الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي
المحقق: أحمد الكناني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اُم القرى للتحقيق والنشر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٨
تمهيد
المقدمة
معرفة كيفية الاستدلال
الغرض من الاستدلال
الحاجة الى الاستدلال
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله مانح التوفيق ، ومسهّل الوصول إلى الطريق ، وملهم الحق أهل التحقيق ، والصلاة على أشرف الكونين وسيد الثقلين محمد المبعوث بأفصح المقال ، وآله الأطهار أهل الولاية وخير آل.
وبعد فقد التمس مني بعض السادة الأجلاء ، والأكابر الفضلاء والأماثل الادباء (١) أن أملي له رسالة تشتمل على ما لا بدّ منه ، من كيفية السلوك إلى الاستدلال على التكاليف الشرعية ، وأخذها على ما وظف من الاصول الدينية ، على طريقة أهل البيت عليهمالسلام ، المأخوذ علومهم بطريق الوحي والإلهام ، فأجبته مع قصر باعي واشتغالي (٢) عن تسنّم (٣) قلال شواهق هذه العوالي ، والجريان في ميدان بحور هذه اللئالي ، لكن بسؤاله تحتمت عليّ الإجابة وصارت فرضا ، فلعل ما نفعله يقع موافقا للإصابة ، وسميتها «بكاشفة الحال عن أحوال الاستدلال» ونسأل من الكريم التوفيق والهداية إلى سواء الطريق ، ورتبتها على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.
__________________
(١) في بعض النسخ الأدبار ، ومع تسليمه يكون من جمع دبر ، ورجل مدابر : محض من أبويه ، كريم الطرفين ، لسان العرب : مادة دبر ، ج ٤ ص ٢٨٣ (دار إحياء التراث بيروت ١٩٨٨ ط ١ محققة).
(٢) في «م» بدل «واشتغالي» «باشتغالي» ، وبقية النسخ جامعة بينهما.
(٣) سنّم الشيء وتسنّمه : علاه. من سنام البعير والناقة : أعلى ظهرها ، لسان العرب : مادة سنم ، ج ٦ ص ٣٩٣.
المقدمة
أما المقدمة : فالطالب لأمر لا بدّ وأن يكون متصورا له ، إمّا ببعض الاعتبارات أو على سبيل الإجمال ، لتتوجه بالطلب إليه نفسه ، لاستحالة توجه النفس إلى نحو ما لا شعور لها به البتة في بديهة العقول.
ولا بدّ أن يكون عارفا بالغرض المقصود منه ، لتتوفر دواعيه على تحصيله ، ويجد بعزائمه في طلبه ، وتخلص إرادته من عاتقه التردد بحصول الجزم الخالي عنه ، فتتم الحركة ويحصل السير والسلوك بتحرك العضلات ، فيوجد مطلوبه ويصل إليه.
ولا بدّ من معرفته أيضا بوجه حاجته إليه ، فإنه أتم لخلوص داعيته في السير والسلوك إلى تحصيل ذلك المطلوب ، إذ متى عرف أنه محتاج في تكميل نفسه إلى تحصيله ، جدّ في طلبه غاية الجد حرصا على طلب الكمال المطلوب لكل عاقل ، ولاشتياق النفس إلى الخلوص عن لوازم الحاجة ، لأنه نفس النقص اللازم لها ، فهي على الدوام حريصة على تحصيل الغنى المستلزم للكمال.
فمتى عرفت وتحققت حاجتها إلى مطلوب ما ، توجّهت بجميع العزائم والإرادات إلى تحصيله ، وكان علمها بوجه الحاجة مستلزما لتمام الطلب وتحصيل المطلوب ، فهو من مبادئ السير والسلوك.
ولما كان المقصود من وضع هذه الرسالة ، هو معرفة كيفية الاستدلال على الأحكام الشرعية والمطالب الفقهية ، بالأدلة الاصولية والأمارات المرضية ، كان الطالب لذلك محتاجا إلى معرفة هذه الامور الثلاثة (١) ،
__________________
(١) المتقدّم ذكرها من كونه متصورا له ، وعارفا بالغرض ، ومعرفته بوجه حاجته إليه.
ليتحقق له السير والسلوك فيه ، ويجدّ في التحصيل ، ويتوجه بكل الإرادات والعزائم ليتم له المقصود.
[معرفة كيفية الاستدلال]
فنقول : إنّ المطلوب هنا هو معرفة كيفية الاستدلال ، وشرائطه ، وما يتوقف عليه من المهمّات التي لا بدّ من تحصيلها للمستدل ، ليكون بها قادرا على الوصول إلى هذه المرتبة ، وهذا القدر كاف في تصور هذا المطلوب ، وصحة توجه النفس إلى تحصيله ، لأن به علمت ما هو مقصدها على سبيل الإجمال.
[الغرض من الاستدلال]
وأما الغرض من ذلك فهو التوصل به إلى معرفة الأحكام الشرعية ، التي هي العبادات ، والمعاملات ، والإيقاعات ، والأحكام التي كلّف الله تعالى عباده بها ، وأوجب عليهم مراعاة أحكامها.
