كاشفة الحال عن أحوال الإستدلال

الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي

كاشفة الحال عن أحوال الإستدلال

المؤلف:

الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي


المحقق: أحمد الكناني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اُم القرى للتحقيق والنشر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٨

أولئك في هذه الكتب الثلاثة ، فإن فيها إعانة على هذا المرام ، والله الموفق.

وإن شئت أن تقف على هذا المطلوب بطريق هو أعلى وأجل من ذلك ، وأقرب تناولا ، فارجع إلى ما قرره العلّامة رحمه‌الله أيضا من الضابط في كتاب الخلاصة (١) فإنّه ذكر في آخره فوائد ، جاء من جملتها فائدة تشتمل على ذكر صفات هذه الأحاديث بطريق قريب ، وذلك إنّه ذكر فيها طريقه إلى الاصول الثلاثة الضابطة للاحاديث ، تهذيب الشيخ ، واستبصاره ، وكتاب من لا يحضره الفقيه (٢) ، وذكر جميع طرق الشيخ فيما ذكره في الكتابين إلى من روى عنه ، ما فيهما من الأحاديث بصفاتها ، فبدأ بالتهذيب ، فقال ما رواه الشيخ رحمه‌الله في كتاب التهذيب عن فلان صحيح ، وعن فلان حسن ، وعن فلان موثق ، وعن فلان ضعيف ، وعن فلان مقطوع ، وعن فلان مجهول ، وعن فلان مرسل ، وهكذا على هذا المنوال إلى آخر الكتاب.

ثم ذكر الاستبصار فقال ما رواه الشيخ فيه عن فلان صحيح ، وعن فلان حسن ، وعن فلان موثّق ، وهكذا على هذا المنوال حتى أتى على آخره.

وذكر من لا يحضره الفقيه ، فقال ما رواه الصدوق رحمه‌الله في كتاب من لا يحضره الفقيه عن فلان صحيح ، وعن فلان حسن ، وعن فلان موثّق ، وعن فلان ضعيف ، وعن فلان مرسل ، وعن فلان مقطوع ، وهكذا إلى آخر الكتاب.

فلمن نظر في كتاب الخلاصة بعد ثبوت طريقها معه بطريق العدل الى مصنفها ، ان يرجع في تعريف صفات هذه الروايات إلى ما ذكره في تلك الفائدة ، فهي فائدة ضابطة لها ، مغنية عن مطالعة غيرها من كتب الرجال ، فليته ذكر الكتاب الرابع أعني كافي الكليني على هذا المنوال ، فلقد كان غاية

__________________

(١) خلاصة الأقوال في أحوال الرجال : الفائدة الثامنة ص ٢٧٥.

(٢) تقدّم الكلام عن الكتب الثلاثة ورابعهما الآتي ذكره ، ص ٩٠.

١٤١

المراد ونهاية الكمال ، ولم أدر لأيّ شيء أغفله هذا الإغفال ، مع أنّه الأصل المعتمد عليه والمجتزى منه.

ولقد أفاد المتأخرين هذا الشيخ رحمه‌الله وطيب ثراه هذه الفوائد ، وأغناهم فيها عن الكد والكدح ، وأسهر ليله في التفتيش ، وكدّ نفسه في الاطلاع ، فأيّ شيء بقي علينا في هذا الوقت ، مما نحتاج إليه من الآت الاستدلال مما نتعلل به ، بل لا حجة ولا عذر ، فليشمر أهل الحزم بالجد في الطلب ، فقد ازيح عنهم جميع الاعذار ، ورفعت عنهم كل العلل ، ومهدت لهم الطريق ، فلم يبق عذر في التخلف عن لحوق السلف ، وما لعجب إلّا من قلة السالكين في هذا الوقت مع هذا التسهيل ، وبيان هذا الطريق ، وإزاحة جميع العلل ، والله الموفق والهادي.

