تلخيص البيان في مجازات القرآن

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]

تلخيص البيان في مجازات القرآن

المؤلف:

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]


المحقق: محمد عبد الغني حسن
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

وقوله سبحانه : ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [٤٦] . وهذه استعارة. لأنه ليس هناك على الحقيقة كنان على قلب ، ولا وقر فى سمع. وإنما المراد أنهم ـ لاستثقالهم سماع القرآن عند أمر الله سبحانه نبيه عليه‌السلام بتلاوته على أسماعهم وإفراغه فى آذانهم ـ كالذين على قلوبهم أكنّة دون علمه ، وفى آذانهم وقر دون فهمه ، وإن كانوا من قبل نفوسهم أتوا ، وبسوء اختيارهم أخذوا. ولو لم يكن الأمر كذلك لما ذمّوا على اطراحه ، ولعذروا بالإضراب عن استماعه.

وقوله سبحانه : ﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ، إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ [٤٧] وهذه استعارة لأن النّجوى مصدر كالتقوى. وإنما وصفوا بالمصدر ، لما فى هذه الصفة من المبالغة فى ذكر ما هم عليه ، من كثرة تناجيهم ، وأسرار المكايد بينهم. والصفة بالمصادر تدلّ على قوة الشيء الموصوف بذلك. مثل قولهم : رجل رضا ، وقوم عدل. وما يجرى هذا المجرى.

وقوله سبحانه : ﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [٥٩] . وهذه استعارة. والمعنى : جعلنا الناقة آية مبصرة. أي مبصرة للعاشى (١) . ومذكّرة للناسى ، ومظنة لاعتبار المعتبر ، وتفكر المفكر. لأن من عجائب تلك الناقة تمخض الصخرة بها من غير حمل بطن ، ولا فرع فحل. وأنها كانت تقاسم ثمود الورد ، فلها يوم ولثمود يوم.

قال سبحانه : ﴿ لَّهَا شِرْبٌ ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (٢) فإذا كان يومها

__________________

(١) العاشى : اسم فاعل من عشا عن الشيء ، أي أعرض وصدر عنه إلى غيره.

(٢) سورة الشعراء الآية رقم ١٥٥.

٢٠١

شربت فيه الماء ، مثلما كانت ثمود تأخذ أشقاصها (١) وزروعها ، وأصرامها (٢) وشروبها. وهذا من صوادح العبر ، وقوارع النذر.

وقال بعضهم : يجوز أن يكون معنى مبصرة هاهنا أي ذات إبصار. والتأويلان يؤولان إلى معنى واحد.

وقوله سبحانه عن إبليس : ﴿ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [٦٢] وهذه استعارة على بعض التأويلات فى هذه الآية. وهو أن يكون الاحتناك هاهنا افتعالا من الحنك. أي لأقودنهم إلى المعاصي ، كما تقاد الدابة بحنكها ، غير ممتنعة على قائدها. وهى عبارة عن الاستيلاء عليهم ، والملكة لتصرفهم ، كما يملك الفارس تصرّف فرسه ، بثني العنان تارة ، وبكبح اللجام مرة.

وقال يعقوب (٣) فى « إصلاح المنطق » : [ يقال : حنك الدابة يحنكها حنكا ، إذا شدّ فى حنكها الأسفل حبلا يقودها به. وقد احتنك الدابة (٤) مثل حنكها ] إذا فعل بها ذلك.

وقال بعضهم : لأحتنكنّ ذرّيّته. أي لألقينّ فى أحناكهم حلاوة المعاصي ، حتى يستلذوها ، ويرغبوا فيها ويطلبوها. والقول الأول أحبّ إلىّ.

__________________

(١) الأشقاص : جمع شقص بكسر الشين ، وهو القطعة من الشيء أو من الأرض.

(٢) الأصرام : جمع صرم بكسر الصاد ، وهو الجماعة من الشيء أو من البيوت.

(٣) هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ، المعروف بابن السكيت ، وكان أبوه من أصحاب الكسائي المشهور فى اللغة والنحو. أما صاحبنا فقد شهد له المؤرخون بالعلم الغزير فى اللغة والشعر والثقة فى الرواية. وكتابه « إصلاح المنطق » يقول فيه المبرد : « ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب يعقوب بن السكيت فى المنطق » . توفى سنة ٢٤٤. وقد طبع « إصلاح المنطق » طبعة موثقة بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر ، وعبد السلام محمد هارون.

(٤) فى « إصلاح المنطق » ص ٨٢ ( وقد احتنك دابته ) .

٢٠٢

وقال بعضهم : لأستأصلنّ ذريته بالإغواء ، ولأستقصينّ إهلاكهم بالإضلال ، لأن اتباعهم غيه وطاعتهم أمره يؤولان بهم إلى موارد الهلاك ، وعواقب البوار.

وقال الشاعر :

نشكو إليك سنة قد أجحفت

و احتنكت أموالنا وجلّفت (١)

أي أهلكت أموالنا.

