من علم النفس القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم النفس القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٠

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الاهداء

يا إلهي :

لقد كنت أرى ولا أبصر ، وأعلم ولا أعقل بعضا من آياتك التي لا تحصى في الكون وفي نفسي ، فقذفت في قلبي نور الإيمان وأنرت لي سبل الهداية ، وكشفت عن بصري وبصيرتي غشاوة الجهل والضلال.

يا رب :

لقد كنت ضالا فأرسلت من يهديني ، وتعيسا بالبعد عنك ، فأسعدني التقرب منك ، هل لعبدك التائب أن تتقبل منه هذه المحاولة المتواضعة للشكر والحمد وأنت أرحم الراحمين ، وخير الغافرين؟ وسبحانك على حلمك بعد علمك ...

عبدك التائب

عدنان الشريف

٥

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)

الإسلام إذا فهم ودرس وطبق بصورة منهجية علمية في البيت والمدرسة والمجتمع ، كان وحده القادر ، كنظام سماوي متكامل لا ثغرات فيه ، على أن يخلّص الإنسان من كل عقده النفسية ، بل قد يتسامى بها ، فيحول عقد الموت إلى فضيلة الجهاد ، وطلب الشهادة. وعقد الحرمان والنقص والتعالي إلى فضائل المحبة الصادقة والثقة بالنفس والتواضع والصبر. وعقد الحرص والشّح إلى فضيلة الإحسان والإيثار. وعقد الجنس إلى فضيلة العفة والترفع عن كل شهوة جنسية آثمة.

الدكتور عدنان الشريف

٦

توطئة

هدفنا من نشر هذا الكتيب أولا وقبل كل شيء ، الالتزام بأوامر الباري عز وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة : ١٥٩). «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». (رواه مسلم والترمذي).

ثانيا : بالرغم من وفرة الكتب والمنشورات التي جهدت في تفسير الكثير من آيات القرآن الكريم وتأويلها ، والتي تطرقت لمختلف فروع العلوم الطبية والنفسية والفلكية والفيزيائية والتاريخية والجغرافية ، وعلوم الحيوان والنبات ، فإن هذه المحاولات ، وهي في أكثرها مشكورة ، ظلت متفرقة ، فأردنا في هذه المحاولة المتواضعة ، أن نجمعها قدر الإمكان في سلسلة كتب سننشرها تباعا وعلّنا نضع أمام القارئ ، بعضا من المعجزات والحقائق العلمية التي ذكرها القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرنا والتي لم يكتشفها العلم إلا منذ بضعة قرون أو بضع سنين فقط ، علّ هذه الإعجازات العلمية القرآنية المجهولة ، وقد أصبحت اليوم حقائق كشفها العلم ، تساعد المؤمنين من القراء وغيرهم ، كما ساعدتنا ، على الانتقال من إيمان الفطرة بالله إلى

٧

الإيمان العلمي به. وهو برأينا الإيمان الثابت والسبيل الوحيد للوصول إلى فهم معنى الحياة من كل جوانبها ، وبالتالي الوصول إلى السعادة الحقيقة هدف وغاية كل مخلوق حي.

فالسعادة هي في معرفة الحقيقة ، ولا يكون ذلك إلا من خلال معرفة الإنسان لذاته : ماهيتها ، رغباتها ، ومصيرها ، ولا سبيل لمعرفة الذات معرفة صحيحة إلا من خلال هدي القرآن الكريم والحديث والسيرة النبوية الشريفة. وما يعتقده أكثر الناس من أن السعادة تتأتى من المأكل والمشرب والتمتع بمتاع الدنيا من شهوات جنسية وبنين ومال وجاه ، إن هي في الحقيقة إلا لذّات آنية ، مصحوبة غالبا بالألم ، تعطي القليل القليل مما نسميه بالسعادة المزيفة. فالسعادة الحقيقية هي إحساس داخلي شبه دائم بالرضا والطمأنينة ، لا يمنحها إلا الباري لمن اتبع هداه فقط ، إنها إحساس شخصي ذاتي داخلي بالسكينة ، لا يعرفه إلا من ذاقه أو كما يقول بعض العارفين بنعمة الإيمان : من ذاق عرف ، ولو ذاق الملوك نعمة السعادة الحقيقية التي يمنحها الإيمان بالله لقاتلونا عليها.

