كاشفة الحال عن أحوال الإستدلال

الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي

كاشفة الحال عن أحوال الإستدلال

المؤلف:

الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي


المحقق: أحمد الكناني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اُم القرى للتحقيق والنشر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٨

الفصل الثالث

في كيفية الاستدلال

وفيه بحثان :

الأول : في الأدلة

الثاني : في ترتيب الأدلة حال الاستدلال

١٠١
١٠٢

الأول : في الأدلة

وهي الاتفاق من الاصوليين أربعة :

الكتاب

السنة

الإجماع

أدلة العقل

١٠٣
١٠٤

أمّا الكتاب :

فالكلام في دلالته على الأحكام الشرعية ، لأنّه إنما (١) انزل لإهداء المكلفين ، وانقيادهم إلى طاعة الحق سبحانه ، باتباع (٢) أوامره ونواهيه فيه ، فهو الدليل القاطع ، والحجة البالغة ، والمستمسك الأتم ، والطريق الأعظم ، ومنه يعرف اصول الأحكام ، ويستنبط فروعها ، ويستدل منه بالنص والظاهر ، والمنطوق والفحوى ، والتنبيه والخطاب ، وله عوارض هي الأمر والنهي ، والخبر الذي في معنى الأمر ، والأمر الذي في معنى الخبر ، والمحكم والمتشابه ، والنص والظاهر ، والمجمل والمبيّن ، والمشترك والمأوّل ، والحقيقة والمجاز ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو أسباب ، ومنه ما هو خطاب ، وكل هذه العوارض اشتمل عليها آيات الكتاب العزيز المتعلقة بالفقه ، وكل حقائقها مبيّنة في علم الاصول ، من أراد معرفة معانيها فليرجع إليه.

وأمّا معرفة كل واحد من هذه العوارض في الآيات المخصوصة ، وتمييز بعضها عن بعض ، فليرجع المستدل فيه إلى كتب التفسير الموضوعة لذلك ، أعني كتب خمسمائة الآية (٣) المشار إليها فيما تقدم ، فإن له غنية عن كتب التفسير.

وأمّا السنة :

فهي الدليل الثاني التالي للكتاب ، فما لم نجده من الأحكام في

__________________

(١) في «م» : لما.

(٢) في «ج» : ايقاع.

(٣) هكذا في النسخ. ذكر في هامش صحفة (٨٧) وصحفة (٨٨) من هذا الكتاب.

١٠٥

الكتاب العزيز ، أو عسر علينا أخذ الحكم منه ، رجعنا فيه إلى السنة ، لاشتمالها على أكثر أصول الشريعة وفروعها ، فهي الباب الأعظم ، والطريق الواضح ، والحجة القاطعة ، بعد ثبوت نقلها ، ونأخذ منها بالأقوال والأفعال والتقريرات ، سواء النبوية والإمامية.

أمّا النبوية : فنعمل بأقواله عليه‌السلام ، وأفعاله ، وتقريراته على كل حال ، لأنّه عليه‌السلام ، لا تجوز عليه التقية.

وأمّا الإمامية : فنعمل منها كما نعمل في النبوية ، لكن لا في كل حال بل في حال عدم احتمال التقية ، لأنهم عليهم‌السلام كانوا يعملون بها ، واحتمالها في أقوالهم قليل ، وأكثر منه وجودها في أفعالهم ، وفي التقريرات كثير جدا ، ومعرفة ذلك وتمييزه عن مقابله يحصل بتتبع قرائن أحوالهم ، من اشتداد الخوف من سلطان الوقت وضعفه ، ووجود المخالف في مجالسهم وعدمه ، إلى غير ذلك من القرائن ، وقد كفاك السلف معاناة ذلك ، لأنهم إنما وضعوا في اصولهم سنّتهم ، حتى تحققوا سلامتها من هذا المانع ، إلّا قليلا نادرا وقع فيه خلاف بينهم ، تطلع عليه بالاطلاع على كتبهم.

