تلخيص البيان في مجازات القرآن

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]

تلخيص البيان في مجازات القرآن

المؤلف:

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]


المحقق: محمد عبد الغني حسن
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

ومن السورة التي يذكر فيها

« قد أفلح المؤمنون »

قوله سبحانه : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ [١٢] وهذه استعارة. لأن حقيقة السلالة هى أن تسلّ الشيء من الشيء. فكأن آدم عليه‌السلام لما خلق من أديم الأرض كان كأنّه انسلّ منها ، واستخرج من سرها. وقد صار ذلك عبارة عن محض الشيء ومصاصه (١) ، وصفوته ولبابه. ليس أن هناك شيئا استل من شىء على الحقيقة. وقد تسمّى النطفة سلالة على هذا المعنى. ويسمى ولد الرّجل سلالة أيضا على مثل ذلك.

وقوله سبحانه : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ ، وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [١٧] . وهذه استعارة. لأن المراد بالطرائق هاهنا السموات السبع ، مشبّهة بطرائق النّعل ، وواحدتها : طريقة. وقد يجمع أيضا على طريق. فهى قطع الجلود يجعل بعضها فوق بعض وينتظم بالخرز. ويقال : طارقت النعل. من ذلك.

وقوله سبحانه : ﴿ اصْنَعِ (٢) الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [٢٧] وهذه استعارة. والقول فيها كالقول فى : ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (٣) . على حدّ سواء. فكأنه سبحانه قال : واصنع الفلك بحيث نرعاك ونحفظك ، ونمنع منك من يريدك.

__________________

(١) المصاص من الشيء : خالصه. يقال : فلان مصاص قومه. إذا كان أخلصهم نسبا. ومثله : المصة. انظر القاموس المحيط واللسان.

(٢) فى الأصل : « واصنع » بالواو. وهو تحريف من الناسخ.

(٣) سورة طه. الآية رقم ٣٩. وقد تقدم الكلام عن هذه الآية فى سورة طه.

٢٤١

أو يكون المعنى : واصنع الفلك بأعين أوليائنا من الملائكة والمؤمنين. فإنا نمنعك بهم ، ونشدك بمعاضدتهم ، فلا يصل إليك من أرادك ، ولا تبلغك مرامى من كادك.

وقوله سبحانه : ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [٤١] وهذه استعارة. والمراد بها ـ والله أعلم ـ أنه عاجلهم بالاستئصال والهلاك ، فطاحوا كما يطيح الغثاء إذا سال به السيل. والغثاء : ما حملت السيول فى ممرها من أضغاث النبات ، وهشيم الأوراق وما يجرى مجرى ذلك. فكأن أولئك القوم هلكوا ، ولم يحسّ لهم أثر ، كما لا يحسّ أثر ما طاح به السيل من هذه الأشياء المذكورة.

والعرب يعبرون عن هلاك القوم بقولهم : قد سال بهم السيل. فيجوز أن يكون قوله سبحانه : ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً . كناية عن الهلاك ، كما كنوا بقولهم : سال بهم السيل عن الهلاك. والمعنى : فجعلناهم كالغثاء الطافح فى سرعة انجفاله (١) ، وهوان فقدانه.

وقوله سبحانه : ﴿ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ (٢) لَا يُظْلَمُونَ [٦٢] . وهذه استعارة. والنطق لا يوصف به إلا من يتكلم بآلة.

وسمعت قاضى القضاة (٣) أبا الحسن يجيب بذلك من يسأله : هل يجوز أن يوصف القديم تعالى بأنه ناطق ، كما يوصف بأنه يتكلم ؟ فمنع من ذلك ، وقال : ما قدمت ذكره. فوصف سبحانه القرآن بالنطق مبالغة فى وصفه بإظهار البيان. وإعلان البرهان ، وتشبيها باللسان الناطق ، فى الإبانة عن ضميره ، والكشف عن مستوره.

وقوله سبحانه : ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا [٦٣] وهذه استعارة. والمراد

__________________

(١) الانجفال : الهرب فى إسراع.

(٢) فى الأصل : « فهم » بالفاء. وهو تحريف من الناسخ.

(٣) تقدمت ترجمتنا له عند الكلام فى مجازات سورة الكهف.

٢٤٢

بها أن القوم الذين قال سبحانه فيهم أمام هذه الآية هم الموصوفون بقوله تعالى : ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا أي فى حيرة تغمرها ، وغمة تسترها. والغمر جمع غمرة. وهو ما وقع الإنسان فيه من أمر مذهل ، وخطب مدلّة ، مشبه بغمرات الماء التي تغمر الواقع فيها ، وتأخذ بكظم (١) المغمور بها.

