أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]
المحقق: محمد عبد الغني حسن
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣
شعره ، وتستملح الكبراء ببنات طبعه ، وتستخف الأدباء أرواح نظمه ، ويحتمل المحتشمون فرط رقته وقذعه (١) ) ولعل الثعالبي كان يقصد بالمحتشمين الشريف الرضى وأضرابه ممن تجلهم أقدارهم وأحسابهم عن النزول إلى المجون. ولكن شعر ابن الحجاج لم يكن سخيفا كله ، ولا ماجنا كله ، فله قطع رائعة خالية من الفحش المفرط ، كانت تسر النفس وتعيد الأنس ـ كما يقول صاحب يتيمة الدهر ـ ولعل هذه القطع هى التي اختارها الشريف الرضى فيما اختار.
(٩) ـ وله « كتاب رسائله » الذي جمعه أبو إسحاق الصابي وكان معاصرا له ، وقد ذكر ذلك ابن النديم فى « الفهرست (٢) » . وهذا الكتاب مطوى فى أحناء الغيب ، ولعل الأيام لو كشفت عنه النقاب ، وأزالت عنه الحجاب تدلنا على ذخيرة أدبية رائعة فى فن الرسائل ، الذي لم يقلّ فيه الشريف الرضى عن أمراء الرسائل فى عصره ، من أمثال الصاحب والصابي والخوارزمي وغيرهم.
(١٠) ـ أخبار قضاة بغداد. وقد ذكره له ابن عنبسة الحسنى الداودي المتوفى سنة ٨٢٩ ه ولا نعرف عنه شيئا ، وذكره صاحب « الغدير » فى ثبت مؤلفاته.
(١١) ـ سيرة والده. وهو مما ذكره الحسنى فى « عمدة الطالب ، فى مناقب آل أبى طالب » ويقول العلامة الشيخ عبد الحسين أحمد الأمينى النجفي : إن هذا الكتاب ألفه الشريف الرضى سنة ٣٧٩ ه ، أي قبل وفاة والده بواحد وعشرين عاما.
(١٢) ـ أما ما ذكره المؤرخ جورجى زيدان من أن للشريف الرضى كتاب « انشراح
__________________
(١) يتيمة الدهر ج ٣ ص ٢٥.
(٢) الفهرست ص ١٩٤.
الصدر ، فى مختارات من الشعر » فهو غير دقيق تمام الدقة ، لأن انشراح الصدر هذا ليس إلا منتخبات من شعر الشريف الرضى ، اختارها بعض الأدباء كما يذكر حاجى خليفة فى « كشف الظنون (١) » وهو يتحدث عن ديوان الشريف الرضى.
استقلال شخصية الشريف فى النقد
يبدو الشريف الرضى فى مصنفاته التي وقعت لنا بادى الشخصية ، ظاهر الاستقلال فى الرأى ، والاعتداد بالفكر. فهو لا يقبل المسائل قضايا مسلمة وأمورا منتهية ، ولكنه يناقشها ويعلق عليها ، ويبدى فيها صريح الرأى ، ويبين إذا كانت قريبة من العقل ، أو بعيدة عن القبول ، أو دانية من اعتساف القول.
وقد لاحظنا ذلك فى مواطن كثيرة من كتابيه « المجازات النبوية » و « تلخيص البيان فى مجازات القرآن » فإن استقلال شخصيته النقدية يبدو شيئا يلفت النظر فى هذين الكتابين ، إلى حد لا يجوز إغفاله فى معرض الحديث عن الشريف الرضى.
والشواهد على ذلك لا تعوزنا فى « المجازات » و « التلخيص » ، فهى منا على أطراف الثمام.