***

١٤٢

الفصل الخامس

في المستدل وشرائطه

المستدل

المستفتي

ما يصح الاستفتاء فيه

١٤٣
١٤٤

[في المستدل]

وهو كل من أتقن هذه العلوم ، وعرف كيفية هذا السلوك ، واهتدى إلى هذه المطالب ، وكان له في نفسه قوة على استنباط الفروع ، والحوادث المتجددة من الاصول المحفوظة ، والضوابط المتأصلة ، ويسمى بالمجتهد وهو المتصف بالاجتهاد.

وهو لغة : استفراغ الوسع في تحصيل أمر مشق (١).

واصطلاحا : استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالمسائل الفرعية عن أدلتها التفصيلية (٢) ، بحيث لا مزيد عليه بالنسبة إلى وسعه وطاقته.

فالحادثة التي يبحث عنها المستدل ليعرف حكمها ، إن اختصت به من حيث احتياجه إلى العمل بها ، لم يشترط فيه غير علمه بكيفية مأخذها ، اطلاعه على الأصل الذي يجب رجوع حكمها إليه ، وتحصيل الأمارة الراجحة السالمة عن المعارض عنده ، بحسب غلبة ظنه على ما يقتضيه نظره ، فإن ذلك هو ما كلفه الله تعالى من كيفية التوصل إلى التكاليف ، والعمل بأحكام الشريعة.

فحينئذ يجب عليه العمل بما يؤديه نظره إليه من حكم تلك الحادثة ، ولا يصح له الرجوع في حكمها إلى قول غيره ، سواء كان أعلم منه ، أو مساويا له حيا أو ميتا ، لقدرته على تحصيل الحكم بطريق العلم ، فلا يصح

__________________

(١) لسان العرب : مادة جهد ج ٢ ص ٣٩٧.

(٢) كما عن الحاجبي في شرح مختصر الاصول ص ٤٦٠. والعلامة في مبادئ الوصول إلى علم الاصول : في الاجتهاد ص ٢٤٠. والشيخ بهاء الدين في الزبدة : المنهج الرابع في الاجتهاد والتقليد : ص ١١٥.

١٤٥

غيره إذ التقليد لا يفيده ، لأنّه ليس بعلم بالإجماع.

ولو تساوت الأمارات عنده ، ولم يتفق له المرجح ، وقف حتى يحصله.

وقيل يتخير في العمل بأحدهما. وتحقيقه في الاصول.

ولو كان مفتيا خير المستفتي في العمل بأحدهما بعد بيان الحال له.

ولو كان قاضيا تخير هو ، ثم فصل بينهما ، لأنّ الغرض من القضاء ذلك ، فلا يصح غيره.

وإن كان حكم الحادثة غير مختص ، ولا احتياج له إليه ، وإنما المحتاج غيره إلى معرفته ليعمل به ، وأراد الاستدلال على ذلك الحكم واستنباطه ليفيده ذلك الغير ، يسمى مفتيا زيادة على اسم الاجتهاد.

واحتاج مع ما ذكرناه ـ من العلم بمأخذ الحكم والقدرة على استنباطه ـ إلى زيادة شرط ، وهو كونه موصوفا بالعدالة ، التي هي ملازمة التقوى والمروّة ، إذ لو عرف من نفسه أنّه غير موصوف بها ، لم يصح له أن يفتي غيره ، وحرم عليه ذلك ، وكان بفتواه مأثوما.

ولا يصح لذلك الغير أن يستفتيه مع علمه بحاله ، ولو استفتاه مع علمه بحاله ، كان شريكه في الاثم ، ولم يصح له العمل بما يفتيه به ، أمّا لو جهل حاله ، بل كان في ظنه إنّه موصوفا بها ، صح له استفتاؤه ولا إثم على المستفتي ، وصحّ عمله بفتياه ، واختص الاثم بالمفتي.

ويجب عليه إصلاح باطنه ليكون موصوفا بها ، ليسقط عن غيره بوجوده الوجوب الكفائي عنه ، وعن أهل بلده ، ومن قاربهم من البلاد التي يمكن استفتاؤهم به لقربه ، إذ لو بقي على حاله من غير إصلاح لم يكن وجوده مسقطا للوجوب لا عنه ولا عنهم.

