تلخيص البيان في مجازات القرآن - المقدمة

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]

تلخيص البيان في مجازات القرآن - المقدمة

المؤلف:

أبو الحسن محمّد الرضي بن الحسن الموسوي [ السيّد الرضيّ ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

وفائه ، فان الشاعر بعيد الخيال يصطبغ للظروف بألوانها في أغلب الأحايين ، ويصف نفسه بما هو بريء منه.

ولكن نظرة واحدة فيما نظمه متوجعا لخلع الطائع سنة ٣٨١ ، وفي رثائه يوم توفي في الاعتقال بعد جدع انفه وأذنيه سنة ٣٩٣ ، تدلنا على احتفاظه بالولاء وتمسكه بالمودة التالدة ، فان من يخلعه بهاء الدولة غضبا عليه ليستصفي أمواله ، ثم يقضي منكلا به مهانا بعد بضعة عشر عاما قضاها في الاعتقال ، تستهجن المجاهرات باطرائه وتأبينه ذلك التأبين الحاد ، وربما كانت المجاهرة بذلك مثيرة لغضب أضداده ، بل هي موقفة لصاحبها في معرض الخطر لا محالة.

ومع أن السيرة لم توقفنا على من مدح خليعا ، ولا من رثى من نكل به الملك ، مجاهرة ، غير الشريف ، فانا نستغرب ذلك بادئ بدء حتى من الشريف ، لأن المستخلف بعد هذا الخليع هو القادر الذي لم تزل حال الشريف معه قلقة ، وهو لا ينفك يزايلها لتصلح نوعا ما ، فان صلحت فببهاء الدولة ، وهو هو الخالع للطائع وهو الممثل به ؛ ولكن نفس الشريف الحرة الجريئة التي يقول عنها (١) :

و لكنها نفس كما شئت حرة

تصول ولو في ماضغ الأسد الورد

ووغول غرائز الوفاء في تلك النفس الحرة القوية ، القوية الارادة ـ حملته على أن يتعمد غضب أولياء الأمور عليه مهما كلفه ذلك من خسارة حكم او سلطان. وعندي ان من جيد مرثية له معنى ما يطري به مننه وأياديه

__________________

(١) من قصيدة موجودة في ديوان أخيه.

٤١

عليه ، لما انه مظهر وفائه ، وهو قوله :

ليس ينسبها وإن طال المدى

مرّ أيام عليها وليال

فاتني منها انتصار بيمينى

فتلافيت انتصارا بشمالى

ثم دعاؤه له بعد توجع طويل لفقده يصف فيه إقباره وهجرانه وارتخاص الدمع عليه ، وذلك إذ يخاطبه بقوله :

أيها الظاعن لا جاز الحيا

أبدا بعدك بالحيّ الحلال

كنت في الأحجال أرجوك ولا

أرتجي اليوم عظيما في الحجال

ولم يزل في هذه العصماء ينهج بالمعاني والمبانى والأساليب المتشعبة نهجا غريبا بديعا حتى كان ختامها قوله :

ضمنت منهم قرارتهم

عمد المجد واركان المعالي

لا تقل تلك قبور إنما

هي أصداف على غرّ لئال

عزة نفسه :

إن عزة نفس الشريف الطامح بأقصى نظره للخلافة طموح ذي الحق المهضوم لاستعادة حقه ، لا تحتاج الى نضد الأدلة وحشد الشواهد عليها من هاهنا وهاهنا. فان تلك العزة الملموسة هي الشاهد على ما انطبع عليه من الغرائز المتفرعة عليها : كالعفة والإباء والأنفة ؛ وهى إحدى الأسباب التي مكنته من الاتصال بالملوك والخلفاء اتصالا لم يبلغه بشاعريته ولا نسبه ، لأنها هيأت له عندهم مقاما ساميا لم يبلغه أيما شاعر وشريف ، وهى التي اكسبت شعره ـ حتى ما يتودد فيه ويستعطف به ـ رونق الحشمة والجلالة ؛ ولو أردنا أن نورد شاهدا من شعره على ذلك لاوردنا

٤٢

غالبه ، ونسقنا فيه كثيرا من شعره الغزلي الغرامي ، فان نفسه العزيزة وروحه المتوثبة قد اثرت فيه لدرجة أخرجت كثيرا منه عن مناهج الغرام المأثورة.

