تلخيص البيان في مجازات القرآن

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]

تلخيص البيان في مجازات القرآن

المؤلف:

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]


المحقق: محمد عبد الغني حسن
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

وقوله سبحانه : ﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [٢٢] وهذه استعارة ، والمراد بها صفة من يخبط فى الضلال ، وينحرف عن طريق الرشاد. لأنهم يصفون من تلك حاله بأنه ماش على وجهه. فيقولون : فلان يمشى على وجهه ، ويمضى على وجهه ، إذا كان كذلك.

وإنما شبّهوه بالماشي على وجهه ، لأنه لا ينتفع بمواقع بصره ، إذ كان البصر فى الوجه. وإذا كان الوجه مكبوبا على الأرض كان الإنسان كالأعمى الذي لا يسلك جددا ، ولا يقصد سددا.

ومن الدليل على أن قوله تعالى : ﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ من الكنايات عن عمى البصر ، قوله تعالى فى مقابلة ذلك : ﴿ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا لأن السّوىّ ضدّ المنقوص فى خلقه ، والمبتلى فى بعض كرائم جسمه.

ومن السورة التی یذکر فیها « ن والقلم »

قوله سبحانه : ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [٤٢] وهذه استعارة. والمراد بها الكناية عن هول الأمر وشدته ، وعظم الخطب وفظاعته. لأن من عادة الناس أن يشمّروا عن سوقهم عند الأمور الصّعبة ، التي يحتاج فيها إلى المعاركة ، ويفزع عندها إلى الدفاع والممانعة. فيكون تشمير الذيول عند ذلك أمكن للقراع ، وأصدق للمصاع.

وقد جاء فى أشعارهم ذكر ذلك فى غير موضع. قال قيس (١) بن زهير بن جذيمة العبسي :

__________________

(١) قيس بن زهير هو صاحب الفرسين : داحس والغبراء وبسببهما قامت الحرب بين عبس وذبيان ودامت أربعين سنة. وتجد أخباره فى « اللسان » و « أيام العرب » و « الشعر والشعراء » و « شعراء النصرانية » وغيرها.

٣٤١

فإن (١) شمّرت لك عن ساقها

فويها ربيع فلا تسأم (٢)

وقال الآخر (٣) :

قد شمّرت عن ساقها فشدّوا

و جدّت الحرب بكم فجدّوا

وقوله سبحانه : ﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [٤٤] وهذه استعارة. ولها نظائر فى القرآن. منها قوله تعالى : ﴿ وَذَرْنِي (٤) وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا وقوله سبحانه : ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (٥) ومعنى ذلك أن الكلام خرج على مذهب للعرب معروف ، وغرض مقصود. يقول قائلهم لمخاطبه إذا أراد تغليظ الوعيد لغيره : ذرنى وفلانا فستعلم ما أنزله به. فالمراد إذن بهذا الخطاب النبي صلّى الله عليه وعلى آله. فكأنه تعالى قال له : ذر عقابى وهؤلاء المكذبين. أي (٦) اترك مسألتى فى التخفيف عنهم ، والإبقاء عليهم. لأن الله سبحانه لا يجوز عليه المنع ، فيصح معنى قوله تعالى لنبيّه عليه‌السلام : ذرنى وكذا ، لأنه المالك لا ينازع ، والقادر لا يدافع.

وقوله تعالى : ﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ

__________________

(١) فى الأصل « فإذا » وهو تحريف من الناسخ به ينكسر الوزن.

(٢) هكذا بالأصل. وفى « شعراء النصرانية » ص ٩٢٧ يروى هكذا :

فإن شمرت لك عن ساقها

فويها ربيع ولم يسأموا

(٣) هو رويشد بن رميض العنبري المعروف بشريح بن ضبيعة ، كما فى هامش « العقد الفريد » ج ٤ ص ١٢٠ طبع لجنة التأليف والترجمة. وفى « شرح ديوان الحماسة » للمرزوقى بتحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون أن اسمه رشيد بن رميض ، لا رويشد. ويرجح الأستاذ هارون أنه العنزي ، لا العنبري ، نسبة إلى بنى عنزة ، ص ٣٥٤.

(٤) فى الأصل : فذرنى بالفاء. وهو تحريف. والصواب بالواو. سورة المزمل. الآية رقم ١١.

(٥) سورة المدثر. الآية رقم ١١.

(٦) فى الأصل « أ نترك » وهو تحريف من الناسخ.

٣٤٢

وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [٥١] وهذه استعارة. والمراد بالإزلاق هاهنا : إزلال القدم حتى لا يستقر على الأرض. وذلك خارج على طريقة للعرب معروفة. يقول القائل منهم : نظر إلىّ فلان نظرا يكاد يصرعنى به. وذلك لا يكون إلا نظر المقت والإبغاض ، وعند النزاع والخصام. وقال الشاعر (١) :

يتقارضون إذا التقوا فى موقف

نظرا يزيل مواقف الأقدام

وقد أنكر بعض العلماء أن يكون المراد بقوله تعالى : ﴿ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ الإصابة بالعين ، لأن هذا من نظر السخط والعداوة ، وذلك من نظر الاستحسان والمحبّة.