ولا بدّ في الاستدلال بالسنة على الأحكام من ثبوت نقلها ، وهو أمّا تواترا ، وآحادا.

وما هو متواتر منها فلا كلام فيه لضروريته.

وما كان آحادا فلا بدّ فيه من بيان حال الناقل ، ومعرفته بالعدالة والصلاح ، حتى ينتهي إلى المنقول عنه الحديث ، أمّا النبي أو الإمام ، اللهم إلّا أن يكون الحديث مشهور النقل بين العلماء بحيث لا يختلفون في نقله ، أو تجدهم قد عملوا به أو الفتوى بمضمونه ، فإنه يستغني بذلك عن معرفة الناقل وبيان حاله.

ولا ريب في اشتمالها على ما اشتمل عليه الكتاب العزيز من

١٠٦

العوارض اللفظية ، ففيها النص والظاهر ، والأمر والنهي ، والإطلاق والتقييد ، والإجمال والتبيين ، إلى غير ذلك من العوارض.

ويختص ما نقل من السنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناسخ والمنسوخ ، دون ما روى عن الائمة عليهم‌السلام فلا ناسخ فيه ولا منسوخ ، إذ لا نسخ بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأحد ، لانّه صاحب الشريعة وما سواه محافظ ، والحافظ يحفظ ما نقل عن صاحب الشريعة ، ولا يغير شيئا منها بزيادة ولا نقصان ، فلا يرفع حكما عن صاحب الشريعة ، فالمستدل بالسنّة يستدل منها بمثل ما يستدل من القرآن العزيز ، فيستدل بنصها وظاهرها ، ومنطوقها وفحواها ، وتنبيهها وخطابها ، إلى غير ذلك.

وأمّا الإجماع :

فلا ريب في ثبوته وتحقق وجوده ، والمخالف في وجوده شاذ لا يعبأ به ، لاتفاق أكثر الامة على وجوده وحجيته ، وقيام الدليل على ذلك ، فمتى حصل الاتفاق من أهل الحل والعقد ، على حكم الحادثة الواقعة في زمانهم ، كان ذلك دليلا قاطعا ، وحجة ثابتة موجبة لثبوت ذلك الحكم ، ووجوب أخذه على من يأتي بعدهم ، من غير نظر ولا فكر في أدلتهم ، ولا في سبب إجماعهم ، ولو قامت له أمارة على خطئهم لم يجز له الرجوع اليها ، بل الواجب عليه الرجوع إلى إجماعهم ، وما قالوه في تلك الحادثة ، إذ لا يجوز له خلافهم البتة ، وإلّا كان قوله مردودا وفتواه مخطئة ، وأمارته التي استدل بها هي في الحقيقة ليست بأمارة شرعية ، وإن غفل عن وجه بطلانها ، وهذا الحكم متفق عليه عند الكل.

فالمستدل إذا عرضت له حادثة ، فوجد حكمها مجمعا عليه عند كل الامة ، رجع في حكم تلك الحادثة إلى ذلك الإجماع ، وإن وجد حكمها

١٠٧

مجمعا عليه عند أصحابه دون باقي الامة ، رجع أيضا في حكمها إليهم ، ولم يجز له الاجتهاد ، لأن إجماع أصحابه كاجماع الامة ، بل هو الإجماع بالحقيقة لدخول المعصوم فيه ، فيجب عليه الرجوع إلى ذلك الاجماع ، ولا يصح له الاجتهاد مع وجوده ، سواء عرف دليلهم على حكم الحادثة الموجب لإجماعهم ، أو جهله ، بل ولا يجب البحث عنه ، بل ويجب عليه ان يعمل بما اشتهر بين الأصحاب من الأحكام دون ما شذّ منها ، ويترك الاجتهاد أيضا ، لما روي عن الصادق عليه‌السلام «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر» (١).