القواعد القرآنية التي نلتزمها في تفسير الآيات الكريمة

يسّر المولى عزّ وعلا فهم معاني آياته الكريمة وحضّ على تدبّرها ، وبيّن الذين باستطاعتهم القيام بذلك ، والشروط الواجب توفرها عند من يريد أن يتحمل هذه المسئولية ، الجليلة والخطيرة ، بنصوص قرآنية ، هي القواعد التي اعتمدناها في محاولة تفسيرنا للآيات العلمية الكريمة ، لذلك نرى لزاما علينا شرحها وتبسيطها ، وهي ما ندعوه بالقواعد القرآنية للتفسير.

القاعدة الأولى الأساسية : المولى يعلم قرآنه للعالم التقي : (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ ... وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ). وللتقوى شروط قرآنية فصلها الكتاب الكريم من خلال آيات التقوى الكثيرة نختصرها

٨

بالآية الكريمة التالية الجامعة : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة : ١٧٧).

وكل باحث في آيات الله يجب أن يجمع إلى جانب تقوى الله : العلم ، ونعني بذلك : العلوم القرآنية ، إلى جانب حقل من العلوم الوضعية ، كي لا يقع في ما حذرت منه الآية التالية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَلا هُدىً ، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ). فالمولى عزّ وعلا لا يقبل شهادة على وحدانيته وقسطه إلا من نفسه أولا والملائكة ثانيا وأولي العلم ثالثا (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران : ١٨).

القاعدة القرآنية الثانية : قاعدة المثاني : كتاب المولى الكريم يفسر بعضه بعضا ، استنادا إلى قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (القرآن الكريم) (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ ، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (الزمر : ٢٣).

فلكل آية من آيات الله ، آية أو آيات أخرى هي «مثانيها» تفسرها وتكمل معانيها بعضها بعضا ، من الواجب التفتيش عنها ووضعها جنبا إلى جنب إذا كنا نريد أن نفهم شيئا من معاني الآيات والكلمات في القرآن الكريم. ذلك أن للكلمة في كتاب الله معاني عدة ، يجب التفتيش عنها من خلال آيات المثاني ، فالقرآن الكريم هو أولا وأخيرا الذي يعطي المفردات معانيها المختلفة وليست معاجم اللغة فقط ، وهو الذي يغني اللغة العربية بمعاني

٩

المفردات ، وسياق الجملة في الآيات من المثاني هو الذي يعطي للكلمات معانيها وليس العكس ، فمن الأمثلة على ذلك معنى كلمة «مكر» فهي تعني عمل عملا سيئا في موضع ، و «عاقب» في معنى آخر ، استنادا إلى قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). ويشرح هذه الآية الكريمة قوله تعالى في آية أخرى وهي من مثاني الأولى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (النحل : ٤٥ ـ ٤٧).

حبذا لو وضع علماء اللغة عندنا ، من المتقين ، الذين يريدون تفسير معاني المفردات في كتاب الله الكريم معجما جامعا لمعاني هذه المفردات استنادا إلى قاعدة المثاني القرآنية.

القاعدة القرآنية الثالثة : الثابت من الحديث الشريف هو المعتمد في تفسير البعض من آيات الله : (... وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : ٤٤). (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل : ٦٤).

فالرسول الكريم لم يفسر لنا إلا آيات العقيدة والأحكام وبعضا من الآيات العلمية في حقل العلوم المادية ربما ، والله أعلم ، التزاما منه بقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ). (ص : ٨٧ ـ ٨٨).