ففي العبادات هم مكلّفون بإيقاعها على الوجه المطلوب من الشارع.
وفي المعاملات هم مكلفون بالوقوف عند ضوابطها ، وأخذ الأموال والتكسبات بها ، على الوجه الذي قدرّه الشارع فيها.
وفي الإيقاعات تكليفهم بإيقاع ما يتوقف على حصولها منهم ، من الأحكام التي أمرهم الشارع بفعلها عندها.
وفي الأحكام الواجب عليهم الأخذ بمقتضاها ، والقيام على غيرهم ممن لا يقبلها ، ليحصل لهم بذلك تمام السعادة الاخروية ، والبهجة السرمدية ، بالقيام بهذه الأوامر الإلهية المتوقف على معرفتها ، المتوقف على معرفة كيفية التوصل إليها ، ولا موصل سوى الاستدلال الذي هو الموصل إلى جميع المطالب ، إذ ما سواه من التقليد لا يسمى معرفة ولا علما بالإجماع ، مع أن المكلف به هو العلم بالإجماع.
فلا بدّ من معرفة كيفية ذلك الاستدلال وضوابطه وشرائطه.
[الحاجة إلى الاستدلال]
وأما وجه الحاجة إليه ، فقد عرفت وجوب التكليف في الحكمة في علم الكلام ، وأن الحق سبحانه لا بدّ في حكمته وعنايته بخلقة ، أن يؤدبهم بالأوامر والنواهي التي يعلم أن بها صلاحهم ، في امور المعاش والمعاد ، ليتم لهم به السعادة ، ويحصل لهم الكمال الموجب للزلفى ، والقرب من معبودهم ومالكهم.
ولما كان تعالى وتقدّس في غاية التجرّد ، وكانوا في غاية التعلق ، حصل بينهما بون كثير ، به تحققت المباينة الكلية بين حال المفيد والمستفيد ، فاستحالت استفادة الكمال لهم من الذات السبحانية بغير متوسط ، فاحتيج في تحصيل تلك الأوامر والنواهي ، ووصولها من الحق سبحانه إلى الاشخاص البشرية إلى ذلك المتوسط ، الذي له قدرة على الاستفادة من الذات السبحانية ، بطهارة نفسه الملكية ، وعلى الإفادة لبني نوعه ، لمشاركته لهم في الإنسانية ، وذلك هو النبي صلىاللهعليهوآله.
فلا بدّ في الحكمة من إيجاده وبعثته بالأوامر والنواهي إلى الخلق ، ليصلوا إلى الكمال بواسطة تعليمه.
ولا بدّ من نصب ما يدل على معرفته ، وتمييزه عن بني نوعه بالآيات القاهرة والدلالات الظاهرة ، ليتم به كمال معرفته ، ويقبل القلوب بالانقياد إلى أوامره ونواهيه ، وكل هذا تقدر في علم الكلام (١).
__________________
(١) وللوقوف على حقيقة الأمر راجع المصنّفات في هذا المجال ، كتجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي ص ٢١٥ ـ ٢١٧ ، بتحقيق محمد جواد الجلالي ، وشرحه المسمى بكشف المراد للعلامة الحلي ص ٣٥٤ ـ ٣٦٠ تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي ، والتحفة الكلامية للمؤلف : ص ١٨ (مخطوط) ، وزاد المسافرين في اصول الدين للمؤلف أيضا : ص ٤٥. بتحقيقنا.
ولما كان النبي المبلّغ للتكليف ، لا يجب بقاءه ببقاء المكلفين ، وجب في الحكمة نصب قائم بعده ، حافظ لاصول ذلك التكليف ، قادر على معرفة استخراج جميع تفاريعه ودقائقه ، مستجمع لجميع خصال ذلك النبي ، ليتم به الغرض المقصود من تحصيل كمال الخالق ، وذلك هو الإمام كما هو مقرّر في موضعه (١).
ولما كان النبي صلىاللهعليهوآله والإمام ، ليس في وسعهما القدرة على توصيل تلك الأوامر والنواهي إلى أفراد نوع الإنسان ، لكثرتهم وانتشارهم في البلاد المتباعدة عن بلد النبي والإمام ، احتيج إلى الاستعانة لهم على ذلك بنصب النواب في البلدان ، لتعليم الأحكام والقيام عليهم بها.
فلا بدّ من وجود نواب لهم كمالية مأخوذة عن النبي صلىاللهعليهوآله والإمام ، وقوة الاستعداد على إفادة الغير ، بطهارة أنفسهم المتكاملة بكمالهم الممكن لهم ، وتلك النواب ليس في وسعهم الرجوع ـ في الأحكام الجزئية والحوادث المتجددة في الأزمان المتعددة ـ إلى النبي أو الإمام ، لبعد المسافة ، واحتياج المكلفين في ذلك الوقت إلى تعريف أحكامها ، فلا بدّ أن يكون لهم قدرة على استنباط أحكام تلك المتجددات ، والحوادث اليومية ، من الاصول المحفوظة لهم عن النبي والإمام ، وذلك هو الاستدلال والاجتهاد الذي لا بدّ منه في جميع أزمان التكليف ، فكان وجودهم من ضروريات الدين.