ومن السور التي يذكر فيها « الحاقة »

قوله تعالى : ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [٦] وهذه استعارة. والمراد بالصّرصر : الباردة. وهو مأخوذ من الصّرّ ، والعاتية : الشديدة الهبوب التي ترد بغير ترتيب ، مشبّهة بالرجل العاتي ، وهو المتمرد الذي لا يبالى على ما أقدم ، ولا فيما ولج ووقع.

وقوله سبحانه : ﴿ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً [١٠] وهذه استعارة. والمراد بالرابية هاهنا : العالية القاهرة. من قولهم : ربا الشيء إذا زاد. والرّبا مأخوذ من هذا. فكأن تلك الأخذة كانت قاهرة لهم ، وغالبة عليهم.

وقوله سبحانه : ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [١١] وهذه استعارة.

__________________

(١) لم يذكر « لسان العرب » اسم الشاعر وفى شرح « شواهد الكشاف » لم ينسب لقائل أيضا. انظر اللسان مادة قرض. وقد استشهد الزمخشري بهذا البيت فى حديثه عن هذه الآيات بالذات ، ولكنه روى « نظرا يزل » بدلا من « يزيل » .

٣٤٣

والمراد بها قريب من المراد بالاستعارتين الأوليين (١) ، وهو تشبيه للماء فى طموّ أمواجه ، وارتفاع أثباجه بحال الرجل الطاغي ، الذي علا متجبرا ، وشمخ متكبرا.

وقال بعضهم : معنى طغى الماء أي كثر على خزّانه ، فلم يضبطوا مقدار ما خرج منه كثرة ، لأن للماء خزنة ، وللرياح خزنة من الملائكة عليهم‌السلام ، يخرجون منهما على قدر ما يراه الله سبحانه من مصالح العباد ، ومنافع البلاد ، على ما وردت به الآثار.

وقوله تعالى : ﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ [٢١] وهذه استعارة. وكان الوجه أن يقال : فى عيشة مرضيّة. ولكن المعنى خرج على مخرج قولهم : شعر شاعر ، وليل ساهر. إذا شعر فى ذلك الشعر وسهر فى ذلك الليل ، فكأنهما وصفا بما يكون فيهما ، لا بما يكون منهما. فبان أنّ تلك العيشة لما كانت بحيث يرضى الإنسان فيها حاله جاز أن توصف هى بالرضا. فيقال راضية. على المعنى الذي أشرنا إليه. وعلى ذلك قول أوس بن حجر (٢) .

جدلت على ليلة ساهرة

بصحراء شرج إلى ناظره (٣)

وصف الليلة بصفة الساهر فيها ، وظاهر الصفة أنها لها.

وقال بعضهم : إنما قال تعالى : ﴿ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ لأنها فى معنى : ذات رضى ، كما قيل : لابن ، وتامر. أي ذو لبن ، وتمر.

وكما قالوا لذى الدّرع : دارع ، ولذى النّبل : نابل ، ولصاحب الفرس : فارس. وإنما

__________________

(١) فى الأصل « الأولتين » وهو تحريف شنيع من الناسخ.

(٢) هو أوس بن حجر بن مالك التميمي ، كان شاعر تميم فى الجاهلية ، وعمر طويلا ، ولم يدرك الإسلام. وفى شعره رقة وحكمة. وهو صاحب الأبيات المشهورة التي أولها :

أيتها النفس أجملى جزعا

إن الذي تحذرين قد وقعا

(٣) البيت فى « الأغانى » ج ١١ ص ٧٢. وفى مخطوطتنا هذه « حدلت » بالحاء المهملة ، وفى أصول « الأغانى » خذلت بالخاء والذال المعجمتين. وجدلت : صرعت. وشرج ، وناظرة : اسما مكان بأرض بنى أسد.

٣٤٤

جاءوا به على النّسب ، ولم يجيئوا به على الفعل. وعلى ذلك قول النابغة الذّبيانى (١) :

كلينى لهمّ يا أميمة ناصب

و ليل أقاسيه بطيء الكواكب

أي : ذى نصب. قال فكأن العيشة أعطيت من النعيم حتى رضيت ، فحسن أن يقال : راضية ، لأنها بمنزلة الطالب للرضا ، كما أنّ الشهوة بمنزلة الطالب المشتهى.

وقوله سبحانه : ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ،‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [ ٤٤ ، ٤٥ ] وهذه استعارة على أحد التأويلات ، وهو أن يكون المراد باليمين هاهنا القوة والقدرة. فيكون المعنى : أنه لو فعل ما نكره فعله لانتقمنا منه عن قدرة ، وعاقبناه عن قوة.

وقد يجوز أن تكون اليمين هاهنا راجعة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون المعنى : لو فعل ذلك لسلبناه قدرته ، وانتزعنا منه قوّته. ويكون ذلك كقوله سبحانه : ﴿ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ (٢) أي تنبت الدّهن على بعض التأويلات. وكقول الشاعر (٣) :

نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أي نرجو الفرج.