يقول المؤلف فى مجازات قوله تعالى : ﴿ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ﴾ إن الأيدى ـ على بعض التأويلات ـ معناها الحجج والبينات التي جاء بها الرسل ، ويكون معنى الآية على هذا التأويل أن الكفار ردوا حجج الأنبياء من حيث
__________________
(١) ج ١ ص ٥١٣
جاءت ، وطريق مجيئها أفواههم ، فكأنهم ردوا عليهم أقوالهم ، وكذبوا دعواهم ... ثم يقول بعد ذلك : ( وفى هذا التأويل بعد وتعسف إلا أننا ذكرناه لحاجتنا إليه ، لما ذهبنا مذهب من حمل قوله سبحانه ﴿ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ﴾ على الاستعارة لا على الحقيقة ) .
ثم يمضى الشريف الرضى رحمهالله فى عرض الأقوال المقولة فى تأويل هذه الآية والتعليق عليها فيقول : ( وقال بعضهم : بل المراد بذلك ضرب من الهزؤ يفعله المجان والسفهاء إذا أرادوا الاستهزاء ببعض الناس ، وقصدوا الوضع منه ، والإزراء عليه ، فيجعلون أصابعهم فى أفواههم ، ويتبعون هذا الفعل بأصوات تشبهه وتجانسه ، يستدل بها على قصد السخف وتعمد الفحش ، وهذا عندى بعيد من السداد ، وغيره من الأقوال أولى منه بالاعتماد ) .
ويقول معلقا على قول بعض المفسرين لقوله تعالى ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴾ : ( وفى هذا القول بعض التخليط ، والذي أذهب إليه فى ذلك ما ذكرته فى كتابى الكبير على شرح واستقصاء ، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى : ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ ﴾ والله أعلم : أي أخذنا أسماعهم ، فبطل استماعهم ) .
ويقول معقبا على قول من فسروا العجل بالطين فى قوله تعالى فى سورة الأنبياء ﴿ خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ : ( فأما من قال من أصحاب التفسير إن العجل هاهنا اسم من أسماء الطين ، وأورد عليه شاهدا من الشعر ، فلا اعتبار بقوله ، ولا التفات إلى شاهده ، فإنه شعر مولد ) .
وقصد الشريف الرضى بالشعر المولد هو هذا البيت الذي ذكره بعض المفسرين مستشهدا على أن العجل اسم من أسماء الطين :
و النّبع فى الصخرة الصماء منبته |
|
و النخل ينبت بين الماء والعجل |
والشريف هنا يبدو ناقدا أديبا لغويا دقيقا ، فهو لا يحتج بشعر من لا يحتج بشعرهم من المولدين ، وقد لاحظنا أنه فى « المجازات النبوية » و « تلخيص البيان » لم يستشهد إلا بشعر عربى فصيح صحيح ، فلم يستشهد مرة واحدة ببيت مولد.
ونراه فى مجازات سورة الزمر يسوقه القول إلى بيت الأعشى :
فتى لو ينادى الشمس ألقت قناعها |
|
أو القمر الساري لألقى المقالدا |
فيقول : ( وقال بعض العلماء : ليس قول الشاعر هاهنا « ينادى الشمس » من النداء الذي هو رفع الصوت ، وإنما هو من المجالسة. تقول : ناديت فلانا ، إذا جالسته فى النادي ، فكأنه قال : لو يجالس الشمس لألقت قناعها شغفا به ، وتبرجا له. وهذا من غريب القول ) .
وفى مجازات سورة الحشر نراه يقول فى مجاز قوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ : ( ... المعنى أنهم استقروا فى الإيمان ، كاستقرارهم فى الأوطان. وهذا من صميم البلاغة ، ولباب الفصاحة. وقد زاد اللفظ المستعار هاهنا معنى الكلام رونقا. أ لا ترى كم بين قولنا : استقرّوا فى الإيمان ، وبين قولنا : تبوّءوا الإيمان. وأنا أقول أبدا : إن الألفاظ خدم للمعانى ، لأنها تعمل فى تحسين معارضها ، وتنميق مطالبها ) . فقوله رضى الله عنه : « وأنا أقول أبدا » يحمل معنى قيامه بقضية البلاغة ، وخدمة الألفاظ للمعانى ، مع مضيه فى هذه الدعوة البيانية ، والزعامة البلاغية إلى حد المناداة على نفسه.