ولو كان حكم الحادثة موافقا للعامة ، ووجد في فتاوى الأصحاب حكما مخالفا لذلك الحكم عمل به بعضهم وعمل بعضهم بالأول ، وجب على المستدل الرجوع إلى ما اختص بأصحابه ، وترك ما وافق العامة ، للحديث المشهور عن الصادق عليه‌السلام.

ان قلت : إذا كان الإجماع عندكم إنما يكون حقا وحجة بدخول المعصوم فيه ، فأيّ فائدة في اشتراط دخول أهل الحل والعقد من المجتهدين في حجية الإجماع ، إذ لا اعتبار بقولهم لجواز الخطأ عليهم ، وإنما الاعتبار بقول المعصوم ودخوله ، فلا يكون ذلك من باب الإجماع بل من باب النقل عن المعصوم ، فتكون من السنة لا من الاجماع فلا إجماع لكم.

اجيب : بأن الفائدة أنه لو وجد أقوال العلماء كلّهم متفقة على حكم حادثة ، أو عرف لهم قول يخالف قول الأكثر ، وكان اولئك المخالفون معلومي النسب والأشخاص معروفين بأعيانهم ، لم يقدح ذلك في حجية الإجماع عندنا ، لتحقق دخول المعصوم فيه ، ليكون المخالف في حكم الحادثة معلوما بنسبه.

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩. مستدرك الوسائل ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٢ ج ١٧ ص ٣٠٣.

١٠٨

أمّا لو وجد المخالف وإن كان واحدا لكنه غير معلوم ولا معروف بشخصه ولا نسبه ، قدح ذلك في الإجماع عندنا ، ولا يكون حينئذ متحققا لجواز كونه هو المعصوم ، فلهذا اعتبرنا دخول أهل الحل والعقد بأجمعهم ، لدخول المعصوم في جملتهم ، لتأمن الخطأ في الإجماع ، ولو أنا تحققنا أن حكم هذه الحادثة مثلا ثبت عن المعصوم أنّه قال فيها كذا ، بطريق تواتري أو مشهور ، لم يكن لنا حاجة إلى التفتيش عن باقي أقوال العلماء في تلك الحادثة ، وأنهم وافقوا المعصوم فيها أو خالفوه ، لكون قول المعصوم فيها حينئذ هو الحجة القاطعة ، والنص الذي لا يحتاج معه إلى غيره ، فافهم ذلك موفقا فإنه سرّ الإجماع (١).

أمّا أدلة العقل :

فقد وقع الخلاف فيها بين الاصوليين ، في المعتبر منها في الدلالة على الأحكام ، وأكثرهم على انها ثلاثة ، البراءة الأصلية ، والاستصحاب ، والقياس ، وأصحابنا قائلون بالأولين ، وأمّا الثالث فيختلفون فيه ، وأكثر المتقدمين منهم على المنع من دلالته على الأحكام مطلقا ، وكثير من المتأخرين أجاز العمل بمنصوص العلة منه ، واستدل به على الأحكام.

أمّا البراءة الأصلية : فلا كلام في دلالتها ، وليست هي في الحقيقة دليلا شرعيا ، لأنّها لا تثبت حكما ، وإنما هي نافية له ، إذ الأصل براءة ذمة المكلف من جميع الأحكام حتى يرد المزيل الشرعي عن ذلك الأصل ، فيتحقق الحكم ويحصل شغل الذمة حينئذ.

لكن قد يتعلق بها المستدل ، من حيث أنّه إذا وردت عليه الحادثة ، تمسك فيها بأصل براءة الذمة من حكم فيها ، لكن بعد التفتيش عن

__________________

(١) في «م» سرة.

١٠٩

النصوص القرآنية والحديثية ، وخلوّ أقوال العلماء عن الحكم فيها ، إمّا للغفلة أو لعدم وقوعها في زمانهم ، فتكون دليلا وحجة على عدم الحكم في تلك الحادثة.