__________________

(١) هو أشهر من أن نعرف به هنا ، وهو من شعراء الجاهلية المقدمين ، وأخباره مع النعمان بن المنذر واعتذاراته له معروفة متعالمة.

(٢) سورة المؤمنون. الآية رقم ٢٠.

(٣) هو النابغة الجعدي كما فى « معجم ياقوت » و « تاج العروس » وقد نقل ذلك عنهما محقق « معجم ما استعجم » للبكرى ص ١٠٢٩. والبيت كاملا هو :

نحن بنو جعدة أرباب الفلج

نضرب بالبيض ونرجو بالفرج

والفلج بفتحتين : اسم مكان لبنى جعدة من قيس ببلاد نجد.

وفى « القرطين » لابن مطرف : نضرب بالسيف ، مثل رواية مخطوطتنا هذه. ج ٢ ص ٣٠.

٣٤٥

ومن السورة التي يذكر فيها « سأل سائل »

قوله تعالى : ﴿ كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ ،‏ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ،‏ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ [١٧] وهذه استعارة. والمراد بدعائها من أدبر وتولّى ـ والله أعلم ـ أنه لما استحقها بإدباره عن الحق صارت كأنها تدعوه إليها ، وتسوقه نحوها. وعلى ذلك قول ذى الرّمة (١) فى صفة الثور :

غدا بوهنين مجتازا لمرتعه

بذي الفوارس تدعو أنفه الرّبب

والرّبب جمع ربّة ، وهى نبت من نبات الصيف.

يقول لما وجد رائحة الربب مضى نحوها فكأنها دعته إلى أكلها. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أنها لا يفوتها ذاهب ، ولا يعجزها هارب. فكأنها تدعو الهارب منها فيجيبها ، مدّا له بأسبابها ، وردّا له إلى عذابها.

وقال بعض المفسرين : إنه تخرج عنق من النار ، فتتناول الكافر حتى تقحمه فيها ، فكأنها بذلك الفعل داعية له إلى دخولها.

وقد يجوز أن يكون المراد أنها تدعو من أدبر عن الحق. بمعنى أنها تخوّفه بفظاعة الخبر عنها ، وتغليظ الوعيد بها ، فكأنها تستعطفه إلى الرشد (٢) ، وتستصرفه عن الغى.

وحكى عن المبرّد أنه قال : تدعو من أدبر وتولّى. أي تعذّبه. وحكى عن الخليل أن أعرابيا قال لآخر : دعاك الله. أي عذبك الله. وقال ثعلب : معنى دعاك الله. أي أماتك الله. فعلى هذا القول يدخل الكلام فى باب الحقيقة ، ويخرج عن حيز الاستعارة.

__________________

(١) هو أبو الحارث غيلان بن عقبة. شاعر فحل اشتهر بالتشبيب وبكاء الأطلال ذاهبا مذهب الجاهلين. توفى بأصبهان سنة ١١٧ ه‍ .

(٢) كانت بالأصل : ( الرتبة ) وهى تحريف. فصوبناها على طريق المقابلة مع الغى.

٣٤٦

ومن السورة التي يذكر فيها « نوح » عليه‌السلام

قوله سبحانه : ﴿ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [١٣] وهذه استعارة. لأن الوقار هاهنا وضع وضع الحلم مجازا. يقال : رجل وقور. بمعنى حليم.

فأما حقيقة الوقار الذي هو الرزانة والثقل فلا يجوز أن يوصف بها القديم سبحانه ، لأنها من صفات الأجسام ، وإنما يجوز وصفه تعالى بالوقار ، على معنى الحلم كما ذكرنا. والمعنى أنه يؤخر عقاب المذنبين مع الاستحقاق ، إمهالا للتوبة ، وإنظارا للفيئة والرجعة. لأن الحليم فى الشاهد اسم لمن يترك الانتقام عن قدرة. ولا يسمى غير القادر إذا ترك الانتقام حليما ، للعلّة التي ذكرناها. وقوله تعالى : ﴿ لَا تَرْجُونَ هاهنا أي لا تخافون. فكأنه سبحانه قال : ما لكم لا تخافون لله حلما ؟ وإنما أخّر عقوبتكم ، إمهالا لكم ، وإيجابا للحجة عليكم. وإلّا فعقابه من ورائكم ، وانتقامه قريب منكم.

وقد جاء فى شعر العرب لفظ الرجاء ، والمراد به الخوف. ولا يرد ذلك إلا وفى الكلام حرف نفى. لا يقال : فلان لا يرجو فلانا بمعنى يخافه ، بل يقال : فلان لا يرجو فلانا. أي لا يخافه. وقال الهذلي أبو ذؤيب (١) :

إذا لسعته الدّبر (٢) لم يرج لسعها

و حالفها فى بيت نوب عواسل (٣)

أراد : لم يخف لسعها.

