معاني القرآن - ج ٢

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٥

وقوله : (ذَا الْأَيْدِ) [١٧] يريد : ذا القوّة.

وقوله : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) [١٩] ذكروا أنه كان إذا سبّح أجابته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه الطير فسبّحت. فذلك حشرها ولو كانت : والطير محشورة بالرفع لمّا لم يظهر الفعل معها كان صوابا.

تكون مثل قوله (خَتَمَ (١) اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) وقال الشاعر :

ورأيتم لمجاشع نعما

وبنى أبيه جامل رغب

ولم يقل : جاملا رغبا والمعنى : ورأيتم لهم جاملا رغبا. فلمّا لم يظهر الفعل جاز رفعه.

وقوله : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) [٢٠] اجتمعت القراء على تخفيفها ولو قرأ قارئ (وشدّدنا) بالتشديد كان وجها حسنا. ومعنى التشديد أنّ محرابه كان يحرسه ثلاثة وثلاثون ألفا.

وقوله : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) [٢٠].

قال الفراء : حدّثنى عمرو بن أبى المقدام عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد فى قوله (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) قال : الشهود والأيمان. وقال بعض المفسّرين : فصل الخطاب أمّا بعد.

وقوله : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [٢١] إذ دخلوا [٢٢] قد يجاء بإذ مرّتين ، (وقد) (٢) يكون معناهما كالواحد ؛ كقولك : ضربتك إذ دخلت علىّ إذ اجترأت ، فيكون الدخول هو الاجتراء. ويكون أن تجعل أحدهما (٣) على مذهب لمّا ، فكأنّه قال : إذ تسوّروا المحراب لمّا دخلوا. وإن شئت جعلت لمّا فى الأوّل. فإذا كانت لمّا أوّلا وآخرا فهى بعد صاحبتها ؛ كما تقول : أعطيته لمّا سألنى. فالسؤال قبل الإعطاء فى تقدّمه وتأخّره.

وقوله : (خَصْمانِ) رفعته بإضمار (نحن خصمان) والعرب تضمر للمتكلّم والمكلّم المخاطب ما يرفع

__________________

(١) الآية ٧ سورة البقرة.

(٢) ش ، ب : «فقد».

(٣) ا : «إحداهما» وكلاهما جائز باعتبار اللفظ أو الكلمة.

٤٠١

فعله. ولا يكادون يفعلون ذلك بغير المخاطب أو المتكلّم. من ذلك أن تقول للرّجل : أذاهب ، أو أن يقول المتكلم : واصلكم إن شاء الله ومحسن إليكم. وذلك أن المتكلّم والمكلّم حاضران ، فتعرف معنى أسمائهما إذا تركت. وأكثره فى الاستفهام ؛ يقولون : أجادّ ، أمنطلق. وقد يكون فى غير الاستفهام.

فقوله (خَصْمانِ) من ذلك. وقال الشاعر :

وقولا إذا جاوزتما أرض عامر

وجاوزتما الحيّين نهدا وخثعما

نزيعان من جرم بن زبّان إنهم

أبوا أن يميروا فى الهزاهز محجما

وقال الآخر :

تقول ابنة الكعبىّ يوم لقيتها

أمنطلق فى الجيش أم متثاقل

وقد جاء فى الآثار للراجع من سفر : تائبون آئبون ، لربنا حامدون. وقال : من أمثال العرب : محسنة فهيلى.

قال الفراء : جاء ضيف إلى امرأة ومعه جراب دقيق ، فأقبلت تأخذ من جرابه لنفسها ، فلمّا أقبل أخذت من جرابها إلى جرابه. فقال : ما تصنعين؟ قالت : أزيدك من دقيقى. قال : محسنة فهيلى. أي ألقى. وجاء فى الآثار : من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا (١) بين عينيه : يائس من رحمة الله. وكلّ هذا بضمير ما أنباتك به.

ولو جاء فى الكتاب : خصمين بغى بعضنا لكان صوابا بضمير أتيناك خصمين ، جئناك خصمين فلا تخفنا. ومثله قول الشاعر :

وقالت ألا يا اسمع نعظك بخطّة

فقلت سميعا فانطقى وأصيبى

١٦٣ ا أي سميعا أسمع منك ، أو سميعا وعظت. والرفع فيه جائز على الوجوه الاول.

__________________

(١) فى ش ، ب بعده : «ومكتوب» وكتب هذا فى ا فوقه. ومعنى هذا أنهما روايتان.

٤٠٢

وقوله (وَلا تُشْطِطْ) يقول : ولا تجر : وقد يقول بعض العرب : شططت علىّ فى السّوم ، وأكثر الكلام أشططت. فلو قرأ قارئ (ولا تشطط) كأنه يذهب به إلى معنى التباعد و (تشطط) أيضا. العرب تقول : شطّت الدار فهى تشطّ وتشطّ.

وقوله (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) إلى قصد الصراط. وهذا ممّا تدخل فيه (إلى) وتخرج منه.

قال الله (اهْدِنَا (١) الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وقال (وَهَدَيْناهُ (٢) النَّجْدَيْنِ) وقال (إِنَّا هَدَيْناهُ (٣) السَّبِيلَ) ولم يقل (إلى) فحذفت إلى من كل هذا. ثم قال فى موضع آخر (أَفَمَنْ) (٤) (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) وقال (يهدى إلى الحقّ (٥) وإلى طريق مستقيم) ويقال هديتك للحق وإليه قال الله (الَّذِي (٦) هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) وكأن قوله (اهْدِنَا الصِّراطَ) أعلمنا الصراط ، وكأن قوله (اهدنا إلى الصّراط) أرشدنا إليه والله أعلم بذلك.