وأمّا الاستصحاب : فالقول ثابت عند من يرى البقاء على الأصل ، وأن الباقي لا يحتاج إلى تأثير ، وعلى أن العلة في الحاجة هي الحدوث ، فتبقى الأشياء على ما هي عليه ، ونقول في كل حادثة ، الأصل بقاء ما كان على ما كان ، حتى أعلم المزيل ، سواء كان في نفي حكم ، أو في ثبوته ، فهو قريب من البراءة ، إلّا أنّه يكون في الإثبات والنفي ، وهي تختص بالنفي ، ومقدماته التي ذكرناها تتحقق في علم الكلام ، فلا بد من تحقيقها منه حتى يتم الاستدلال به.

وأمّا القياس : فعلى المستدل النظر والمطالعة في أدلة الفريقين من الأصحاب ، المذكورة في الاصول ، وهما الفريق القائل بالمنع من العمل به مطلقا ، والفريق القائل بجواز العمل بمنصوص العلة منه ، فإن أداه النظر إلى تقوية أدلة الأولين فلا كلام ، إذ لا اعتبار به عنده ، فلا يكون دليلا على شيء من الأحكام البتة ، وتكون دلالة العقل منحصرة عنده في البراءة والاستصحاب ، وإن أداه النظر إلى تقوية الأدلة في الآخرين ، وجب عليه العمل بإثبات حكم الأصل المعلل ـ المعلوم علته بالنص ـ في الفرع على الشرائط المعتبرة فيه ، المذكورة في كتب الاصول ، ويكون عنده من جملة الأدلة المثبتة للأحكام ، فتجب عليه معرفته ، ومعرفة شرائطه وأركانه ، والاحتراز عما ليس بمنصوص العلة منه ، لاتفاق الأصحاب على المنع من العمل به. وهاهنا دليلان آخران ، زادهما بعض علمائنا المتأخرين في بعض مصنفاته ، وجعلهما معدودين في أدلة العقل :

أحدهما : التخريج ، وهو تعدية الحكم من منطوق به إلى مسكوت عنه ، وعندي أنه نوع من القياس الجلي ، اللهم إلّا أن يقول إنّه هو باب

١١٠

التنبيه ، أعني مفهوم الموافقة ، على القول بأنه ليس من أنواع القياس ، لأنهم يختلفون في أنه من أنواع القياس أم لا ، وتحقيقه في الاصول.

والثاني : اتحاد طريق المسألتين ، بمعنى أن يوجد في المسألة حكم ثابت إما بنص أو إجماع ، وتجيء مسألة اخرى مماثلة لها في الطريق والصورة ، فيتحدان في الحكم ، فتعطى الثانية حكم الأول ، وهو قريب من الأول وإن كان فيه نوع من المغايرة ، وكلاهما من أنواع القياس الجلي ، على ما لا يخفى على المتأمل.

واستدل على كون هذين الطريقين حجة ، بحديث رواه مصحح الطريق عن زرارة وأبي بصير ، عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنهما قالا : «علينا أن نلقي اليكم الاصول وعليكم ان تفرّعوا» (١).

أقول وهذا الحديث أيضا دال على جواز العمل بمنصوص العلة عن القياس ، لأنّه من التفريع على اصولهم الثابتة عنهم عليهم‌السلام ، خصوصا إذا وجد منهم بيان علة الحكم ، وتحقق الثبوت لتلك العلة في الفرع ، فإن الظن يقوى بثبوت ذلك الحكم في ذلك الفرع ، والعمل بالظن واجب كما تقرر في الاصول.

بل أقول ودلالة هذا الحديث على جواز الاجتهاد مع حضور الإمام ظاهرة بمضمون النص ، بل هو دال على وجوبه ، لأنهما عليهما‌السلام قالا فيه : «وعليكم أن تفرّعوا» ولفظة على إنما تستعمل للوجوب كما هو مقرر في الاصول ، فقد أوجبا علينا التفريع على اصولهم ، باستنباط أحكام الحوادث الجزئية. من تلك الاصول الكلية ، الثابتة عنهم بالنص ، وذلك هو معنى الاجتهاد ، فافهمه موفقا إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ٤ ص ٦٣ ح ١٧. وسائل الشيعة : ب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٥١ ، ٥٢ ج ١٨ ص ٤١. السرائر : المستطرفات ، ما استطرفه من جامع البزنطي ج ٣ ص ٥٧٥.