__________________

(١) أبو ذؤيب الهذلي : تقدمت الإشارة إليه والترجمة له فى الحديث عن مجازات سورة الزمر.

(٢) الدبر : جماعة النحل والواحدة دبرة.

(٣) فى الأصل « عوامل » والتصويب عن « ديوان الهذليين » ورواية ابن قتيبة فى « تأويل مشكل القرآن » عوامل بالميم كما فى الأصل. ص ١٤٧.

٣٤٧

وقال الآخر (١) :

لا ترتجى حين تلاقى الذائدا

أخمسة لاقت معا أو واحدا

أي لا تخاف. وقال بعض العلماء : إنما كنوا عن الخوف بالرجاء فى هذه المواضع ، لأن الراجي ليس يستيقن ، فمعه طرف من المخافة. وقال بعضهم : الوقار هاهنا بمعنى العظمة وسعة المقدرة. وأصل الوقار ثبوت ما به يكون الشيء عظيما من الحلم والعلم اللذين يؤمن معهما الخرق والجهل.

ومن ذلك قول القائل : قد وقر قول فلان فى قلبى. أي ثبت واستقرّ ، أو خدش وأثر.

وقوله سبحانه : ﴿ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا [١٧] وهذه استعارة. لأن حقيقة الإنبات إنما تجرى على ما تطلعه الأرض من نباتها ، وتخرجه عند ازدراعها. ولما كان سبحانه يخرج البريّة من مضايق الأحشاء ، إلى مفاسح الهواء ، ويدرجهم من الصغر إلى الكبر ، وينقلهم من الهيئات والصور ، كل ذلك على وجه الأرض ، جاز أن يقول سبحانه : ﴿ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ .

وقال بعضهم قد يجوز أن يكون المراد بذلك خلق آدم عليه‌السلام من الطين ، وهو أصل الخليقة. فإذا خلقه سبحانه من طين الأرض كان نسله مخلوقين منها ، لرجوعهم إلى الأصل المخلوق من طينها. فحسن أن يقول سبحانه : ﴿ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ أي استخرجكم من طين الأرض. ونباتا هاهنا مصدر وقع مخالفا لما يوجبه بناء فعله. وكان الوجه أن يكون : إنباتا. لأنه فى الظاهر مصدر أنبتكم. وقد قيل إن هناك فعلا محذوفا

__________________

(١) لم ينسب فى « أساس البلاغة » لقائله. وروى فى الأساس هكذا :

لا ترتجى حين تلاقى الذائدا

أ سبعة لاقت معا أم واحدا

٣٤٨

جرى المصدر عليه ، فكأنه تعالى قال : والله أنبتكم من الأرض فنبتّم نباتا. لأن أنبت يدل على نبت من جهة أنه مضمن به.

وقوله سبحانه : ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ،‏ لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [ ١٩ ، ٢٠ ] وهذه استعارة. والمراد بالبساط هاهنا : المكان الواسع المستوي. مشبّه بالبساط ، وهو النمط الذي يمد على الاستواء فيجلس عليه.

وقال الأصمعى (١) : وبنو تميم خاصة يقولون بساط ، بفتح الباء. وقال الشاعر : (٢)

و دون يد الحجّاج من أن ينالنى

بساط لأيدى الناعجات (٣) عريض

وتصيير الأرض بساطا ، كتصييرها فراشا ومهادا.

وهذه الألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد :

ومن السورة التي يذكر فيها « الجن »

قوله سبحانه : ﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [١١] وهذه استعارة. والمراد بذلك ـ والله أعلم ـ كنا ضروبا مختلفة ، وأجناسا مفترقة.

__________________

(١) هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب الراوية المشهور وأحد علماء اللغة الأثبات. ونسب إلى جده « أصمع » وكان يتلقى الأخبار مشافهة من البوادي ويتحف بها الخلفاء فيكافأ عليها بأجزل الهبات. قال فيه الأخفش : ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعى. وقد انفرد برواية قصائد جمعها المستشرق الألمانى وليم أهلورت. وتوفى بالبصرة سنة ٢١٦.

(٢) هو العديل بن الفرخ ، ولقبه العباب : والعباب اسم كلب له فلقب باسم كلبه. وكان هجا الحجاج ابن يوسف فطلبه فهرب منه إلى قيصر ملك الروم ، فقال أبياتا منها هذا البيت. وأخباره فى « الشعر والشعراء » ص ٣٧٥ ، و « الأغانى » ج ٢٠ و « الخزانة » ج ٢.

(٣) فى « الشعر والشعراء » « اليعملات » والناعجات هى النياق البيض. واليعملات : جمع يعملة وهى الناقة المطبوعة على العمل.

٣٤٩

والطرائق : جمع طريقة. وهى ـ فى هذا الموضع ـ المذهب والنحلة. والقدد : جمع قدّة ، وهى القطعة من الشيء المقدود طولا ، مثل فلذة وفلذ ، وقربة وقرب. وقد غلب على ما كان من القطع طولا لفظ القدّ ، وعلى ما كان من القطع عرضا لفظ القطّ. فكأنه سبحانه شبه اختلافهم فى الأحوال ، وافتراقهم فى الآراء بالسّيور المقدودة ، التي تتفرق عن أصلها ، وتتشعب بعد ائتلافها.