وقوله سبحانه : ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [٧١] . وهذه استعارة. والمراد بها : ولو كان الحق موافقا لأهوائهم لعاد كلّ إلى ضلاله ، وأوقع كل فى بطله ، لأن الحق يدعو إلى المصالح والمحاسن. والأهواء تدعو إلى المفاسد والمقابح ، فلو اتبع الحقّ قائد الهوى لشمل الفساد ، وعمّ الاختلاط ، وخفضت أعلام الهداية ، ورفع (٢) منار الغواية.

وقوله سبحانه : ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [١٠٣] وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون معنى الموازين هاهنا المعادلة بين الأعمال بالحق (٣) ...

__________________

(١) الكظم بفتح الكاف والظاء : مخرج النفس. جمعه أكظام وكظام.

(٢) فى الأصل « ورفعت » وهو تحريف من الناسخ. لأن المنار مذكر.

(٣) هنا قطعة ناقصة من الأصل تبلغ ورقة تقريبا من الآية رقم ١٠٣ من سورة المؤمنون ، إلى الآية ٢٤ من سورة النور.

٢٤٣

السورة « النور »

... [ وقوله سبحانه : ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ ] (١) عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٢٤] . وهذه استعارة على أحد التأويلات الثلاثة ، وهو أنه سبحانه يجعل فى الأيدى التي بسطت إلى المحظورات ، والأرجل التي سعت إلى المحرمات ، علامة تقوم مقام النطق المصرّح ، واللسان المفصح ، فى الشهادة على أصحابها ، والاعتراف بذنوبها.

فأما شهادة الألسنة فقد قيل إن المراد بها إقرارهم على نفوسهم بما واقعوه من المعاصي ، إذ علموا أن الكذب لا ينفعهم ، والجحود لا يغنى عنهم.

وليس ذلك بمناقض لقوله سبحانه : ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٢) لأنه قد قيل فى ذلك إنه جائز أن تخرج ألسنتهم من أفواههم فتنطق بمجرّدها ، من غير اتصال بجوزاتها ولهواتها. فيكون ذلك أعجب لها ، وأبلغ فى معنى شهادتها. ويختم فى تلك الحال على أفواههم.

وقيل يجوز أن يكون الختم على الأفواه إنما هو فى حال شهادة الأيدى والأرجل ، بعد ما تقدم من شهادة الألسن.

وأما التأويلان الآخران فى معنى شهادة الأيدى والأرجل ، فالكلام يخرج بهما عن حد الاستعارة إلى الحقيقة. وذلك أنهم قالوا : إن الله سبحانه يبنى الأيدى والأرجل بنية تكون هى الناطقة بما تشهد به عليهم ، من غير أن يكون النطق منسوبا إليهم.

__________________

(١) ما بين حاصرتين ، هو من القطعة الناقصة من الأصل وقد أكملناه.

(٢) سورة يس. الآية رقم ٦٥.

٢٤٤

وقوله سبحانه : ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ [٣١] وهذه استعارة. والمراد بها : إسبال الخمر التي هى المقانع على فرجات الجيوب ، لأنها خصاصات (١) إلى الترائب والصدور ، والثدي والشعور. وأصل الضرب من قولهم : ضربت الفسطاط. إذا أقمته بإقامة أعماده ، وضرب أوتاده. فاستعير هاهنا كناية عن التناهى فى إسبال الخمر ، وإضفاء الأزر.

وقوله سبحانه : ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٣٥] وهذه استعارة. والمراد بذلك عند بعض العلماء أنه هادى أهل السموات والأرض بصوادع برهانه ، ونواصع بيانه ، كما يهتدى بالأنوار الثاقبة ، والشّهب اللامعة.

وقال بعضهم : المراد بذلك ـ والله أعلم ـ الله منوّر السموات والأرض بمطالع نجومها ، ومشارق أقمارها وشموسها.

وقوله سبحانه : ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [٣٥] وهذه مبالغة فى وصف الزيت بالصفاء والخلاصة ، على طريق المجاز والاستعارة ، حتى يقارب أن يضيء من غير أن يتصل بنار ويناط بذلك.

وقوله سبحانه : ﴿ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [٣٧] وهذه استعارة. والمراد بتقلب القلوب هاهنا : تغيّر الأحوال عليها ، من الخوف والرجاء ، والسرور والغم ، إشفاقا من العقاب ، ورجاء للثواب. والأولى صفة أعداء الله ، والأخرى صفة أولياء الله.

وأما تقلّب الأبصار فالمراد به تكرير لحظ المؤمنين إلى مطالع الثواب ، وتكرير لحظ الكافرين إلى مطالع العقاب.