١١١
١١٢

الثاني :

في ترتيب هذه الأدلة حالة الاستدلال

وبيان ترجيح بعضها على بعض عند التعارض

١١٣
١١٤

إذا نزلت الحادثة بالمستدل رجع في حكمها إلى الكتاب العزيز ، فيأخذ حكمها من نصه ، أو ظاهره ، أو منطوقه ، أو فحواه ، أو غير ذلك من عوارض دلالته على الأحكام الشرعية ، ولا يرجع إلى شيء من الادلة قبله ، فإن لم يجد حكمها في شيء من الكتاب ، أو تعسّر عليه معرفته منه رجع إلى السنة النبوية أو الإمامية ، فأخذ حكم تلك الحادثة من نصها ، أو ظاهرها ، أو منطوقها ، أو فحواها ، أو غير ذلك من عوارض دلالتها على الأحكام الشرعية ، فإن لم يجد ذلك الحكم فيها ، أو تعسّر عليه معرفته منها ، رجع في حكمها إلى ما أجمعت عليه الأمة ، إمّا كلّهم أو الفرقة المحقة ، لدخول المعصوم في الجملة فيكون حقا ، فمتى تحقق عنده تطابق أقوال علماء العصر على حكم تلك الحادثة ، ولم يجد بينهم خلافا فيه ، جزم بذلك الحكم وأخذه منهم ، ولم يحتج إلى البحث والتفتيش عن أدلتهم ، ويعرف إجماعهم إما بالتواتر أو الاشتهار ، البالغين حد العلم أو متاخمه ، أو بكثرة الفحص والتفتيش عن أقاويل أهل العصر في حكم تلك الواقعة ، فيحصل له الجزم باتفاقهم فيه ، أو نقل اتفاقهم على حكمها عن أحد العلماء الموثوق بقوله بطريق صحيح ، فإن ذلك كاف كما قرر في الاصول ، من أن الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة ، فإن لم يجده بل وجدهم مختلفين في حكمها وكان بعض أقوالهم مشتهرا والبعض الآخر شاذا نادرا ، رجع في حكمها إلى ما اشتهر من أقوالهم ، وجزم به وترك الشاذ النادر ، وكذا لو لم يجده مشتهرا ، لكن عليه عمل أكثر الطائفة وأغلبهم وفتوى جلهم به ، وخالفهم بعض ، فإنه يرجع في حكمها إلى قول الأكثر ويترك الأقل ، لأن الكثرة دليل برأسها ، وإن لم يجد ذلك بل وجد الاختلاف بينهم في حكمها حاصلا ، ولم يكن لأحد كثرة على الآخر ، ولا

١١٥

اشتهر بعض الاقوال دون بعض ، رجع إلى أدلة العقل ، فيرجع إلى القياس المنصوص على علته ، ان كان ممن قام الدليل إلى وجوب العمل به ، فإن وجد حكم الحادثة فيه على الشرائط المعتبرة جزم به ، وإلّا رجع إلى البراءة الأصلية ، أو الاستصحاب ، أو اتحاد الطريق ، أو التخريج ، وأمثال ذلك مما ذكرناه.

هذا ترتيب الأدلة ، فلا ينتقل إلى المتأخر إلّا مع تعذر المتقدّم ، هذا مع فرض عدم تعارضها ، أمّا لو تعارضت رجع إلى أحكام التراجيح المذكورة في الاصول ، ومراعاتها ، وضبطها ، وعليه بالتحفظ هنا ، وكثرة المطالعة ، والتحرز عن الغلط في كيفية الترجيحات وأسبابها ، فإن أغاليط أكثر المجتهدين انما تجيء من هذا الباب ، وهو باب عظيم من أعظم أبواب الاصول ، يحتاج المستدل إلى ضبطه غاية الضبط ، ومراعاة أحواله حالة الاستدلال غاية المراعاة ليأمن الغلط ، ، وأسباب التراجيح كثيرة مضبوطة في علم الاصول ، لا تطول بذكرها هذه الجزازة (١).