وقوله سبحانه : ﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [١٥] وهذه استعارة. والمراد أن نار جهنم ـ ونعوذ بالله منها ـ يستدام وقودها بهم ، كما يستدام وقود النار بالحطب ، لأن كل نار لا بدّ لها من حشاش يحشها ، ووقود يمدها.

وقوله سبحانه : ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [١٩] وهذه استعارة. واللّبد هاهنا كناية عن الجماعات المتكاثرة التي تظاهرت من الكفار على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي اجتمعوا عليه متألبين ، وركبوه مترادفين. فكانوا كلبد الشّعر ، وهى طرائقه وقطعه التي يركب بعضها بعضا. وواحدتها لبدة. ومنه قيل : لبدة الأسد. وهى الشعر المتراكب على مناكبه. وذلك أبلغ ما شبّهت به الجموع المتعاظلة ، والأحزاب المتألفة.

وقال بعض أهل التأويل : المراد بذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما صلّى الصبح ببطن نخلة (١) منصرفا من حنين ، وقد حضره الوفد من الجن ـ وخبرهم مشهور ـ كادوا يركبون منكبه ، ويطئون أثوابه ، لما سمعوا قراءته ، استحسانا لها ، وارتياحا إليها ، وتعجبا منها.

روى عن ابن عباس فى هذا المعنى ـ وهو أغرب الأقوال ـ أن هذا الكلام من صلة كلام الجن لقومهم لما رجعوا إليهم ، فقالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا. وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قام ببطن (١) نخلة يصلى بأصحابه عجب الجن الحاضرون من طواعيتهم له فى

__________________

(١) فى الأصل « بطن نحلة » بالحاء المهملة وهو تحريف والتصويب عن « معجم ما استعجم » للبكرى.

٣٥٠

الركوع والسجود والقيام والعقود ، فلما رجعوا إلى قومهم قالوا فى جملة ما قصّوه عليهم : وأنّه لما قام عبد الله يدعوه ـ أي يصلى له ـ كادوا يكونون عليه لبدا. أي كاد أصحابه يركبونه تزاحما عليه ، وتدانيا إليه ، واحتذاء لمثاله ، واستماعا لمقاله.

ومن السورة التي يذكر فيها « المزمل »

عليه الصلاة والسلام

قوله تعالى : ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [٥] وهذه استعارة. لأن القرآن كلام ، وهو عرض من الأعراض. والثقل والخفة من صفات الأجسام ، والمراد بها صفة القرآن بعظم القدر ، ورجاحة الفضل (١) ، كما يقول القائل : فلان رصين رزين. وفلان راجح ركين. إذا أراد صفته بالفضل الراجح ، والقدر الوازن.

وقوله سبحانه ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [٦] وقرئ : وطأ (٢) بالقصر. وهذه استعارة.

والمراد بناشئة الليل هاهنا ما ينشأ فعله ، أي يبتدأ به من عمل الليل ، كالتهجد فى أثنائه ، والتلاوة فى آنائه. ومعنى ﴿ أَشَدُّ وَطْئًا فى قول بعضهم ، أي أشد مواطاة ، وهو مصدر. يقال : واطاه ، مواطاة ، ووطاء. أي يواطئ فيها السمع القلب ، واللسان

__________________

(١) فى الأصل « الفصل » بالصاد المهملة.

(٢) قرأ أبو العالية وأبو عمرو ومجاهد وابن أبى إسحاق وحميد وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة « وطاء » بالمد. وقرأ الباقون « وطأ » بفتح الواو وسكون الطاء ، على وزن بحر. انظر « القرطبي » ج ١٩ ص ٣٩.

٣٥١

العمل ، لقلة الشواغل العارضة ، واللوافت الصارفة ، ولأن البال فيها أجمع ، والقلب أفرغ ، فالقراءة فيها أقوم ، والصلاة أسلم.

ومن جعل وطاء هاهنا اسما (١) لما يستوطى ويفترش ، كالمهاد وما يجرى مجراه ، فإنه ذهب إلى أن عمل الليل أوعث مقاما ، وأصعب مراما. وعندهم أن كل ما ينشأ بالليل من قراءة ، أو تهجد ، أو طروق ، أو ترحل أشقّ على فاعله ، وأصعب على مستعمله ، لأن الليل موحش هائل ، ومخوف محاذر. [ فكل (٢) ] ما وقع فيه مما أومأنا إليه كان كالنسيب له ، والشبيه به.

ومن قرأ وطأ بالقصر فالمعنى فيه قريب من المعنى الأول. والمراد أن قيام الليل أشد وطأ عليك أي أصعب وأشق ، كما يقول القائل : هذا الأمر شديد الوطأة علىّ. إذا وصف بلوغه منه وصعوبته عليه ومع أن عمل الليل أشد كلفة ومشقة فهو أقوم صلاة وقراءة ، للمعنى الذي قدمنا ذكره.