ويقال : احتنكه إذا استأصله وأهلكه. ومن ذلك قولهم : احتنك الجراد الأرض. إذا أتى على نبتها.

وقيل أيضا : المراد بذلك لأضيّقن عليهم مجارى الأنفاس من أحناكهم ، بإيصال الوسوسة لهم ، وتضاعف الإغواء عليهم ، ويقال : احتنك فلان فلانا. إذا أخذ بمجرى النفس من حنكه ، فكان كالشبا (٢) فى مقلته والشجا (٣) فى مسعله.

وقوله سبحانه ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ [٧٨] وهذه استعارة. لأن الدالك : المائل فى كلامهم. فكأنه سبحانه أمر بإقامة الصلاة عند ميل الشمس. فقيل عند ميلها للزوال ، وقيل عند ميلها للغرب. والشمس على الحقيقة لا تميل عن موضعها ولا تزول عن مركزها ، وإنما تعلو أو تنخفض ، وترتفع بارتفاع الفلك وانخفاضه ، وسيره وحركاته.

وقوله سبحانه : ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [٨١]

__________________

(١) ورد هذا الرجز فى « مجازات القرآن » لأبى عبيدة هكذا :

نشكو إليك سنة قد أجحفت

جهدا إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وجلفت

انظر « مجازات القرآن » لأبى عبيدة. طبعة سامى الخانجى ص ٣٨٤. والرجز كذلك فى « الجامع لأحكام القرآن » ج ١٠ ص ٢٨٧. ولم ينسبه أبو عبيدة ولا القرطبي لقائله.

(٢) الشبا : جمع شباة وهى حد السيف أو قدر ما يقطع به منه.

(٣) فى الأصل السجا بالسين المهملة. ولعله تحريف من الناسخ. فإن الشجا بالشين المعجمة ما يعترض الحلق فيشجى به.

٢٠٣

وهذه استعارة. لأنهم يقولون : زهقت نفس فلان إذا خرجت. ومنه قوله تعالى : ﴿ وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (١) فالمراد ـ والله أعلم ـ وهلك الباطل إنّ الباطل كان هلوكا. تشبيها له بمن فاضت نفسه ، وانتقضت بنيته. لأن الباطل لامساك لذمائه ، ولا سماك لبنائه.

وقوله سبحانه : ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ [٨٤] وهذه استعارة. لأن الأولى أن يكون المراد هاهنا بالشاكلة ـ والله أعلم ـ الطريقة التي تشاكل أخلاق الإنسان ، وتوافق طبيعته. وذلك مأخوذ من الشاكلة ، وجمعها شواكل ، وهى الطرق المتّسعة (٢) عن المحجة العظمى. فكأن الدنيا هاهنا مشبّهة بالطريق الأعظم ، وعادات الناس فيها ، وطبائعهم التي جبلوا عليها مشبهة بالطرق المختلجة من ذلك الطريق ، الذي هو المعمود وإليه الرجوع.

وقال بعضهم : الشاكلة العلامة ، وأنشد :

بدت شواكل حبّ كنت تضمره

فى القلب أن هتفت فى الدّار ورقاء (٣)

فكأنه تعالى قال : كلّ يعمل على الدلالة التي نصبت لاستدلاله ، والأمارة التي رفعت لاهتدائه.

وقوله سبحانه : ﴿ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ [١٠٠] وهذه استعارة ، والمراد بالخزائن هاهنا المواضع التي جعلها الله سبحانه وتعالى

__________________

(١) سورة التوبة. الآية رقم ٥٥.

(٢) هكذا بالأصل. ولعلها : المتشعبة.

(٣) لم أهتد إلى قائل هذا البيت.

٢٠٤

جعات (١) لدرور الرزق ومنافع الخلق. وإلى تلك المواضع ترفع الأيدى عند السؤال والرغبات ، واستدراك (٢) الخير والبركات.

وقوله سبحانه : ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ [١٠٦] وهذه استعارة ، ومعنى فرقناه : أي بيّناه للناس بنصوع مصباحه ، وشدوخ أوضاحه ، حتى صار كمفرق الفرس فى وضوح مخطّه (٣) أو كفرق الصبح فى بيان منبلجه.

وقال بعضهم : معنى فرقناه أي فصّلناه سورا وآيات. وذلك بمنزلة فرق الشعر ، وهو تمييز بعضه من بعض ، حتى يزول التباسه ، ويتخلص التفافه.

__________________

(١) هكذا بالأصل. ولم أوفق إلى تحقيقها ، ولما كان الناسخ ضبط آخرها بكسرتين ، فهى جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة على أنها مفعول به لجعل. ولعلها « جفنات » .

(٢) هكذا بالأصل ، ولا معنى لها ولعلها « واستدرار »

(٣) المخط هو مكان الخط أو الفرق فى مفرق الحصان.

٢٠٥

ومن السورة التي يذكر فيها « الكهف »

قوله سبحانه : ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ، قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ [١] وهذه استعارة. لأن حقيقة العوج أن يكون فيما يصح عليه أن ينصاب أو يميل ويضطرب ويستقيم. وهذه من صفات الأجسام ، لا من صفات الكلام.