يقع هاهنا بحث لا بدّ من ذكره فيها ، وهو أن الأخبار الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام : إمّا متواترة ، ولا كلام فيها لإفادتها العلم ، لأن المتواتر منها يراد به ما أفاد العلم ، ويحصل الجزم بما ورد فيها من الأحكام ، واستعمالها في الأدلة ، من غير احتياج إلى معرفة ناقلها ورجالها ، ويتفاوت المستدلون في وصول التواتر إليهم وعدمه ، فعلى كل أحد العمل بما وصل إليه.

وأمّا غير متواترة ، لكن اشتهرت بين الطائفة ، واستفاضت بين علمائها ، وهو المسمى عندهم بالمشهور والمستفيض ، ونعني به ما أفاد

__________________

(١) ما سقط من الاديم إذا قطع. ويعبّر بها عن الشيء القليل. مجمع البحرين : مادة جزز. ج ٤ ص ١٠ بتحقيق أحمد الحسيني.

١١٦

متاخمة العلم وان لم يبلغه ، فكلما كان كذلك منها ، وثبت عند المستدل شهرته واستفاضته ، عمل عليه ورجع في الأحكام إليه ، وقد حدّه أصحابنا بأنّه ما زاد رواته على ثلاثة ، كل واحد بطريق صحيح ، لا ينتهي إلى الآخر حتى يتصل بالمعصوم.

وأمّا آحاد ، وهو ما أفاد الظن ، نعني به ما كان رواته ثلاثة فما دون ، وهو المسمى عندهم بخبر الواحد ، ويختلفون في وجوب العمل به ، وأكثرهم على ذلك ، وشذ من المتقدمين السيد المرتضى رحمه‌الله ، فمنع من العمل به (١) ، ومن المتأخرين محمد بن إدريس رحمه‌الله ، فمنع أيضا (٢) منه موافقا للسيد ، وباقي الأصحاب أطبقوا على وجوب العمل به ، وأخذ الأحكام منه.

وقسموه إلى أربعة أقسام : ثلاثة يعملون بها ، وواحد يطرحونه.

الأول : الصحيح ، وهو ما رواه العدل الإمامي عن العدل الإمامي ، وهكذا متصلا بالمعصوم ، ويسموه بالمتصل والمعنعن والمسند ، وسليم الطريق ، وقد يكون منه عالي الإسناد ، وغيره ، ونعني بعالي الإسناد ، ما كان طريقه إلى المعصوم أقرب.

الثاني : الحسن ، وهو ما رواه الممدوح من الإمامية. الذي لم يبلغ مدحهم له إلى التصريح بعدالته ، بأن تكون السلسلة كلها كذلك ، أو يكون في الطريق ولو واحد.

__________________

(١) أجوبة المسائل التبانيات ، المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى. الفصل الثاني. ص ٢١. (نشر دار القرآن الكريم) ، الذريعة إلى اصول الشريعة : ج ٢ ص ٥٢٨. بتحقيق ابو القاسم الكرجي.

(٢) ذكر ذلك في أول سرائره ، وإليك نص عبارته : «ولا اعرّج إلى أخبار الآحاد ، فهل هدم الإسلام الّا هي ...» السرائر ج ١ ص ٥١ (المقدمة). بتحقيق مؤسسة النشر الإسلامي / ١٤١٠ ه

١١٧

الثالث : الموثّق ، وهو ما رواه العدل الغير الإمامي ، الموثوق بنقله ، المعلوم من حاله التحرز عن الكذب ، والمواظبة على نقل الحديث على ما هو عليه.