وقوله سبحانه : ﴿ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [٧] وهذه استعارة. والمراد بها المضطرب الواسع ، والمجال الفاسح. وذلك مأخوذ من السباحة فى الماء ، وهى الاضطراب فى غمراته ، والتقلب فى جهاته. فكأنه سبحانه قال : إن لك فى النهار متصرفا ومتسعا ، ومذهبا منفسحا ، تقضى فيه أوطارك ، وتبلغ آرابك.

وقوله سبحانه : ﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [١٧] وهذه استعارة. والمراد بها : أن الولدان الذين هم الأطفال لو جاز أن يشيبوا الرائع خطب ،

__________________

(١) فى الأصل « السماء » وهو تحريف من الناسخ.

(٢) ليست بالأصل ، ويبدو أنها مطموسة ، وقد زدناها لأن النص يتطلبها.

٣٥٢

أو طارق كرب ، لشابوا فى ذلك اليوم لعظيم أهواله ، وفظاعة أحواله. وذلك كقول القائل : قد لقيت من هذا الأمر ما تشيب منه النواصي ـ كناية عن فظيع ما لاقى ، وعظيم ما قاسى.

ومن السورة التي يذكر فيها « المدثر »

عليه‌السلام

قوله سبحانه : ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [٤] وهذه استعارة على بعض التأويلات ، وهو أن تكون الثياب هاهنا كناية عن النفس أو عن الأفعال والأعمال الراجعة إلى النفس. قال الشاعر (١) :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدى لك من أخى ثقة إزارى

قيل : أراد فدى لك نفسى. وكذلك قول الفرزدق :

سكّنت جروتها (٢) وقلت لها اصبري

و شددت فى ضيق المقام إزارى

__________________

(١) هو بقيلة الأكبر الأشجعى ، وكنيته أبو المنهال. شاعر إسلامى. وله خبر مع عمر بن الخطاب بشأن رجل كان واليا على مدينتهم اسمه جعدة بن عبد الله ، وكان له شأن غير مرضى مع النساء. فأرسل الشاعر بقيلة أبياتا إلى عمر يستعديه على هذا الوالي. والقصة كاملة فى « لسان العرب » . وذكر ابن مطرف الكناني فى « القرطين » الأبيات فى ص ٨٠ ج ٢ ولم ينسبها لقائلها واكتفى بقوله : روى فى بعض الحديث أن رجلا كتب إلى عمر بن الخطاب. وفى مادة أزد فى « لسان العرب » أن اسمه نفيلة ، والتصويب عن « المؤتلف والمختلف » ص ٦٢ حيث ورد فى باب الباء لا النون.

(٢) فى ديوان الفرزدق ص ٣٢٢.

فضربت جروتها وقلت لها اصبري

وشددت فى ضيق المقام إزارى

وضرب الجروة : كناية عن العزم والتصميم على الأمر.

٣٥٣

أي شددت نفسى ، وذمرت قلبى. والإزار والثياب يتقارب معناهما. وعلى هذا فسّروا قول امرئ القيس :

فسلي ثيابى من ثيابك تنسل (١)

أي نفسى من نفسك ، أو قلبى من قلبك.

ويقولون : فلان طاهر الثياب ، أي طاهر النفس ، أو طاهر الأفعال. فكأنه سبحانه قال : ونفسك فطهّر ، أو أفعالك فطهّر.

وقد يجوز أن يكون للثياب هاهنا معنى آخر ، وهو أن الله سبحانه سمّى الأزواج لباسا فقال تعالى : ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ، وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ (٢) واللباس والثياب بمعنى واحد. فكأنه سبحانه أمره أن يستطهر النساء. أي يختارهن طاهرات من دنس الكفر ، ودرن العيب ، لأنهن مظانّ الاستيلاد ، ومضامّ الأولاد.

وقوله سبحانه : ﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [٣٤] وهذه استعارة ، والمراد بها انكشاف الصبح بعد استتاره ، ووضوحه بعد التباسه ، تشبيها بالرجل المسفر الذي قد حطّ لثامه ، فظهرت مجالى وجهه ، ومعالم صورته.

__________________

(١) البيت بكماله هو :

وإن تك قد ساءتك منى خليقة

فسلى ثيابى من ثيابك تنسل

(٢) سورة البقرة. الآية رقم ١٨٧.

٣٥٤

ومن السورة التي يذكر فيها « القيامة »

قوله تعالى : ﴿ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ [ ١٤ ، ١٥ ] وهذه استعارة. والمراد ـ والله أعلم ـ أن الإنسان حجة على نفسه فى يوم القيامة ، وشاهد عليها بما اقترفت من ذنب ، واحتملت من وزر. وإن ألقى معاذيره. أي هو وإن تعلّق بالمعاذير ولفّق الأقاويل شاهد على نفسه بما يوجب العقاب ، ويجر النكال.