فإذا تركنا « تلخيص البيان » جانبا لنكشف عما فى « المجازات النبوية » من استقلال فى الفكر ، واعتداد بالرأى لم تعوزنا الشواهد الكثر.
ففي مجاز قوله صلىاللهعليهوسلم : ( لا إسلال ولا إغلال ) يقول الشريف الرضى : ( وقد قال بعضهم : المراد بالإسلال هاهنا سل السيوف ، وبالإغلال لبس الدروع. وهذا القول غير معروف ، والقول الأول هو القول السّدد ، والصحيح المعتمد ) (١) .
وفى مجاز قوله صلىاللهعليهوسلم. ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) يرى بعضهم أن المراد بالحجر هنا هو الرجم بالأحجار إذا كان العاهر محصنا ، فإذا كان غير محصن فالمراد بالحجر حينئذ التعنيف به والغلظة عليه ، بتوفية الحد الذي يستحقه من الجلد ، ولكن الشريف الرضى لا يقبل هذا القول بل يرفضه قائلا : ( وفى هذا القول تعسف واستكراه ، وإن كان داخلا فى باب المجاز ، لأن الغلظة على من يقام الحد عليه إذا كان الحد جلدا لا رجما لا يعبر عنها بالحجر ، لأن ذلك بعد عن سنن الفصاحة ، ودخول فى باب الفهاهة ) (٢)
وفى مجاز قوله صلىاللهعليهوسلم : ( تؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى ) نراه يقول : ( وقد قيل فى ذلك أقوال كلها بعيدة عن المحجة ) ثم يشرح الحديث بعد ذلك شرحا أدبيا بليغا فيقول : ( ومع ذلك فيخرج الكلام من حيز الاستعارة غير قول واحد ، وهو أن يكون المراد أنهم يؤخرون الصلاة إلى أن لا يبقى من النهار إلا بقدر
__________________
(١) المجازات النبوية ، طبع مصر ، ص ١١٠.
(٢) المصدر نفسه ص ١١٢.
ما بقي من نفس الميت الذي قد شرق بريقه ، وغرغر ببقية نفسه ، فشبه عليه الصلاة والسلام تلك البقية بشفافة الذّماء التي قد قرب انقضاؤها ، وحان فناؤها ) (١) .
ولعل من هذه الأمثلة يتضح ما ذهبنا إليه من اعتداد الشريف الرضى برأيه ، واستقلال شخصيته فى النقد استقلالا يبعده عن تقليد السابقين ، وترديد أقوال القائلين ، سواء أ كانوا من رجال الفقه أم التفسير أم اللغة أم غيرهم. على أنه لا يخالف لمجرد المخالفة ، ولا يناقض لمحض المناقضة ، ولكنه يخالف ويعارض دائما حين يكون الحق دائما فى جانبه ، والصواب فى ناحيته رحمهالله !
القاهرة |
رجب ١٣٧٤ |
محمد عبد الغنى حسن |
مارس ١٩٥٥ |
|
__________________
(١) المصدر نفسه ص ٢٢٣.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة البقرة
... ولكنهم لما لم يعلموا هذه الآلات فى مذاهب الاستدلال بها ، كانوا كمن فقد أعيانها ، ورمى بالآفات فيها. وكذلك قوله تعالى : ﴿ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ ﴾ (١) لأن الطبع من الطابع ، والختم من الخاتم ، وهما بمعنى واحد. وإنما فعل سبحانه ذلك بهم عقوبة لهم على كفرهم.