وهذا ما لا نتردد فيه ، لأنه أول شيء يظهر لنا من خصائصه الخلقية ؛ ولكن السيرة تنبؤنا عن بلوغه من العزة والأنفة مرتبة قد نقف عندها موقف الشاك المتردد ، تنبؤنا متفقة أنه لم يقبل قط صلة حتى من أبيه وحتى من ملوك بني بويه ، وأنه كان يقنع من هؤلاء بالاحترام وصيانة الجانب وإكرام الاتباع (١) . وتقول : إن أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد الطبري أنف له أن يقيم في دار أبيه بباب محول ولا تكون له دار تخصه منذ شبابه ، ومنذ كان يقرأ عليه القرآن ؛ ولكن كيف يقبل الشريف هبة استاذه له داره ( دار البركة ) وهو لم يقبل قط صلة من أبيه ! (٢)

ونحن إذا أردنا أن نبرهن على ذلك من غير ناحية شعره ، واستعرضنا تأريخ حياته الاجتماعية والأدبية ، لا نجد عينا ولا اثرا لمثل قول : « مدحه في عيد كذا فوصله بصلة سنية ... وهناه في وقعة كذا فأجازه ببدرة ... » ، ونجد هذه القضايا المكافاتية مثبتة في سيرة جميع من عداه من الشعراء البارزين وإن عظموا ، كما انا لا نجد في شعره طلبا ولا استرفادا حتى بالاشارة ، إلا ان يكون نزرا يخفى على الفحص البالغ ، وذلك كقوله لبهاء الدولة :

__________________

(١) العمدة وشرح النهج.

(٢) ابن ابى الحديد في شرحه عن تأريخ ابى الفرج بن الجوزي.

٤٣

يا أيها البحر بنا غلة

فهل لنا عندك من مكرع ؟

ولكن من يعلم مقدار تأثر الشريف بعظمة بهاء الدولة ، يعذره ان يجري على هواه إذا رأى منه رغبة في ان يستميحه ، ليجزل رفده في تكرمة او رتبة او غيرهما ؛ ولعلما كان البيت السابق صدر من هذا المورد.

ولكن من اين ثروته ؟ ومن اي وجه حصل على تلك الأملاك التي كانت تمونه وتقيم أوده ، وتشيد بالإنفاق الطائل مدرسته ـ دار العلم ـ التي كان يختص بالإنفاق عليها ؟ ومن اين كانت تستدر نفقاته في أسفاره وخاصة اسفار الحج حينما كان أمير الحجيج ، وتقول السيرة : إنه وأخاه أعطيا لابن البراج (١) الطائي لما اعتقل الحجاج بنجد تسعة آلاف دينار من مالهما فداء لهم (٢) ، وأبو احمد والدهما لم يزل في ذلك الوقت حيا لم يورث ، ولربما كانت والدتهما في قيد الحياة ايضا ؟

يقول جامع ديوانه في عنوان قصيدة يمدح بها الطائع : إنه قالها يشكره فيها على تكرمة خصه بها وثياب وورق وذلك سنة ٣٧٦. وقد يسجل عليه ذلك اعترافه حيث يقول:

و كنت إذا منحتني الملو

ك نزرا من النائل الغامر

أبيت القليل ولكننى

أردّ الرذاذ على الماطر

فى كل يوم قوام الدين ينضحني

بماطر غير منزور ولا وشل

مدحت امير المؤمنين وانه

لأشرف مأمول وأعلى مؤمّم

__________________

(١) وفي بعض الكتب : الجراح

(٢) عن تأريخ اتحاف الورى بأخبار أم القرى.

٤٤

فأوسعني قبل العطاء كرامة

و لا مرحبا بالمال إن لم أكرّم

وهذا ربما يؤخذ منه أنه لا يتهالك على المال ، وانه يؤثر عليه صيانة الغرض والكرامة ، استمساكا بالعزة والأنفة ، لا كمن يمدح الملوك للاسترفاد وأخذ المال بأيّ وسيلة ممكنة. وهذا توسط بين طرفي الابتذال والإباء ، لا يعاب سالكه ولا يهدم شرف الشريف انتهاجه ، ولربما يدعم بمثل قوله للمهلبي :

فهذا ثنائي لا أريد به الغنى

ابى المجد أني أجعل المدح مكسبي

كم عرّضوا لي بالدنيا وزخرفها

لمع الهلوك فلم أرفع لها رأسا

أريد الكرامة لا المكرمات

و نيل العلا لا العطايا الجساما

وهذا التوسط هو الذي صيّره مقلا ـ فيما يزعم ـ على وفور ما عنده ، وهو الذي جعله يلهج بالقناعة كثيرا ، ويكثر من التلهف على بلاغ من العيش يناله بعزة ، نحو قوله :

من لى ببلغة عيش غير فاضلة

تكفني عن قذى الدنيا وتكفيني

أخيّ ! من باع دنياه وزخرفها

بصونه كان عندي غير مغبون

وعلى العلات ، فاني لا اعرف في عصر الشريف بل في اكثر العصور شاعرا استكبر على الكسب بالشعر ، بل لا نكاد نعرف للشعراء غرضا من نظم الشعر في الأغلب إلّا التماس الوفرية ، لكن الشريف يتكبر على تلك العادة السيئة ويأنف من المدح ، إلّا أن يكون فيه نوع من الكرامة لا يحط من شرفه ولا يضع من مقداره ؛ ولذا نراه يندد بمن لا يبالى إذا حصل له المال من اي طريق اجتلبه.