وقوله : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) [٢٣] وفى قراءة عبد الله (كان له) وربّما أدخلت العرب (كان) على الخبر الدائم الذي لا ينقطع. ومنه قول الله فى غير موضع (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فهذا دائم. والمعنى البيّن أن تدخل (كان) على كل خبر قد كان ثم انقطع ؛ كما تقول للرجل : قد كنت موسرا ، فمعنى هذا : فأنت الآن معدم.

وفى قراءة عبد الله (نعجة أنثى) والعرب تؤكّد التأنيث بأنثاه ، والتذكير بمثل ذلك ، فيكون كالفضل (٧) فى الكلام فهذا من ذلك. ومنه قولك للرجل : هذا والله رجل ذكر. وإنما يدخل هذا

__________________

(١) الآية ٦ سورة الفاتحة

(٢) الآية ١٠ سورة البلد.

(٣) الآية ٣ سورة الإنسان.

(٤) الآية ٣٥ سورة يونس.

(٥) الآية ٣٠ سورة الأحقاف.

(٦) الآية ٤٣ سورة الأعراف.

(٧) أي كالزيادة.

٤٠٣

فى المؤنّث الذي تأنيثه (١) فى نفسه ؛ مثل المرأة والرجل والجمل والناقة. فإذا عدوت ذلك لم يجز. فخطأ أن تقول : هذه دار أنثى ، وملحفة أنثى ؛ لأنّ تأنيثها فى اسمها لا فى معناها. فابن على هذا.

وقوله (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبنى. ولو قرئت (وعازّنى) يريد : غالبنى كان وجها.

وقوله : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) [٢٤] المعنى فيه : بسؤاله نعجتك ، فإذا ألقيت الهاء من السؤال أضفت الفعل إلى النعجة. ومثله قوله (لا يَسْأَمُ (٢) الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) ومعناه من دعائه بالخير : فلمّا ألقى الهاء أضاف الفعل إلى الخير وألقى من الخير الباء ، كقول الشاعر :

ولست مسلّما ما دمت حيّا

على زيد بتسليم الأمير (٣)

إنما معناه : بتسليمى على الأمير. ولا يصلح أن تذكر الفاعل بعد المفعول به فيما ألقيت منه الصفة. فمن قال : عجبت من سؤال نعجتك صاحبك لم يجز له أن يقول : عجبت من دعاء الخير الناس ، لأنك إذا أظهرت الآخر مرفوعا فإنما رفعه بنيّة أن فعل أو أن يفعل ، فلا بدّ من ظهور الباء وما أشبهها من الصّفات. فالقول فى ذلك أن تقول عجبت من دعاء بالخير زيد ، وعجبت من تسليم على الأمير زيد. وجاز فى النعجة لأنّ الفعل يقع عليها بلا صفة ؛ فتقول : سألتك نعجة ، ولا تقول : سالتك بنعجة. فابن على هذا.

وقوله (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي علم. وكلّ ظنّ أدخلته على خبر فجائز أن تجعله علما ؛ إلّا إنه علم ١٦٣ ب مالا يعاين.

وقوله : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) [٣١] يعنى الخيل ، كان غنمها سليمان بن داود من جيش قاتله فظفر به. فلمّا صلّى الظهر دعا بها ، فلم يزل يعرضها حتّى غابت الشمس ولم يصلّ العصر. وكان عندهم مهيبا. لا يبتدأ بشىء حتى يأمر به ، فلم يذكر العصر. ولم يكن ذلك عن تجبّر منه ،

__________________

(١) يريد ما يعرف بالمؤنث الحقيقي :

(٢) الآية ٤٩ سورة فصلت :

(٣) ا : «فلست»

٤٠٤

فلمّا ذكرها قال (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) يقول : آثرت حبّ الخيل ، والخير فى كلام العرب : الخيل. والصّافنات ـ فيما ذكر الكلبي بإسناده ـ القائمة على ثلاث قوائم وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل. وهى فى قراءة عبد الله (صوافن (١) فإذا وجبت) يريد : معقولة على ثلاث. وقد رأيت العرب تجعل الصّافن القائم على ثلاث ، أو على غير ثلاث. وأشعارهم تدلّ على أنها القيام خاصّة والله أعلم بصوابه : وفى قراءة عبد الله (إنّى أحببت) بغير (قال) ومثله ممّا حذفت فى قراءتنا منه القول وأثبت فى قراءة عبد الله (وإذ (٢) يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان) وليس فى قراءتنا ذلك. وكلّ صواب.

وقوله : (فَطَفِقَ) [٣٣] يريد أقبل يمسح : يضرب سوقها وأعناقها. فالمسح القطع.

وقوله : (عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) [٣٤] يريد : صنما. ويقال : شيطان.

وقوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [٣٥] فيريد سخرة الريح والشياطين.

وقوله : (رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [٣٦] والرخاء : الريح الليّنة التي لا تعصف. وقوله (حَيْثُ أَصابَ) : حيث أراد.

وقوله : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [٣٩]. يقول فمنّ به أي أعط ، أو أمسك ، ذاك إليك. وفى قراءة عبد الله : (هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب) مقدّم ومؤخّر.

وقوله : (بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [٤١]. اجتمعت القراء على ضمّ النون من (نصب) وتخفيفها (٣). وذكروا أن أبا جعفر (٤) المدنىّ قرأ (بنصب وعذاب) ينصب النون والصاد. وكلاهما فى التفسير واحد.