__________________

(١) الخصاصات : جمع خصاصة بفتح الخاء ، وهو الخرق فى الباب أو البرقع وغيرهما. والجمع خصاص وخصاصات.

٢٤٥

وقوله سبحانه : ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ، حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ، وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [٣٩] .

قوله تعالى : ﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ استعارة ومجاز. والمعنى : فوجد وعيد الله سبحانه عند انتهائه إلى منقطع عمله السيّئ ، فكاله بصواعه ، وجازاه بجزائه. وذلك يكون يوم المعاد ، وعند انقطاع تكليف العباد.

وقد قيل أيضا : إن الضمير في قوله تعالى : ﴿ عِندَهُ يعود إلى الكافر لا إلى عمله ، فكأنه تعالى قال : فوجد الله قريبا منه ، أي وجد عقابه مرصدا له ، فأخذه من كثب ، وجازاه بما اكتسب. وذلك كقول القائل : الله عند لسان كل قائل. أي يجازيه على قول الحق بالثواب ، وعلى قول الباطل بالعقاب. والقولان جميعا يؤولان إلى معنى واحد.

وقوله سبحانه : ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ ، وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ [٤٣] . وهذه استعارة على بعض التأويلات. لأن الجبال هاهنا يراد بها السحاب الثّقال ، تشبيها لها بكثائف أطوادها ، ومشارف هضابها. ويكون الضمير فى قوله سبحانه : ﴿ مِن جِبَالٍ فِيهَا عائدا على السماء لا على الجبال. فكأنّ التقدير : وينزل من جبال من السماء من برد ، يريد من السحاب المشبهة بالجبال. وتكون الفائدة فى قوله من جبال فى السماء تخصيص تلك الجبال من جبال الأرض. لأنا لو جعلنا الضمير الذي فيها عائدا على الجبال أوهم أنها جبال تنزل إلى الأرض من السماء. فإذا جعلنا الضمير عائدا إلى السماء أمن الالتباس ، وكان فى ذلك أيضا تعجّب لنا

٢٤٦

من وصف جبال فى السماء على طريق التشبيه ، لأن الجبال على الحقيقة لا تكون إلا فى قرارات الأرض ، وصفحات التّرب.

وقوله سبحانه : ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [٤٤] وهذه استعارة. والمراد بها طرد النهار بالليل ، وطرد الليل بالنهار. فكنى عن ذلك سبحانه باسم التقليب. وليس المراد تقليب (١) الأعيان ، بل تغاير الأزمان.

__________________

(١) أي ليس المراد التقليب المادي للأشياء العينية الذاتية.

٢٤٧

ومن السورة التي يذكر فيها « الفرقان »

قوله تعالى : ﴿ إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [١٢] وفى هذه الآية استعارتان. إحداهما قوله سبحانه : ﴿ إِذَا رَأَتْهُم وهو فى صفة نار جهنم ، نعوذ بالله منها ، ولا تصحّ صفة الرّؤية عليها. وإنما المراد ـ والله أعلم ـ إذا كانت منهم بمقدار مسافة لو كان بها من يوصف بالرؤية لرآهم. وهذا من لطائف التأويل ، وغرائب التفسير.

وقد يجوز أيضا أن يكون معنى ذلك : إذا قربت منهم ، وظهرت لهم. من قولهم : دور بنى فلان تتراءى. أي تتقارب. وفى الحديث : لا تتراءى نارا هما (١) أي لا تتدانى.

والاستعارة الأخرى قوله سبحانه : ﴿ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وهاتان الصفتان من صفات الحيوان ، ويختص التغيظ بالإنسان ، لأن الغيظ من أعلى منازل الغضب ، والغضب

__________________

(١) الحديث بأكمله فى « صحيح أبى داود » الجزء الأول. باب على ما يقال المشركون ، كتاب الجهاد. ص ٢٦١ ونصه : ( حدثنا هناد بن السرى ثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله. قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود ، فأسرع فيهم القتل قال : فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : أنا برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا يا رسول الله لم ؟ قال : لا تراءى ناراهما )

وفى سنن النسائي ج ٢ ص ٢٤٥ جاء هذا الحديث فى باب القود بغير حديدة. كتاب القسامة. وقد أورد المؤلف هذا الحديث فى كتابه « المجازات النبوية » وتحدث عما فيه من مجاز حديثا رائعا. صفحة ٢٠٠ من المجازات النبوية. طبعة القاهرة سنة ١٣٥٦ سنة ١٩٣٧ ، وجاء هذا الحديث فى « لسان العرب » وفسره صاحب اللسان ثم قال : وقال أبو عبيد : معنى الحديث أن المسلم لا يحل له أن يسكن بلاد المشركين ، فيكون معهم بقدر ما يرى كل واحد منهم نار صاحبه.