وإن كانت الحادثة بين متخاصمين ، واحتاجا إلى الفاصل بينهما بتعريف حكمها ، وكان المستدل ممن يمكنه ذلك ، وأراد ان يجعل نفسه

١٤٦

قاطعا لما بينهما من التخاصم ، بما يعرفه بالدليل من حكم تلك الواقعة ، كان في تلك الحالة قاضيا ، وهو وصف ثالث يحتاج إلى زيادة شرط ثالث على ما ذكرناه ـ من شرطي المجتهد والمفتي ـ وهو كونه منصوبا عن الإمام ، أو عن نائبه.

فلا يصح لأحد أن يكون قاضيا في شيء من الحوادث قلّت أو كثرت حتى يكون منصوبا عن أحدهما ، إذا كان الإمام ظاهرا ، أما لو كان غائبا نفذ قضاؤه إذا اتصف بالشرطين السابقين ، لما دلّ عليه مضمون حديث أبي خديجة ، المتلقى بالقبول بين الطائفة ، عن الصادق عليه‌السلام (١).

وحينئذ يكون في زمان الغيبة المفتي والقاضي لا فرق بينهما في الصفات ، فكل من صحّ أن يكون مفتيا صحّ في زمان الغيبة ان يكون قاضيا ، إلّا ان المفتي هو المثبت للأحكام الكلية عن الأدلة ، من غير تشخّص لها بالصور الجزئية ، والأعيان الشخصية ، بخلاف القاضي ، فإنّه المثبت لها الأدلة في صور جزئية على أشخاص معينة ، مع اختصاص القضايا بأبواب المعاملات والإيقاعات والأحكام دون العبادات ، وعموم الفتوى لجميع أبواب الفقه.

فظهر أن الحاجة إلى المفتي أمسّ منها إلى الراوي والقاضي ،

__________________

(١) وإليك نص الحديث : «الحسين بن محمد عن معلّى بن محمد عن الحسن بن علي عن أبي خديجة قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا ، فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه». الكافي : ج ٧ ص ٤١٢ ح ٤ ، التهذيب : ج ٦ ص ٣٠٣ ب ٥٣ ح ٢٢. من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٢ ب ٢ ح ٣٢١٦ ، وسائل الشيعة : ج ١٨ ب ١ ص ٤ ح ٥. ورواه في التهذيب والوسائل باختلاف في الألفاظ لا يضر بالمعنى. راجع الجزء السادس من التهذيب ص ٢١٩ ح ٨. والوسائل : ج ١٨ ب ١١.

١٤٧

لاختصاص الراوي بحاجة المجتهد إليه ، واختصاص القاضي بحاجة الأشخاص الى قطع المنازعات ، وعموم حاجة الكل إلى المفتي في تعريف جميع الأحكام ، فكان وجوده من ضروريات الدين وتمام شرائط التكليف.

فلا يجوز خلوّ الزمان عنه ، ولو خلا بلد منه وجب عليهم النفور إلى بلد يمكنهم فيها تحصيل الشرائط على الكفاية ، بمضمون قوله تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(١).

أوجب النفور على طائفة غير معينة ، فيجب النفور على الكل ، حتى يحصل منهم من يقوم بذلك ، فيسقط به الوجوب عن الباقين.

ولا يجوز لهم الاشتغال عن ذلك بشيء من العبادات ولا غيرها ، إلّا بقدر تحصيل المعاش الضروري لا غير ، ولو لم يفعلوا ذلك كان الكل مأثوما مخاطبا ، إذ لا يحل لهم صرف شيء من الزمان في غير ذلك ، وأما خلوّ جميع البلاد منه فغير جائز عندنا ، لاستلزامه رفع التكليف ، وفسق جميع الامة وخروجهم عن العدالة أجمع ، وهو مستلزم رفع الثقة بشيء من أحكام الدين.

