تلخيص البيان في مجازات القرآن

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]

تلخيص البيان في مجازات القرآن

المؤلف:

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]


المحقق: محمد عبد الغني حسن
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

وقوله سبحانه : ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ [١٦٤] فهذه استعارة. والمعنى : ولا تحمل حاملة حمل أخرى. يريد تعالى فى يوم القيامة. أي لا يخفف أحد عن أحد ثقلا ، ولا يشاطره حملا. لأن كل إنسان فى ذلك اليوم مشغول بنفسه ، ومقروح (١) بحمله. وليس أن هناك على الحقيقة أحمالا على الظهور ، وإنما هى أثقال الآثام والذنوب.

ونظير ذلك قوله تعالى : ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا (٢) .

__________________

(١) هكذا بالأصل ، ولعلها « مفدوح » لأن الحمل الفادح هو الذي يثقل صاحبه فيعيا به فهو مفدوح. يقال : فدحه الأمر.

(٢) سورة البقرة الآية رقم ٤٨ ، والآية رقم ١٢٣ وهما من المتشابه.

١٤١

و من السورة التی یذکر فیها « الأعراف »

قوله : ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [٧] . فهذه استعارة. لأن الخسران فى التعارف إنما هو النقص فى أثمان المبيعات. وذلك يخص الأموال لا النفوس. إلا أنه سبحانه لما جاء بذكر الموازين وثقلها وخفتها جاء بذكر الخسران بعدها ، ليكون الكلام متفقا ، وقصص الحال متطابقا. فكأنه سبحانه جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة ، إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون نفوسهم ، كما يوصفون بأنهم يملكون أموالهم.

وذكر خسرانهم لها لأنهم عرّضوها للخسار ، وأوجبوا لها عذاب النار. فصارت فى حكم العروض المتلفات ، وتجاوزوا حد الخسران فى الأثمان ، إلى حد الخسران فى الأعيان.

وقوله سبحانه حاكيا عن إبليس : ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [١٦] وهذه استعارة. والصراط هاهنا كناية عن الدين ، جعله الله سبحانه طريقا للنجاة والمفاز (١) ، فى دارى القرار والمجاز ، وإنما قال صراطك. لما كان الدين كالطريق المؤدية إلى رضا الله سبحانه ومثوبته (٢) . الموصلة إلى نعيمه وجنته. فكان إبليس ـ لعنه الله ـ إنما يوعد بالقعود على طريق الدين ليضل عنه كل قاصد ، ويردّ عنه كل

__________________

(١) فى الأصل « والمفار » بالراء المهملة. وهو تحريف من الناسخ.

(٢) فى الأصل « ومصوبته » ولا معنى لها هنا لأن المصوبة معناها المصيبة وضعف العقل ؛ وليس هذا جزاء رضا الله سبحانه وتعالى.

١٤٢

وارد ، بمكره وخدائعه ، وتلبيسه (١) ووساوسه. تشبيها بالقاعد على مدرجة بعض السبل ، ليخوف (٢) السالكين منها ، ويعدل بالقاصدين عنها. والمراد : لأقعدن لهم على صراطك المستقيم ، فلما حذف الجارّ انتصب الصراط.

والحذف هاهنا أبلغ فى الفصاحة ، وأعرق فى أصول العربية. ونظيره قول الشاعر (٣):

* كما عسل الطريق الثعلب *

أي عسل فى الطريق.

وكل ما فى القرآن من ذكر سبيل الله سبحانه ، فالمراد به الطريق المفضية إلى طاعته عاجلا ، وإلى جنته آجلا.

وقوله سبحانه : ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [٢٢] . وهذه استعارة. والمراد أنه أوقعهما فى أهوائه بغروره لهما. وكل واقع فى مثل ذلك فإنه نازل من علو إلى استفال ، ومن كرامة إلى إذلال. فلذلك قال تعالى : ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ . وقد استقصينا الكلام على ذلك فى كتابنا الكبير ، عند القول فيما اختلف العلماء فيه من ذنوب الأنبياء عليهم‌السلام.

وقوله تعالى : ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا

__________________

(١) فى الأصل « وتلبيته » ولا معنى لها. والصواب ما أثبتناه ، لأن تلبيس إبليس هو ما يدلس به على الناس ليضلهم عن سبيل الله.

(٢) فى الأصل « لتخوف » وهو تحريف ، لأن القاعد هو الذي يخوف السالكين.

(٣) هو الشاعر ساعدة بن جؤية يصف رمحا. والبيت كاملا هو :

لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه ، كما عسل الطريق الثعلب

انظر ابن هشام فى « أوضح المسالك » ج ٢ ص ١٦.

١٤٣

وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ، ذَٰلِكَ خَيْرٌ [٢٦] وقد قرئ : ورياشا (١) . وهما جميعا استعارة هاهنا (٢) . لأن المراد بهما اللباس. وسمى اللباس ريشا ورياشا تشبيها بريش الطائر الذي يستر جملته. ومن كلام العرب : أعطيته رجلا بريشه. أي بكسوته.