٢٤٨

لا يوصف بحقيقته إلا الناس. والزفير قد يشترك فى الصفة به الإنسان وغير الإنسان. وإنما المراد بهاتين الصفتين المبالغة فى وصف النار بالاهتياج والاضطرام ، على عادة المغيظ والغضبان.

وقوله تعالى : ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا [٢٣] وهذه استعارة. لأن صفة القدوم لا تصح إلا على من تجوز عليه الغيبة ، فتجوز منه الأوبة. والله سبحانه شاهد غير غائب ، وقائم غير زائل. فالمعنى : وقصدنا إلى ما عملوا ، أو عمدنا إلى ما عملوا. وذلك كقول القائل : قام فلان بفلان فى الناس. إذا أظهر ذمه وعيبه ، وليس يريد أنه نهض عن قعود ، وتحفّز بعد استقرار وسكون ، وإنما يريد أنه قصد إلى سبّه ، وتظاهر بثلبه. وقال الشاعر : (١)

فإنّ أباكم تارك ما سألتموا

فمهما أتيتم فاقدموه على علم

يقال : قدمت هذا الأمر. وأنا أقدمه. إذا أتيته وقصدته. وقد ذكر بعض العلماء فى ذلك وجها آخر. قال : إنما قال سبحانه : ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ لأنه عاملهم معاملة القادم من غيبة. أو كان ـ بطول إمهاله لهم ـ كالغائب عنهم ثم قدم ، فرآهم على خلاف ما أمرهم به ، واستعملهم فيه ، فأحبط أعمالهم الفاسدة ، وعاقبهم عقاب العاند عن الطاعة ، المرتكس فى الضّلالة. والمعتمد على القول الأول.

وقوله تعالى : ﴿ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا [٢٣] مجاز آخر. وذلك أنه لم يجعل عملهم على الحقيقة هباء منثورا ، وهو الغبار الدقيق هاهنا. ومنه الهابى. وإنما أراد سبحانه أنه أبطل ذلك العمل فعفا رسمه ، وسقط حكمه ، وبطل بطلان الغبار المحق ، والغثاء المتفرق.

__________________

(١) لم أعثر على اسم صاحب هذا البيت فى كثير من المراجع.

٢٤٩

وقوله تعالى : ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [٢٤] وهذه استعارة. لأن المقيل من صفات المواضع التي ينام فيها ، ولا نوم فى الجنة. وتقدير الكلام : وأحسن موضع قائلة. فكأن ذلك المكان من وثارة مهاده ، وبرد أفيائه ، يصلح أن ينام فيه لو كان ذلك جائزا. وهذا كقوله سبحانه فى ذكر أصحاب الجنة : ﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١) أي مثل أوقات البكرة والعشىّ المعهودين فى حال الدنيا. لأن الجنة لا يوصف زمانها بالأيام والليالى ، لأن ذلك من صفات الزمان الذي تتعاقب عليه الشمس طالعة وغاربة ، فيسمّى نهارا بطلوعها ، ويسمّى ليلا بقبوعها (٢)

وقوله سبحانه : ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا [٢٥] . وهذه استعارة. والمراد بها ـ والله أعلم ـ على أحد القولين صفة السماء فى ذلك اليوم بتعاظم الغمام فيها ، وانتشاره فى نواحيها. كما يقول القائل : قد تشققت الغمائم بالبرق ، وتشققت السحاب بالرعد. إذا كثر ذلك فيها. ليس أن هناك تشققا على الحقيقة ، فى قول أهل الشرع. وقيل أيضا : إن المراد بذلك انتقاض بنية السماء وتغيرها إلى غير ما هى عليه الآن ، كما تظهر فى البناء آثار التداعي ، وأعلام التهافت ، من تثلّم أطراف ، وتفطّر أقطار ، فيكون ذلك مؤذنا بانقضاضه ، ومنذرا بانتقاضه.

وقال سبحانه : ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ (٣) .

وقال تعالى : ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (٤) . ويكون انتقاض

__________________

(١) سورة مريم. الآية رقم ٦٢.

(٢) القبوع : الاختفاء ومنه : قبع النجم أي ظهر ثم خفى.

(٣) سورة إبراهيم. الآية رقم ٤٨.

(٤) سورة الأنبياء. الآية رقم ١٠٤ وقد سبق الحديث عن قراءة « للكتاب » و « للكتب » بالمفرد والجمع ، فى سورة الأنبياء.

٢٥٠

بنية السماء عن ظهور الغمام الذي آذننا سبحانه بمجيئه يوم القيامة ، إذ يقول عزّ من قائل : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١) .