ولا يجوز لمن ليس موصوفا بالعلم والعدالة والفتوى بإجماع الامة ، لأنّه قول بمجرد التشهي ، وقول على الله بما لم يعلم ، فلا يصح الفتوى للمقلد سواء قلّد حيا أو ميتا ، بلى من سمع من المفتي الفتوى بشيء من الأحكام ، وكان السامع موصوفا بالعدالة ، متقنا لما سمع عارفا بمعناه ، صح له ان يرويه ، وصح لذلك الغير العمل بما يحكيه له عن المفتي ، إذا كان عارفا بعدالة الراوي والمروي عنه ، وأنّه موصوفا بشرائط المفتي ، ويسمى ذلك راويا لقول المفتي لا مفتيا ، فلا يتصرف تصرف المفتي.

لكن يشترط بقاء المفتي ، إذ لو مات بطلت الرواية لفتواه ، وحكاية

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

١٤٨

أقواله للعمل بها ، إذ لا قول للميت ، وعليه إجماع الأصحاب ، وبه نطقت عباراتهم في أكثر مصنفاتهم (١).

ولا تبطل الرواية لأقواله ، وحكاية فتاويه مطلقا ، بل يصح أن تروى لتعلم ، وليعرف وفاقه وخلافه لمن باقي بعده من أهل الاجتهاد.

وكذا لا يصح القضاء لمن ليس مستجمعا للشرائط المذكورة عند مجموع الأصحاب ، وخالفهم أبو حنيفة فجوّز القضاء للعامي بقول المفتي (٢) ، وتحقيقه في كتب الاصول.

[في المستفتي]

وإذا عرفت المستدل وشرائطه وصفاته ، فلا بدّ من ذكر مقابله وهو المستفتي ، وفي ما ذا يستفتي لتتم الفائدة.

أمّا المستفتي : فهو كل من ليس له قدرة على الاستنباط ، وتعريف الأحكام عن الأدلة.

فإنّ كان عاميا صرفا ، بأن كان غير محصل لشيء من العلوم المحتاج

__________________

(١) كالشهيد في الذكرى : ص ٣ في الإشارات ، والشهيد الثاني في المسالك : ج ١ ص ١٢٧ ، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والعلامة في القواعد : ص ١١٩ كتاب الجهاد المقصد الخامس. وخالف في ذلك العامة فلم يشترطوا الحياة ، كما في شرح البدخشي ج ٣ ص ٢٨٧. والإبهاج في شرح المنهاج : ج ٣ ص ٣٦٨ ، وفواتح الرحموت : ج ٢ ص ٤٠٧. ووافقهم على ذلك جلّ الاخباريين كما في الفوائد المدنية : ص ١٤٩ ، وبعض المجتهدين كالمحقق القمي في القوانين. ومنهم من ذهب إلى التفصيل كالسيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ص ٦٢٤.

(٢) الهداية في شرح البداية للمرغياني : ج ٣ ص ١٠١ (نشر المكتبة الاسلامية) ، مغني ابن قدامة : ج ١١ ص ٣٨٢ ، (طبع دار الكتاب العربي). الفتاوى الهندية في مذهب الإمام أبي حنيفة : ج ٣ ص ٣٠٧. «... وذلك لأن الغرض من القضاء فصل الخصائم ، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز».

١٤٩

إليها في الاستدلال ، وجب عليه الرجوع في الأحكام إلى المفتي ، ويجب عليه الاجتهاد في تحصيل معرفته ، وكونه موصوفا بشرائط المفتي ، وتعرف ذلك العامي برؤيته منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق ، وتعظيمهم له ، وإقبالهم عليه ، وأخذهم الفتاوى عنه ، وانتشار فتياه ، إذ مع حصول ذلك يغلب على ظنه أنّه موصوف بشرائط المفتي ، فيرجع إليه في أحكام دينه ، ويأخذ عنه تكليفه ، ولا يصح له أن يستفتي من يظنه غير عالم أو غير متدين.

فإن اتحد المفتي تعيّن الأخذ عنه ، ولو تعدد اجتهد المستفتي في طلب المرجح.