٤٥

شفاعاته وتوسطاته :

وإذا كان الشريف لا يستميح أحدا مالا ، فانا لا ينبغي لنا أن نجهل ان عظمته ومنزلته عند الملوك والخلفاء ورجال الدولة تستدعي بطبيعة الحال وساطته لدى هؤلاء في كثير من المهمات التي يتكلف بها ويتشفع ، وربما يكون كثير منها من مهمات نفسه التي لا تتضمن طلب المال ، وفي هذه الوساطات إعمال للجاه في محالّه ، ولا منافاة فيه للعزة والأنفة ، فان الشحّ بالجاه قبيح كالشح بالمال او اشنع ؛ ومن هذا ما نجده في كثير من شعره من تنجّز المواعيد والإلحاح على الوفاء ، والحض على التكرم باتباع الأفعال للأقوال ، ولعمري إني لا أدري أي شيء طلب ممن يقول فيه :

أخطأت في طلبي وأخطأ في

منعي وردّ يدي بغير يد

فلأجعلن عقوبتي ابدا

ألّا أمد يدا الى أحد

فتكون أول زلة سبقت

مني وآخرها الى الأبد

ومهما كان المطلوب ، فهذا الشموخ ، وهذه المعاتبة والمعاقبة ، تبرهن على اعتزازه وتمسكه بمبدئه الشريف.

شكره للصنائع :

قد يؤخذ على الشريف تنازله مع بهاء الدولة الى مقام الخاضع المتصاغر في قوله له : « أنا غرس غرسته » وقوله : « وارع لغرس أنت انهضته » ونحوه. وهذا رأي فيه تحامل شائن ، لأنا مهما طبعنا نفس الشريف بطابع العزة والاستعصاء على الذل والخنوع ، فانا لا ننسى أن

٤٦

له من محاولات النقابة والإمرة وسعة الجاه ما يملكه بهاء الدولة واضرابه ، والقادر وأمثاله ، بل وحتى رجال الحاشية ، وما ذا يحصل لهولاء منه بعد الحصول على أغراضه سوى الشكر ـ وشكر الصنيعة نوع من الفتوة ـ وهو نفسه يقول : « ولا يشكر النعماء إلّا المهذب » . وفي الشكر مع ذلك استبقاء لما كان جدّ في الابتداء له ، ولو كان يترك الشكر على الصنائع لكان الأجدر به ألّا يهيئ نفسه لتلقي الحقوق التي يلزمه الشكر على نيلها ، وها هو ذا يستهل قصيدته في صديق له بقوله :

لأيّ صنايعه أشكر

و في أيّ أخلاقه أنظر

فكيف ببهاء الدولة الذي هو حقا كما يقول له :

أنا غرسكم والغصن لدن والصبا

غض وللعيس القياد الأطوع

ويقول :

إذا كنت لى غيثا فأنت غرستنى

و مورق عودي في الندى مثل غارسي

ويقول ( ولا أحسب ذلك إلا فيه أو في شرف الدولة وان لم يذكر اسمه ) :

ألبستنى نعما على نعم

و رفعت لي علما على علم

و علوت بي حتى مشيت على

بسط من الأعناق والقمم

فلأشكرن نداك ما شكرت

خضر الرياض صنايع الديم

فالحمد يبقي ذكر كل فتى

و يبين قدر مواقع الكرم

و الشكر مهر للصنيعة إن

طلبت مهور عقائل النعم

إن هذا ومثله لا يستنكر ولا يستغرب من الشريف ابتداء ولا شكرا للصنائع التي يحق أن تشكر ؛ لكن لم يكن المتوقع منه أن يؤدي شكر

٤٧

بهاء الدولة بقوله :

أنا عبد أنعمك التي نشطت

أملي وانهض عزمها مننى

وبقوله :

و ما إنعامك الغمر

بزوّار على الغبّ

سقاني كرع الجم

بلا واسطة القعب

و أرضاني على الأيا

م بعد اللوم والعتب

و أعلى المدح ما يثني

به العبد على الربّ

وكما أغرق في شكره فقد بالغ في مدحه مبالغة ما كانت مأمولة الوقوع منه كمثل قوله فيه :

ملك الملك ثم جلّ عن الملك

فأمسى يستخدم الأملاكا

عجبا كيف يرتضي صفحة النعل

لرجل يطابها الأفلاكا

ومن نظر الى مدحه له في المستهلة بقوله : « تمنت رجال نيلها وهي شامس » ورثائه في المبتدأة بقوله : « أظن الليالي بعدكم ستريع » يعلم مقدار تأثر الشريف بعظمة بهاء الدولة وتعليقه الفوز بآماله عليه ، إذ يرى القصيدتين وغيرهما من مدائحه لا تشبه مدائحه لمن سواه من خليفة او ملك ، فى الروعة والجلال وفي التنويه والتكريم ، بل هي بمدائحه لأبيه أشبه من كل ناحية.