فنقول : إنما وصف القرآن ـ والله أعلم ـ بأنه قيّم لا عوج فيه ، ذهابا إلى نفى الاختلاف عن معانيه ، والتناقض فى أوضاعه ومبانيه. وأنه غير ناكب عن المنهاج ، ولا مستمر على الاعوجاج.

وقوله سبحانه : ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [٥] ووصف الكلمة هاهنا بالكبر استعارة. والمراد أن معناها فظيع ، وفحواها عظيم. وتقدير الكلام : كبرت الكلمة كلمة.

وللنصب هاهنا وجهان : أحدهما أن يكون على تفسير المضمر. مثل قولهم : نعم رجلا زيد ، وبئس صاحبا عمرو. والوجه الآخر أن يكون على التمييز فى الفعل المنقول ، نحو : ساءت مرتفقا ، وتصبّب عرقا.

وقوله سبحانه : ﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [٨] وهذه استعارة. لأن المراد بالجرز هاهنا الأرض التي لا نبات فيها ، وذلك مأخوذ من قولهم : ناقة جروز. إذا كانت كثيرة الأكل ، لا يكاد لحياها يسكنان من قضم الأعلاف (١) ،

__________________

(١) فى الأصل : الأحلاف. ولا معنى له هاهنا والأعلاف جمع علف ، وهو ما تعلفه الدابة.

٢٠٦

ونشط (١) الأعشاب. ومن ذلك قولهم : سيف جراز. إذا كان يبرى المفاصل ، ويقط الضرائب.

وإنما سمّيت تلك الأرض جرزا إذ كانت كأنّها تأكل نبتها ، فلا تدع منه نابغة ، ولا تترك طالعة. ونظير ذلك قولهم : أرض جدّاء : لا ماء فيها. تشبيها بالناقة التي لا لبن فيها ، وهى الجدّاء (٢) .

وقوله سبحانه : ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [١١] . وهذه استعارة. لأن المراد بها منع آذانهم من استماع الأصوات ، وهمس الحركات. قال بعضهم : وذلك كالضرب على الكتاب لتشكل حروفه ، فتمتنع على القارئ قراءته.

وإنما دلّ تعالى على عدم الإحساس بالضّرب على الآذان ، دون الضرب على الأبصار ، لأن ذلك أبلغ فى الغرض المقصود ، من حيث كانت الأبصار قد يضرب عليها من غير عمى ، ولا يبطل إدراك بقية الحواس جملة ، وذلك عند تغميض الإنسان عينه. وليس كذلك منع الاستماع من غير صمم ، لأنه إذا ضرب عليها من غير صمم بالنوم الذي هو السهو على صفة دل ذلك على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك. ولأن الأذن لما كانت طريقا إلى الأنباء ثم ضرب عليها ، لم يكن سبيل إلى الانتباه ، فبطل استماعهم. وفى هذا القول بعض التخليط.

__________________

(١) نشطت الدابة العشب : إذا أكلته بسرعة وخفة. وقد نشطت الدابة : أي سمنت.

(٢) الناقة الجداء : هى الصغيرة الثدي ، أو المقطوعة الأذن ، أو التي ذهب لبنها. انظر الفيروزآباذى مادة « جدد » .

٢٠٧

والذي أذهب إليه فى ذلك ما ذكرته فى كتابى الكبير على شرح واستقصاء ، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى : ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ والله أعلم ، أي أخذنا أسماعهم. ويكون ذلك من قول القائل : قد ضرب فلان على مالى. أي أخذه وحال بينى وبينه ، فأما تشبيه ذلك بالضرب على الكتاب حتى تشكل حروفه على المتأمل ففيه بعد وتعسّف.

وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك : وضربناهم على آذانهم ، من الضرب الحقيقي ، تشبيها بمن ضرب على سماخه (١) ، فهو موقوذ (٢) مأموم (٣) ، ومشدوه (٤) مغمور.

وقوله سبحانه : ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [١٤] . الآية. وهذه استعارة. لأن الربط هو الشدّ. يقال : ربطت الأسير. إذا شددته بالحبل والقدّ (٥) . والمراد بذلك : شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية (٦) ، فتنضمّ على مكنونها ، ويؤمن التبدد على ما استودع فيها. أي فشددنا على قلوبهم لئلا تنحلّ معاقد صبرها (٧) وتهفو عزائم جلدها. ومن ذلك قول القائل لصاحبه : ربط الله على قلبك بالصبر.

__________________

(١) السماخ والصماخ واحد. وهو خرق الأذن الباطن الماضي إلى تجويف الرأس.

(٢) الموقوذ : المضروب ضربا شديدا حتى أشرف على الموت.

(٣) أمه : شجه ، فهو مأموم.

(٤) المشدوه : المشدوخ الرأس.

(٥) القد : السير من الجلد.

(٦) الأوكية : جمع وكاء ، وهو رباط القربة أو ما تشد به.