ويترجح الأعلم على الأورع (١) ، ولو تساويا في العلم وكان أحدهما أورع ترجح ، ولو تساويا تخيّرا ، فإذا استفتى واحدا في مسألة لم يجز استفتاء الآخر في نقيضها ، لاستلزامه الجمع بين الحكمين المتنافيين ، ويجوز ان يستفتي الآخر في غيرها من المسائل.

وان كان محصلا لبعض العلوم المتوقف عليها الاستدلال أو لجميعها ، لكن لا قدرة له على الاستنباط ، ولا قوة في نفسه يتمكن بها من رد الفروع إلى اصولها ، وجب عليهما الرجوع الى قول المفتي ، إذ لا فرق بينهما وبين العامي ، في عدم القدرة على تحصيل الحكم بطريق العلم ، فساوياه في وجوب الاستفتاء.

وأمّا لو كان محصلا للعلوم ، قادرا على الاستنباط ، متمكنا من الاجتهاد لكن لم يجتهد ، فهل يصح له الرجوع إلى قول المفتي ، أو يتعين عليه الاجتهاد؟

__________________

(١) وهو قول المحقق رحمه‌الله ، لأن الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع ، والقدر الذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم ، فلا اعتبار برجحان ورع الآخر. معارج الاصول : ص ٢٠١.

١٥٠

الأكثر على عدم جواز الرجوع له إلى قول المفتي مطلقا.

وقال آخرون بالجواز مطلقا.

وقال بعضهم بالجواز فيما يخصه دون ما يفتي به.

وقال آخرون بجوازه مع ضيق الوقت على الاجتهاد ، وتحقيقه في الاصول.

[ما يصح الاستفتاء فيه]

وأمّا ما يصح الاستفتاء فيه ، فهو كلما لا يكون من اصول الدين ، ولا من اصول الشريعة ، لأن المطلوب فيهما العلم وهو لا يحصل بالتقليد ، لأنّه ليس بعلم بالإجماع ، بل اعتقاد لقول شخص جازم غير ثابت ، لعدم علة ثبوته أعني الدليل ، فلا يكونا معا محل الاستفتاء ، بل محله الأحكام الشرعية الفرعية لا كلّها ، بل ما كان منها محل الاجتهاد ، أعني المسائل الخلافية الواقعة في مباحث المجتهدين.

أمّا ما هو من المسائل التي ليست محل الاستدلال ، ولا موضع الاجتهاد التي أشرنا إليها فيما تقدّم ، مما هو مذكور في نص الكتاب والسنة ، وما وقع عليه إجماع الامة ، أو علماء الطائفة ، أو اشتهر بينهم العمل به ، فإنه ليس محل الاستفتاء ، بل يأخذ العامي بطريق الرواية ، إمّا بالنقل عن أهل العلم ، أو بالفحص والتفتيش له من مظانه ، ولا يصح له ان يقلّد فيه غيره.

وكذا ما تواتر واشتهر بين الطائفة من أحكام الشريعة ، فإنه ليس محل الاستفتاء ، ويحتاج فيه إلى التقليد ، بل يستغني فيه العامي بما يثبت عنده من ذلك التواتر والاشتهار.

١٥١

وأمّا الخاتمة :