__________________

(١) الآية ٣٦ سورة الحج وقراءة الجمهور : «صواف فإذا وجبت»

(٢) الآية ١٢٧ سورة البقرة

(٣) يريد تخفيف الصاد أي تسكينها.

(٤) فى الإتحاف أن هذه قراءة يعقوب والحسن. وأما قراءة أبى جعفر فضم النون والصاد معا.

٤٠٥

وذكروا أنه المرض وما أصابه من العناء فيه. والنّصب والنّصب بمنزلة الحزن والحزن ، والعدم والعدم ، والرّشد والرشد ، والصّلب والصّلب : إذا خفّف ضمّ أوله ولم يثقّل لأنهم جعلوهما على سمتين (١) : إذا فتحوا (٢) أوّله ثقّلوا ، وإذا ضمّوا أوله خفّفوا ، قال : وأنشدنى.

بعض العرب :

لئن بعثت أم الحميدين مائرا

لقد غنيت فى غير بؤس ولا جحد (٣)

والعرب تقول : جحد عيشهم جحدا إذا ضاق واشتدّ ، فلمّا قال : جحد وضمّ أوله خفّف. فابن على ما رأيت من هاتين اللغتين.

وقوله : (ضِغْثاً) [٤٤] والضّغث : ما جمعته من شىء ؛ مثل حزمة الرطبة (٤) ، وما قام على ساق واستطال ثم جمعته فهو ضغث.

وقوله : (وَاذْكُرْ عِبادَنا) [٤٥]. قرأت القراء (عبادنا) يريدون : إبراهيم وولده وقرأ (٥) ابن عباس : (واذكر عبدنا إبراهيم) وقال : إنما ذكر إبراهيم. ثم ذكرت ذريّته من بعده. ومثله : (قالوا (٦) نعبد إلهك وإله أبيك) على هذا المذهب فى قراءة ابن عباس. والعامّة (آبائِكَ) وكلّ صواب.

وقوله (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) يريد : أولى القوّة والبصر فى أمر الله. وهى فى قراءة عبد الله : (أولى الأيد) بغير ياء ، فقد يكون له وجهان. إن أراد : الأيدى وحذف الياء

__________________

(١) السمت : الطريق والمذهب.

(٢) فى الأصول : «وإذا فتحوا» والمناسب ما أثبت.

(٣) ورد هذا البيت فى اللسان عن الفراء فى اللسان (جحد) من غير عزو.

(٤) الرطبة : ما تأكله الدابة ما دام رطبا.

(٥) وهى قراءة ابن كثير.

(٦) الآية ١٣٣ سورة البقرة وقراءة الإفراد (أبيك) مروية عن الحسن كما فى الإتحاف.

٤٠٦

فهو صواب ؛ مثل : الجوار (١) والمناد (٢). وأشباه ذاك. وقد يكون فى قراءة عبد الله من القوّة من التأييد.

وقوله : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [٤٦] فردّ (ذِكْرَى الدَّارِ) وهى معرفة على (خالصة) وهى نكرة. وهى كقراءد مسروق (بِزِينَةٍ (٣) الْكَواكِب) ومثله / ١٦٤ ا قوله (هذا (٤) وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) فردّ جهنّم وهى معرفة على (لَشَرَّ مَآبٍ) وهى نكرة. وكذلك قوله : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ (٥) لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً) والرفع فى المعرفة كلّها جائز على الابتداء.

أنشدنى بعض العرب :

لعمرك ما نخلى بدار مضيعة

ولا ربّها إن غاب عنها بخائف

وإن لها جارين لن يغدرا بها

ربيب النّبىّ وابن خير الخلائف

فرفع على الابتداء.

وقد قرأ أهل الحجاز (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أضافوها. وهو وجه حسن. ومنه : (كَذلِكَ (٦) يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) ومن قال (قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) جعل القلب هو المتكبّر.

وقوله : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) [٤٨] قرأه أصحاب (٧) عبد الله بالتشديد. وقرأه العوامّ (اليسع) بالتخفيف. والأوّل أشبه بالصّواب وبأسماء الأنبياء من بنى إسرائيل. حدّثنا أبو العباس

__________________

(١) فى الآية ٣٢ سورة الشورى.

(٢) الآية ٤١ سورة ق.

(٣) الآية ٦ سورة الصافات.

(٤) الآيتان ٥٥ ، ٥٦ سورة ص.

(٥) الآيتان ٤٩ ، ٥٠ سورة ص.

(٦) الآية ٣٥ سورة غافر. وقراءة تنوين قلب قراءة أبى عمرو.

(٧) وهى قراءة حمزة والكسائي وسلف.

٤٠٧

قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدّثنى محمد بن عبد العزيز التيمىّ عن مغيرة عن إبراهيم أنه قرأ (والّليسع) بالتشديد. وأما قولهم (وَالْيَسَعَ) فإن العرب لا تدخل على يفعل إذا كان فى معنى فلان ألفا ولاما. يقولون : هذا يسع ، وهذا يعمر ، وهذا يزيد. فهكذا الفصيح من الكلام. وقد أنشدنى بعضهم :

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأحناء الخلافة كاهله

فلمّا ذكر الوليد فى أول الكلمة بالألف واللام أتبعه يزيد بالألف واللام وكلّ صواب.

وقوله (وَذَا الْكِفْلِ) يقال إنه سمّى ذا الكفل أن مائة من بنى إسرائيل انفلتوا من القتل فآواهم وكفلهم. ويقال : إنه كفل لله بشىء فوفى به. والكفل فى كلام العرب : الجدّ والحظّ فلو مدح بذلك كان وجها على غير المذهبين الأوّلين.

وقوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [٥٠] ترفع (الْأَبْوابُ) لأن المعنى : مفتّحة لهم أبوابها.

والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة فيقولون : مررت على رجل حسنة العين قبيح الأنف والمعنى : حسنة عينه قبيح أنفه. ومنه قوله (فَإِنَّ الْجَحِيمَ (١) هِيَ الْمَأْوى) فالمعنى ـ والله أعلم ـ : مأواه. ومثله قول الشاعر :

ما ولدتكم حيّة بنة مالك

سفاحا وما كانت أحاديث كاذب

ولكن نرى أقدامنا فى نعالكم

وآنفنا بين اللحى والحواجب

ومعناه : ونرى آنفنا بين لحاكم وحواجبكم فى الشبه. ولو قال : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) على أن تجعل المفتّحة فى اللفظ للجنات وفى المعنى للأبواب ، فيكون مثل قول الشاعر (٢).

وما قومى بثعلبة بن سعد

ولا بفزارة الشعر الرقابا

__________________

(١) الآية ٣٩ سورة النازعات.

(٢) هو الحارث بن ظالم المري ، كما فى كتاب سيبويه ١ / ١٠٣. وهو من قصيدة مفضلية ينتفى فيها من نسبه فى بغيض بن ريث بن غطفان ويعلن التحاقه بقريش وكان قد فر لحدث أحدثه وفى ا : «فما قومى» والشعر جمع أشعر وهو الكثير الشعر. والشعرى مؤنث أشعر.

٤٠٨

والشعرى رقابا. ويروى : الشّعر الرقابا.

وقال عديّ :

من ولىّ أو أخى ثقة

والبعيد الشاحط الدّارا (١)

وكذلك تجعل معنى الأبواب فى نصبها ، كأنك أردت : مفتّحة الأبواب ثم نوّنت فنصبت.

وقد ينشد بيت النابغة :

ونأخذ بعده بذناب دهر

أجبّ الظهر ليس له سنام (٢)

وأجبّ الظهر.

/ ١٦٤ ب وقوله : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) [٥٢] مرفوعة لأنّ (قاصِراتُ) نكرة وإن كانت مضافة إلى معرفة ؛ ألا ترى أن الألف واللام يحسنان فيها كقول الشاعر : (٣)

من القاصرات الطرف لو دبّ محول

من الذرّ فوق الإتب منها لأثّرا

(الإتب (٤) : المئزر) فإذا حسنت الألف واللام فى مثل هذا ثم ألقيتهما فالاسم نكرة. وربما شبّهت العرب لفظه بالمعرفة لما أضيف إلى الألف واللام ، فينصبون نعته إذا كان نكرة ؛ فيقولون : هذا حسن الوجه قائما وذاهبا. ولو وضعت مكان الذاهب والقائم نكرة فيها مدح أو ذمّ آثرت الإتباع ، فقلت : هذا حسن الوجه موسر ، لأنّ اليسارة مدح. ومثله قول الشاعر :

ومن يشوه يوم فإن وراءه

تباعة صيّاد الرّجال غشوم (٥)

__________________

(١) ا : «وأخى» فى مكان «أو أخى».

(٢) هذا من مقطوعة فى النعمان بن المنذر حين كان مريضا. وقبله.

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والشهر الحرام

وأبو قابوس كنية النعمان. وذناب دهر : ذيله. وفى ا بعد (دهر) : «عيش» وهو إشارة إلى رواية أخرى و «أجب الظهر» مقطوعه. وهذا على تمثيل الدهر أو العيش الضيق ببعير لا سنام له ولا خير فيه. وانظر الخزانة ٤ / ٩٥.

(٣) هو امرؤ القيس. والمحول : الذي أتى عليه حول أي عام.

(٤) سقط ما بين القوسين فى ا.

(٥) يريد أن الشيب أخذه ونال منه. ويريد بصياد الرجال الموت.

٤٠٩

قال الفراء : (ومن يشوه) أي يأخذ شواه وأطايبه. فخفض الغشوم لأنه مدح ، ولو نصب لأنّ لفظه نكرة ولفظ الذي هو نعت له معرفة كان صوابا ؛ كما قالوا : هذا مثلك قائما ، ومثلك جميلا.

وقوله عزوجل : (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) [٥٧] رفعت الحميم والغسّاق بهذا مقدّما ومؤخرا.

والمعنى هذا حميم وغسّاق فليذوقوه. وإن شئت جعلته مستأنفا ، وجعلت الكلام قبله مكتفيا ؛ كأنك قلت : هذا فليذوقوه ، ثم قلت : منه حميم ومنه غسّاق كقول الشاعر :

حتّى إذا ما أضاء الصّبح فى غلس

وغودر البقل ملوىّ ومحصود

ويكون (هذا) فى موضع رفع ، وموضع نصب. فمن نصب أضمر قبلها ناصبا كقول الشاعر (١) :

زيادتنا نعمان لا تحرمنّها

تق الله فينا والكتاب الذي تتلو

ومن رفع رفع بالهاء التي فى قوله : (فَلْيَذُوقُوهُ) كما تقول فى الكلام : الليل فبادروه والليل.

والغسّاق تشدّد سينه وتخفّف (٢) شدّدها يحيى بن وثّاب وعامّة أصحاب عبد الله ، وخفّفها الناس بعد. وذكروا أنّ الغسّاق بارد يحرق كإحراق الحميم (٣). ويقال : إنه ما يغسق ويسيل من صديدهم وجلودهم.