(٧) فى الأصل : صعرها. وهو تحريف ، وقد أصلحناه من السياق فى لفظة الجلد المقابلة.

٢٠٨

وقوله سبحانه : ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ، وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا [١٦] . وفى هذه الآية استعارتان : إحداهما قوله تعالى : ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ والرحمة هاهنا بمعنى النعمة. ولم يكن هناك مطوى فينشر ، ولا مكنون فيظهر. وإنما المراد بذلك : يسبغ الله عليكم نعمته ، على وجه الظهور والشياع ، دون الإخفاء والإسرار. فيكون ذلك كنشر الثوب المطوى وإظهار الشيء الخفي ، فى شياع الأمر ، وانتشار الذكر. والاستعارة الأخرى قوله تعالى : ﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا [١٦] . وأصل المرفق ما ارتفق به. وهو مأخوذ من المرفقة. وهى التي يرتفق عليها ، أي يعتمد عليها بالمرفق.

ويقال مرفق ، ومرفق بمعنى واحد. وقد قرئ بهما جميعا بمعنى واحد. فكأنه قال : يهيئ لكم من أمركم ما تعتمدون عليه وتستندون إليه ، ويكون لظهوركم عمادا ، ولأعضادكم سنادا.

وقوله سبحانه : ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ، وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ [١٧] . وفى هذه الآية استعارتان : أولاهما قوله تعالى فى ذكر الشمس : ﴿ تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ لأن التزاور أصله الميل ، وهو مأخوذ من الزّور ، وهو الصدر. فكأنه سبحانه قال : إن الشمس تميل عن هذا الموضع ، كما يميل المتزاور عن الشيء بصدره ووجهه. ويبين بذلك عن موضع الكهف المشار إليه من جهات المشرق والمغرب أن الشمس لا يلحقه ثوبها عند الشروق ، ولا ينفض عليه (١) ... آخر الغروب.

__________________

(١) هنا لفظة غير واضحة بالأصل.

٢٠٩

والاستعارة الأخرى قوله تعالى : ﴿ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ . وفى ذلك قولان : أحدهما أن يكون المراد أنها تقرضهم فى ذات الشمال ، أي أنها تجوزهم عادلة بمطرح شعاعها عنهم. من قولهم : قرضت الشيء بالمقراض. إذا قطعته به. والمقراض متجاوز لأجزائه أولا حتى ينتهى إلى آخره. والقول الثاني : أن يكون المراد أنها تعطيهم القليل من شعاعها عند مرها بهم ، ثم تسترجعه عند انصرافها عنهم. تشبيها بقرض المال الذي يعطيه المعطى ليستردّه ، ويقدمه ليرتجعه. ومعنى قرض المال أيضا مأخوذ من القطع ، لأن المقرض يعطى للمقترض شقة من ماله ، وقطعة من حاله.

وقوله سبحانه : ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [٢١] . وهذه استعارة. والمراد ـ والله أعلم ـ وكذلك أطلعنا عليهم. إلا أن فى لفظ الإعثار فائدة ، وهى مصادفة الشيء عن غير طلب له ولا إحساس به ، وهو « أفعلنا » من الإعثار. وأصله أن الساعي فى طريقه إذا صدّ قدمه ، أو نكب إصبعه شىء ، ففي الأغلب أنه يقف عليه متأملا له ، وناظرا إليه. فكأنه استفاد علم ذلك من غير أن تتقدم معرفته به. ومن ذلك قول القائل لغيره : لأعثرنّ عليك بخطيئة فأعاقبك. أي لأقفن على ذلك منك.

وعلى هذا قوله سبحانه : ﴿ فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا (١) . أي اطّلع على ذلك منهما ، واستفيد العلم به من باطن أمرهما.

وقوله سبحانه : ﴿ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ [٢٢] . وهذه استعارة لأن الرجم هاهنا هو القذف بالظن ، والقول بغير علم. ومن عادة

__________________

(١) سورة المائدة. الآية رقم ١٠٧.

٢١٠

العرب أن تسمى القائل بالظن راجما وقاذفا ، وتسمى السّابّ الشاتم راميا راجما. ويقولون : هذا الأمر غيب مرجّم. أي يرميه الناس بظنونهم ، ويقدرونه بحسابهم.

ومرجّم إنما جاء لتكثير العمل ، كأنه يرمى من هاهنا ، ومن هاهنا. وإنما سمى الظان راجما لأنه يوجه الظن إلى غير جهة مطلوبة ، بل يظن هذا ، ويظن هذا ، كالراجم الذي لا يعلم مواقع أحجاره إذا رمى بها فى الجهات. فتارة تقع يمينا وتارة تقع شمالا.

