كاشفة الحال عن أحوال الإستدلال

الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي

كاشفة الحال عن أحوال الإستدلال

المؤلف:

الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي


المحقق: أحمد الكناني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اُم القرى للتحقيق والنشر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٨

٤١

٤٢

٤٣

٤٤

٤٥

٤٦

٤٧
٤٨

تمهيد

المقدمة

معرفة كيفية الاستدلال

الغرض من الاستدلال

الحاجة الى الاستدلال

٤٩
٥٠

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله مانح التوفيق ، ومسهّل الوصول إلى الطريق ، وملهم الحق أهل التحقيق ، والصلاة على أشرف الكونين وسيد الثقلين محمد المبعوث بأفصح المقال ، وآله الأطهار أهل الولاية وخير آل.

وبعد فقد التمس مني بعض السادة الأجلاء ، والأكابر الفضلاء والأماثل الادباء (١) أن أملي له رسالة تشتمل على ما لا بدّ منه ، من كيفية السلوك إلى الاستدلال على التكاليف الشرعية ، وأخذها على ما وظف من الاصول الدينية ، على طريقة أهل البيت عليهم‌السلام ، المأخوذ علومهم بطريق الوحي والإلهام ، فأجبته مع قصر باعي واشتغالي (٢) عن تسنّم (٣) قلال شواهق هذه العوالي ، والجريان في ميدان بحور هذه اللئالي ، لكن بسؤاله تحتمت عليّ الإجابة وصارت فرضا ، فلعل ما نفعله يقع موافقا للإصابة ، وسميتها «بكاشفة الحال عن أحوال الاستدلال» ونسأل من الكريم التوفيق والهداية إلى سواء الطريق ، ورتبتها على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.

__________________

(١) في بعض النسخ الأدبار ، ومع تسليمه يكون من جمع دبر ، ورجل مدابر : محض من أبويه ، كريم الطرفين ، لسان العرب : مادة دبر ، ج ٤ ص ٢٨٣ (دار إحياء التراث بيروت ١٩٨٨ ط ١ محققة).

(٢) في «م» بدل «واشتغالي» «باشتغالي» ، وبقية النسخ جامعة بينهما.

(٣) سنّم الشيء وتسنّمه : علاه. من سنام البعير والناقة : أعلى ظهرها ، لسان العرب : مادة سنم ، ج ٦ ص ٣٩٣.

٥١

المقدمة

أما المقدمة : فالطالب لأمر لا بدّ وأن يكون متصورا له ، إمّا ببعض الاعتبارات أو على سبيل الإجمال ، لتتوجه بالطلب إليه نفسه ، لاستحالة توجه النفس إلى نحو ما لا شعور لها به البتة في بديهة العقول.

ولا بدّ أن يكون عارفا بالغرض المقصود منه ، لتتوفر دواعيه على تحصيله ، ويجد بعزائمه في طلبه ، وتخلص إرادته من عاتقه التردد بحصول الجزم الخالي عنه ، فتتم الحركة ويحصل السير والسلوك بتحرك العضلات ، فيوجد مطلوبه ويصل إليه.

ولا بدّ من معرفته أيضا بوجه حاجته إليه ، فإنه أتم لخلوص داعيته في السير والسلوك إلى تحصيل ذلك المطلوب ، إذ متى عرف أنه محتاج في تكميل نفسه إلى تحصيله ، جدّ في طلبه غاية الجد حرصا على طلب الكمال المطلوب لكل عاقل ، ولاشتياق النفس إلى الخلوص عن لوازم الحاجة ، لأنه نفس النقص اللازم لها ، فهي على الدوام حريصة على تحصيل الغنى المستلزم للكمال.

فمتى عرفت وتحققت حاجتها إلى مطلوب ما ، توجّهت بجميع العزائم والإرادات إلى تحصيله ، وكان علمها بوجه الحاجة مستلزما لتمام الطلب وتحصيل المطلوب ، فهو من مبادئ السير والسلوك.

ولما كان المقصود من وضع هذه الرسالة ، هو معرفة كيفية الاستدلال على الأحكام الشرعية والمطالب الفقهية ، بالأدلة الاصولية والأمارات المرضية ، كان الطالب لذلك محتاجا إلى معرفة هذه الامور الثلاثة (١) ،

__________________

(١) المتقدّم ذكرها من كونه متصورا له ، وعارفا بالغرض ، ومعرفته بوجه حاجته إليه.

٥٢

ليتحقق له السير والسلوك فيه ، ويجدّ في التحصيل ، ويتوجه بكل الإرادات والعزائم ليتم له المقصود.

[معرفة كيفية الاستدلال]

فنقول : إنّ المطلوب هنا هو معرفة كيفية الاستدلال ، وشرائطه ، وما يتوقف عليه من المهمّات التي لا بدّ من تحصيلها للمستدل ، ليكون بها قادرا على الوصول إلى هذه المرتبة ، وهذا القدر كاف في تصور هذا المطلوب ، وصحة توجه النفس إلى تحصيله ، لأن به علمت ما هو مقصدها على سبيل الإجمال.