وقوله : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [٥٨] قرأ الناس (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ) إلّا مجاهدا (٤) فإنه قرأ

__________________

(١) هو عبد الله بن همام السلولي. وانظر اللسان (وفى).

(٢) وهى قراءة حفص وحمزة والكسائي وخلف.

(٣) هو الحار.

(٤) وهى قراءة أبى عمرو ويعقوب.

٤١٠

(وأخر) كأنه ظنّ أن الأزواج لا تكون من نعت واحد (١). وإذا كان الاسم فعلا جاز أن ينعت بالاثنين والكثير ؛ كقولك فى الكلام : عذاب فلان ضروب شتّى وضربان مختلفان. فهذا بيّن. وإن شئت جعلت الأزواج نعتا للحميم وللغساق ولآخر ، فهنّ ثلاثة ، وأن تجعله صفة لواحد أشبه ، والذي قال مجاهد جائز ، ولكنى لا أستحبّه لاتّباع العوامّ وبيانه فى العربيّة.

وقوله : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) [٥٩] هى الأمّة تدخل بعد الأمّة النار.

ثم قال : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) الكلام متّصل ، كأنه قول واحد ، وإنما قوله : لا مرحبا بهم) من قول (٢) أهل النار ، وهو كقوله : (كُلَّما دَخَلَتْ (٣) أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) وهو فى اتّصاله كقوله : (يُرِيدُ (٤) أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) فاتصل قول فرعون بقول أصحابه.

وقوله : (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) [٦١] معناه : من شرع لنا وسنّه (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) / ١٦٥ ب (فِي النَّارِ).

وقوله : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) [٦٣] قال زهير عن أبان عن مجاهد ـ قال الفراء ولم أسمعه من زهير ـ (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) ولم يكونوا كذلك. فقرأ أصحاب عبد الله بغير استفهام ، واستفهم الحسن وعاصم وأهل المدينة ، وهو من الاستفهام الذي معناه التعجّب (٥) والتوبيخ فهو يجوز بالاستفهام وبطرحه.

وقوله : (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [٧٠] إن شئت جعلت (أَنَّما) فى موضع رفع ،

__________________

(١) ا : «الواحد».

(٢) أي وقوله : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) من كلام الملائكة. وهذا أحد أوجه الآية.

(٣) الآية ٣٨ سورة الأعراف.

(٤) الآية ١١٠ سورة الأعراف.

(٥) ا : «أو».

٤١١

كأنك قلت : ما يوحى إلى إلّا الإنذار. وإن شئت جعلت المعنى : ما يوحى إلىّ إلّا لأنى نذير ونبىّ ؛ فإذا ألقيت اللام كان موضع (أنّما) نصبا. ويكون فى هذا الموضع : ما يوحى إلىّ إلّا أنك نذير مبين لأن المعنى حكاية ، كما تقول فى الكلام : أخبرونى أنى مسىء وأخبرونى أنك مسىء ، وهو كقوله :

رجلان من ضبّة أخبرانا

أنّا رأينا رجلا عريانا

والمعنى : أخبرانا أنهما رأيا ، فجاز ذلك لأن أصله الحكاية.

وقوله : بيدىّ أستكبرت اجتمع القراء على التثنية ولو قرأ قارئ (بيدي) يريد يدا على واحدة كان صدابا ؛ كقول الشاعر :

أيها المبتغى فناء قريش

بيد الله عمرها والفناء

والواحد من هذا يكفى من الاثنين ، وكذلك العينان والرجلان واليدان تكتفى إحداهما من الأخرى ؛ لأن معناهما واحد.

وقوله : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) [٨٤] قرأ الحسن وأهل الحجاز بالنصب قيهما. وقرأ الأعمش وعاصم وأكبر منهم (١) : ابن عباس ومجاهد بالرفع فى الأولى والنصب فى الثانية.

حدّثنا أبو العباس قال حدّثنا محمد قال حدثنا الفراء قال : حدّثنى بهرام ـ وكان شيخا يقرىء فى مسجد المطمورة ومسجد الشعبيين ـ عن أبان بن تغلب عن مجاهد أنه قرأ (فالحقّ منى والحقّ أقول) : وأقول الحقّ. وهو وجه : ويكون رفعه على إضمار : فهو الحقّ.

وذكر عن ابن عبّاس أنه قال : فأنا الحقّ. وأقول الحقّ. وقد يكون رفعه بتأويل جوابه ؛ لأن العرب تقول : الحقّ لأقومنّ ، ويقولون : عزمة صادقة لآتينّك ؛ لأن فيه تأويل : عزمة صادقة أن آتيك.

__________________

(١) كذا : والأولى «منهما».

٤١٢

ويبيّن ذلك قوله : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ (١) مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) ألا ترى أنه لا بدّ لقوله (بَدا لَهُمْ) من مرفوع مضمر فهو فى المعنى يكون رفعا ونصبا. والعرب تنشد بيت امرئ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطّعوا رأسى لديك وأوصالى

والنصب فى يمين أكثر. والرفع على ما أنبأتك به من ضمير (أن) وعلى قولك علىّ يمين.

وأنشدونا :

فإنّ علىّ الله إن يحملوننى

على خطّة إلا انطلقت أسيرها

ويروى لا يحملوننى.