وقوله سبحانه : ﴿ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [٧] (٢) استعارة أخرى. لأنهم كانوا على الحقيقة ينظرون إلى الأشخاص ، ويقلّبون الأبصار ، إلّا أنهم لما لم ينتفعوا بالنظر ، ولم يعتبروا بالعبر وصف سبحانه أبصارهم بالغشي ، وأجراهم مجرى الخوابط الغواشي. أو يكون تعالى كنى هاهنا بالأبصار عن البصائر ، إذ كانوا غير منتفعين بها ، ولا مهتدين بأدلتها. لأن الإنسان يهدى ببصيرته إلى طرق نجاته ، كما يهدى ببصره إلى مواقع خطواته.
وقوله تعالى. ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [١٠] والمرض فى الأجسام حقيقة وفى القلوب استعارة ، لأنه فساد فى القلوب كما أنه فساد فى الحقيقة ، وإن اختلفت جهة الفساد فى الموضعين.
وقوله سبحانه : ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [١٥] وهاتان استعارتان. فالأولى منهما إطلاق صفة الاستهزاء سبحانه ، والمراد بها أنه تعالى يجازيهم على استهزائهم بإرصاد العقوبة لهم ، فسمى الجزاء على الاستهزاء باسمه ، إذ كان واقعا فى مقابلته ، والوصف بحقيقة الاستهزاء غير جائز عليه تعالى ،
__________________
(١) سورة التوبة الآية رقم ٨٧ ، وفى سورة « المنافقون » ( فطبع على قلوبهم ) بالفاء لا بالواو الآية رقم ٣.
(٢) ملحوظة. يشير الرقم بين حاصرتين بعد الآية هكذا [] إلى عددها من السورة.
لأنه عكس أوصاف الحليم ، وضد طريق الحكيم. والاستعارة الأخرى قوله تعالى : ﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ أي يمدّ لهم كأنه يخليهم والامتداد فى عمههم والجماح فى غيهم ، إيجابا للحجة ، وانتظارا للمراجعة ، تشبيها بمن أرخى الطّول للفرس أو الراحلة ، ليتنفس خناقها ، ويتسع مجالها.
وربما جعل قوله سبحانه : ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ (١) على أنه مستعار فى بعض الأقوال ، وهو أن يكون المعنى أنهم يمنّون أنفسهم ألّا يعاقبوا ، وقد علموا أنهم مستحقون للعقاب ، فقد أقاموا أنفسهم بذلك مقام المخادعين. ولذلك قال سبحانه : ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ ﴾ (٢) ﴿ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [٩] .
وقوله سبحانه : ﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [١٦] وهذه استعارة. والمعنى أنهم استبدلوا الغى بالرشاد ، والكفر بالإيمان ، فجسرت صفقتهم ، ولم تربح تجارتهم. وإنما أطلق سبحانه على أعمالهم اسم التجارة لما جاء فى أول الكلام بلفظ الشّرى تأليفا لجواهر (٣) النظام ، وملاحمة بين أعضاء الكلام.
وقوله سبحانه : ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾ [٢٠] . وهذه استعارة. والمراد يكاد
__________________
(١) كان من حق هذه الآية فى الترتيب أن تأتى قبل الآية العاشرة التي سبق الحديث عنها فى قوله تعالى : ( فى قلوبهم مرض إلخ ) ولا أدرى أ كان ذلك سهوا من المؤلف رضى الله عنه ، أم سهوا من الناسخ حيث وضعها فى غير موضعها ، وأنزلها فى غير ترتيبها.
(٢) فى الأصل « وما يخادعون » على أنها قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو ليتجانس اللفظان فى الموضعين. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر « يخدعون » كما أثبتناه. وكما نقرؤه فى المصحف الذي بين أيدينا.
(٣) فى الأصل « بجواهر » وهى خطأ فى النسخ.
يذهب بأبصارهم من قوة إيماضه وشدة التماعه. والدليل على ذلك قوله تعالى فى النور (١) : ﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾ [٤٣] ومحصّل (٢) المعنى : تكاد أبصارهم تذهب عند رؤية البرق ، فجعل تعالى الفعل للبرق دونها لما كان السبب فى ذهابها.