[الغرض من الاستدلال]

وأما الغرض من ذلك فهو التوصل به إلى معرفة الأحكام الشرعية ، التي هي العبادات ، والمعاملات ، والإيقاعات ، والأحكام التي كلّف الله تعالى عباده بها ، وأوجب عليهم مراعاة أحكامها.

ففي العبادات هم مكلّفون بإيقاعها على الوجه المطلوب من الشارع.

وفي المعاملات هم مكلفون بالوقوف عند ضوابطها ، وأخذ الأموال والتكسبات بها ، على الوجه الذي قدرّه الشارع فيها.

وفي الإيقاعات تكليفهم بإيقاع ما يتوقف على حصولها منهم ، من الأحكام التي أمرهم الشارع بفعلها عندها.

وفي الأحكام الواجب عليهم الأخذ بمقتضاها ، والقيام على غيرهم ممن لا يقبلها ، ليحصل لهم بذلك تمام السعادة الاخروية ، والبهجة السرمدية ، بالقيام بهذه الأوامر الإلهية المتوقف على معرفتها ، المتوقف على معرفة كيفية التوصل إليها ، ولا موصل سوى الاستدلال الذي هو الموصل إلى جميع المطالب ، إذ ما سواه من التقليد لا يسمى معرفة ولا علما بالإجماع ، مع أن المكلف به هو العلم بالإجماع.

٥٣

فلا بدّ من معرفة كيفية ذلك الاستدلال وضوابطه وشرائطه.

[الحاجة إلى الاستدلال]

وأما وجه الحاجة إليه ، فقد عرفت وجوب التكليف في الحكمة في علم الكلام ، وأن الحق سبحانه لا بدّ في حكمته وعنايته بخلقة ، أن يؤدبهم بالأوامر والنواهي التي يعلم أن بها صلاحهم ، في امور المعاش والمعاد ، ليتم لهم به السعادة ، ويحصل لهم الكمال الموجب للزلفى ، والقرب من معبودهم ومالكهم.

ولما كان تعالى وتقدّس في غاية التجرّد ، وكانوا في غاية التعلق ، حصل بينهما بون كثير ، به تحققت المباينة الكلية بين حال المفيد والمستفيد ، فاستحالت استفادة الكمال لهم من الذات السبحانية بغير متوسط ، فاحتيج في تحصيل تلك الأوامر والنواهي ، ووصولها من الحق سبحانه إلى الاشخاص البشرية إلى ذلك المتوسط ، الذي له قدرة على الاستفادة من الذات السبحانية ، بطهارة نفسه الملكية ، وعلى الإفادة لبني نوعه ، لمشاركته لهم في الإنسانية ، وذلك هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلا بدّ في الحكمة من إيجاده وبعثته بالأوامر والنواهي إلى الخلق ، ليصلوا إلى الكمال بواسطة تعليمه.

ولا بدّ من نصب ما يدل على معرفته ، وتمييزه عن بني نوعه بالآيات القاهرة والدلالات الظاهرة ، ليتم به كمال معرفته ، ويقبل القلوب بالانقياد إلى أوامره ونواهيه ، وكل هذا تقدر في علم الكلام (١).

__________________

(١) وللوقوف على حقيقة الأمر راجع المصنّفات في هذا المجال ، كتجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي ص ٢١٥ ـ ٢١٧ ، بتحقيق محمد جواد الجلالي ، وشرحه المسمى بكشف المراد للعلامة الحلي ص ٣٥٤ ـ ٣٦٠ تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي ، والتحفة الكلامية للمؤلف : ص ١٨ (مخطوط) ، وزاد المسافرين في اصول الدين للمؤلف أيضا : ص ٤٥. بتحقيقنا.

٥٤

ولما كان النبي المبلّغ للتكليف ، لا يجب بقاءه ببقاء المكلفين ، وجب في الحكمة نصب قائم بعده ، حافظ لاصول ذلك التكليف ، قادر على معرفة استخراج جميع تفاريعه ودقائقه ، مستجمع لجميع خصال ذلك النبي ، ليتم به الغرض المقصود من تحصيل كمال الخالق ، وذلك هو الإمام كما هو مقرّر في موضعه (١).

ولما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام ، ليس في وسعهما القدرة على توصيل تلك الأوامر والنواهي إلى أفراد نوع الإنسان ، لكثرتهم وانتشارهم في البلاد المتباعدة عن بلد النبي والإمام ، احتيج إلى الاستعانة لهم على ذلك بنصب النواب في البلدان ، لتعليم الأحكام والقيام عليهم بها.

فلا بدّ من وجود نواب لهم كمالية مأخوذة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام ، وقوة الاستعداد على إفادة الغير ، بطهارة أنفسهم المتكاملة بكمالهم الممكن لهم ، وتلك النواب ليس في وسعهم الرجوع ـ في الأحكام الجزئية والحوادث المتجددة في الأزمان المتعددة ـ إلى النبي أو الإمام ، لبعد المسافة ، واحتياج المكلفين في ذلك الوقت إلى تعريف أحكامها ، فلا بدّ أن يكون لهم قدرة على استنباط أحكام تلك المتجددات ، والحوادث اليومية ، من الاصول المحفوظة لهم عن النبي والإمام ، وذلك هو الاستدلال والاجتهاد الذي لا بدّ منه في جميع أزمان التكليف ، فكان وجودهم من ضروريات الدين.