الرابع : الضعيف ، وهو مروي غير الإمامي الموثّق ، أو الإمامي الذي لم نعلم عدالته ، أو علم ضدها ، لأن أصحابنا لا يعملون برواته المجهول حاله ، ولا بمن هو معلوم الفسق ، سواء كان فسقه بأفعال الجوارح ، أو بالاعتقادات ، إلّا ما شذ من قول الشيخ رحمه‌الله ، من تجويز العمل برواية الفاسق ، إذا كان فسقه بأفعال الجوارح خاصة ، وكان سليما في اعتقاده ، مأمونا في نقله (١).

وقد يكون منها شيء يسمى المقطوع ، وهو ما كان بعض رواته مجهولا ، أو كان غير معلوم الاتصال بالمعصوم ، ومنها ما يسمى مرسلا ، وهو ما رواه العدل الإمامي ، الذي لم يشاهد المعصوم عنه ، من غير ذكر الواسطة.

وحينئذ نقول يجب العمل بأخبار الآحاد عند الكل ، إذا اقترنت بأحد القرائن التي تعضدها كنص الكتاب ، أو ظاهره ، أو منطوقه ، أو فحواه ، أو اعتقد بنص السنة ، والمتواتر من الأخبار ، أو ظاهرها ، أو منطوقها ، أو فحواها ، أو اعتضد باجتماع الطائفة ، أو عمل أكثرهم ، أو اشتهر عنهم نقله ، أو الفتوى بمضمونه ، أو اعتضد بدليل عقلي ، وإذا خلا عن الاعتضاد بشيء من هذه الأمور ، كان موضع الخلاف بينهم ، والأكثرون على وجوب العمل به ، إلّا أن يعارضه بعض ما ذكرناه من هذه الامور ، فيجب

__________________

(١) قال الشيخ في عدّة الاصول : «فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال ، أو فاسقا في بعض الجوارح ، وكان ثقة في روايته ، متحرزا فيها ، فإن ذلك لا يوجب رد خبره ، ويجوز العمل به ، لأن العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه ، وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته ، وليس بمانع من قبول خبره. ج ١ ص ٣٨٢ (بتحقيق محمد مهدي نجف).

١١٨

تركه (١).

وأمّا ترتيب ما ذكرناه من هذه الصفات ، فمتى وجد حكم الحادثة في الحديث الصحيح ، وجب العمل به ، وإن عارضه غيره مما ليس موصوفا بصفته لأنّه لا يبلغ مبلغه في قوة الظن بمضمونه ، أمّا لو عارضه مثله ، رجع إلى أحكام التراجيح المذكورة في كتب الاصول المضبوطة هناك ، فيراعيها غاية المراعاة ، ويتحرّز من الغلط فيها ، ويحكم بما ترجّح منها بشيء من المرجحات المعتبرة هناك فإن لم يجد حكم الحادثة في الصحيح منها ، ووجده في الحسن حكم به ، ووجب عليه العمل بمضمونه ، وإن عارضه غيره مما ليس موصوفا بصفته ، لقوة الظن بمضمونه دون غيره بعد الصحيح ، فإن عارضه مثله ، رجع إلى أحكام التراجيح كما ذكرنا ، فإن لم يجده في الحسن ووجده في الموثّق ، وجب الرجوع إليه وأخذ الحكم منه ، وإن عارضه غيره مما ليس موصوفا بصفته ، لحصول الظن به دون ما دونه ، ولو عارضه مثله ، أدخله في أحكام التراجيح ، وحكم بما ترجّح عنده.