فلو ألقيت إن لقلت علىّ الله لأضربنك أي علىّ هذه اليمين. ويكون علىّ الله أن أضربك فترفع (الله) بالجواب. ورفعه بعلى أحبّ إلىّ. ومن نصب (الحقّ والحقّ) فعلى معنى قولك حقّا لآتينّك ، والألف واللام وطرحهما سواء. وهو بمنزلة قولك حمدا لله والحمد لله. ولو خفض الحقّ الأوّل خافض يجعله الله تعالى يعنى فى (٢) الإعراب فيقسم به كان صوابا والعرب تلقى الواو من القسم ويخفضونه سمعناهم يقولون : الله لتفعلنّ فيقول / ١٦٥ ب المجيب : الله لأفعلنّ ؛ لأن المعنى مستعمل والمستعمل يجوز فيه الحذف ، كما يقول القائل للرجل : كيف أصبحت؟ فيقول : خير يريد بخير ، فلمّا كثرت فى الكلام حذفت.

وقوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) [٨٨] نبأ القرآن أنه حقّ ، ونبأ محمّد عليه‌السلام أنه نبىّ.

وقوله : (بَعْدَ حِينٍ) يقول : بعد الموت وقبله : لمّا ظهر الأمر غلموه ، ومن مات علمه يقينا.

__________________

(١) الآية ٣٥ سورة يوسف.

(٢) سقط فى ا.

٤١٣

سورة الزمر

ومن سورة الزمر : بسم الله الرحمن الرحيم

قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) [١] ترفع (تَنْزِيلُ) بإضمار : هذا تنزيل ، كما قال : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) (١) ومعناه : هذه سورة أنزلناها وإن شئت جعلت رفعه بمن. والمعنى : من الله تنزيل الكتاب ولو نصبته وأنت تأمر باتباعه ولزومه كان صوابا ؛ كما قال الله (كِتابَ (٢) اللهِ عَلَيْكُمْ) أي الزموا كتاب الله.

وقوله : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [٢] منصوب بوقوع الإخلاص عليه. وكذلك ما أشبهه فى القرآن مثل (مُخْلِصِينَ (٣) لَهُ الدِّينَ) ينصب كما نصب فى هذا. ولو (٤) رفعت (الدين) بله ، وجعلت الإخلاص مكتفيا غير واقع ؛ كأنك قلت : اعبد الله مطيعا فله الدين.

وقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [٣] (الذين) فى موضع رفع بقول مضمر. والمعنى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يقولون لأوليائهم وهى الأصنام : ما نعبدكم إلّا لتقرّبونا إلى الله.

وكذلك هى فى (حرف (٥)) أبىّ وفى حرف عبد الله (قالوا ما نعبدهم) والحكاية إذا كانت بالقول مضمرا أو ظاهرا جاز أن يجعل الغائب كالمخاطب ، وأن تتركه كالغائب ، كقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ (٦) كَفَرُوا سيغلبون) و (سَتُغْلَبُونَ) بالياء والتاء على ما وصفت لك.

وقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [٦] يقول القائل : كيف قال : (خلقكم) لبنى آدم. ثم قال : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) والزوج مخلوق قبل الولد؟ ففى ذلك وجهان من العربيّة :

__________________

(١) أول سورة النور.

(٢) الآية ٢٤ سورة النساء.

(٣) الآية ١٤ سورة غافر. وورد فى مواطن أخرى.

(٤) جواب لو محذوف أي لكان صوابا ،

(٥) ا : ب «قراءة».

(٦) الآية ١٢ سورة آل عمران.

٤١٤

أحدهما : أن العرب إذا أخبرت عن رجل بفعلين ردّوا الآخر بثمّ إذا كان هو الآخر فى المعنى. وربّما جعلوا (ثمّ) فيما معناه التقديم ويجعلون (ثم) من خبر المتكلّم. من ذلك أن تقول : قد بلغني ما صنعت يومك هذا ، ثمّ ما صنعت أمس أعجب. فهذا نسق من خبر المتكلّم. وتقول : قد أعطينك اليوم شيئا ، ثمّ الذي أعطيتك أمس أكثر ، فهذا من ذلك.

والوجه الآخر : أن تجعل خلقه الزوج مردودا على (واحدة) كأنه قال : خلقكم من نفس وحدها ، ثمّ جعل منها زوجها. ففى (واحدة) معنى خلقها واحدة.

قال : أنشدنى بعض العرب :

أعددته للخصم ذى التعدّى

كوّحته منك بدون الجهد (١)

ومعناه الذي إذا تعدى كوّحته ، وكوّحته : غلبته وقوله : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [٧] يقول : يرضى الشكر لكم. وهذا مثل قوله : (فَاخْشَوْهُمْ (٢) فَزادَهُمْ إِيماناً) أي فزادهم قول الناس ، فإن قال قائل : كيف قال (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) وقد كفروا؟ قلت : إنه لا يرضى أن يكفرو. فمعنى الكفر : أن يكفروا. وليس معناه الكفر بعينه. ومثله ممّا يبيّنه لك أنك تقول : لست أحبّ الإساءة ، وإنى لأحب أن يسىء فلان فيعذّب (٣) فهذا (٤) ممّا يبيّن لك معناه.

وقوله : (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) [٨].

يقول : ترك الذي كان يدعوه إذا (٥) مسّه ، الضر يريد الله تعالى. فإن قلت : فهلّا قيل : نسى من

__________________

(١) ورد فى اللسان (كوح) عن أبى عمرو.

(٢) الآية ١٧٣ سورة آل عمران.

(٣) ش : «ويعذب».

(٤) ش : ب «وهذا».

(٥) ا : «إذ».