ولما اقتضت العناية الأزلية وجود نبينا محمد صلىاللهعليهوآله ، وبقاء شريعته ببقاء التكليف ، وقام بعده خلفاء حفظوا عنه ما اوحي إليه ، مما يحتاج الخلق في كمالهم إلى معرفته.
ثم اندراج اولئك الخلفاء على ما اقتضته العناية الإلهية ، من المصالح
__________________
(١) تجريد الاعتقاد ص ٢٢١. وراجع الهامش أيضا للوقوف على الدليل ، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٦. التحفة الكلامية للمؤلف : ص ١٩ (مخطوط) ، زاد المسافرين في اصول الدين : ص ٥١. طبع مؤسسة ام القرى لإحياء التراث ـ بيروت.
التي لا يعرف تفصيلها إلّا واحدا ، اقتضت الحكمة بقاءه وكونه آخرهم ، ثم حصل بأسباب لا يمكننا الاطلاع على تفصيل مجموعها غيبته عن أهل هذا الوقت واستتاره بحجاب الاختفاء ، خوفا على نفسه من الأعداء ، أو لحصول مصلحة لا نعرفها.
فتراكمت الظلمات لذلك فزادت الحاجة واشتدت ، إذ لم يسقط عنا التكليف بغيبته ، وكانت الاصول التي جاء بها الشارع وحفظها الخلفاء الراشدون بعده ، محفوظة عندنا بالنقل المتواتر أو غيره عنهم ، وكانت غير وافية بتعريف جميع أحكام الحوادث المتجددة تفصيلا ، وجب علينا أخذ أحكامها من تلك الاصول المحفوظة ، واستنباطها منها بالاستدلال المعتبر ، والطريق المرضي ، واحتجنا إلى ذلك غاية الحاجة ، لاحتياجنا إلى تعريف أحكام تلك الحوادث المتجددة ، لأنّا مكلفون بها ، ولا طريق لنا إليه سوى ما ذكرناه ، فكان ذلك هو الوجه في احتياجنا إلى معرفة كيفية الاستدلال ، لتوقف معرفة النبي على معرفة الموصل إليه.
ولما كان الموصل هو الاستدلال ، احتيج إلى معرفته ، وكيفيته ، وشرائطه ، ليحصل للنفس كمالها الممكن لها ، وتوقّف على معرفة جميع أوامر الله معبودها ، ونواهيه ، بطريق العلم الثابت عندها ، عن الموصل للشريعة ، والحافظ لها بعده.
وقد قرّر ذلك النبي صلىاللهعليهوآله في خبر معاذ ، فإنه لما بعثه قاضيا إلى اليمن ، قال له : «بم تحكم يا معاذ؟ فقال بكتاب الله تعالى ، قال فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله ، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله الحمد لله الذي وفّق رسول الله لاجتهاد الرأي» (١).
وأراد معاذ رد أحكام تلك القضايا الجزئية ، التي لم يجدها منصوصة
__________________
(١) عوالي اللئالي للمؤلف : ج ١ ص ٤١٤ ح ٨٣ ، مسند أحمد بن حنبل : ج ٥ ص ٢٣٠.
في الكتاب والسنة إليهما ، بطريق الاستدلال والنظر.
وكذلك قدرّه الإمامان محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما أفضل السلام والتحية ، فيما رواه زرارة وأبو بصير عنهما عليهماالسلام ، من قولهما «إنما علينا أن نلقي اليكم الاصول ، وعليكم أن تفرّعوا» (١).
فأوجبا علينا التفريع على اصولهم التي أفادوناها عن الشارع ، وذلك هو معنى الاستدلال ، واستخراج أحكام الجزئيات المتجددة من الاصول الكلية ، والضوابط المحفوظة عن الشارع.
فاذا قرع سمعك ما أفدناه في هذا الكلام ، عرفت المقصود من وضع الرسالة ، والمطلوب منها إجمالا ، وعرفت الغرض منه ، ووجه حاجتك إليه ، وعدم غناك عن تحصيله ، وذلك مما يوجب توفر دواعيك إلى تحصيل هذا المرام ، والسعي في إدراك هذا المقصود ، والله الموفق.
__________________
(١) عوالي اللئالي للمؤلف : ج ٤ ص ٦٣ ح ١٧ ، وسائل الشيعة : ب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٥١ ، ٥٢ ج ١٨ ص ٤١ ، السرائر لابن ادريس الحلي : المستطرفات ، ما استطرفه من جامع البزنطي ج ٣ ص ٥٧٥.
الفصل الأول
العلوم التي لا بدّ منها في الاستدلال
وهي على ما قرّره العلماء في مصنفاتهم ، وذكره أهل الاصول في اصولهم ، وسمعناه بالمشافهة عن مشايخنا ، تسعة علوم ، تتنوع ثلاثة أنواع