وقوله سبحانه : ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ [٢٢] وهذه استعارة. لأنه سبحانه شبّه الأرض فى الامتهاد بالفراش ، والسماء فى الارتفاع بالبناء.
وقوله تعالى : ﴿ ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [٢٩] أي قصد إلى خلقها كذلك. لأن الحقيقة فى اسم الاستواء الذي هو تمام بعد نقصان ، واستقامة بعد اعوجاج ، من صفات الأجسام ، وعلامات المحدثات.
وقوله تعالى : ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾ [٤٢] وهذه استعارة. والمراد بها : ولا تخلطوا الحق بالباطل ، فتعمى مسالكه ، وتشكل معارفه. وذلك مأخوذ من الأمر الملتبس ، وهو المختلط المشتبه. ويقول القائل : قد ألبس علىّ هذا الأمر. إذا انغلقت أبوابه عليه ، وانسدّت مطالع فهمه.
وقوله سبحانه : ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ [٦١] وهذه استعارة. والمراد بها صفة شمول الذلة لهم ، وإحاطة المسكنة بهم ، كالخباء المضروب على أهله ، والرواق المرفوع لمستظله.
وقوله تعالى : ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ﴾ [٦٦] أي للأمم التي
__________________
(١) أي فى سورة النور. آية رقم ٤٣.
(٢) فى الأصل : ويحصل المعنى. وهو تحريف من الناسخ لا يستقيم به المعنى.
تشاهدها ، والأمم التي تكون بعدها. أو للقرى التي تكون أمامها ، وللقرى التي تكون خلفها. ولقول العرب : كذا بين يدى ، كذا وجهان : أحدهما أن تكون بمعنى تقدّم الشيء للشيء. يقول القائل لغيره : أنا بين يديك. أي قريب منك. وقد مضى فلان بين يديك ، أي تقدّم أمامك.
وقوله تعالى فى وصف الحجارة : ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [٧٤] وهذه استعارة. والمراد ظهور الخضوع فيها لتدبير الله سبحانه بآثار الصنعة وأحلام الصنعة (١).
وقوله تعالى : ﴿ بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾ [٨١] وهذه استعارة فيها كناية عجيبة عن عظم الخطيئة ، لأن الشيء لا يحيط بالشيء من جميع جهاته إلا بعد أن يكون سابغا غير قالص (٢) ، وزائدا غير ناقص.
وقوله تعالى : ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ [٨٨] . وهذه استعارة على التأويلين جميعا. إما أن تكون غلف جمع أغلف ، مثل أحمر وحمر ، يقال سيف أغلف. أو تكون جمع غلاف ، مثل حمار وحمر ، وتخفف (٣) فيقال حمر. وكذلك يجمع غلاف ، فيقال غلف وغلف بالتثقيل والتخفيف. قال أبو عبيدة : كل شىء فى غلاف فهو أغلف ، يقال : سيف أغلف ، وقوس غلفاء ، ورجل أغلف : إذا لم يختتن. فمن قرأ غلف ، على جمع أغلف ، فالمعنى أن المشركين قالوا : قلوبنا فى أغطية عما يقوله ، يريدون النبي عليهالسلام. ونظير ذلك قوله سبحانه حاكيا عنهم : ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا
__________________
(١) هكذا بالأصل. ولم نهتد إلى وجه الصواب فيها ، ولعلها : « وإحكام الصفة » .
(٢) قلص الثوب بعد غسله ـ انكمش ، فهو قالص.
(٣) فى الأصل « وتخفيف » وهو تحريف من الناسخ لا معنى له ، والصواب ما أثبتناه.
وَقْرٌ ﴾ [٥] الآية (١) . ومن قرأ : قلوبنا غلف على جمع غلاف بالتثقيل والتخفيف ، فمعنى ذلك : قالوا قلوبنا فى أوعية فارغة لا شىء فيها. فلا تكثر علينا من قولك ، فإنا لا نعى منه شيئا. فكان قولهم هذا على طريق الاستعفاء من كلامه ، والاحتجاز عن دعائه.