وقال المفسرون : معنى لباس التقوى ما كان من الملابس يستر العورة ، لأن ستر العورة من أسباب التقوى. وقرئ : ولباس التّقوى. نصبا بأنزلنا عليكم. والرفع فيه على معنى الابتداء. ويكون خير خبرا له. فيكون المعنى : ولباس التقوى المشار إليه خير. وهذا أسدّ القولين فى هذا المعنى.

وقوله تعالى : ﴿ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [٢٩] وهذه استعارة. لأن الوجه لا يصح عليه القيام. والمعنى : فوجّهوا وجوهكم عند كل مسجد. ويجوز أن يكون معنى ذلك : فتوجّهوا بجملتكم نحو كل مسجد. لأن وجه الشيء عبارة عن جملته.

وقوله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [٤٠] وهذه استعارة. والمراد لا يصلون إلى الجنة ولا يتسهل لهم السبيل إليها ، ولا يستحقون بأعمالهم للدخول إليها. ومثل ذلك قوله سبحانه : ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (٣) أي سهّلنا خروجه من السماء إلى الأرض ، ورفعنا الحواجز بينه وبين الخلق.

وقوله تعالى : ﴿ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ ، وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [٤١] وهذه استعارة. وقد مضى فى ( آل عمران ) إلا (٤) أن الزيادة هاهنا قوله سبحانه : ﴿ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ

__________________

(١) قرأ ذلك الحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي ، كما قرأه أبو عمرو من رواية الحسين بن على الجعفي

(٢) الاستعارة فى قوله تعالى ﴿ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا لا تتضح إلا إذا كان اللباس هو المطر الذي به ينبت القطن والكتان. أي أنزلنا عليكم مطرا ينتج القطن والنبات الذي تتخذون منه ملابسكم ـ انظر القرطبي ج ٧ ص ١٨٤.

(٣) سورة القمر. الآية رقم ١١.

(٤) فى الأصل « لأن الزيادة » وهو تحريف من الناسخ وصوابه « إلا أن .. » كما أثبتناه.

١٤٤

فكأنه جعل لهم من النار أمهدة مفترشة (١) وأغشية مشتملة ، فيكون استظلالهم بحرها ، كاستقرارهم على جمرها. نعوذ بالله من ذلك.

وقوله سبحانه : ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [٤٣] . وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شىء يتأتى (٢) نزعه على الحقيقة. والمعنى : أزلنا ما فى صدورهم من الغل بإنسائهم إياه ، وبإحداث (٣) أبدال له تشغل أماكنه من قلوبهم ، وتشفع مواقعه من صدورهم. وقال بعض المفسرين : معنى ذلك : أهل الجنة لا يحسد بعضهم بعضا على علو المنزلة فيها ، والبلوغ إلى مشارف رتبها. والحسد : الغل.

وقوله تعالى : ﴿ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٣] وهذه استعارة خفية. وقد تكون استعارة خفية ، واستعارة جلية. وذلك أن حقيقة الميراث فى الشرع هو ما انتقل إلى الإنسان من ملك الغير بعد موته على جهة الاستحقاق. فأما صفة الله تعالى بأنه الوارث لخلقه كقوله : ﴿ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (٤) وكقوله : ﴿ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (٥) فهو مجاز. والمراد : أنه الباقي بعد فناء خلقه ، وتقوّض سمائه وأرضه.

وقد استعمل ذلك أيضا فى نزول قوم ديار قوم بعدهم ، وأخذ قوم أموال قوم بعد إجلائهم وحربهم (٦) . فقال سبحانه فى هذه السورة : ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [١٣٧] . وقال تعالى فى

__________________

(١) فى الأصل « مفوننه » وهو تحريف.

(٢) فى الأصل « يثانى » وهو تحريف.

(٣) فى الأصل « وبأحداب » وهو تحريف.

(٤) سورة القصص. الآية رقم ٥٨.

(٥) سورة آل عمران. الآية رقم ١٨٠ وسورة الحديد. الآية رقم ١٠.

(٦) فى الأصل « وحرمبم » وهو تحريف صوابه ما أثبتناه ، مما يجزم به السياق.

١٤٥

موضع آخر : ﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا (١) وليس يصح فى إيراث الجنة مثل هذه المعاني التي ذكرناها ، لأن الجنة لا يسكنها قوم بعد قوم قد فارقوها وانتقلوا عنها. فقوله سبحانه : ﴿ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا على الأصل الذي قدّمناه استعارة. ويكون المعنى الذي يسوغ هذه الاستعارة أن هؤلاء المؤمنين لما عملوا فى الدار الدنيا أعمالا استحقوا عليها الجزاء والثواب ، ولم يصحّ أن يوفر عليهم ذلك إلا فى الجنة ، وهى من الدار الآخرة ، فكأنهم استحقوا دخولها. فحسن من هذا الوجه أن يوصفوا بأنهم أورثوها ، وإن لم يكن سكناهم لها بعد سكنى قوم آخرين انتقلوا عنها. وسوّغ ذلك أيضا اختلاف حال الدارين ، وانتقالهم من الأولى إلى الآخرة. فكأنّ ما عملوه فى الدار الأولى كان سببا لما وصلوا إليه فى الدار الآخرة ، كما يستحقّ الميراث بالسبب.

وقوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا [٤٥] وهذه استعارة ، فإن (٢) سبيل الله سبحانه : دينه. ومعنى ويبغونها عوجا أي يبتغون عنها المتحاول ، ويطلبون منها الفسح والمخارج ، ويوهمون بالشبهات أنها معوجة غير قويمة ، ومضطربة غير مستقيمة.

وقوله تعالى : ﴿ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٥٣] وقد مضى نظير ذلك فى أول السورة.

وقوله سبحانه : ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ [٥٤] (٣) .

__________________

(١) سورة الأحزاب. الآية رقم ٢٧.

(٢) فى الأصل « بأن » وهو تحريف.

(٣) هنا قطعة ناقصة من الأصل تبلغ قدر ست ورقات من الآية رقم ٥٣ من الأعراف إلى الآية رقم ٦٤ من سورة التوبة.

١٤٦

سورة التوبة

. . . . . . (١)

على الحقيقة هى التقارب بالحدود مثل المسامتة ، وهى المماثلة فى السمت الذي هو الجهة ، وذلك من صفات الأجسام ، وذوات الحدود والأقطار. فالمراد إذن بالمحادّة هاهنا كون الإنسان فى غير الحد الذي فيه أولياء الله سبحانه. فكأنهم فى حد ، وأولياء الله سبحانه فى حد. وكذلك الكلام فى مشاقّة الله تعالى على أحد التأويلين ، وهو أن يكون الإنسان فى شق أعداء الله وحربه ، لا فى شق أوليائه وحزبه.

وحقيقة الكلام أن يكون المراد به محادّة أولياء الله على الصفة التي ذكرناها فقال تعالى : ﴿ يُحَادِدِ اللَّهَ كما قال : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (٢) أي يؤذون أولياء الله ورسوله ، لأن الأذى لا يجوز على من لا تلحقه المنافع والمضار ، والمساءات والمسارّ.

وقوله سبحانه : ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ [٦٤] وهذه استعارة. لأن السورة نطقها من جهة البرهان لا من جهة اللسان. فكأنه سبحانه أراد أنّ الناس يعلمون بهذه السورة النازلة فى المنافقين بواطن نفوسهم ، وعقائد قلوبهم.

__________________

(١) هنا بداية القسم الموجود من سورة التوبة ، أما ما قبل ذلك فمفقود مع آخر قسم من سورة الأعراف.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية رقم ٥٧.

١٤٧

[ وقوله سبحانه (١) ] : ﴿ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [٨٧] . [ الخوالف النساء (٢) ] المقيمات فى دار الحي بعد رحيل الرجال. وإنما سمى النساء خوالف تشبيها لهن بالخوالف ، التي واحدتهن خالفة ، وهى الأعمدة تكون فى أواخر بيوت الحي المضروبة. فشبّههنّ ـ لكثرة لزوم البيوت ـ بالخوالف التي تكون فى البيوت.

وقد قيل إن الخوالف أيضا زوايا البيوت ، واحدتها خالفة. والمعنى واحد. وقد يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى : ﴿ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ حقيقة الخوالف التي هى أعمدة البيوت. أي رضوا بأن يكونوا فى بيوتهم ، فيكونوا ـ بالملازمة لها ـ كخوالفها وأعمدتها.

وقد يجوز أيضا أن يكون الخوالف هاهنا جمع فرقة خالفة. وهى الجماعة التي تقعد عن الغزو ، كالشيوخ ، والنساء ، وذوى العاهات ، والولدان. ومما يقوى ذلك قوله تعالى أمام هذا الكلام : ﴿ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [٨٣] .

وكنت سمعت شيخنا أبا الفتح عثمان بن جنى (٣) النحوي ـ رحمه‌الله ـ يقول ذلك ، ويذهب إلى مثله أيضا فى قوله سبحانه : ﴿ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ (٤) . ويقول : هى جمع فرقة كافرة. إلا أن الكلام يكون على القول الأول استعارة. ويكون على هذا القول حقيقة.

__________________

(١) هذه زيادة ليست بالأصل يقتضيها السياق.

(٢) هذا السطر ممحو ، وقد استظهرناه من السياق الذي يفسر الخوالف بالنساء المقيمات فى دار الحي.

(٣) أبو الفتح عثمان بن جنى إمام من أئمة النحو. وقد اشتهر بشرحه لديوان المتنبي ، وبكتابه « الخصائص » فى اللغة وهو مشهور. وكان المتنبي يقول : ابن جنى أعرف بشعرى منى ، وقد كان ابن جنى أستاذا للشريف الرضى ، ونقل هذا عنه كثيرا فى كتابه « المجازات النبوية » . توفى سنة ٣٩٢ ه‍ .

