كلها من باب الطهارة إلى أمهات الأولاد ، لا يكاد يخرم من ذلك بابا واحدا ، وربما استطرد إلى إقامة الدلائل على فروع المسائل التي لا علاقة لها بالآية التي يفسرها ، بل ربما ذهب إلى أبعد من ذلك فأورد أدلة الموافقين والمخالفين. وممن صنع ذلك الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة ٦٧١ ه‍ فى تفسيره الكبير « الجامع لأحكام القرآن » الذي أصدرته دار الكتب المصرية فى عشرين جزءا.

أما صاحب العلوم العقلية فإنه يملأ تفسير للقرآن بأقوال الحكماء والفلاسفة وأصحاب الملل والنحل والمذاهب ، وآرائهم فى العالم والكون والفساد ، والبعث والمعاد ، والعلل والغايات ، والثواب والعقاب ، كما فعل الإمام فخر الدين الرازي (١) المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍ فى تفسيره الكبير ، فخرج عن الآيات التي يفسرها ، واستطرد وأطال الاستطراد بما يجعل من التفسير كتابا للفلسفة ومعرضا للمباحث العقلية ، حتى لقد قال فيه أبو حيان فى تفسيره

__________________

(١) هو محمد بن عمر بن الحسين ، كان أوحد زمانه فى علوم المعقول والمنقول ، وهو قرشى النسب وكان يحسن الفارسية.

٦٠