٤١٥

كان يدعو؟ قلت : إن (ما) قد تكون فى موضع (من) قال الله (قُلْ يا أَيُّهَا (١) الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) يعنى الله. وقال (فَانْكِحُوا (٢) ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فهذا وجه. وبه جاء التفسير ، ومثله (أَنْ (٣) تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) وقد تكون (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) يراد (٤) : نسى دعاءه إلى الله من قبل. فإن شئت جعلت الهاء التي فى (إليه) لما (٥).

وإن شئت جعلتها (٦) لله وكلّ مستقيم.

وقوله (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) ١٦٦ ا فهذا تهدّد وليس بأمر محض. وكذلك قوله : (فَتَمَتَّعُوا) (٧) (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وما أشبهه.

وقوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) [٩] قرأها يحيى بن وثّاب بالتخفيف. وذكر ذلك عن نافع وحمزة وفسّروها يريد : يا من هو قانت. وهو وجه حسن ، العرب تدعو بألف ، كما يدعون بيا.

فيقولون : يا زيد أقبل ، وأزيد أقبل. قال الشاعر :

أبنى لبينى لستم بيد

إلّا يد ليست لها عضد

وقال الآخر :

أضمر بن ضمرة ماذا ذكر

ت من صرمة أخذت بالمرار (٨)

وهو كثير فى الشعر فيكون المعنى مردودا بالدعاء كالمنسوق (٩) ، لأنه ذكر الناسي الكافر ، ثم

__________________

(١) الآيات ١ ـ ٣ سورة الكافرين.

(٢) الآية ٣ سورة النساء.

(٣) الآية ٧٥ سورة ص.

(٤) ش : «يريد به».

(٥) أي على الوجه الأول.

(٦) أي على الوجه الثاني.

(٧) الآية ٥٥ سورة النحل ، والآية ٣٤ سورة الروم.

(٨) الصرمة : القطعة من الإبل. والمرار موضع. وفى ا : «بالمراد».

(٩) ا : «على المنسوق».

٤١٦

قصّ قصّة الصالح بالنداء ، كما تقول فى الكلام : فلان لا يصلّى ولا يصوم فيامن يصلّى ويصوم أبشر فهذا هو معناه. والله أعلم.

وقد تكون الألف استفهاما بتأويل أم لأن العرب قد تضع (أم) فى موضع الألف إذا سبقها كلام ، قد وصفت من ذلك ما يكتفى به. فيكون المعنى أمن هو قانت (خفيف) كالأوّل الذي ذكر بالنسيان والكفر.

ومن قرأها بالتشديد فإنه يريد معنى الألف. وهو الوجه : أن تجعل أم إذا كانت مردودة على معنى قد سبق قلتها بأم. وقد قرأ بها الحسن وعاصم وأبو جعفر المدنىّ. يريدون : أم من. والعرب تقول : كان هذا حين قلت : أأخوك أم الذئب. تقال هذه الكلمة بعد المغرب إذا رأيت الشخص فلم تدر ما هو. ومنه قولك : أفتلك أم وحشيّة ، وقولك أذلك أم جأب (١) يطارد أتنا (٢).

فإن قال قائل فأين جواب (أَمَّنْ هُوَ) فقد تبيّن فى الكلام أنه مضمر ، قد جرى معناه فى أوّل الكلمة ، إذ ذكر الضالّ ثم ذكر المهتدى بالاستفهام فهو دليل على أنه يريد : أهذا مثل هذا أو أهذا أفضل أم هذا. ومن لم يعرف مذاهب العرب ويتبيّن له المعنى فى هذا وشبهه لم يكتف ولم يشتف ؛ ألا ترى قول الشاعر :

فأقسم لو شىء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أنّ معناه : لو أتانا رسول غيرك لدفعناه ، فعلم المعنى ولم يظهر. وجرى قوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٣) على مثل هذا.

وقوله (آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) نصب على قوله : يقنت ساجدا مرّة وقائما مرّة ، أي مطيع فى الحالين. ولو رفع كما رفع القانت كان صوابا. والقنوت : الطاعة.

__________________

(١) الجأب : الحمار الغليظ من حمار الوحش والأتن جمع أتان وهى الحمارة.

(٢) الجأب : الحمار الغليظ من حمار الوحش والأتن جمع أتان وهى الحمارة.

(٣) فى الآية ٢٢ من هذه السورة.

٤١٧

وقوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [١٩].

يقال : كيف اجتمع استفهامان فى معنى واحد؟ يقال : هذا ممّا يراد به استفهام واحد ؛ فيسبق الاستفهام إلى غير موضعه يردّ الاستفهام إلى موضعه الذي هو له. وإنّما المعنى ـ والله أعلم ـ : أفأنت تنقذ من حقّت عليه كلمة العذاب. ومثله من غير الاستفهام قوله : (أَيَعِدُكُمْ (١) أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) فردّ (أنكم) مرّتين ، والمعنى ـ والله أعلم ـ : أيعدكم أنّكم مخرجون إذا متمّ وكنتم ترابا. ومثله قوله : (لا تَحْسَبَنَ (٢) الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) فردّ (تَحْسَبَنَّ) مرّتين ؛ ومعناهما ـ والله أعلم ـ لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا بمفازة من العذاب. ومثله كثير فى التنزيل وغيره من كلام العرب.

وقوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) [٢٢] و (عن ذكر الله) كلّ صواب. تقول : اتّخمت من طعام أكلته وعن طعام أكلته ، سواء فى المعنى. وكأنّ قوله : قست من ذكره أنهم جعلوه كذبا فأقسى قلوبهم : زادها قسوة. وكأن من قال : قست عنه يريد : أعرضت عنه.