فنقول : إذ قد عرفت ما أفدناه في هذه الفصول ، واطلعت على نفائس أسرار هذا المطلوب ، وعلمت بذلك سهولة الطريق ، وقرب المسافة وإزاحة العلل ، وقطع الموانع ، فشمّر العزم ، وجدّ في الطلب ، واقطع المراحل ، وسرّ في الطريق ، إذ لا عذر لك في التخلف عن لحوق الرفقة بعد رفع الاعذار ، ومعرفتك بسهولة المسلك وحاجتك إليه ، فحصّل الأهبة لتصلح للرحلة ، وأجمع الشرائط لتصل إلى المقصود ، واقطع عن نفسك علائق البطالة ، وجوّد النظر ، وأكثر من الفكر ، وكن دائم الحركة ، فإن فرضك السير والسلوك ، وقطع المراحل ، وإياك والسكون ، والتردد الخالي عن الجزم ، فانّه أقطع القواطع ، وأحجب الحجب عن الوصول إلى المراتب العلية ، ولا تكثر الالتفات إلى ما ورائك ، فإن لك في كل يوم عقبة ترقاها ، ومرحلة تقطعها ، تجد بها لنفسك الكمال ، وتقفوا بها آثار السلف الذين كانت هذه صفاتهم فاسبر أحوالهم وطالع في أقوالهم وانظر في تصرفاتهم في الحوادث ، لتكون سالكا مسلكهم ، وتابعا لآثارهم ، ومقتديا بأفعالهم ، تهتدي بهداهم الذي وفقهم إليه الحق جل وعلا ، بعد معرفته بمجاهدتهم ، وحق فيهم قوله (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(١) فإذا اقتديت بهم وفقت لما وفقوا له ، وافيض عليك من العنايات السبحانية ما يوصلك إلى مطالبهم التي وصلوا إليها على قدر استعدادك.

وإياك وأهل البطالة ، والمتكاسلين عن مراتب السعادة ، والمتّكلين على تقليد الأموات ، فانهم مصايد الشيطان واخوان الجهل ، فاحذرهم ان

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

١٥٢

يفتنوك ، ولا بدّ إذا باينتهم عن طريقهم إلى الاتصاف بهذه الصفات ، ان يحسدوك ويكيدوك ليشغلوك ويصدّوك ، فلا يضيق صدرك من مكرهم ، ولا يلتفت إلى زخارفهم ، ولا تكترث بأقوالهم ، وأمض في طريقك ، وجد في عزمك ، وأعلم أن لله تعالى نفحات وواردات تصل إلى أهل الاستعداد على قدر استعدادهم ، فكن متعرضا لها بكثرة الاستعداد ، متهيئا للسوانح بكثرة المراعات.

وعليك بالمواظبة على تعريف غوامض أسرار الآيات الفقهية ، فإنها الباب الأزل والمدخل الأعظم ، فأكثر من البحث عن تلك الغوامض ، والفحص عن تلك الأسرار ، تكثر عليك الفروع الفقهية ، وتقف على أغلب الأحكام الشرعية.

ولا تغفل عن الأخبار ، وتصفّح الآثار ، فإنها المدخل الثاني ، والنهج الواضح ، والطريق الأقوم ، فكن كثير المطالعة لها ، قوي البحث عن معانيها ، مذاكرا لها عند عظماء أصحابك ، والتابعين لطريقك ، تجد منها الاستعداد التام ، والأحكام الجمة ، والمسائل المتعددة ، واعرف صفاتها غاية المعرفة ، وابحث عن رجالها كل البحث ، ليتم لك العمل بما تجده فيها من أحكام الدين ، وأحوال الشرع المطهر.

ولا تغفل عن أحوال التراجيح ، فكن فيها كثير الحذر عن الغلط فإنه المزلقة العظمى.

وعلم الرجال ، فاستظهره غاية الاستظهار ، فإنه السلّم الذي تعرج به إلى تعريف صحيح الأحاديث من غيره ، واضبط الأصلين فانهما المطلوب الاقصى ، والمقصود بالذات ، والمحصلين لمدارك الاحكام ، فجوّد البحث عنهما ، وزد في الترداد إليهما ، وأكثر من المذاكرة لهما ، فإنك تجد بالمذاكرة الاستعداد التام ، بل هي أبلغ من المطالعة.

وعليك في معرفة اصول الحوادث ، ومسائل الفقه ، بكثرة الاطلاع

١٥٣

على كتب السلف ، والبحث عن معاني أقوالهم ، وكيفية تصرفهم في التوصل إلى تلك المطالب ، والوقوف على أدلتهم التي جعلوها سلّما لهم إلى تلك الفتاوى التي أظهروها واستظهروا بها ، تجد بذلك لذّة الوصول إلى مطالبهم ، وتدركها غاية الإدراك ، وتقف على تلك المطالب من أقرب المسائل ، والوقوف على فروع المجتهدين ، وتعريف كيفية مأخذها ، والاطلاع على تفصيل مجملها معين غاية الإعانة.