(٤) سورة الممتحنة آية رقم ١٠.

١٤٨

وقوله سبحانه : ﴿ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [٩٨] . وهد استعارة ....... (١) عليهم أيام السوء ، لأن الأيام والشهور قد تسمى دوائر ، على طريق الاستعارة. فليس لأنها ترجع بأعيانها ، وإنما تعود أشباهها وأمثالها ، فشهر كشهر ، ويوم كيوم ، وساعة كساعة ، وسنة كسنة. يقال دارت السنون ، ودارت الشهور على هذا المعنى. إلا أن هذه اللفظة ، أعنى الدائرة والدوائر ، قد اختص ذكرها بالمواضع المكروهة. فيقال : دارت عليهم الدوائر ، إذا أهلكتهم الأيام ، وأفنتهم الأعوام. ويقال : دارت لهم الدنيا. إذا وصفوا بمواتاة الإقبال ، وانتظام الأحوال. فكأنّ التمييز فى الخير أو الشر إنما يقع بقولنا : دارت لهم ، ودارت عليهم.

وقوله سبحانه : ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ، فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [١٠٩] وهذه استعارة. والمراد بها ذكر ما بناه المنافقون من مسجد الضرار (٢) ، بعد ما بنى المؤمنون من المسجد المعروف بمسجد قباء (٣) . لأن المؤمنين وضعوا هذا البناء ، وهم مؤمنون متقون ، عارفون موقنون ، فكأنهم وضعوه على قواعد من الإيمان ، وأساس من الرضوان. والمنافقون إنما وضعوا ذلك البناء كيدا للمؤمنين ، وإرصادا للمسلمين. فكأنهم وضعوه على شفا

__________________

(١) هنا سطران ممحوان محوا تاما.

(٢) مسجد الضرار ، هو المسجد الذي بناه المنافقون بقباء لإضرار المسلمين وتفريق كلمتهم ، وقد سألوا النبي عند رجوعه من تبوك أن يأتى مسجدهم هذا ليصلى فيه ، فأنزل الله فيه قوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ .‏ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا . وقد أمر النبي عليه‌السلام بهدم هذا المسجد الظالم أهله ، فحرق وهدم واتخذ موضعه مكانا للقمامة.

(٣) مسجد قباء هو المسجد الذي أسسه النبي على التقوى من أول يوم نزل فيه قباء ، وهى بلدة على بعد ميلين من جنوب المدينة.

١٤٩

جرف هار متقوض ، وأساس واه منتقض ، فكأنما انهار بهم فى نار جهنم ، أي أسقطهم ذلك الفعل فى عذاب النار ، ودائم العقاب. وهذه من أحسن الاستعارات.

وقوله تعالى : ﴿ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [١١٠] فهذه استعارة. ومعناها أن ذكر البنيان الذي بنوه لا يزال ريبة فى قلوبهم ، يخافون معها إنزال الله بهم ضروب العقاب ، أو بسط المؤمنين عليهم لما ظاهروهم من العناد والشقاق. فهم أبدا بنفوسهم مستريبون ، وعليها خائفون مشفقون. فلا يزالون على ذلك إلا أن تقطع قلوبهم حسرة ، وتزهق نفوسهم خيفة.

وقوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [١١١] وهذه استعارة. وذلك أنه سبحانه لما أمرهم ببذل نفوسهم وأموالهم فى الجهاد عن دينه ، والمنافحة عن رسوله عليه‌السلام ، وضمن لهم على ذلك الخلود فى النعيم ، والأمان من الجحيم ، كانت نفوسهم وأموالهم بمنزلة العروض المبيعة ، وكانت الأعواض المضمونة عنها بمنزلة الأثمان المنقودة ، وكانت الصفقة رابحة لزيادة الأثمان على السلع ، وإضعاف الأعواض على القيم.

وجملة هذا الباب أن العبادات كلّها كالتجارات ، فى أنها طلب للمنافع. فالعبادات (١) طلب لمنافع الآخرة ، والتجارات طلب لمنافع الدنيا.

وقوله تعالى : ﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ [١١٧] وهذه استعارة. لأن حقيقة الزّيغ الاعوجاج والميل. والمراد : من بعد ما كادت قلوبهم تزول من عظم الخيفة ،

__________________

(١) فى الأصل « بالعبادات » وهو تحريف من الناسخ

١٥٠

وتقنط من نزول الرحمة ، فتكون بذلك كالشيء الزائغ بعد الاستقامة ، والمستمال بعد الثبات والرصانة.

ومن الدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية : ﴿ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ [١١٨] فهذه أيضا استعارة. لأن النفس بالحقيقة لا توصف بالضّيق والاتساع ، وإنما المراد بذلك المراد بالقول الأول من أنه عبارة عن انضغاط القلوب بشدة الكرب ، وبلوغها منقطع الصبر.