دماثة أخلاقه :

إن من تتمكن وتتوغل في نفسه مثل عزّة الشريف ورفعته لا ينفك في الأغلب عن كبرياء وغطرسة ، لكن الشريف وهو بتلك العزة

٤٨

والأنفة ، لا تجد فيه زهوا ولا خيلاء ولا جبريّة ، كما نجد ذلك كثيرا في مستعار العظمة او مستجد النعمة ، ولذا لا نراه يطمع في اطراء الشعراء له مع استحقاقه وتأهله لذلك ، كما نجد الصاحب بن عباد يتحامل على المتنبي بشدة لأنه لم يمدحه ، بل انا نلمس منه لين الجانب ودماثة الخلق حينما نراه ينزل في معاتبة اصدقائه الى رتبة المماثل او دونها ، وتدلنا شوقيته لصديقه ابى الحسين أحمد بن علي البتّي الكاتب انه على غاية بعيدة من لين الجانب والبعد عن الغطرسة ، وذلك حيث يقول له :

اشاق إذا ذكرتك من بعيد

و أطرب إن رأيتك من قريب

كانك قدمة الأمل المرجى

عليّ وطلعة الفرج القريب

إذا بشرت عنك بقرب دار

نزا قلبي إليك من الوجيب

أكاد اريب فيك إذا التقينا

من الأنفاس والنظر المريب

فهذا ونحوه لا تسمح به الكبرياء ـ لو كانت ـ خطابا من الشريف لمثل البتي إلّا أن يكون قرينا له في المزايا او خليصا له في النسب ؛ وفي هذا ونحوه تدليل على ان تلك الحماسات ، وتلك الاندفاعات التي امتلأ بها ديوان شعره لم تكن لتنشأ عن شراسة في الخلق وخشونة ، ولكل مقال مقامه الذي يليق به ولا يوضع في مقام غيره ، ومما يبرهن على ذلك ايضا مدائحه الجمة واستعطافاته ، فانها لا تتفق مع الشراسة ، ولذا لا نجد شاعرا مداحا في الأغلب إلا سهل الأخلاق ليّن الجانب لأن الانعطاف نحو الممدوح واستماحة فواضله والسماحة بإظهار فضائله يلين عريكته ويسهل جماحه ، وقد يتفق لسهل الأخلاق ان يستعمل الحزونة

٤٩

مع بعض ، لأغراض تتفق له كما نجد الشريف يعترف بها حينما يقول لبعض مناوئيه :

لئن شاءكم مني حزون خلائقي

فقد طالما لم انتفع بالدمائث

تشدده في عقاب الجاني :

لعلما كان من هذا الشذوذ الاخلاقي ما ينسب الى الشريف أيام نقابته من الافراط في عقاب الجاني من آل ابى طالب ، او أن هذا جار على العادة بلا شذوذ عن الخصائص الخلقية الحسنة لأن الطالبيين يومئذ يراهم الملوك ويراهم الكافة طبقة ممتازة بالشرف وبالآباء وبالانتماء الى الرسول الأعظم ، ولذلك سنّت فيهم « النقابة » التي تفرقهم ان يشتركوا مع الجماهير في الانظمة والقوانين الدولية العامة ؛ ولهذا الامتياز ولذلك التفوق كان الشريف يستكبر الصغير من اجرامهم ، ويعاقبهم عليه بنسبة ما هم عليه من العظمة استمساكا بالأنفة والعزة ، ورفعا لهم عن مساواة سفلة الأخلاق من غيرهم ، وكفا لهم لأبعد غاية عن اقتراف أيما جريمة ، وبهذا الميزان يوزن ما نجده من حضه أباه على القسوة والشدة على الباغي من أقربائه عقابا على بغيه كقوله :

لا تنظر الباغي لقربى وارمه

بالذل واقطع ما عليه يعوّل

هذا الأمين أدال منه شقيقه

و مضى عقيرا بابنه المتوكل

و العفو مكرمة فان أغرى بها

متغافل قال الرجال : مغفّل

وهذا يدلنا على أن من رأيه أن اعمال القسوة في محالها لا يكون من حزونة الأخلاق. وقد لا يكون منافيا للحلم إذا كان الغرض منه

٥٠

تأديب الشخص وكف النوع عن الاجتراء على البغي ، ومن هذا الباب ايضا او هو مما يؤخذ على الشريف مخاطبته لبهاء الدولة بقوله :