وإياك والتسارع بالفتوى ، أو العمل بالحكم قبل الاستقصاء في النظر والاستيفاء في البحث ، واحذر من التقصير في الاجتهاد غاية الحذر ، فإنّه المزلقة العظمى التي وقع فيها كثير من أهل الاجتهاد ، فحصلوا في اللوم ولم يخلصوا من ورطة الاثم ، فإن الحديث المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالطريق الصحيح : «ان من اجتهد وأصاب فله حسنتان ، ومن اجتهد وأخطأ فله حسنة» (١) مخصوص بمن لم يقصّر في اجتهاده ، بل استقصى فيه منتهى وسعه ، فإن ذلك غاية جهده وأقصى تكليفه ، فلا لوم عليه إذ لم يوفق لتحصيل الحق ، ولا يصح في الحكمة إضاعة كدحه وتعبه ، فلا بدّ من إثابته على تلك المعاناة والكدّ.

وأمّا المقصّر في اجتهاده الذي لم يبالغ في البحث ، ولم يستوف النظر بالنسبة إلى وسعه ، ثم يتسارع بالعمل بما أدّاه إليه مبادئ النظر الخالي عن الاستقصاء أو الافتاء به ، ثم يقع في الخطأ فإنه ملوم مأثوم ، لأنه لم يؤد ما وجب عليه على ما شرطه الشارع ، فضاع كده وكدحه ، وباء بالاثم ، وذلك هو الخسران المبين.

وأمّا المصيب فقد ساوى غير المقصّر في الكد ، والكدح ، والمعاناة ،

__________________

(١) عوالي اللئالي للمؤلف : ج ٤ ص ٦٣ ح ١٦.

وراجع مسند أحمد بن حنبل : ج ٤ ص ١٩٨ ، ص ٢٠٤. (دار صادر بيروت). «وفيه بدل الحسنة الأجر».

١٥٤

وركوب المشقة ، وزاد بالتوفيق لإصابة الحق فكان ثوابه أكثر ، وفضله أتم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وعليك فيما تعمل من الأحكام التي يؤديك النظر إليها ، وما تفتي به منها ، وما تقضي به بين الخصوم بالأخذ بالأحزم ، والعمل بالأحوط لتسلم من ورطات شبهات الخلاف مهما أمكنك السلامة من ارتكابه ، وهو الطريق الأسلم.

فما كان من شقّي المسألة مجمع عليه ، والآخر مختلف فيه ، فخذ بموضع الوفاق ، واترك الآخر ، فإنه محل الاحتياط ، فإن لم تجد أحدهما كذلك ، فخذ بالقول الأشهر ، فإنّه أقرب الى غلبة الظن بالسلامة ، فإن لم تجد ، فأخذ بقول الأكثر ، فإن طريق القوم قليل الخطأ.

وكن شديد المراعات لهذه الأحوال ، فإنها مدار الاجتهاد ، وطريق أهل الاستدلال ، ومع ذلك فأنت مع قائد الامارات ، وهادي الدلالات ، فلك العمل برأيك إذا تبين لك بغلبة ظنك صحة الطريق ، وقوة الأمارات ، فإن الله تعالى بكرمه يفيض على أهل الاستعداد مواضع التحقيق.

وأصلح سريرتك غاية الإصلاح ، وداوم على المروة وحافظ عليها ، وأكثر من الدعاء والسؤال من المنان ان يوصلك إلى مطلوبك ، فإنه حري أن يفيض عليك هذه المطالب ، ويوصلك هذه الموارد ، ويجمع لك هذه الشوارد بلطفه العظيم ، وفيضه العميم ، لأنّه وعدك وهو لا يخلف الميعاد.