__________________

(١) «ومن أراد الاستقصاء مع ذكر الأمثلة ، فعليه بكتابنا تحفة القاصدين في معرفة اصطلاح المحدثين». العبارة المذكورة أضافها صاحب الذريعة إلى الكتاب ، مستدلا بها على ان تحفة القاصدين لابن ابي جمهور. ذكر ذلك في ترجمة كتاب تحفة القاصدين من الذريعة الجزء الثالث ص ٤٦١ ، والجزء السادس عشر ص ٦٨ : «قال في آخر كتابه كاشفة الحال ، عند ذكره لأنواع الحديث وأقسامه «ومن أراد الاستقصاء مع ذكر الأمثلة. فعليه ... إلى آخر العبارة». لكني لم أجد أثرا لها في نسخ الكتاب المعتمدة اثناء التحقيق. نعم وجدت العبارة بعينها في آخر الدراية للشهيد الّا انها بلفظ غنية القاصدين في معرفة اصطلاحات المحدّثين بدل تحفة القاصدين في معرفة اصطلاحات المحدّثين. (راجع الدراية : ص ١٣٨ ط النجف بنشر محمد جعفر آل إبراهيم.) ولعل هناك لبس قد حصل بين تحفة القاصدين لابن أبي جمهور وغنية القاصدين للشهيد الثاني ، أو أنّ صاحب الذريعة وجدها في نسخة لم يتيسّر لنا الحصول عليها. والله أعلم بحقائق الامور.

١١٩

وإنّما أجاز أصحابنا العمل بهذه الموثّقات ، وإن كان ناقلوها مخالفين لهم في الاعتقاد ، لما وجدوه في فتاويهم من وجوب الرجوع ، والعمل بتلك الأخبار من غير نكير بينهم ، وذلك أن الناقلين لتلك الروايات كانوا أهل صلاح وعدالة في مذاهبهم ، متحرسين عن الكذب ، متقنين للروايات ، فعملت الطائفة برواية فريق منهم كان هذه صفته ، لغلبة الظن بصدقه ، وصحة نقله ، خصوصا إذا حصل هناك قرينة تعضده ، أو خبر موثوق به من غيرهم ، أمّا لو وجد من الأخبار ما يخالف أخبارهم ، أو حصل قرينة تمنع من العمل به ، وجب تركه قولا واحدا. فممّن عملت الطائفة بروايته من أهل السنة ، حفص بن غياث (١) ، وغياث بن كلّوب (٢) ، ونوح بن

__________________

(١) حفص بن غياث بن طلق بن معاوية بن مالك بن الحارث بن ثعلبة بن ربيعة بن عامر بن جشم بن وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن ادد ، القاضي الكوفي. ولي القضاء ببغداد الشرقية لهارون ثم ولّاه قضاء الكوفة. له كتاب ، ذكره ابنه عمر ، وانه سبعون ومائة حديث أو نحوها ، وصفه الشيخ الطوسي بأنّه كتاب معتمد. وكان عامي المذهب ، عدّه الشيخ من أصحاب الباقر عليه‌السلام. وأصحاب الصادق عليه‌السلام والكاظم عليه‌السلام. وحفص بن غياث ثقة وعملت الطائفة برواياته ، ذكر ذلك السيد الخوئي في معجمه. توفي بالكوفة سنة ١٩٤. رجال الطوسي ص ١١٨ ، ١٧٥ ، ٤٧١ بتحقيق محمد صادق آل بحر العلوم ، رجال النجاشي : ص ١٣٤ برقم ٣٤٦ (طبع مؤسسة النشر الإسلامي) ، معجم رجال الحديث : ج ٦ ص ١٤٨ (بيروت ١٩٨٣ ط ٣).

(٢) غياث بن كلّوب بن فيهس البجلي. ذكر الشيخ الطوسي في العدّة أنّه من العامة إلّا ان الطائفة عملت بأخباره فيما إذا لم يكن لها معارض من طريق الحق. وبهذا الكلام اثبت السيد الخوئي في معجمه الوثاقة لابن كلوب وإن كان عاميا. له كتاب اخبر به الشيخ المفيد رحمه‌الله عن ابن شاذان عن العطار عن الحميري عن الخشاب. رجال النجاشي : ص ٢٠٥ برقم ٨٣٤ ، معجم رجال الحديث : ج ١٣ ص ٢٣٥.

١٢٠