إذا أشر القريب عليك فاقطع

بحد السيف قربى الأقرباء

و كن إن عقك القرباء ممن

يميل على الاخوّة للاخاء

فرب أخ خليق بالتقالي

و مغترب جدير بالصفاء

والذي أراه أن هذه وأمثالها تنشأ في وقتها لحوادث مجهولة لا يمكن استنتاج ايّما حكم غامض منها ، وإذا انضمت الأشباه الى نظائرها وأمثالها من شعر الشريف دلت على رقة فائقة وانعطاف على الأهل والأقارب لا يشبه ما يبدر منه فارطا في بعض الوقائع الخاصة المجهولة. ومن يستقرئ المعاتبات الواقعة بينه وبين أخيه الشريف المرتضى في ديوانيهما وانعطافهما على البعداء فضلا عن الأقربين ، يعتقد ان الخلق فيهما هو ذلك ، وأن ما يشذ عنه لا يحكم عليه بشيء. وإن أصدق ما أعرفه عنه عند ما أتعمق للغاية في شعره لا عرف نفسيته في ذلك ، هو الرقة التي يمثلها قوله ـ في عتابية أخيه ـ :

أفوّق نبل القول بيني وبينه

فيؤلمني من قبل نزعي بها عرضي

و أرجع لم اولغ لساني في دمي

و لم أدم إمضائي بنهش ولا عض

طموحه للخلافة ودعاته لها :

في العلويين ثم في الهاشميين شموخ وإباء يمتازون بهما عن سائر بطون قريش العريقة في الكبرياء والأنفة ، ثم هم يتفوقون بذلك النسب الكريم الباسق الذي له الأثر البليغ في الترفع والشمم ، وزاد في الأثر مبالغة في العلويين خاصة أنهم كانوا ـ سيما في القرون

٥١

الأولى القريبة العهد ـ يتمثل لأعينهم الحق الصريح في عرش الخلافة الاسلامية ، ويشعرون بأنهم ورّاثه الشرعيون ، فان ذلك ليس فقط يزيد في عز نفوسهم بل يقفز بهم ويتوثب على عرش الخلافة من حين لآخر ، ولذلك كانت مؤامراتهم وثوراتهم متتابعة وإن انتهت بالخيبة والفشل في أكثر الأحيان بل كلها ؛ فما هو الظن بالشريف الذي نبت في الصميم من شرف الأسرة العلوية ، وأدلى من طرفي أبويه بقرب الانتماء الى الرسول الأعظم ، ونفسه تلك النفس الوثابة الطموح ، وله تلك الفتوة والنجدة ، وتلك البسالة الموروثة ؛ ونحن إذا استعرضنا ديوانه نجد الأماني والآمال ، ونجد البشائر بالنجاح ، ونجد التعزي عن الخيبة بأنواع التعازي ، نجد كل ذلك قد أفعم ديوانه حتى غص بأمثال قوله :

يا قدمي ! دونك مسعاة العلا

قد ضمن الإقبال ألّا تعثري

ليكثرن خطوك أو تنتعلي

سرير ملك أو مراقي منبر

لا يرى مثلي إلا طالبا

ذروة المنبر او قعر الرّجم

طامح الرأس على أعواده

او على عادية الرمح الأصم

لو كنت أقنع بالنقابة وحدها

لغضضت حين بلغتها أمالي

لكن لى نفسا تتوق إلى التي

ما بعدها أعلى مقام عال

وإذا نظرنا الى واحدة من فخرياته نجد أنه تستدرجه هذه الأحلام ، وهاتيك الأماني الى الذهول عن مواضع محاولاته ، والغفلة عن الخطر الذي يلحقه من إبداء ما استكن في قرارة نفسه فبينا هو يقول :

انا ابن من ليس بجد له

من لم يكن بالماجد الجائد

٥٢

ثم يستطرد انا نياته الكثيرة التي لا خطر فيها ، إذا هو يتبعها بقوله :

و لا مشت بي الخيل إن لم أطأ

سرير هذا الأغلب الماجد

وهكذا ظل الشريف مخدوعا من قبل طموح نفسه وما يرى من تأهله للخلافة بما حازه من المآثر والمفاخر والملكات العالية ، فتارة يقول :

إن مدّ في ضبعي طول سن

ستعلمون ما يكون مني

وأخرى يعد نفسه بقوله :

و عن قرب سيشغلني زمانى

برعي الرأس لا رعي القروم

حتى قرّ في آخر مضاجعه ، ولم يحظ من ذلك بطائل ، لأن الحياة السياسية في عصره لا تدوم إلا بخلافة ولو كانت مستفادة ، كما لا تكون الخلافة يومئذ إلا للقادر ، ومن العبث محاولة غيره من العلويين لها إلا بانتظار الصدف الشاذة ؛ فنحن نترك للشريف رأيه فيما طلبه ، غير انا لا تحسبه إلا كما قال عن نفسه في بعض أغراضه :