وقوله : سبحانه : ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ ، وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ [١٢٠] وهذه استعارة. والمراد بها أنهم لا ينبغى لهم أن يكرموا أنفسهم عما يبذل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه نفسه ، ولا يحفظوا مهجهم فى المواطن التي تحضر فيها مهجته ، اقتداء به ، واتباعا لأثره. وهذه لفظة يستعملها أهل اللسان كثيرا ، فيقولون : رغبت بنفسي عن الضيم ، وأرغب بك يا فلان عن القتل ، أي أضنّ بنفسي عن أن تذل ، وأنفس بمثلك عن أن يقتل.

فالظاهر يدل على أنهم رضوا بنفوسهم عن نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمراد : وما كان لهم أن يرغبوا بالنفوس. عن .... (١) التي ينزلها نفسه ويعرض فيها مهجته.

وقوله سبحانه : ﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ .‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ، وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [١٢٤] ، [١٢٥] وهذه

__________________

(١) بياض بالأصل. ويصح أن توضع هنا كلمة المواطن ، أو المواضع ، أو المنازل ، أو ما إليها من هذا الباب.

١٥١

استعارة ظاهرة. وذلك أن السّورة لا تزيد الأرجاس (١) رجسا ، ولا القلوب مرضا ، بل هى شفاء للصدور ، وجلاء للقلوب. ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمى وعمها وازدادت قلوبهم ارتيابا ومرضا ، حسن أن يضاف ذلك إلى السورة ، على طريق لأهل اللسان معروفة.

وقد استقصينا الكلام على ذلك فى عدة مواضع من كتابنا الكبير. فمن أراد بلوغ أقاصى هذه الطريقة ، والضرب فى أقطارها والتفسح فى أعطانها ، فليتتبع مواضعها من ذلك الكتاب بمشيئة الله.

وقوله تعالى : ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [١٢٨] وهذه استعارة. والمراد بأنفسكم هاهنا ـ والله أعلم ـ أي من جنس أنفسكم وخلقكم ، لتكونوا إليه أسكن ، وإلى القبول منه أقرب. ويجوز أن يكون من أنفسكم أي من قبيلكم وعشيرتكم ، كما يقول القائل : فلان من أنفس بنى فلان. أي من صميم أنسابهم ، وليس من وسائطهم وملاصقهم.

وقد يجوز أن يكون المراد برسول من أنفسكم ، أي من أشقائكم وأعزّائكم ، كما يقول القائل لذى ودّه والقريب من قلبه : أنت من نفسى ، وأنت من قلبى. أي أنت شقيق النفس ، وقسيم القلب.

ومما يقوّى ذلك قوله سبحانه : ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ، حَرِيصٌ عَلَيْكُم ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [١٢٨] أي بحبّه لكم ، وميله إليكم ، يعزّ عليه أن تعنتوا وتعاندوا فتحرموا الثواب ، وتستحقوا (٢) العقاب ، فهو حريص على إيمانكم رأفة بكم وإشفاقا عليكم.

__________________

(١) فى الأصل « لا تزيد الأرجاس إلا رجسا » وإلا زائدة من الناسخ بها ينقلب المعنى إلى الضد. والصواب حذفها كما أثبتناه.

(٢) فى الأصل « ويستحقوا » بضمير الغائبين والصواب « وتستحقوا » بضمير المخاطبين كما أثبتناه

١٥٢

ومن السورة التي يذكر فيها

« يونس » عليه‌السلام

قوله سبحانه ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ [٢] وهذه استعارة. لأن المراد بالقدم هاهنا : السابقة فى الإيمان ، والتقدم فى الإخلاص. والعبارة عن ذلك بلفظ القدم غاية فى البلاغة ، لأن بالقدم يكون السبق والتقدم. فسمّيت قدما لذلك. وإن كان التأخر أيضا يكون بها (١) ، كما يكون التقدم بخطوها ، فإنما سميت بأشرف حالاتها وأنبه متصرفاتها. وقال بعضهم : إيمانهم فى الدنيا هو قدمهم فى الآخرة. لأن معنى القدم فى العربية : الشيء تقدمه أمامك ليكون عدّة لك ، حتى تقدم عليه.

وقال بعضهم : ذكر القدم هاهنا على طريق التمثيل والتشبيه ، كما تقول العرب : قد وضع فلان رجله فى الباطل ، وتخطى (٢) إلى غير الواجب. ومعناه أنه انتقل إلى فعل ذلك ، كما ينتقل الماشي ، وإن لم يحرك قدمه ، ولم ينقل خطاه.

وقوله سبحانه : ﴿ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ [٣] وهذه استعارة. لأن حقيقة الاستواء إنما يوصف بها الأجسام التي تعلو البساط وتميل وتعتدل. والمراد بالاستواء هاهنا :

__________________

(١) فى الأصل « بهما » بضمير المثنى. وهو تحريف من الناسخ. والصواب « بها » بضمير المفردة العائد على القدم.