ومعنى تشقّق السماء بالغمام. أي عن الغمام. كما يقول القائل : رميت بالقوس ، وعن القوس. بمعنى واحد.

وقوله تعالى : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [٤٣] . وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون فى الكلام تقديم وتأخير. فكأنه تعالى قال : أرأيت من اتخذ هواه إلهه. معنى ذلك أنه جعل هواه آمرا يطيعه ، وقائدا يتبعه ، فكأنه قد عبده لفرط تعظيمه له.

ومن أمثالهم : الهوى إله معبود. على المعنى الذي ذكرنا. وذكر أحمد بن يحيى البلاذري (٢) فى كتاب ( الأشراف ) أن هذه الآية نزلت فى الحارث بن قيس بن عدىّ السّهمى ، وهو من عبدة الأوثان ، لأنه كان كلما رأى حجرا أحسن من الذي اقتناه لعبادته أخذه واطّرح ما عبده.

وقوله سبحانه : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ، ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ،‏ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [٤٥] وفى هذه الآية استعارتان. إحداهما قوله تعالى (٣) [ : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ [٤٥] أي ] ألم تر إلى فعل

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية رقم ٢١٠.

(٢) هو المؤرخ الجغرافى النسابة : جالس الخليفة المتوكل العباسي ، ومدح المأمون ، ومات فى أيام المعتمد. سنة ٢٧٩ ه‍ . ومن كتبه « فتوح البلدان » وهو مصدر وثيق للفتوحات الإسلامية : وقد طبع بأوربا والقاهرة. وكتاب « الأشراف » .

(٣) ما بين حاصرتين ليس فى الأصل ، وقد وضعناه ، لأن السياق يقتضيه.

٢٥١

ربك أو إلى حكمة ربك فى مد الظل ، فحذف هذه اللفظة لدلالة الكلام عليها ، إذ كان الله سبحانه لا يدرك بالمشاعر ، ولا يرى بالنواظر. وقد يجوز أن يكون معنى الرؤية هاهنا معنى العلم. فكأنه سبحانه قال : ألم تعلم حكمة ربك فى مدّ الظل ؟ وإنما أقام سبحانه الرؤية هاهنا مقام العلم لتحقّق المخاطب الذي هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجهة الله تعالى فى ذلك الفعل ، فقامت معرفة قلبه مقام رؤية عينه ، قطعا باليقين ، وبعدا عن الظنون.

والاستعارة الأخرى قوله تعالى : ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا وهذه استعارة على القلب. لأن الظل فى الشاهد يدل على الشمس ، وذلك أن الظل لا يكون إلا وهناك شمس طالعة ، فيوصف ما لم تطلع عليه لحاجز يحجز ، أو مانع يمنع بأنه ظل. وقد قيل : إن الظل ما كان بالغداة ، والفيء ما كان بالعشيّ. وقيل : إن الظل ما نسخته الشمس ، والفيء ما نسخ الشمس ، فعلى هذا القول يجوز أن يكون معنى قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا أي دائما لا ترد الشمس عليه فتزيله وتذهب به ، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا. أي دللناها عليه ، فهى تتحيّف من أقطاره ، وتنتقص من أطرافه ، حتى تستوفى أجمعه ، وتكون بدلا منه. فهذا معنى قوله تعالى : ﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [٤٦] .

ويجوز أن يكون معنى دلالة الشمس على الظل أنه لو لا الشمس لم يعرف الظل. ويجوز أن يقول : لو لا الظل لم تعرف الشمس.

وقوله سبحانه : ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [٤٧] . وفى هذه الآية استعارتان. فإحداهما قوله تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا . والمراد باللباس هاهنا ـ والله أعلم ـ تغطية ظلام الليل النّشوز والقيعا [ ن (١) ، و] أشخاص الحيوان كما تغطّى الملابس الضّافية ، وتستر الجنن الواقية. وهذه العبارة من أفصح العبارات عن هذا المعنى.

__________________

(١) ما بين حاصرتين ليس بالأصل المخطوط.

٢٥٢

ومعنى السّبات : قطع الأعمال ، والرّاحة من الأشغال. والسّبت فى كلامهم : القطع.

والاستعارة الأخرى قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا والنشور فى الحقيقة : الحياة بعد الموت. وهو هاهنا مستعار الاسم لتصرّف الحىّ وانبساطه ، تشبيها للنوم بالممات ، واليقظة بالحياة. وذلك من أوقع التشبيه ، وأحسن التمثيل.

وقوله سبحانه : ﴿ لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا [٤٩] وهذه استعارة. وقد مضت الإشارة إلى نظيرها فى ( الأعراف ) (١) .