وقوله سبحانه : ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [٢٨] وهذه استعارة. على أحد التأويلات فى هذه الآية. وهو أن يكون المراد بذلك : أننا تركنا قلبه غفلا من السّمات التي تتسم بها قلوب المؤمنين ، فتدل على زكاء أعمالهم ، وصلاح أحوالهم. كقوله سبحانه : ﴿ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ (١) وذلك تشبيه بالبعير إذا أغفل فترك بلا سمة يعرف بها ، على عادة العرب فى إقامة السّمات مقام العلامات المميزة بين أموالهم فى الموارد والمراعى وتعريف الضوالّ. وفى هذه الآية أقوال أخر ، القول الذي قدمناه أدخلها فى باب الاستعارة. منها أن يكون معنى ﴿ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ أي نسبناه إلى الغفلة. كقول القائل أكفرت فلانا. إذا نسبته إلى الكفر ، وأبخلته إذا نسبته إلى البخل.

ومنها أن يكون المراد : سميناه غافلا بتعرضه للغفلة ، فكأن المعنى : حكمنا عليه بأنه غافل. كما يقول القائل : قد حكمت على فلان بأنه جاهل. أي لما ظهر الجهل منه وجب هذا القول فيه.

ومنها أن يكون ذلك من باب المصادفة. فيكون المعنى : صادفنا قلبه غافلا. كقول

__________________

(١) سورة المجادلة الآية رقم ٢٢

٢١١

القائل أحمدت فلانا. أي وجدته محمودا. وذلك يؤول إلى معنى العلم. فكأنه تعالى قال : علمناه غافلا. وعلى هذا قول عمرو بن معديكرب (١) لبنى سليم : ( لله درّكم يا بنى سليم ! والله لقد قاتلناكم فما أجبنّاكم ، وهاجيناكم فما أفحمناكم ، وسألناكم فما أبخلناكم ) أي لم نصادفكم على هذه الصفات ، من الجبن عند النزال ، والبخل عند السؤال ، والعىّ عند المقال (٢) .

وعلى ذلك قول نافع (٣) بن خليفة الغنوىّ.

سألنا فأحمدنا ابن كلّ مرزّإ

جواد وأبخلنا ابن كلّ بخيل

أي وجدنا هذا محمودا ، ووجدنا هذا بخيلا مذموما.

وفيما علقته عن قاضى القضاة أبى الحسين عبد الجبار (٤) بن أحمد ـ أدام الله توفيقه ـ عند قراءتى عليه كتابه الموسوم « بتقريب الأصول » فى أخريات من الكلام فى

__________________

(١) عمرو بن معديكرب الزبيدي كان فارسا من فرسان اليمن وصاحب غارات مشهورة. وقد على النبي عليه‌السلام سنة ٩ ه‍ فأسلم وقومه ، ولما توفى النبي ارتد عن الإسلام ، ثم رجع إليه فحسن إسلامه وشهد واقعة القادسية وسائر الفتوح. ومن شعره قصيدته التي يقول فيها :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وتوفى سنة ٢١ ه‍ على مقربة من مدينة الري.

(٢) كان مقتضى الترتيب هنا أن يقول : من الجبن عند النزال ، والعي عند المقال ، والبخل عند السؤال ، ليصح التقسيم.

(٣) نافع بن خليفة الغنوي شاعر روى القالي قطعة من شعره فى « ذيل الأمالى » ص ١١٦ ، كما ذكر الجاحظ فى « البيان والتبيين » أبياتا من شعره ج ١ ص ١٧٦. وقد جهدت ـ بعد جهد العلامة عبد العزيز الميمنى ـ فى معرفة شىء عنه فلم أوفق. ويقول عنه فى « سمط اللآلى » : ( ونافع لم أعرفه ، ولا ذكره الآمدى ) ج ٣ من السمط ص ٥٥.

(٤) هو أبو الحسين الشافعي المعتزلي. وكان أحد شيوخ المؤلف. قرأ عليه فى مجازات القرآن وفى المجازات النبوية. وكان شيخ الاعتزال فى عصره. ويلقب بقاضى القضاة ولا يطلقون هذا اللقب على غيره. توفى بالري سنة ٤١٥. انظر الأعلام للزركلى ، والغدير ج ٤ للأمينى ص ١٦٣. وقد كان فى الأصل « أبو الحسن » فأصلحناه عن « الأعلام »

٢١٢

التعديل والتجوير ، أنه لو لم يكن الأمر على ما قلناه فى إغفال القلب من أن المراد بذلك مصادفته غافلا ، وكان على ما قاله الخصوم من أنه تعالى صدف به عن أمره ، وصرفه عن ذكره لوجب أن يقول سبحانه : فاتّبع هواه. لقول القائل : أعطيته فأخذ ، وبسطته فانبسط ، وأكرهته فأذل. أي كانت هذه الأفعال منه مسببة عن أفعالى به. لأن هذا وجه الكلام فى الأغلب الأعرف. فلما جاء بالواو صار كأنه قال : ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه. لأنه إذا وجد غافلا فهو الذي غفل ، والفعل حينئذ له ومنسوب إليه.