ولقد نصحتك غاية النصح ، وبينت لك طريق القوم غاية البيان ، وأزحت عنك جميع العلل ، فاشرب من الحياض الروية ، وأجلس على موائدهم الهنيئة ، والبس الحلل ، واخلع نعالا أشراكها رثة ، تجلس على بساط القوم ، وتكون من أهل الهداية ، والسالكين مسلك أهل الولاية.

أسعدك الله وإيانا على الوصول إلى هذه المطالب ، ووفقنا وإياك لتحصيل هذه الرغائب ، وأسأل منك الدعاء عقيب صلواتك ، وفي مواضع خلواتك.

١٥٥

وحيث وفينا بما وعدنا به ، فلنقطع الكلام. بحمد الله تعالى على الوصول إلى هذا الطريق ، والسلوك مسلك أهل التحقيق ، ومصلين على محمد وآله أهل التوفيق ، ونسأل منه السقيا من الرحيق ، ونستغفر الله من الزيادة والنقصان إنّه الكريم المنان.

***

١٥٦

الفهارس العامة

فهرس الأعلام

فهرس الكتب

فهرس الأماكن

فهرس مصادر التحقيق

١٥٧
١٥٨

فهرس الأعلام

إبراهيم بن محمد بن عرفة (نفطويه)................................................. ٨٠

إبراهيم الفارابي................................................................. ٧٧

ابن أبي جمهور الاحسائي....................................................... ١١٩

ابن أبي عزاقر (محمد بن علي الشلمغاني).......................................... ١٢٣

ابن ادريس الحلي............................................................... ٩١

ابن بابويه القمي (الصدوق)..................................................... ٩١

ابن الحاجب (عثمان بن عمر)................................................... ٨١

ابن الخازن الجابري.............................................................. ٩٥

ابن شهرآشوب................................................................. ٩١

ابن طاوس................................................................... ١٢٨

ابن عبدون.................................................................... ٩٣

ابن العربي..................................................................... ٨٨

ابن عقدة...................................................................... ٩٣

ابن فهد الحلي.................................................................. ٩٥

ابن قولويه................................................................... ١٢٧

ابن كامل...................................................................... ٧٨

ابن معية....................................................................... ٩٣

أبو أحمد الازدي (محمد بن أبي عمر ، زياد بن عسير)............................... ١٢٤

١٥٩

أبو بشر الحكيم................................................................ ٨٢

أبو بصير (يحيى بن أبي القاسم)......................................... ١١١ ، ١٢٥

أبو جعفر المنصور............................................................. ١٢٦

أبو حاتم الرازي.............................................................. ١٢٢ أ

أبو الحسن الكاظم............................................................ ١٢٣

أبو حنيفة.................................................................... ١٤٩

أبو خديجة................................................................... ١٤٧

أو الخطّاب الأسدي (محمد بن أبي زينب).......................................... ١٢٣

أبو عمرو الحضرمي............................................................. ٧٨

أبو الفوارس الاعرجي............................................................ ٨٤

أبو القاسم الخوئي.............................................................. ٩٠

أبو القاسم الكرجي........................................................... ١١٧

أبو محمد البجلي (صفوان بن يحيى)............................................... ١٢٦

أبو محمد العسكري (الإمام الحسن العسكري «ع»)................................ ١٢٧

أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي.................................................. ٨٢

أحمد بن أبي نصر البزنطي...................................................... ١٢٦

أحمد بن فهد الحلي............................................................ ١٤٠

أحمد بن المتوّج البحراني.................................................... ٧٣ ، ٨٧

أحمد بن هلال العبرتائي........................................................ ١٢٣

أحمد الحسيني.................................................................. ٨٧

إسماعيل بن حمّاد الجوهري........................................................ ٧٧

آقا بزرك الطهراني......................................................... ٩٥ ، ٩٩

الأمين........................................................................ ٧٨

الإمام الباقر «ع»....................................... ٥٧ ، ١٢٠ ، ١٢٥ ، ١٢٦

بحر العلوم.................................................................... ١٢٥

البرقي....................................................................... ١٢٥

١٦٠