و ما انا إلا كالموارب نفسه

بغى ولدا والعرس جدّاء عاقر

والذي أراه والذي استنتجه من مجموعة وقائع موقعة بتوقيع من شعر الشريف ان السبب في طمعه بالخلافة امور :

١ ـ إدلاله بالفخر والطول المتكون من علوّ النسب فحسب ، كما أن ذلك وحده او مع المزايا الأخرى كان ينهض بيني أبيه وبني عمه الثائرين في وجوه الخلفاء من قبله ، لأخذ الخلافة المهتضمة على رأيهم ، وإن انتهت توراتهم بالخيبة والفشل إلا انهم يستفيدون بنفس الثورة كثيرا من منازعهم الجميلة ، وفي هذا المنحى من وجوه الطلب ينهج الشريف بقوله :

٥٣

كم أب لى جدّ في إحرازها

يحرق الباب عليها وابن عم

صبروا فيها على كل أذى

و لقوا من دونها كل ألم

٢ ـ قبض البويهيين المخلصين والمقدرين له على مخانق الخلافة ، وتلاعبهم نصب عينيه بالخلفاء لأسباب تافهة : فمعز الدولة يخلع المستكفي ويسمل عينيه ، ولو شاء أن يقطع به الخلافة لفعل ، لكنه يستقدم المطيع من منفاه فينصبه. وهذا لما جاء عضد الدولة فاتحا نكّل به وألجأه الى التنازل عن الخلافة لولده الطائع. وهذا الأخير ـ وهو داهية المجاملة ـ لم تخنه عبقريته في مراعاة موقفه مع بهاء الدولة ، ولكنه ما ذا يصنع والبهاء يريد أمواله التي حرص على جمعها ؟ إلا أن يفقد خلافته او ماله ، فخسرهما جميعا ونكل به ، وهو معتقل ، ليجلس القادر مكانه ، وهو منفيّه في البطيحة.

فهذا يمهد للشريف مقدمات الأمانى ، ويبنى له الصروح ، إذ يرى نفسه ويراه ملوك بني بويه أهلا للخلافة ، وربما كانوا يعتقدون أنه أحق بها من غيره ، وله على ذلك أشياع من العظماء كالوزير ابن ابى الريان ، والأمير ابي الهيجاء الحمداني ، وابى حسان « المقلد بن المسيب » امير بني عقيل ، وابى الحسن بن الفضل المهلبي ، وهذا هو المغيّى بقوله :

و إن رجائي أن تكون لهمتى

طريقا تؤدينى الى كل مطلب

و أرمي الى أمر أظنك بابه

ألا إن بعض الظن غير مكذب

وانا نرى الصاحب بن عباد يخطب مودة الشريف في أبيات كتب بها اليه ، ولكن ما هو الجواب الذي يجيبه به حينما يقول :

٥٤

أيا خاطبا ودي على النأي إننى

صديقك إن كنت الحسام المهندا

فاني رأيت السيف أنصر للفتى

إذا قال قولا ماضيا او توعدا

انه يلحن له في هذا القول عن مؤازرته فيما يرومه ، وعن تقريبه الى الدعوة له ، بيد انه لا يصارحه فى ذلك كما يصارح أبا إسحاق الصابي.

إن الصابي كان ـ خصوصا بعد ما أفقده عضد الدولة كرامته ومقامه من كتابة ديوان الإنشاء ـ يستميل الشريف بمثل قوله : « أبا حسن لى في الرجال فراسة » ، ويمنيه الأمانى ويؤكد له المطامع والآمال ، ليستعيد مقامه الأول ، وربما كان حماس الشريف نفسه وتطلعه للخلافة يأخذ من الصابي مأخذه ـ وهو شاعر يستهويه الخيال فيتحول الى حقيقة ماثلة ـ فيجد في ذلك ضوء لنيل آماله واستعادة كرامته ؛ ولكن الشريف كيف يجيب عن تلك الفراسة ، وبالأحرى المماذقة والمواربة ؟ . انه يعده بالمكافأة التامة ، ومشاطرة النعمة إن حصلت أمانيه وصدقت به الفراسة ، ولكنه بالآخرة يقول له غير متردد ولا شاك :

فو الله لا كذبت ظنك إنه

لعار إذا ما عاد ظنك مخفقا

فان الذي ظن الظنون صوادقا

نظير الذي قوّى الظنون وحققا

وسواء كان الصابي ـ الذي حلب الدهر أشطره ـ صادق النية ومخلصا للشريف او مواربا كما أظن ، او هو كما يقال (١) يزعم أن طالعه النجومي يدل على نيله الخلافة ، فان الشريف هو المنبه لشعور الصابي وأمثاله ، وهو هو الذي قد مازج حب الخلافة نفسه منذ صباه ، ولقد كان يستوحش إذا

__________________

(١) عمدة الطالب.