وقوله سبحانه : ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ، وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [٢٩] . وفى هذه الآية استعارتان : أولاهما قوله تعالى : ﴿ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا والسرادق هو الفسطاط المحيط به. فوصفه (١) ـ سبحانه ـ النار بالإحاطة والاشتمال فلا ينجو منها ناج ، ولا يطلق منها عان. وذلك كقوله تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٢) . أي حبسا تحصرهم ، وطولا تقصرهم ، ومثل قوله سبحانه ﴿ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا قوله : ﴿ إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٣) والمؤصدة : المغلقة المطبقة. من قولهم أوصدت الباب وأصّدته (٤) . إذا أغلقته وأطبقته. وقرئ : عمد وعمد.

والمراد بقوله سبحانه : ﴿ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ مثل المراد فى قوله : ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا

__________________

(١) هكذا بالأصل. وهو تحريف من الناسخ صوابه « فوصف » .

(٢) سورة الإسراء. الآية رقم ٨.

(٣) سورة الهمزة الآيتان ٨ ، ٩.

(٤) ويقال أيضا آصد الباب على وزن أفعل مثل أصد بالتضعيف.

٢١٣

تشبيها بتمديد الأخبية والسرادقات بالأطناب ، وإقامتها على الأعماد.

والاستعارة الأخرى قوله تعالى : ﴿ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا والمرتفق : المتكأ ، وهو ما يعتمد عليه بالمرفق ، ومنه المرفقة وهى المخدّة. وذلك نظير قوله سبحانه : ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١) فلما جاء سبحانه بذكر السرادق جاء بذكر المرافق ، ليتشابه الكلام.

وروى عن بعضهم أنه قال : معنى مرتفقا. أي مجتمعا ، كأنه ذهب إلى معنى : وساءت مرافقة. والمرافقة لا تكون إلا بالاجتماع جماعة. وهذا القول يخرج الكلام عن حدّ الاستعارة فيدخله فى باب الحقيقة. والوجه الأول أقوى. ويشهد له قوله سبحانه : ﴿ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ، نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [٣١] فجاء بذكر الارتفاق لما قدّم ذكر الاتكاء. وهذا أوضح (٢) مشاهد.

وقوله سبحانه : ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا [٣٣] . وهذه استعارة. لأن الظلم هاهنا ليس على أصله فى اللغة ، ولا على عرفه فى الشريعة. لأنه فى اللغة اسم لوضع الشيء فى غير موضعه. وفى الشريعة اسم للضرر المفعول ، لا على وجه الاستحقاق ، ولا فيه استجلاب نفع ، ولا دفع ضرر.

والمراد بقوله تعالى هاهنا : ﴿ وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا أي لم تمنع منه شيئا. وإنما حسن أن يعبر عن هذا المعنى باسم الظلم من حيث كان ثمر تلك الجنة التي هى البستان كالمستحق لمالكها. فإذا أخذ حقه على كماله وتمامه حسن أن يقال : إنها لم تظلم منه شيئا. أي لم

__________________

(١) سورة الرعد. الآية رقم ٢٠ وفى سورة آل عمران. آية رقم ١٩٧ قوله تعالى « ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد » فالآيتان متشابهتان إلا فى « ثم » بدلا من الواو.

(٢) هكذا بالأصل. ولعلها : واضح.

٢١٤

تمنع منه مستحقا ، فتكون فى حكم الظالم إذ أضرت بمالكها فى نقصان زروعها ، وإخلاف ثمارها. ومما يقوّى ذلك قوله سبحانه : ﴿ آتَتْ أُكُلَهَا . أي أعطت أكلها. فلما جاء بلفظ الإعطاء حسن أن يجيء بلفظ الظلم. ومعناه هاهنا المنع. فكأنه تعالى قال : أعطت ما استحق عليها ، ولم تمنع منه شيئا.

وقوله تعالى : ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [٥٦] وهذه استعارة. وأصل الدّحض الزّلق. ومكان دحض : أي مزلق. فكأنه سبحانه قال : ليزلّوا الحق بعد ثباته ، ويزيلوه عن مستقراته. فيكون كالكسير بعد قوته ، والمائل بعد استقامته.

وقوله سبحانه : ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [٥٧] . وهذه استعارة. لأن المراد بذكر اليدين هاهنا ما كسبه الإنسان من العمل الذي يجر العقاب ، ويوجب النكال. ومثله فى القرآن كثير. كقوله سبحانه : ﴿ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ (١) وذلك على طريقة للعرب معروفة. وهو أن يقولوا للجانى المعاقب : هذا ما جنت يداك. وهذا ما كسبت يداك. وإن لم تكن جنايته عملا بيد ، بل كانت قولا بفم. لأن الغالب على أفعال الفاعلين أن يفعلوها بأيديهم ، فحمل الأمر على الأعرف ، وخرج على الأكثر. وعلى هذا المعنى تسمى النعمة يدا ، لأن المنعم فى الأغلب يعطى بيده ما ينعم به ، وإن لم يقع ذلك فى كل حال ، وإنما الحكم للأظهر ، والقول على الأكثر.