ووصف البلدة بالموت هاهنا محمول على أحد وجهين : إما أن تكون إنما شبّهت بالميت من فرط يبسها ، لتسلّط المحل عليها ، وتأخر الغيث عنها. أو يكون فيها من النبات والشجر لما مات لانقطاع الماء عنه حسن أن توصف هى بالموت لموت بنيها ، لأنها كالأم التي تكلفه ، والظّئر التي ترضعه.

وقوله سبحانه : ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [٥٣] وهذه استعارة. والمراد بذلك ـ والله أعلم ـ أنه خلّاهما من مذاهبهما ، وأرسلهما فى مجاريهما ، كما تمرج الخيل أي (٢) تخلّى فى المروج مع مراعيها.

فكان وجه الأعجوبة من ذلك أنه سبحانه مع التخلية بينهما فى تقاطعهما ، والتقائهما فى مناقعهما ، لا يختلط الملح بالعذب ، ولا يلتبس العذب بالملح.

__________________

(١) وهى فى الأوراق المفقودة من الكتاب.

(٢) فى الأصل « أن » وهو تحريف من الناسخ.

٢٥٣

ولغة أهل تهامة « مرجه » ولغة أهل نجد « أمرجه » وقال أبو عبيدة (١) : إذا تركت الشيء وخليته فقد مرجته. ومنه قولهم : مرج الأمير الناس. إذا خلّاهم بعضهم على بعض. والأمر المريج : المختلط الملتبس.

وقوله سبحانه : ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا [٦١] وقد قرئ : سرجا ، على الجمع. وهى قراءة حمزة والكسائىّ من السبعة. والباقون يقرءون : سراجا على التوحيد.

فمن قرأ « سرجا » أراد النجوم ، ومن قرأ « سراجا » أراد الشمس ، ويقوّى ذلك قوله سبحانه فى موضع آخر : ﴿ وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (٢) . ويقوّى قراءة من قرأ « سرجا » أن النجوم من شعائر الليل ، والسّرج بأحوال الليل أشبه منها بأحوال النهار.

وإنما شبهت النجوم بالسّرج لاهتداء الناس بها فى الظّلماء ، كما تهتدى بالمصابيح الموضوعة ، والنيران المرفوعة.

وقوله سبحانه : ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [٦٢] . وهذه استعارة ، ومعنى خلفة ـ فى بعض الأقوال ـ أي جعل الليل والنهار يتخالفان ، فإذا أتى هذا ذهب هذا ، وإذا أدبر هذا أقبل هذا.

وقيل : خلفة أي يخلف أحدهما الآخر ، فيكون ذلك من الخلافة لا من المخالفة.

__________________

(١) هو معمر بن المثنى النحوي البصري ، كان إماما فى اللغة والأدب. وقال فيه الجاحظ : لم يكن فى الأرض أعلم بجميع العلوم منه. واشتهر بحفظ حديث رسول الله. وقد استقدمه الرشيد إلى بغداد سنة ١٨٨ ه‍ وقرأ عليه أشياء من كتبه. وتوفى سنة ٢٠٩ ه‍ .

(٢) سورة نوح. الآية رقم ١٦.

٢٥٤

وقيل : خلفة. أي أحدهما (١) أسود ، والآخر أبيض. وهو أيضا راجع إلى معنى المخالفة.

وقوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [٧٣] وهذه استعارة. والمراد ـ والله أعلم ـ لا يصمّون عن قوارع النّذر ، ولا يعشون عن مواقع العبر.

__________________

(١) فى الأصل : « إحداهما » وهو تحريف من الناسخ.

٢٥٥

ومن السورة التي يذكر

فيها « الشعراء »

قوله سبحانه (١) : ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ ، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [٦١] وهذه استعارة. والمراد بها : العبارة عن التقارب والتداني. وإنما قلنا إن اللفظ مستعار ، لأنه قد يحسن أن يوصف به الجمعان ، وإن لم ير بعضهم بعضا بالموانع ، من مثار العجاج ، ورهج الطّراد. لأن المراد به تقارب الأشخاص ، لا تلاحظ الأحداق ، وذلك كقولهم فى الحيّين المتقاربين : تتراءى ناراهما. أي تتقابل وتتقارب. لكون النارين بحيث لو كان بدلا منهما إنسانان لرأى كل واحد منهما صاحبه. وقد أومأنا إلى ذلك فيما مضى (٢) .

ويقال أيضا : قوم رئاء ، على وزن فعال أي يقابل بعضهم بعضا. وكذلك بيوتهم رئاء إذا كانت متقابلة. ذكر ذلك أحمد بن يحيى ثعلب (٣) .