وقوله سبحانه : ﴿ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾ [٩٣] وهذه استعارة. والمراد بها صفة قلوبهم بالمبالغة فى حب العجل ، فكأنها تشرّبت حبّه فمازجها ممازجة المشروب ، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ. وحذف حبّ العجل لدلالة الكلام عليه ، لأن القلوب لا يصح وصفها بتشرّب العجل على الحقيقة.
وقوله سبحانه : ﴿ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [٩٣] استعارة أخرى. لأن الإيمان على الحقيقة لا يصحّ عليه النطق ، فالأمر إنما يكون بالقول. فالمراد إذا بذلك ـ والله أعلم ـ أن الإيمان إنما يكون دلالة على صدّ الكفر والضلال ، وترغيبا فى اتباع الهدى والرشاد ، وأنه لا يكون ترغيبا فى سفاهة ، ولا دلالة على ضلالة. فأقام تعالى ذكر الأمر هاهنا مقام ذكر الترغيب والدلالة ، على طريق المجاز والاستعارة ، إذ كان المرغّب فى الشيء والمدلول عليه ، قد يفعله كما يفعله المأمور به والمندوب إليه.
وقوله تعالى : ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [١٠٢] هذه استعارة. لأن بيع نفوسهم على الحقيقة لا يتأتى (٢) لهم. والمراد به ـ والله أعلم ـ أنهم لما أوبقوا أنفسهم بتعلم السحر ، واستحقوا العقاب على ما فى ذلك من عظيم الوزر ، كانوا كأنهم قد رضوا بالسّحر ثمنا لنفوسهم ، إذ عرّضوها بعمله للهلاك ، وأوبقوها (٣) لدائم العقاب.
__________________
(١) سورة فصلت. الآية رقم ٥.
(٢) فى الأصل « لا تأتى » وهو تحريف من الناسخ.
(٣) فى الأصل : « وأرقوها » وهو تحريف لعل صوابه ما أثبتناه.
وكانت كالأعلاق الخارجة عن أبدانهم بأنقص الأثمان ، وأدون الأعواض.
وقوله سبحانه : ﴿ بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [١١٢] أي أقبل على عبادة الله سبحانه ، وجعل توجّهه إليه بجملته لا بوجهه دون غيره. والوجه هاهنا استعارة.
وقوله تعالى : ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [١١٥] أي جهة التقرب إلى الله. والطريق الدالة عليه ، ونواحى مقاصده ومعتمداته الهادية إليه.
وقوله تعالى : ﴿ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [١٣٠] والتقدير : سفه نفسا ، على أحد التأويلات. وهذه استعارة. لأنه تعالى علق السفه بالنفس. وقولنا : نفس فلان سفيهة : مستعارة ، وإنما السفه صفة لصاحب النفس لا للنفس.
وقوله : ﴿ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ﴾ [١٣٣] أي ظهرت له علاماته ، ووردت عليه مقدماته ، فهى استعارة. لأن الموت لا يصح عليه الحضور على الحقيقة.
وقوله تعالى : ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [١٣٨] أي دين الله ، وجعله بمنزلة الصبغ لأن أثره ظاهر ، ووسمه لائح. وهذا من محض الاستعارة.
وقوله سبحانه : ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [١٥٠] فهذه استعارة على قول من قال : إن الشطر هاهنا البعد. أي ولّ وجهك جهة بعده. إذ لا يصح أن تولى وجهك جهة بعد المسجد على الحقيقة.
وقوله تعالى : ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [١٦٨] أي لا تنجذبوا فى قياده ، لأن المنجذب فى قياد (١) غيره تابع لخطواته. وهذه من شرائف الاستعارة. فهى أبلغ عبارة
__________________
(١) فى الأصل « فى قيادة » . وقد جعلناها « قياد » بدلا من « قيادة » تمشيا مع ما جرى عليه المؤلف فى قوله : ( لا تنجذبوا فى قياده ) .