وقال الكسائي : المعنى : بل على نفس الإنسان بصيرة. فجاء على التقديم والتأخير. أي عليه من الملائكة رقيب يرقبه ، وحافظ يحفظ عمله. وقال أبو عبيدة : جاءت هذه الهاء فى بصيرة ، والموصوف بها مذكّر ، كما جاءت فى علّامة ، ونسّابة ، وراوية ، وطاغية. والمراد بها المبالغة فى المعنى الذي وقع الوصف به.

ووجه المبالغة فى صفة الملك المحصى لأعمال المكلّف بأنه بصيرة أنّ ذلك الملك يتجاوز علم الظواهر إلى علم السرائر ، بما جعل الله تعالى له على ذلك من الأدلة ، وأعطاه من أسباب المعرفة. فهو للعلة التي ذكرناها يوفى على كل رقيب حافظ ، ومراع ملاحظ.

والتأويل الآخر يخرج به الكلام عن حيّز الاستعارة. وهو أن تكون المعاذير هاهنا من أسماء السّتور. لأن أهل اليمن يسمّون السّتر بالمعذار. فكأن المراد أن الإنسان رقيب على نفسه ، وعالم بمستسر غيبه ، فيما يفارقه من معصية ، أو يقاربه من ريبة ، وإن ألقى ستوره مستخفيا ، وأغلق أبوابه متواريا.

وقوله سبحانه : ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ،‏ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [ ٢٩ ، ٣٠]

٣٥٥

وهذه استعارة على أكثر الأقوال. والمراد بها ـ والله أعلم ـ صفة الشّدّتين المجتمعتين على المرء من فراق الدنيا ، ولقاء أسباب الآخرة. وقد ذكرنا فيما تقدم مذهب العرب فى العبارة عن الأمر الشديد ، والخطب الفظيع ، بذكر الكشف عن الساق ، والقيام عن ساق. فلا فائدة فى تكرير ذلك وإعادته.

وقد يجوز أن يكون السّاق هاهنا جمع ساقة كما قالوا : حاجة وحاج. وغاية وغاى. والساقة : هم الذين يكونون فى أعقاب الناس يحفّزونهم على السّير ، وهذا فى صفة أحوال الآخرة وسوق الملائكة السابقين بالكثرة ، حتى يلتفّ بعضهم ببعض من شديد الحفز ، وعنيف السير والسّوق. ومما يقوّى ذلك قوله تعالى : ﴿ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ .

والوجه الأول أقرب ، وهذا الوجه أغرب.

ومن السورة التي يذكر فيها

« هل أتى على الإنسان »

قوله سبحانه : ﴿ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [٧] وهذه استعارة. وحقيقة الاستطارة من صفات ذوات الأجنحة. يقال : طار الطّائر ، واستطرته أنا إذا بعثته على الطيران. ويقولون أيضا من ذلك على طريق المجاز : استطار لهيب النار. إذا انتشر وعلا ، وظهر وفشا. فكأنه سبحانه قال : يخافون يوما كان شرّه فاشيا ظاهرا ، وعاليا منتشرا.

وقوله سبحانه : ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [١٠] وهذه استعارة. لأن العبوس من صفة الإنسان القاطب المعبّس. فشبّه سبحانه ذلك اليوم ـ لقوّة دلائله

٣٥٦

على عظيم عقابه ، وأليم عذابه ـ بالرجل العبوس الذي يستدلّ بعبوسه وقطوبه على إرصاده بالمكروه ، وعزمه على إيقاع الأمر المخوف. وأصل العبوس تقبيض الوجه ، وهو دليل السخط ، وضده الاستبشار والتطلّق وهما دليلا الرضا والخير.

وكما سمّت العرب اليوم المحمود طلقا ، فكذلك سمّت اليوم المذموم عبوسا. ويقال : يوم قمطرير وقماطر (١) إذا كان شديدا ضرّه ، طويلا شرّه.

وقوله سبحانه : ﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا ، وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا [١٤] وهذه استعارة. والمراد بتذليل القطوف ـ وهى عناقيد الأعناب وواحدها قطف (٢) ـ أنها جعلت قريبة من أيديهم ، غير ممتنعة على مجانيهم ، لا يحتاجون إلى معاناة فى اجتنائها ، ولا مشقة فى اهتصار أفنانها ، فهى كالظّهر الذلول الذي يوافق صاحبه ، ويواتى راكبه.

والتذليل هاهنا مأخوذ من الذّلّ بكسر الذال ، وهو ضد الصعوبة. والذّل ـ بضم الذال ـ ضدّ العز والحميّة.

وقوله سبحانه : ﴿ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ، وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [٢٧] وهذه استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها فيما تقدم. والمراد باليوم الثقيل هاهنا : استثقاله من طريق الشدة والمشقة ، لا من طريق الاعتماد بالأجزاء الثقيلة. وقد يوصف الكلام بالثقيل على هذا الوجه ، وهو عرض من الأعراض ، فيقول القائل : قد ثقل علىّ خطاب فلان. وما أثقل كلام فلان.