ولما اقتضت العناية الأزلية وجود نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبقاء شريعته ببقاء التكليف ، وقام بعده خلفاء حفظوا عنه ما اوحي إليه ، مما يحتاج الخلق في كمالهم إلى معرفته.

ثم اندراج اولئك الخلفاء على ما اقتضته العناية الإلهية ، من المصالح

__________________

(١) تجريد الاعتقاد ص ٢٢١. وراجع الهامش أيضا للوقوف على الدليل ، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٦. التحفة الكلامية للمؤلف : ص ١٩ (مخطوط) ، زاد المسافرين في اصول الدين : ص ٥١. طبع مؤسسة ام القرى لإحياء التراث ـ بيروت.

٥٥

التي لا يعرف تفصيلها إلّا واحدا ، اقتضت الحكمة بقاءه وكونه آخرهم ، ثم حصل بأسباب لا يمكننا الاطلاع على تفصيل مجموعها غيبته عن أهل هذا الوقت واستتاره بحجاب الاختفاء ، خوفا على نفسه من الأعداء ، أو لحصول مصلحة لا نعرفها.

فتراكمت الظلمات لذلك فزادت الحاجة واشتدت ، إذ لم يسقط عنا التكليف بغيبته ، وكانت الاصول التي جاء بها الشارع وحفظها الخلفاء الراشدون بعده ، محفوظة عندنا بالنقل المتواتر أو غيره عنهم ، وكانت غير وافية بتعريف جميع أحكام الحوادث المتجددة تفصيلا ، وجب علينا أخذ أحكامها من تلك الاصول المحفوظة ، واستنباطها منها بالاستدلال المعتبر ، والطريق المرضي ، واحتجنا إلى ذلك غاية الحاجة ، لاحتياجنا إلى تعريف أحكام تلك الحوادث المتجددة ، لأنّا مكلفون بها ، ولا طريق لنا إليه سوى ما ذكرناه ، فكان ذلك هو الوجه في احتياجنا إلى معرفة كيفية الاستدلال ، لتوقف معرفة النبي على معرفة الموصل إليه.

ولما كان الموصل هو الاستدلال ، احتيج إلى معرفته ، وكيفيته ، وشرائطه ، ليحصل للنفس كمالها الممكن لها ، وتوقّف على معرفة جميع أوامر الله معبودها ، ونواهيه ، بطريق العلم الثابت عندها ، عن الموصل للشريعة ، والحافظ لها بعده.

وقد قرّر ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر معاذ ، فإنه لما بعثه قاضيا إلى اليمن ، قال له : «بم تحكم يا معاذ؟ فقال بكتاب الله تعالى ، قال فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله ، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحمد لله الذي وفّق رسول الله لاجتهاد الرأي» (١).

وأراد معاذ رد أحكام تلك القضايا الجزئية ، التي لم يجدها منصوصة

__________________

(١) عوالي اللئالي للمؤلف : ج ١ ص ٤١٤ ح ٨٣ ، مسند أحمد بن حنبل : ج ٥ ص ٢٣٠.

٥٦

في الكتاب والسنة إليهما ، بطريق الاستدلال والنظر.

وكذلك قدرّه الإمامان محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما أفضل السلام والتحية ، فيما رواه زرارة وأبو بصير عنهما عليهما‌السلام ، من قولهما «إنما علينا أن نلقي اليكم الاصول ، وعليكم أن تفرّعوا» (١).

فأوجبا علينا التفريع على اصولهم التي أفادوناها عن الشارع ، وذلك هو معنى الاستدلال ، واستخراج أحكام الجزئيات المتجددة من الاصول الكلية ، والضوابط المحفوظة عن الشارع.

فاذا قرع سمعك ما أفدناه في هذا الكلام ، عرفت المقصود من وضع الرسالة ، والمطلوب منها إجمالا ، وعرفت الغرض منه ، ووجه حاجتك إليه ، وعدم غناك عن تحصيله ، وذلك مما يوجب توفر دواعيك إلى تحصيل هذا المرام ، والسعي في إدراك هذا المقصود ، والله الموفق.

__________________

(١) عوالي اللئالي للمؤلف : ج ٤ ص ٦٣ ح ١٧ ، وسائل الشيعة : ب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٥١ ، ٥٢ ج ١٨ ص ٤١ ، السرائر لابن ادريس الحلي : المستطرفات ، ما استطرفه من جامع البزنطي ج ٣ ص ٥٧٥.

٥٧
٥٨

الفصل الأول

العلوم التي لا بدّ منها في الاستدلال

وهي على ما قرّره العلماء في مصنفاتهم ، وذكره أهل الاصول في اصولهم ، وسمعناه بالمشافهة عن مشايخنا ، تسعة علوم ، تتنوع ثلاثة أنواع

٥٩
٦٠