عن التحذير من طاعة الشيطان فيما يأمر به ، وقبول قوله فيما يدعو إلى فعله. فهذه من شرائف الاستعارات.
وقوله تعالى : ﴿ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾ [١٧٤] . وهذه استعارة. كأنهم إذا أكلوا ما يوجب العقاب بالنار كان ذلك المأكول مشبها بالأكل من النار. وقوله سبحانه : ﴿ فِي بُطُونِهِمْ ﴾ : زيادة معنى ، وإن كان كل آكل إنما يأكل فى بطنه ، وذلك أنه أفظع سماعا ، وأشدّ إيجاعا. وليس قول الرجل للآخر : إنك تأكل النار ، مثل قوله : إنك تدخل النار فى بطنك.
وقوله تعالى : ﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾ [١٧٥] وقد مضى نظير ذلك ، وأمثاله كثيرة فى هذه السورة وغيرها.
وقوله تعالى فى ذكر النساء : ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ [١٨٧] . واللباس هاهنا مستعار ، والمراد به قرب بعضهم من بعض واشتمال بعضهم على بعض ، كما تشتمل الملابس على الأجسام (١) . وعلى هذا المعنى كنوا عن المرأة بالإزار.
وقوله سبحانه : ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ﴾ [١٨٧] وهذه استعارة ، لأن خيانة الإنسان نفسه لا تصح على الحقيقة ، وإنما المراد أنه سبحانه خفّف عنهم التكليف فى ليالى الصيام ، بأن أباحهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب الإفضاء إلى النساء ، ولو منعهم من ذلك لعلم أن كثيرا منهم يخلع عذار الصبر ، ويضعف عن مغالبة النفس ، فيواقع المعصية بفعل ما حظر عليه من غشيان
__________________
(١) استشهد ابن قتيبة فى كتابه « تأويل مشكل القرآن » بقول النابغة الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى جيده |
|
تثنت عليه فكانت لباسا |
على أن اللباس معناه أن المرأة والرجل يتضامان فيكون كل واحد منها للآخر بمنزلة اللباس.
النساء ، فيكون قد كسب نفسه العقاب ، ونقصها الثواب. فكأنه قد خانها فى نفى المنافع عنها ، أو جرّ المضار إليها. وأصل الخيانة فى كلامهم : النقص ، فعلى هذا الوجه تحمل خيانة النفس.
وقوله تعالى : ﴿ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [١٨٧] . وهذه استعارة عجيبة. والمراد بها على أحد التأويلات : حتى يتبين بياض الصبح من سواد الليل. والخيطان هاهنا مجاز. وإنما شبّها بذلك لأن خيط الصبح يكون فى أول طلوعه مستدقا خافيا ، ويكون سواد الليل منقضيا مولّيا ، فهما جميعا ضعيفان ، إلا أن هذا يزداد انتشارا ، وهذا يزداد استسرارا.
وقوله تعالى : ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ [١٨٨].
وقوله تعالى : ﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [٢٤٥] . وهذه استعارة. لأن الغنىّ بنفسه (١) لا يجوز عليه الاستقراض على حقيقته ، ولكن المقرض فى الشاهد لما كان اسما لمن أعطى غيره مالا على أن يردّ عليه عوضه ، أقام سبحانه توفية (٢) العوض عليه مقام رد القرض.
وقوله سبحانه : ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾ [٢٥٠] فهذه استعارة. كأنهم قالوا : أمطرنا صبرا ، واسقنا صبرا. وفى قوله : أفرغ ، زيادة فائدة على قوله : أنزل ، لأن الإفراغ يفيد سعة الشيء وكثرته وانصبابه وسعته.
__________________
(١) فى الأصل « الغنى لنفسه » وهو تحريف من الناسخ ، فالله غنى بنفسه لا غنى لنفسه.
(٢) فى الأصل « توفيه » بالهاء لا بالتاء المربوطة كما أصلحناه.