(٢) فى الأصل هكذا « وتحطا » بدون إعجام وبرسم الفعل بألف بدل الياء.

١٥٣

الاستيلاء بالقدرة والسلطان ، لا بحلول القرار والمكان. كما يقال :

استوى (١) فلان الملك على سرير ملكه. بمعنى استولى على تدبير الملك ، وملك مقعد الأمر والنهى. وحسن صفته بذلك وإن لم يكن له فى الحقيقة سرير يقعد عليه ، ولا مكان عال يشار إليه. وإنما المراد نفاذ أمره فى مملكته ، واستيلاء سلطانه على رعيته.

فإن قيل : فالله سبحانه مستول على كل شىء بقهره وغلبته ، ونفاذ أمره وقدرته ، فما معنى اختصاص العرش بالذكر هاهنا ؟ قيل ـ كما ثبت ـ أنه تعالى رب لكل شىء. وقد قال فى صفة نفسه ، ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢) فإن قيل : فما معنى قولنا عرش الله ، إن لم يرد بذلك كونه عليه ؟ قيل كما يقال : بيت الله وإن لم يكن فيه ، والعرش فى السماء تطوف به الملائكة تعبدا ، كما أن البيت فى الأرض تطوف به الخلائق تعبدا.

وقوله سبحانه : ﴿ وَتَحِيَّتُهُمْ (٣) فِيهَا سَلَامٌ [١٠] وهذه استعارة على بعض الأقوال. كأنّ المعنى أن بشراهم بالسلامة من المخاوف عند دخول الجنة تجعل مكان التحية لهم. لأن لكل داخل دارا تحية يلقى بها ، ويؤنس بسماعها. والسلام هاهنا من السلامة ، لا من التسليم.

__________________

(١) ومنه قول الراجز :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

انظر « القرطبي » ج ٧ ص ٢٢٠.

(٢) سورة التوبة. الآية رقم ١٢٩ ، والنمل الآية رقم ٢٦ ، والمؤمنون. الآية ٨٦ ، ونصها هنا ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ .

(٣) فى الأصل « تحيتهم » بغير واو. والصواب « وتحيتهم » بالواو عطفا على ما قبلها ، وهو قوله تعالى : ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ .

١٥٤

وقوله سبحانه : ﴿ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [٢٤] . وهذه استعارة حسنة ، لأن الزخرف فى كلامهم اسم للزّينة واختلاف الألوان المونقة.

وقوله سبحانه : ﴿ أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا [٢٤] . أي لبست زينتها بألوان الأزهار ، وأصابيغ (١) الرياض ، كما يقال : أخذت المرأة قناعها. إذا لبسته. وتقول لها : خذى عليك ثوبك. أي البسيه.

وقوله تعالى : ﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ (٢) أي البسوا ثيابكم.

وقوله سبحانه : ﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا [٢٤] . استعارة أخرى ، لأن الحصيد من صفة النبات ، لا من صفة الأرض. والمعنى : فجعلنا نباتها كذلك. فاكتفى بذكر الأرض من ذكر النبات لأن النبات فيها ، ومنشؤه منها.

وقوله سبحانه : ﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [٢٧] . على قراءة من قرأ بتحريك الطاء. وهذه استعارة. لأن الليل على الحقيقة لا يوصف بأن له قطعا متفرقة ، وأجزاء متنصفة. وإنما المراد ـ والله أعلم ـ أن الليل لو كان مما يتبعض وينفصل لأشبه سواد وجوههم أبعاضه وقطعه. ونصب سبحانه ( مظلما ) على أنه حال من الليل. وفيه زيادة معنى. لأن الليل قد سمى ليلا وإن كان مقمرا ، فإنما قال سبحانه : مظلما ، على أن التشبيه إنما وقع به أسود ما يكون جلبابا ، وأبهم أثوابا.

وقوله سبحانه : ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [٦٧]

__________________

(١) فى الأصل « وأصابيع » بالعين المهملة. ولعلها كما أثبتناه بالغين المعجمة ، جمعا لأصباغ مثل أزهار وأزاهير. فتكون جمع الجمع لصبغ.

(٢) سورة الأعراف. الآية رقم ٣١.

١٥٥

وهذه استعارة عجيبة. وقد أومأنا إلى نظيرها فيما تقدم. وذلك أنه سبحانه ـ إنما سمّى النهار مبصرا ، لأن الناس يبصرون فيه ، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له ، على طريق المبالغة. كما قالوا : ليل أعمى ، وليلة عمياء. إذا لم يبصر الناس فيها شيئا لشدة إظلامها.