__________________

(١) قماطر : بضم القاف.

(٢) القطف بكسر القاف : العنقود ساعة يقطف ، أو اسم للثمار المقطوفة. والجمع قطوف ، وقطاف.

٣٥٧

ومن السورة التي يذكر فيها « المرسلات »

قوله سبحانه : ﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ [٨] وهذه استعارة. والمراد بطمس النجوم ـ والله أعلم ـ محو آثارها ، وإذهاب أنوارها ، وإزالتها عن الجهات التي كان يستدلّ بها ، ويهتدى بسمتها. فصارت كالكتاب المطموس الذي أشكلت (١) سطوره ، واستعجمت حروفه.

والطمس فى المكتوبات حقيقة. وفى غيرها استعارة.

ومن السورة التي يذكر فيها « عمّ يتساءلون »

قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ،‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [ ٦ ، ٧ ] وهاتان استعارتان ، وقد مضى الكلام على الأولى منهما. أما معنى كون الجبال أوتادا فلأنّ بها مساك الأرض وقوامها ، واعتدالها وثباتها ، كما يثبت البيت بأوتاده ، والخباء على أعماده.

ومن السورة التي يذكر فيها « النازعات »

قوله سبحانه : ﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ،‏ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ [ ١٣ ، ١٤ ] وهذه استعارة. لأن المراد بالساهرة هاهنا ـ على ما قال المفسرون والله أعلم ـ الأرض.

قالوا إنما سمّيت ساهرة على مثال : عيشة راضية. كأنه جاء على النسب : ذات السّهر وهى الأرض المخوفة. أي يسهر فى ليلها ، خوفا من طوارق شرّها.

__________________

(١) أشكل الأمر ، على وزن أكرم : التبس.

٣٥٨

وقيل أيضا : إنما سمّيت الأرض ساهرة لأنها لا تنام عن إنماء نباتها وزروعها ، فعملها فى ذلك ليلا كعملها فيه نهارا.

سورة « عبس »

ولم نجد فى السورة التي يذكر فيها : ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (١) شيئا من المعنى الذي قصدنا له.

ومن السورة التي يذكر فيها « إذا الشمس كوّرت »

قوله تعالى : ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ،‏ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [ ٨ ، ٩ ] وهذه استعارة. والمراد ـ والله أعلم ـ أنها سئلت لا لاستخراج الجواب منها ، ولكن لاستخراج الجواب من قاتلها. ويكون ذلك على جهة التوبيخ للقاتل إذ قتل من لا يعرب عن نفسه ، ولم يذنب ذنبا يؤخذ بجريرته. وقيل معنى سئلت أي طلب بدمها ، كما يقول القائل : سألت فلانا حقى عليه. أي طالبته به.

وإنما سميت موءودة للثّقل الذي يلقى عليها من التراب. وتقول : آدنى هذا الأمر. أي أثقلنى. ومنه قوله تعالى ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢) أي لا يثقله ذلك ، كما يثقل أحدنا فى الشاهد حفظ المتشعبات ، وضبط المنتشرات.

وقوله سبحانه : ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ،‏ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [ ١٥ ، ١٦ ] وهاتان استعارتان. فهما جميعا فى صفة النجوم. فأما الخنّس فالمراد بها التي تخنس نهارا ، وتطلع ليلا. والخنّس جمع خانس وهو الذي يقبع ويستسرّ ، ويخفى ويستتر. وأما الكنّس

__________________

(١) ليس فى سورة عبس شىء من المجازات والاستعارات التي تتبعها المؤلف رحمه‌الله فى القرآن الكريم.

(٢) سورة البقرة. الآية رقم ٢٥٥.

٣٥٩

فجمع كانس ، وهو أيضا المتوارى المستخفى ، مشبّها بانضمام الوحشية إلى كناسها ، وهو الموضع الذي تأوى إليه من ظلال شجر. وألفاف خمر (١) . وجمعه كنّس.

فشبه سبحانه انقباء النجوم فى بروجها ، بتوارى الوحوش فى كنسها.

وقوله تعالى : ﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [١٨] وهذه من الاستعارات العجيبة. والتنفس هاهنا عبارة عن خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل. فكأنه متنفّس من كرب ، أو متروّح من همّ ، ومن ذلك قولهم : قد نفّس عن فلان الخناق. أي انجلى كربه ، وانفسح قلبه. وقد يجوز أن يكون معنى ﴿ إِذَا تَنَفَّسَ أي إذا انشق وانصدع. من قولهم : تنفّس الإناء إذا انشق ، وتنفست القوس إذا انصدعت. وهذا التأويل يخرج اللفظ من باب الاستعارة. وقد استقصينا الكلام على هذا المعنى ، فى كتابنا الكبير ، عند موضع اقتضى ذكره.

سورة « الانفطار »

وليس فى السورة التي يذكر فيها ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ شىء من غرض كتابنا (٢) هذا.

__________________

(١) هكذا بالأصل ، ولعلها ثمر.

(٢) ليس فى سورة الانفطار شىء من المجاز.

٣٦٠