ومن الأحاديث الشريفة ، نحن لا نعتمد إلا المذكور في الكتب الصحاح للأحاديث التي اتفق عليها علماء الأحاديث ، شرط أن لا يتعارض أي حديث مهما كانت صحته مع كتاب الله الكريم استنادا لقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ

١٠

مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧) واستنادا أيضا إلى الحديث الشريف التالي : «إنكم ستختلفون من بعدي ، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فعني ، وما خالفه فليس عني». (رواه ابن عباس ـ مسند الإمام الربيع) علما أن بعضهم قد شك في صحة هذا الحديث وقال عنه إنه موضوع مكذوب.

القاعدة الأخيرة : عدم الربط بين آية علمية أو حديث شريف تطرق إلى حقل من حقول العلوم المادية إلا مع ما أثبته العلم بالبرهان والصورة وأصبح قاعدة لا جدال فيها.

١١
١٢

مدخل من إيمان الفطرة إلى يقين البرهان

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً).

(النساء : ١٧٤)

ـ «إن الإيمان ليخلق (يضعف ويبلى) في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فسلوا الله أن يجدّد الإيمان في قلوبكم».

(حديث شريف ـ رواه الطبراني)

ـ «إن الإيمان هو أقوى وأنبل نتائج البحوث العلمية ، إن الإيمان بلا علم ليمشي مشية الأعرج ، وإن العلم بلا إيمان ليتلمّس تلمّس الأعمى».

(أينشتاين)

١٣

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ)

صورة رائعة لاحدى المجرات Galaxie من بين مليارات المجرات الكونية :

تتألف من مليارات النجوم ، وبعضها يصل حجمه آلاف المرات حجم الشمس وتبعد عنا ملايين السنين الضوئية (السنة الضوئية تساوي ٩٤١٦ مليار كلم أي عشرة آلاف سنة تقريبا)

١٤

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أول آية مباركة في التنزيل ، هي أمر من المولى عز وعلا لكل إنسان عاقل بأن يتعلم ، والاستزادة من العلم أمر إلهي آخر (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ، والذي بلّغ الدعوة عليه أزكى الصلوات ، وصف نفسه قائلا : «إنما بعثت معلما» ؛ لذلك لا ينتقل العبد المكلف من خانة المسلم بالهوية ، وهي مع الأسف حالة أكثر المسلمين اليوم ، إلى خانة المسلم المؤمن حقا ، وهي حالة القلة ، إلا إذا انتقل بإيمانه نقلة نوعية ، من إيمان الفطرة إلى إيمان البرهان أي الحجة والدليل ، ولا يكون ذلك إلا بواسطة العلم ، فالإيمان الصحيح ، هو عملية منطقية ، فكرية ، علمية ، قبل أن يصبح مسألة وجدانية شعورية ، ولا يخشع قلب الإنسان وتلتزم جوارحه بالطاعة لتعاليم السماء ، إلا إذا تكونت لديه الحجة والبرهان ، أي الدليل العقلي المنطقي والعلمي الذي من خلاله لا مناص لكل خلية من خلايا دماغه المفكر بالتملص منه ، وعندئذ فقط يخشع قلبه وتلتزم جوارحه ، وتصبح لديه المناعة ضد كل أصوات التشكيك المنبعثة من النفوس المريضة ، الأمارة بالسوء ، الظانة بالله (ظَنَّ السَّوْءِ) وما أكثرها وأعتاها في داخلنا ومن حولنا!

ومن يتقصى أسباب نشأة المدارس الفكرية والأنظمة الوضعية

١٥

الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عنها ، والتي تحارب الدين أو تفصله عن تسيير شئون الإنسان ، يجد أنها كانت نتيجة مباشرة لفقدان البرهان المنطقي العلمي في بعض الرسالات السماوية ، نتيجة تحريفها على يد الإنسان ، أو كنتيجة أيضا لإساءة فهم ونشر وتطبيق النصوص السماوية التي لم تحرف ، من قبل القائمين على تبليغ الدعوة ونشرها.