وقوله سبحانه : ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [٧٧] وهذه استعارة. لأن الإرادة على حقيقتها لا تصح على الجماد. والمعنى : يكاد أن ينقضّ ، أي

__________________

(١) سورة آل عمران. الآية رقم ١٨٢.

٢١٥

يقارب أن ينقضّ. على التشبيه بحال من يريد أن يفعل فى الباني ، لأنه لما ظهرت فيه أمارات الانقضاض ، من ميل بعد انتصاب ، واضطراب بعد ثبات ، حسن أن يطلق عليه إرادة الوقوع ، على طريقة الاتساع (١) .

وترد فى كلامهم كاد بمعنى أراد ، وأراد بمعنى كاد. وجاء فى القرآن العظيم قوله تعالى :

﴿ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ (٢) أي أردنا ليوسف.

وقوله سبحانه : ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا (٣) معناه ـ على أحد الأقوال ـ أريد أخفيها. ومما ورد فى أشعارهم شاهدا على ذلك قول عمر بن أبى ربيعة :

كادت وكدت ، وتلك خير إرادة

لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى (٤)

فقال : وتلك خير إرادة ، والإشارة إلى كادت ، وكدت.

وأوضح من هذا قول الأفوه الأودى (٥)

فإن تجمّع أوتاد وأعمدة

و ساكن بلغوا الأمر الذي كادوا

أي الذي أرادوا.

__________________

(١) فى الأصل. « الاتسباع » وهو تحريف من الناسخ.

(٢) سورة يوسف. الآية رقم ٧٦.

(٣) سورة طه. الآية رقم ١٥.

(٤) هذا البيت لم ينسب لقائله فى « شرح شواهد الكشاف » المسمى « تنزيل الآيات ، على الشواهد من الأبيات » للعلامة محب الدين أفندى ، ولم ينسبه القرطبي لأحد وإنما نقل عن الأنبارى قوله : وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر ـ انظر « جامع أحكام القرآن » ج ١١ ص ١٨٤.

(٥) هو صلاءة بن عمرو بن مالك. وهو شاعر يمانى جاهلى اشتهر بالسيادة والقيادة. وهذا البيت من قصيدة مشهورة يقول فيها :

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

وقبل بيت الشاهد هذا البيت :

والبيت لا يبتنى إلا له عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

وقد نسبه صاحب « شواهد الكشاف » للراقدة الأودى ، وهو تحريف مطبعى ، لأن مثل هذا لا يخفى على العلامة محب الدين.

٢١٦

فأما قول الشاعر (١) .

يريد الرمح صدر أبى براء

و يرغب عن دماء بنى عقيل

فليس يصح حمله على مقاربة الفعل ، كما قلنا فى قوله سبحانه : ﴿ جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ لأنه لا يستقيم على الكلام أن يقول : يكاد الرمح صدر أبى براء. وإنما ذلك على سبيل الاستعارة ، لأن صاحب الرمح إذا أراد ذلك كان الرمح كأنه مريد له. فأما قول الراعي يصف الإبل :

فى مهمه فلقت به هاماتها

فلق الفئوس إذا أردن نصولا (٢)

فإنه بمعنى مقاربة الفعل ، لأن الفئوس إذا فلقت فى نصبها قاربت أن تسقط ، فجعل ذلك كالإرادة منها. والنصول هاهنا مصدر نصل نصولا ، مثل وقع وقوعا. وهذا البيت من أقوى الشواهد على الآية.

وقوله سبحانه : ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [٩٩] وهذه استعارة. لأن أصل الموجان من صفات الماء الكثير ، وإنما عبّر سبحانه بذلك عن شدة اختلافهم ودخول بعضهم فى بعض لكثرة أضدادهم ، تشبيها بموج البحر المتلاطم ، والتفاف الدبا (٣) المتعاظل.

__________________

(١) لم ينسب هذا البيت لقائله فى « جامع أحكام القرآن » ج ١١ ص ٢٦ ، وكذلك لم ينسبه ابن مطرف الكناني فى كتابه « القرطين » طبع الخانجى ص ٢٦٩ واكتفى بما أنشده السجستاني عن أبى عبيدة. وكذلك لم ينسبه ابن قتيبة فى « تأويل مشكل القرآن » ولا « لسان العرب » . وأبو براء هو عامر بن مالك ولقبه ملاعب الأسنة. وترى أخباره فى « الشعر والشعراء » لابن قتيبة صفحات ٢٣١ ، ٢٣٥ ، ٢٩٥ ، ٣٤٠ ، ٣٤١. وقد كان البيت فى الأصل : « تريد الريح ... إلخ » فأصلحناه عن القرطبي وابن مطرف الكناني.

(٢) لم ينسب هذا البيت لقائله فى القرطبي ج ١١ ص ٢٦.