وقوله : (كِتاباً مُتَشابِهاً) [٢٣] أي غير مختلف لا ينقض بعضه بعضا.

وقوله (مَثانِيَ) أي مكرّرا يكرّر فيه ذكر الثواب والعقاب.

وقوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) : تقشعرّ خوفا من آية العذاب إذا نزلت (ثُمَّ تَلِينُ) عند نزول آية رحمة.

وقوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [٢٤].

يقال : إن الكافر تنطلق به الخزنة إلى النار مغلولا ، فيقذف به فى النار ، فلا يتّقيها إلّا بوجهه وجوابه من المضمر (٣) الذي ذكرت لك.

__________________

(١) الآية ٣٥ سورة المؤمنين.

(٢) الآية ١٨٨ سورة آل عمران.

(٣) أي أهذا الذي يتقى بوجهه سوء العذاب خير أم من ينعم فى الجنان.

٤١٨

وقوله : (فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) [٢٩] مختلفون. هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن. فجعل الذي فيه شركاء الذي يعبد الآلهة المختلفة.

وقوله (رجلا سالما لرجل) هو المؤمن الموحّد. وقد قرأ العوامّ (سَلَماً) وسلم وسالم متقاربان فى المعنى ، وكأنّ (سَلَماً) مصدر لقولك : سلم له سلما والعرب تقول : ربح ربحا وربحا ، وسلم سلما وسلما وسلامة. فسالم من صفة الرّجل ، وسلم مصدر لذلك. والله أعلم.

حدّثنا أبو العبّاس قال : حدّثنا محمد ، قال : حدثنا الفراء قال : حدّثنى أبو إسحاق التيمىّ ـ وليس بصاحب هشيم ـ عن أبى روق عن ابراهيم التيمىّ عن ابن عباس أنه قرأ (ورجلا سالما) قال الفرّاء : وحدثنى ابن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد أنه قرأ (سالما).

وقوله : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) [٢٩] ولم يقل مثلين ، لأنهما جميعا ضربا مثلا واحدا ، فجرى المثل فيهما بالتوحيد. ومثله (وَجَعَلْنَا (١) ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) ولم يقل : آيتين ؛ لأن شأنهما واحد. ولو قيل مثلين أو آيتين كان صوابا ؛ لأنهما اثنان فى اللفظ.

وقوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [٣٣] (الذي) غير موقّت ، فكأنه فى مذهب جماع فى المعنى. وفى قراءة عبد الله (والذين جاءوا بالصّدق وصدّقوا به) فهذا دليل أنّ (الذي) فى تأويل جمع.

وقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ) عباده [٣٦] قرأها يحيى (٢) بن وثّاب وأبو جعفر المدني (أليس الله بكاف عباده) على الجمع. وقرأها الناس (عَبْدَهُ) وذلك أن قريشا قالت للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لعيبك إيّاها! فأنزل الله (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكيف يخوّفونك بمن دونه. والذين قالوا (عباده) قالوا :

__________________

(١) الآية ٥٠ سورة المؤمنين.

(٢) وهى أيضا قراءة حمزة والكسائي وخلف.

٤١٩

قد همّت أمم الأنبياء بهم ، ووعدوهم مثل هذا ، فقالوا الشعيب (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ.) فقال الله (ا ليس الله بكاف عباده) أي محمدا عليه‌السلام والأنبياء قبله ، وكلّ صواب.

وقوله : (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) [٣٨] وممسكات رحمته [٣٨] نوّن فيهما عاصم والحسن وشيبة المدنىّ. وأضاف (١) يحيى بن وثّاب. وكلّ صواب. ومثله (إِنَّ اللهَ (٢) بالِغُ أَمْرِهِ) و (بالِغُ أَمْرِهِ) و (مُوهِنُ (٣) كَيْدِ الْكافِرِينَ) و (مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) وللإضافة معنى مضىّ من الفعل. فإذا رأيت الفعل قد مضى فى المعنى فآثر الإضافة فيه ، تقول أخوك أخذ حقه ، فتقول هاهنا : أخوك آخذ حقّه. ويقبح أن تقول : آخذ حقّه. فإذا كان مستقبلا لم يقع بعد قلت : أخوك آخذ حقّه عن قليل ، وآخذ حقّه عن قليل : ألا ترى أنك لا تقول : هذا قاتل حمزة مبغّضا ، لأن معناه ماض فقبح التنوين ؛ لأنه اسم.

وقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [٤٢] والمعنى فيه يتوفّى الأنفس حين موتها ، ويتوفّى التي لم تمت فى منامها عند انقضاء أجلها. ويقال : إن توفّيها نومها. وهو أحبّ الوجهين إلىّ لقوله (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ).

ولقوله : (وَهُوَ الَّذِي (٤) يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) وتقرأ (٥) (قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) (وقضى عليها الموت).

وقوله : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) [٤٩] خرجت (هى) بالتأنيث لتأنيث الفتنة. ولو قيل : بل هو فتنة لكان

__________________

(١) وهى قراءة أبى عمرو ويعقوب.

(٢) الآية ٣ سورة الطلاق. قرأ حفص بغير تنوين ، والباقون بالتنوين.

(٣) الآية ١٨ سورة الأنفال قرأ حفص بالخفض من غير تنوين.

(٤) الآية ٦٠ سورة الأنعام.

(٥) قرأ بالبناء للمفعول حمزة والكسائي وخلف. وقرأ الباقون بالبناء للفاعل.

٤٢٠