٥٥

رأى السكون من ناحية الخلافة سائدا فى العاصمة بلا اضطراب ، وبدون أمارات تنذر بالقلق ، كما كانت في ايام القادر ، وفي هذا الشأن كان يقول :

أما تحرّك للاقدار نابضة

أما يغيّر سلطان ولا ملك ؟

قد هادن الدهر حتى لا قراع له

و أطرق الخطب حتى ما به حرك

أظلّت السبعة العليا طرائقها

أم اخطأت نهجها أم سمّر الفلك ؟

٣ ـ إمارة الحج ، فهي التي نبهت هواجسه التي تنمو بنموه ، واذكت فيه ذلك الشعور الملتهب الذي يتحفز ولا يهدأ ولا يقنع بما دون الخلافة إلا ساخطا على القضاء ، وليس ذلك لما في تلك الامارة من سلطة محدودة ومقصورة على البادية فان سلطة النقابة الدائمة أقوى منها وأكمل ، بل لأنها قد أكدت الصلات بينه وبين سراة البادية وزعمائها في جزيرة العرب كلها ، وهم هم المتنفذون ، وهم الذين يتمكن الشريف ان يفسر بهم أحلامه ، ويحقق أمانيه التي يظهرها قوله :

متى أرى الزوراء مرتجة

تمطر بالبيض الظبى او تراح

يصيح فيها الموت عن ألسن

من العوالي والمواضي فصاح

وهذا أقوى الأسباب فيما أرى لدى الشريف ، لأنه إن تم لا يقصر خلافته على العراق فقط أو حيث تمتد سلطة بني بويه بل يسير بها في جزيرة العرب كلها ، ويدلنا على أن الشريف يطمع في عموم الاستخلاف الذي ينحصر بهذا السبب قوله :

لست للزهراء إن لم ترها

كوعول الهضب يعجمن اللجم

يستجن البدر من فرسانها

بين بغداد إلى أرض الحرم

٥٦

و عليّ أن يطأ العراق وأهلها

يوم أغر من الدماء محجل

يوم تزل به القلوب من الردى

جزعا وأولى أن تزل الأرجل

وما أرى مودة الشريف لصديقه العربي ـ ابن أبى ليلى ـ كانت في بدء الأمر إلّا لكونه أحد سراة العرب المتنفذين في البادية ، والذين توثقت عرى الصلات معهم لاجتياز الحجيج لكنه استدرجه فيما بعد فأفضى إليه بسره ، وأبدى له ما يجيش بنفسه ، فصادف جوا ملائما للغاية التي يتمناها الشريف ويتوخاها ، إما لبساطة في نفس ابى العوام هذا ، أو لغضبه على الخلفاء ، او لأنه يطمع برفعة ينالها في خلافة الشريف او مال او غيرهما.

( ابن ابى ليلى ) لا تعرّفنا عنه كتب التأريخ والسير شيئا ، ولا تنبؤنا عن تحديد كرامته حتى ولا تذكر اسمه ، ولكن يؤخذ من ديوان الشريف أنه من بني عامر بن لويّ وأن اسمه عمرو ، أو كعب. ويكنى بأبي العوام ، ويقال : انه كان دليلا له فى طريقه الى مكة سنة ٣٩٤ ، وهو العام الذي حج فيه معه الوزير ابو علي الحسين بن حمد بن ابي الريّان وله فى ذلك قصيدة يذكره فيها ، ويؤخذ من إطراء الشريف لابن ابي ليلى هذا ترجمة رجل متفرد بمآثر جليلة ومناقب جمة جميلة ، ولا ريب أن فى ذلك الإطراء مبالغة وتخييلا شعريا ، ولكن واحد من مائة لم يبالغ فيه يكفينا لأن نعرف أنه من الشخصيات البارزة يومئذ ، وأن بنى تميم قتلته فى سبيل دعوته للشريف لما لم ترق لديهم تلك الدعوة ؛ ولعلما كان قتله وقتل المقلد العقيلي مما دبره الخلفاء بليل للاستراحة منهما ،

٥٧

وبالآخرة من خلافة الشريف. ومن رثاء الشريف له بعدة قصائد نعرف مكانته عنده ومنزلته من نفسه ، وقلما تجد الشريف تكرر تأبينه لشخص واحد مثله ، وأرى أن من أجود مراثيه له هي التي يقول فيها :