ومن هذا الباب الحديث المشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قوله : ( أنا

__________________

(١) فى الأصل : « ولما » بالواو وهو تحريف من الناسخ والصواب فلما. بالفاء.

(٢) فى الكلام فى مجازات سورة الفرقان. الآية رقم ١٢.

(٣) لم نجد لذلك ذكرا فى « مجالس ثعلب » التي نشرتها « دار المعارف » بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. ووجدنا ذلك فى « الأساس » للزمخشرى. وثعلب هو إمام الكوفيين فى النحو واللغة. اشتهر بالرواية والحفظ والصدق وكان ثقة. ومات بصدمة فرس سقط بسببها فى هوة فتوفى على الأثر سنة ٢٩١ ه‍ .

٢٥٦

برىء من كل مسلم مع مشرك. قيل : ولم يا رسول الله ؟ .... (١) لا تراءى ناراهما. وقد استقصينا الكلام على معنى هذا الخبر فى كتاب « مجازات الآثار النبوية » .

وقوله سبحانه ﴿ فَافْتَحْ بَيْنِي (٢) وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ، وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [١١٨] وهذه استعارة. والمراد بها ـ والله أعلم ـ فاحكم بيننا وبينهم حكما (٣) قاطعا ، وأمرا فاصلا : بفتح الباب المبهم بعد ما استصعب رتاجه ، وأعضل علاجه.

ويقال للحاكم : الفتّاح ، لأنه يفتح وجه الأمر بعد اشتباهه واستبهام أبوابه. وقال تعالى : ﴿ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٤) وقال بعض بنى ذهل بن زيد بن نهد (٥) :

و عمّى الّذى كانت فتاحة (٦) قومه

إلى بيته حتّى يجهّز غاديا

أي كان الحكم بين قومه فيه وفى أهل بيته إلى حين وفاته. وقال فتاحة قومه بكسر الفاء ، لأنها فى معنى الولاية والزعامة وما يجرى مجراهما.

وقوله سبحانه : ﴿ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [١٤٨] وهذه استعارة. والمراد بالهضيم هاهنا على بعض الأقوال ـ والله أعلم ـ الذي قد ضمن (٧) بدخول بعضه فى بعض ، فكأنّ بعضه هضم بعضا لفرط تكاثفه ، وشدة تشابكه.

__________________

(١) هنا نقص. وقد ذكرنا نص الحديث كاملا فى أول سورة الفرقان.

(٢) فى الأصل « بيننا » وهو تحريف من الناسخ.

(٣) مطموسة بالأصل. والسياق يدل عليها.

(٤) سورة سبأ. الآية رقم ٢٦.

(٥) لم أهتد إلى اسم هذا الشاعر.

(٦) وفى « اللسان » الفتاحة بالضم : الحكم ، والفتاحة والفتاحة أن تحكم بين خصمين. والفتاحة : الحكومة. قال الأشعر الجعفي :

ألا من مبلغ عمرا رسولا

فإنى عن فتاحتكم غنى

والفتاح : الحاكم. وأهل اليمن يقولون للقاضى : الفتاح.

(٧) هكذا بالأصل. ولعلها. ضم.

٢٥٧

وقيل : الهضيم اللطيف. وذلك أبلغ فى صفة الطّلع الذي يراد للأكل. وذلك مأخوذ من قولهم : فلان هضيم الحشا. أي لطيف البطن. وأصله النقصان من الشيء. كأنه نقص من انتفاخ بطنه ، فلطفت معاقد خصره. ومنه قوله تعالى : ﴿ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١) أي نقصا وثلما.

وقيل الهضيم الذي قد أينع وبلغ. وقيل أيضا هو الذي إذا مسّ تهافت من كثرة مائه ، ورطوبة (٢) أجزائه.

والقولان الأخيران يخرجان الكلام عن حد الاستعارة.

وقوله تعالى : ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [٢١٩] وهذه استعارة. وليس هناك تقلّب منه على الحقيقة. وإنما المراد به تقلّب أحواله بين المصلّين وتصرّفه فيهم بالركوع والسجود ، والقيام والقعود. وذهب بعض علماء الشيعة فى تأويل هذه الآية مذهبا آخر ، فقال : المراد بذلك تقلّب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أصلاب الآباء المؤمنين. واستدل بذلك على أن آباءه (٣) إلى آدم عليه‌السلام مسلمون ، لم تختلجهم خوالج الشرك ، ولم تضرب فيهم أعراق الكفر ، تكريما له عليه‌السلام عن أن يجرى إلا فى منزهات الأصلاب ، ومطهّرات الأرحام. وهذا الوجه يخرج به الكلام عن أن يكون مستعارا.