ولو تقصينا أيضا أسباب الصحوة الإيمانية الجديدة اليوم ، واعتناق عشرات الألوف من الغربيين الإسلام ، والتشبث المستميت من الأقلية المسلمة بعقيدتها في بعض البلدان ، بالرغم من تألب قوى التبشير والإلحاد ضدها ، لوجدنا أن من الأسباب الرئيسية لذلك ، هو أن الإسلام يقدم للإنسان العاقل المفكر ، البرهان الذي لا يتعارض مع معطيات المنطق والعلم الصحيح ، بل يعززها ويرسخ في نفسه بذور إيمان الفطرة التي وضعها فيه خالقه. وكل دعوة دينية ، لا تلتزم طريق العقل والمنطق والعلم ، لا تنتج في رأينا إلا إيمانا تقليديا ، سريع العطب ، حتى ولو كانت النصوص السماوية صادقة لم تطلها يد التحريف ، إذ لا يقوى أمام قوى الباطل المنظم والذي يغلب الحق غير المنظم ، إلا دعوة دينية قائمة على منهجية علمية منظمة ومستندة إلى الحجة والبرهان والدليل ، وكلها موجودة في النصوص السماوية التي لا تكون كذلك إلا إذا لم تتعارض مع كل منطق سليم وعلم ثابت صحيح.

١ ـ إيمان الفطرة

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (الروم : ٣٠).

الإنسان بطبيعته مفطور على الإيمان ، بما أودعه فيه المولى من عقل

١٦

مفكر ، يهديه إلى البرهان الذي يتلاءم مع مستوى علمه ومنطقه على أن له ربا وجبت طاعته وعبادته من بين ملايين الأدلة والبراهين في هذا الكون ، وما حواه من مخلوقات من أصغر جسيم في الذرة إلى أكبر مجرة ، مرورا بعالم النبات والحيوان ، وكلها تشهد بوحدانية الخالق وعظمته. هذا ما نفهمه من معاني الآية الكريمة أعلاه والآيات التالية :

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (الأعراف : ١٧٢).

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف : ٩).

إن كل إنسان ملحد ، لا يستطيع في الحقيقة أن يسكت في ذاته صوت الإيمان الفطري ، فعند ما يخلو بنفسه أو من خلال زلات لسانه ، يعترف ضمنيا بأن له خالقا فطر السماوات والأرض ، إلا أن المكابرة وحب المجادلة وخوف الالتزام بتعاليم الدين التي تتعارض مع أصوات الطاغوت والنفس الأمّارة بالسوء تجعله يتجاهل ويسكت صوت إيمان الفطرة فيه ، فرحمة من المولى ، وإقامة للحجة عليه أنزلت الكتب والرسالات السماوية التي تساعد الإنسان على الانتقال به من إيمان الفطرة إلى إيمان البرهان ، هذا إذا أراد ، فهو المخير مع الجن دون سائر المخلوقات.

وليس الإنسان فقط ، مفطورا على الإيمان بخالقه بل الجماد والنبات والحيوان كذلك. ولقد بدأ العلم منذ سنوات ، وبالوسائل السمعية والبصرية ، يكتشف شيئا من لغات الحيوان وطرق تخاطبه ، كما تبين أن للنبات شعورا وإحساسا وربما لغة خاصة به كالحيوان. وسيكشف العلم ذلك لا حقا أيضا في كل شيء ، مصداقا لقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ

١٧

وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (الإسراء : ٤٤).

٢ ـ إيمان البرهان

١ ـ تعريف موجز بالإيمان اليقيني

حدّد المولى في كتابه الكريم تعريف المؤمن الحق الصادق بآيات لا تتطلب الشرح ، يكفي التذكير ببعضها :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). (الأنفال : ٢ ـ ٤).