وقوله : ﴿ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ، ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [٧١] . على قراءة من قرا : ﴿ فَأَجْمِعُوا (١) . من الجمع ، لا على قراءة من قرأ : ﴿ فَأَجْمِعُوا من الإجماع. وهذه استعارة. والمعنى : اشتوروا فى أمركم ، وأجمعوا له بالكم ، وبالغوا فى قدح الرأى بينكم ، حتى لا يكون أمركم غمة عليكم (٢) . أي مغطى تغطية حيرة ، ومبهما إبهام جهالة ، فيكون عليكم كالغمة العمياء ، والطخية الظلماء. وذلك مأخوذ من قولهم : غمّ الهلال. إذا تغطى ببعض الموانع التي تمنع من رؤيته. ثم افعلوا بي ما أنتم فاعلون.

وهذه حكاية لقول نوح عليه‌السلام لقومه. ويخرج الكلام منه على الاستقلال لكيدهم ، وقلة الحفل باستجماعهم واحتشادهم.

وقوله سبحانه. ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ [٨٨] . وهذه استعارة. لأن حقيقة الطمس محو الأثر. من قولهم : طمست الكتاب. إذا محوت سطوره. وطمست الريح ربع الحىّ. إذا محت رسومه. فكأنّ موسى عليه‌السلام إنما دعا الله سبحانه بأن يمحو معارف أموالهم بالمسح لها ، حتى لا يعرفوها ، ولا يهتدوا إليها ، وتكون منقلبة عن حال الانتفاع بها ، لأن الطمس تغيّر حال الشيء إلى الدثور والدروس.

__________________

(١) هى قراءة عاصم الجحدري ، بوصل الألف وفتح الميم. من جمع يجمع

(٢) ومنه قول الشاعر الجاهلى طرفة :

لعمرك ما أمرى على بغمة

نهارى ، ولا ليلى على بسرمد

١٥٦

وقوله تعالى : ﴿ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [٨٨] استعارة اخرى. إما أن يكون المراد بها ما يراد بالختم والطبع. لأن معنى الشد يرجع إلى ذلك. أو يكون المراد به تثقيل العقاب على القلوب ، بالإيلام لها ، ومضاعفة الغم والكرب عليها. ويكون ذلك على معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: « اللهمّ اشدد وطأتك على مضر » (١) أي غلّظ عليهم عقابك ، وضاعف عليهم عذابك.

وقوله سبحانه : ﴿ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ، وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [١٠٥] وهذه استعارة. وقد أومأنا إلى مثلها فيما تقدم. والمراد بها : استقم على دينك ، واثبت على طريقك. وخص الوجه بالذكر ، لأن به يعرف توجه الجملة نحو الجهة المقصودة وقد يجوز أن يكون المراد بذلك ـ والله أعلم ـ أقم وجهك أي قوّمه نحو القبلة التي هى الكعبة. مستمرا على لزومها ، وغير منحرف عن جهتها.

__________________

(١) هذا الحديث فى مسند ابن حنبل ج ١٢ ص ٢٥٠ بتحقيق المحدث الجليل الصديق الشيخ أحمد محمد شاكر. وقد ذكر الشيخ أن إسناده صحيح. وقد رواه ابن سعد فى الطبقات ، ورواه مسلم والبخاري فى صحيحيهما. ونص الحديث فى المسند : ( لما رفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح قال : « اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين بمكة. اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف ) .

١٥٧

ومن السورة التي يذكر فيها

« هود » عليه‌السلام

قوله تعالى : ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [١] وهذه استعارة. لأن آيات القرآن لما ورد فى بعضها ذكر الحلال والحرام ، واستمرت على ذلك بين وعد مقدم ، ووعيد مؤخر ، ونذارة مبتدأ بها ، وبشارة معقب بذكرها شبه القرآن ـ لذلك ـ بالعظائم المفصلة ، التي توافق فيها بين الأشكال تارة ، وتؤلف بين الأضداد تارة ليكون ذلك أحسن فى التنضيد ، وأبلغ فى الترصيف. وهذه من بدائع الاستعارات.

وقوله سبحانه : ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ، أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [٥] وهذه استعارة. لأن حقيقة الشيء لا تتأتى فى الصدور. والمراد بذلك ـ والله أعلم ـ أنهم يثنون صدورهم على عداوة الله ورسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله. وذلك كما يقول القائل : هذا الأمر فى طىّ ضميرى. أي قد اشتمل عليه قلبى. فيكون قوله تعالى : ﴿ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ بمنزلة قوله يطوون صدورهم. ولفظ يثنون أعذب استماعا وأحسن مجازا.

وقيل أيضا : بل معنى ذلك أن المنافقين كانوا إذا اجتمعوا تخافتوا بينهم فى الكلام ، وحنوا ظهورهم تطامنا عند الحوار ، خوفا من رمق العيون ، ومراجم الظنون ، لوقوع ما يتفاوضونه فى أسماع المسلمين. فإذا انحنت ظهورهم ، انثنت صدورهم. فأعلمنا الله سبحانه أنهم وإن أغلقوا أبوابهم ، وأسدلوا ستورهم ، واستغشوا ثيابهم ـ بمعنى اشتملوا بها ، وبمعنى أدخلوا رءوسهم فيها على ما قاله بعضهم ـ فإنه تعالى يعلم غيب صدورهم ، ودخائل

١٥٨

قلوبهم ، ومرامز أعينهم ، ومحاذف (١) ألسنتهم.