وقوله سبحانه : ﴿ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [٢٢٣] وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المراد بها أنهم يشغلون أسماعهم ، ويديمون إصغاءهم ليسمعوا من أخبار السماء ما يموّهون به على الضّلّال من أهل الأرض ، وهم عن السمع

__________________

(١) سورة طه. الآية رقم ١١٢

(٢) فى الأصل : « ولطوته » وهو تحريف والرطوبة مناسبة هنا لكثرة الماء.

(٣) فى الأصل : « أباه » بالمفرد وهو تحريف بدليل قوله بعد ذلك : مسلمون.

٢٥٨

بمعزل ، وعن العلم بمزجر. وذلك كقول القائل لغيره : قد ألقيت إليك سمعى. أي صرفته إلى حديثك ، ولم أشغله بشيء غير سماع كلامك.

والتأويل الآخر أن يكون السّمع هاهنا بمعنى المسموع ، كما يكون العلم بمعنى المعلوم (١) فيكون التأويل أن الشياطين يلقون ما يدّعون أنهم يستمعونه إلى كل أفاك أثيم ، من أعداء النبي صلّى الله عليه وعلى آله. على طريق الوسوسة واعتماد القدح فى الشريعة. وهذا الوجه يخرج الكلام عن حد الاستعارة.

وقوله سبحانه : ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ [ ٢٢٤ ، ٢٢٥ ] . وهذه استعارة. والمراد بها ـ والله أعلم ـ أن الشعراء يذهبون فى أقوالهم المذاهب المختلفة ، ويسلكون الطرق المتشعبة. وذلك كما يقول الرّجل لصاحبه إذا كان مخالفا له فى رأى ، أو مباعدا له فى كلام : أنا فى واد ، وأنت فى واد. أي أنت ذاهب فى طريق وأنا ذاهب فى طريق. ومثل ذلك قولهم : فلان يهبّ مع كل ريح ، ويطير بكل جناح. إذا كان تابعا لكل قائد ، ومجيبا لكل ناعق.

وقيل إن معنى ذلك تصرّف الشاعر فى وجوه الكلام من مدح وذم ، واستزادة ، وعتب ، وغزل ، ونسيب ، ورثاء ، وتشبيب. فشبّهت هذه الأقسام من الكلام بالأودية المتشعبة ، والسبل المختلفة.

ووصف الشعراء بالهيمان فيه (٢) فرط مبالغة فى صفتهم بالذهاب فى أقطارها ، والإبعاد فى غاياتها. لأن قوله سبحانه : ﴿ يَهِيمُونَ أبلغ فى هذا المعنى من قوله : يسعون ، ويسيرون. ومع ذلك فالهيمان صفة من صفات من لا مسكة له ولا رجاحة معه ، فهى مخالفة لصفات ذى الحلم الرزين ، والعقل الرصين.

__________________

(١) فى الأصل. « الملوم » وهو ظاهر التحريف.

(٢) فى الأصل « فيها » وهو تحريف.

٢٥٩

ومن السورة التي يذكر فيها

« النمل »

قوله تعالى : ﴿ إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [٧] وهذه استعارة على القلب. والمراد بها ـ والله أعلم ـ إنى رأيت نارا فآنستنى فنقل فعل الإيناس إلى نفسه على معنى : إنى وجدت النار مؤنسة لى ، كما سبق من قولنا فى تأويل قوله تعالى : ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا (١) أي وجدناه غافلا ، على بعض الأقوال.

وقريب من ذلك قوله تعالى : ﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا (٢) ولم تغرّهم هى ، وإنما اغتروا بها هم ، فلما كانت سببا للغرور حسن أن ينسب إليها ويناط بها.

وحقيقة الإيناس هى الإحساس بالشيء من جهة يؤنس بها ، وما أنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه.

وقوله سبحانه حاكيا عن ملكة سبإ : ﴿ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ [٣٢] وهذه استعارة. والمراد بقطع الأمر ـ والله أعلم ـ الرجوع بعد إجالة الآراء ، ومخض الأقوال إلى رأى واحد يصحّ العزم على فعله ، والعمل عليه دون غيره ، تشبيها بالإسداء والإلحام فى الثوب النسيج ، ثم القطع له بعد الفراغ منه. فكأنها أجالت الرأى عند ورود ما ورد عليها من دعاء سليمان عليه‌السلام لها إلى الإيمان به ، والاتباع له ، فميلت (٣) بين الامتناع

__________________

(١) سورة الكهف. الآية رقم ٢٨.

(٢) سورة الأعراف. الآية رقم ٥١.

(٣) ميلت : أي شكت انظر القاموس المحيط.

٢٦٠