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). (الحجرات : ١٥).

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (السجدة : ١٥ ، ١٦).

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ). (المجادلة : ٢٢).

فالإيمان الصادق ، هو فعل خيار لعقل ومنطق سليم ، وإرادة قوية تجاهد أهواء النفس الأمّارة بالسوء ، وهو فهم بالعمق ، ومن ثم التزام بما

١٨

جاءت به الكتب السماوية الحقة ، أي التي لا تتعارض تعاليمها مع المنطق السليم والعلم الثابت الصحيح ، وهي تعاليم الإسلام.

والإيمان هو بنظرنا ضرورة حياتية ، كالطعام والشراب ، إذ لا سعادة للأفراد والمجتمعات بدونه ، وما التعاسة والفقر والخوف والقلق والضياع ، وكلها تلفّ الإنسانية من أدناها إلى أقصاها ، خاصة في يومنا الحاضر ، إلا نتيجة مباشرة لبعد أكثر الأفراد والشعوب عن سلوك طريق الإيمان الصادق.

٢ ـ سبل المعرفة الإيمانية

للوصول إلى المعرفة الإيمانية اليقينية سبيلان :

أ ـ سبيل خاص هو سبيل المعرفة «اللدنية» وهي ما يعلمه الإنسان مباشرة من ربه بالوحي أو بالإلهام والحدس ، وبعد رياضة النفس ومجاهدتها بالتقوى ، وهو سبيل الأنبياء والرسل والقلة القلة ، كبعض الأولياء ممن اختصهم المولى وهيأهم لسلوك هذا السبيل من المعرفة الإيمانية المباشرة التي تسمى بالمعرفة «اللدنية» :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). (الشورى : ٥١).

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً). (الكهف : ٦٥).

وهذا السبيل الخاص بالمعرفة الإيمانية والذي سلكه المتصوفون ومنهم الصادق ، وهم القلة ، والكثرة الغالبة هم في الحقيقة مرضى الهلوسة العقلية أو الشعوذة ، لا ننصح بسلوكه للعامة فلقد لاحظنا من خلال ممارستنا المهنية العلاجية للأمراض العقلية ، أن كثيرا من الذين يريدون الوصول إلى شيء من اليقين الإيماني وخاصة بالغيبيات ، يحاولون سلوك هذا الطريق الخاص بالمعرفة الإيمانية وبدلا من الوصول إلى الإيمان ، يصلون إلى أقرب

١٩

عيادة أو مستشفى للأمراض العقلية وهم في حالة يرثى لها من الهذيان الديني والهلوسة من ادعاء الإيحاء إليهم من الله أو رؤية الملائكة والجان وغير ذلك.

ب ـ سبيل عام هو سبيل العلم والمعرفة عن طريق الحواس والعقل والمنطق وهو طريق البرهان والدليل الذي أمرنا المولى بسلوكه لكي نؤمن به ونلتزم بتعاليمه من خلال مئات الآيات الكريمة التي حضت المكلف على أن يجد لنفسه البرهان الإيماني من خلال كتابه المسطور : القرآن الكريم ، وكتابه المنظور : الكون وما حواه ، شرط أن يقرأ ويتعلم ويتفكر ، فالقرآن الكريم لا يتوجه بالنداء الإيماني إلا لقوم يعلمون ويفقهون ويعقلون ويتفكرون : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت : ٣).

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (العنكبوت : ٤٣).

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة : ١٦٤).

٣ ـ أنواع البرهان

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية : ٢٠).

ولو كان إيمان الفطرة يكفي الإنسان ، لما أنزلت الكتب السماوية وأرسلت الرسل والأنبياء. إذ لا بد من دليل إيماني لا يرقى إليه الشك فعبارة «اركع على ركبتيك وأغمض عينيك وآمن بقلبك» كما قال «باسكال» لا تكفي عند الإنسان ، وهو الأكثر جدلا بتعريف خالقه (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ

٢٠