(٣) الدبا : الجراد الصغير ، أو النمل. والمتعاظل : المتراكب بعضه فى بعض

٢١٧

وقوله سبحانه : ﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي [١٠١] وهذه استعارة. وليس المراد أن عيونهم على الحقيقة كانت فى غطاء يسترها وحجاز يحجزها. وإنما المعنى أنهم كانوا ينظرون فلا يعتبرون ، أو تعرض لهم العبر فلا ينظرون. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى : ﴿ عَن ذِكْرِي لأن الأعين لا توصف بأنها فى غطاء عن ذكر الله تعالى ، لأن ذلك من صفات ذوى العيون. وإنما المراد أن أعينهم كانت تذهب صفحا عن مواقع العبر ، فلا يفكرون فيها ، ولا يعتبرون بها ، فيذكرون الله سبحانه عند إجالة أفكارهم ، وتصريف خواطرهم. وهذا من غرائب القرآن وعجائبه ، وغوامض هذا الكلام ومناسبه.

وقوله سبحانه : ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [١٠٤] وهذه استعارة. وأصل الضلال ذهاب القاصد عن سنن (١) طريقه. فكأنّ سعيهم لما كان فى غير الطريق المؤدية إلى رضا الله سبحانه ، حسن أن يوصف بالضلال ، والعدول عن سنن الرشاد.

وقوله سبحانه : ﴿ أُولَٰئِكَ (٢) الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [١٠٥] . وفى هذه الآية استعارتان إحداهما قوله سبحانه : ﴿ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ وتأويل لقائه هاهنا على وجهين : أحدهما أن يكون فيه مضاف محذوف. فكأنه تعالى قال : ولقاء ثوابه وعقابه. أو جنّته وناره. والوجه الآخر أن يكون معنى ذلك رجوعهم إلى دار لا أمر فيها لغير الله سبحانه. فيصيرون إليها من غير أن يكون لهم عنها محيص ، أو دونها محيد. وذلك مأخوذ من مقابلتك الشيء من غير أن تصرف عنه وجهك يمينا ولا شمالا.

__________________

(١) فى الأصل « سر » وهو تحريف من الناسخ.

(٢) فى الأصل بدئت الآية بغير لفظة أولئك وهو تحريف من الناسخ.

٢١٨

يقول القائل : لقيت فلانا. أي قابلته بجملتى. وتقول : دارى تلقاء دار فلان. أي مقابلتها. فكانت كل واحدة منهما كالمقبلة على الأخرى. فلما كان لا أحد يوم القيامة يستطيع انصرافا عن الوجهة التي أمر الله سبحانه بجمع الناس إليها ، وحشرهم نحوها ، سمّى ذلك لقاء الله سبحانه على السّعة والمجاز.

والاستعارة الأخرى قوله سبحانه : ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا والمراد بذلك ـ والله أعلم ـ أنا لا نجد لهم أعمالا صالحة تثقل (١) بها موازينهم يوم القيامة. والميزان إذا كان ثقيلا سمّى مستقيما ، وقائما. وإذا كان خفيفا سمّى عادلا ، ومائلا.

وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنهم لا اعتداد بهم ، ولا نباهة لذكرهم فى يوم القيامة. كما يقال فى التحقير للشيء : هذا لا وزن له ولا قيمة. وكما تقول : فلان عندى بالميزان الراجح ، إذا كان كريما عليك ، أو حبيبا إليك.

__________________

(١) فى الأصل : يثقل بالياء وهى تحريف.

٢١٩

ومن السورة التي يذكر فيها

« مريم عليها‌السلام »

قوله سبحانه : ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [٤] وهذه من الاستعارات العجيبة. والمراد بذلك : العبارة عن تكاثر الشّيب فى الرأس حتى يقهر بياضه ، وينصل سواده.

وفى هذا الكلام دليل على سرعة تضاعف الشيب وتزيّده وتلاحق مدده ، حتى يصير فى الإسراع والانتشار كاشتعال النار ، يعجز مطفيه ، ويغلب متلافيه.

وقوله سبحانه : ﴿ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ [٢٣] . وهذه استعارة. والمعنى : فجاء بها المخاض ، أو ألجأها المخاض إلى جذع النخلة ، لتجعله سنادا لها ، أو عمادا لظهرها. وهى التي لجأت إلى النخلة ، ولكنّ ضرب المخاض لما كان سببا لذلك ، حسن أن ينسب الفعل إليه فى إلجائها ، والمجيء بها

وقوله سبحانه : ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [٥٠] وهذه استعارة. والمراد بذكر اللسان هاهنا ـ والله أعلم ـ الثناء الجميل (١) الباقي فى أعقابهم ، والخالف فى آبائهم (٢) . والعرب تقول : جاءنى لسان فلان. يريد مدحه أو ذمه. ولما كان مصدر المدح والذم عن اللسان عبروا عنهما باسم اللسان.

وإنما قال سبحانه : ﴿ لِسَانَ صِدْقٍ . إضافة للسان إلى أفضل حالاته ، وأشرف متصرفاته ، لأن أفضل أحوال اللسان أن يخبر صدقا ، أو يقول حقا.

__________________

(١) فى الأصل : ( الجل ) وهو تحريف من الناسخ.

(٢) أي الباقي فى آبائهم.

٢٢٠