لعمر الطير يوم ثوى ابن ليلى

لقد عكفت على لحم كريم

و اقسم أن ثوبك يا ابن ليلى

لمجموع على عرض سليم

أ جدّك أن ترى بعد ابن ليلى

طعانا بين رامة والغميم

أ أرجو للحواضن كابن ليلى ؟

أحلت إذا على بطن عقيم

عقيدته من شعره

اصول اعتقاده :

إن كتيب التأريخ وكتب السيرة والأدب متفقة من عصر الشريف الى القرن الحاضر ، على انه شيعي إمامي من أسرة هم شيعة إمامية ، وهو ـ بعد ـ مؤلف كتاب « نهج البلاغة » الذي ما جمعه إلا وهو معترف بصحته ، وكفى أن شطره او المقذع منه قد اتهم بوضعه ، ونحن إذا سبرنا شعره لنأخذ منه عقيدته حسبما اقترحناه نجده قد جمع اساسيات الإسلام ثم التشيع بقوله :

أصبحت لا أرجو ولا أبتغي

فضلا ولي فضل هو الفضل

جدي نبيي وإمامي ابي

و رايتي التوحيد والعدل

وقد يجري مجرى ذلك قوله :

جدي النبي وأمي بنته وأبى

وصيه وجدودي خيرة الأمم

٥٨

لنا المقام وبيت الله حجرته

فى المجد ثابتة الاطناب والدعم

اما جدوده أولئك الذين يقول عنهم : خيرة الأمم ، فقد ذكرهم عددا مفصلا في مقصوراته المشهورة ، وفي المستهلة بقوله : « أيا لله بادرة الطلاب » حتى انتهى الى أخيرهم ، وهو الذي يقول فيه :

بني أمية ما الأسياف نائمة

عن ساهر في أقاصي الأرض موتور

ومما يمتاز به الشريف في شعره ونثره ، حتى في مصنفاته ، أنه لا يستعمل القذف والقذع الشائع في ذلك الزمن ، لمخالفيه فى المذهب والدين ، ترفعا عن هذا المقام الشائن ؛ وربما كانت ـ ايضا ـ الأحوال الاجتماعية والسياسية يومئذ تصده عنه صدا كليا ، وتسد ذلك الباب دونه ؛ ولقد كنت منذ الزمن الأقدم اعجب منه مع كمال أدبه وشدة تحرجه كيف استطاع أن يعلن قوله في آل حرب :

بنى لهم الماضون أساس هذه

فعلوا على بنيان تلك القواعد

رمونا كما ترمى الظماء عن الروى

يذودوننا عن إرث جد ووالد

وكيف أعلن بعد إبهام وإدماج قوله :

هم انتحلوا ارث النبي محمد

و دبوا الى ابنائه بالفواقر

و ما زالت الشحناء بين ظلوعهم

تربي الأماني فى حجور الأعاصر

و لو أن من آل النبي مقيمها

لعاجوا عليه بالعهود الغوادر

الى أن يقول فى جده علي عليه‌السلام :

شهدت لقد آوى الخلافة سيفه

الى جانب من عقوة الدين عامر (١)

__________________

(١) ويقول في مدحه لابيه يوم الغدير حين ردت عليه بقية املاكه سنة ٣٧٦ : ـ

٥٩

فروع عقائده وما يتصل بها :

إن من الآراء ما يتصل بالعقيدة ، وإن لم يكن ممتزجا بجوهرها ، ولا مميزا لصاحبها عن غيره ، لكنه متكون من معدنها ، او هو من احدى نابتات ارضها ، كقوله :

إن الخلائف والأولى فخروا

بهم علينا قبل أو بعد

شرفوا بنا ولجدنا خلقوا

و هم صنايعنا (١) إذا عدوّا

وقوله :

أ لست من القوم الذين تسلّفوا

ديون العلا قبل الأولى فى الاظلة !

والاظلة : عالم المجردات ، وهو ما يسمى بعالم الذر ، سمي بذلك لأن الأشياء فيه أشياء وليست بأشياء ، كالظل ؛ وقد جاء في أحاديث الامامية عنه وعن شأن الأئمة فيه ما لا حاجة الى ذكره.

ويجري هذا المجرى ما ذكره في اطراء جده علي ، بذكر بعض مناقبه وفضائله في قصيدته البائية التي يذكر فيها آباءه الاثني عشر وشيوع مراقدهم ، كما تقدمت الاشارة لها ، قال :

قسيم النار جدي يوم يلفى

به باب النجاة من العذاب

و ساقي الخلق والمهجات حرى

و فاتحة الصراط الى الحساب

و من سمحت بخاتمه يمين

تضيء بكل عالية الكعاب

__________________

غدر السرور بنا فكا

ن وفاؤه يوم الغدير

يوم أطاف به الوصي

وقد تلقب بالأمير

(١) مأخوذ هذا المعنى من كلمة قالها علي رويت في النهج : « انا صنايع ربنا والناس بعد صنايع لنا »

٦٠