وقوله سبحانه وتعالى : ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا (٢) الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [٩] وهذه استعارة لأن إذاقة الرحمة ونزعها ليسا بحقيقة هاهنا. وإنما المراد بذلك أنا إذا رحمنا الإنسان بعد توبته من مواقعة [ فى ] (٣) بعض الذنوب فقبلنا متابه ، وأسقطنا عقابه ، ثم واقع بعد ذلك ذنبا آخر ، واستحق أن نعاقبه وأن نزيل رحمتنا عنه ، يئس من الرحمة وقنط من المغفرة. وليس الأمر كذلك ، لأنه إذا عاود الإقلاع ، أمن الإيقاع.

وقد أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن يواقع المعصية ، فيقنط من قبول التوبة. فمعنى أذقنا الإنسان منا رحمة. أي عرّفناه أنا قد رحمناه. إذ قد أوجبنا قبول التوبة إذا أخلص العبد فيها ، وأتى بها على شروطها وحدودها.

ومعنى ﴿ ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ أي أزلنا عنه رحمتنا لأجل اقترافه المعصية التي اقترفها فى المانى (٤) . وقد يجوز أن يكون المراد بالرحمة هاهنا ـ والله أعلم ـ النعمة والسرّاء. ويكون انتزاعها منه بمعنى إبداله بها الشدة والضرّاء ، إجراء له فى مضمار الابتلاء والاختبار ، أو مصلحة يكون معها أقرب إلى الإصلاح (٥) والرشاد. ومما يقوّى ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية : ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [١٠]

__________________

(١) هكذا بالأصل. ولعلها مرامى الالسنة بالكلام كما يحذف بالحجر أي يرمى به

(٢) فى الأصل « وإذا أذقنا » وهو تحريف من الناسخ الذي كثر تحريفه حتى فى النص القرآنى. والصواب « ولئن أذقنا » .

(٣) هذه اللفظة بالأصل. ولعلها زائدة لأن المعنى يستقيم بدونها ، ولهذا وضعناها بين حاصرتين.

(٤) هكذا بالأصل ، ولم نهتد إلى تصويب لها.

(٥) فى المتن : الإصلاح ، وقد غيرت فى الهامش إلى « الصلاح » بدلا منها.

١٥٩

وقوله سبحانه : ﴿ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ [٢٨] الآية. وهذه استعارة. لأن الرحمة لا توصف بالعمى وإنما يوصف الناس بالعمى عن تمييز مواقعها ، وإدراك مواضعها. فلما وصفوا بالعمى عنها حسن أن يوصف بذلك فى القلب (١) . كما يقال : أدخلت الخاتم فى إصبعى ، والمغفر فى رأسى. وإنما الأصبع دخلت فى الخاتم ، والرأس دخل فى المغفر. وقد يجوز أن يكون قوله سبحانه : ﴿ فَعُمِّيَتْ (٢) ﴿ عَلَيْكُمْ . بمعنى خفيت عليكم ، كما يقول القائل : قد عمى علىّ خبرهم. وعمى علىّ أثرهم. أي خفى عنى الأثر والخبر.

وقوله سبحانه : ﴿ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ (٣) ﴿ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا [٣١] . وهذه استعارة. كما يقول القائل : اقتحمت فلانا (٤) عينى ، واحتقره طرفى. إذا قبح فى منظر عينه خلقة ، وصغر دمامة. ليس أن العين على الحقيقة يكون منها الاحتقار ، أو يجوز عليها الاستصغار.

وقوله سبحانه : ﴿ وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ ، إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ [٣٤] وذكر الإغواء هاهنا من قبيل الاستعارة وإن لم يكن من صريحها. وكذلك لفظ المكر ، والاستهزاء ، وما يجرى هذا المجرى. لأن المراد بمعاني هذه الألفاظ غير المراد بظواهرها. فالمتعارف من الإغواء هو الدعاء إلى الغى والضلال. وذلك غير جائز على الله سبحانه ، لقبحه وورود أمره بضده. والمراد إذن بالإغواء هاهنا تخييبه سبحانه

__________________

(١) ليس القلب هنا بمعنى الجارحة التي فى الجسم ، ولكنه القلب اللفظي والمعنوي ، كما تقول : أدخلت الخاتم فى الأصبع بدلا من أدخلت الأصبع فى الخاتم.

(٢) فعميت بالتشديد هى قراءة الأعمش وحمزة والكسائي.

(٣) فى الأصل « الذي » بصيغة المفرد ، وهو تحريف من الناسخ. والصواب » للذين بصيغة الجميع.

(٤) فى الأصل : فلان وهو تحريف من الناسخ.

١٦٠