معاني القرآن - ج ٢

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٥

فلو كان على كلمة واحدة كان خطأ ؛ لأن المتعيّب من صلة القائل فأخّره ونوى كلامين فجاز ذلك.

وقال الآخر :

نبّئتهم عذّبوا بالنار جارتهم

وهل يعذّب إلّا الله بالنار (١)

ورأيت الكسائىّ يجعل (إلّا) مع الجحد والاستفهام بمنزلة غير فينصب ما أشبه هذا على كلمة واحدة ، واحتجّ بقول الشاعر (٢) :

فلم يدر إلّا الله ما هيّجت لنا

أهلّة آناء الديار وشامها

ولا حجّة له فى ذلك لأنّ (ما) فى موضع أىّ (٣) فلها فعل مضمر على كلامين. ولكنه حسن قوله ، يقول الله عزوجل (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٤) فقال : لا أجد المعنى إلّا لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا ، واحتجّ بقول الشاعر (٥) :

أبنى لبينى لستم بيد

إلّا يد ليست لها عضد

فقال لو كان المعنى إلّا كان الكلام فاسدا فى هذا ؛ لأنى لا أقدر فى هذا البيت على إعادة خافض بضمير وقد ذهب هاهنا مذهبا.

وقوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) [٤٧] جاء التفسير بأنه التنقّص. والعرب تقول : تحوّفته بالحاء : تنقّصته من حافاته. فهذا الذي سمعت. وقد أتى التفسير بالخاء و (هو (٦) معنى). ومثله ممّا قرىء

__________________

(١) «جارتهم» كذا فى ا ، ش. والمعروف فى الرواية : «جارهم».

(٢) هو ذو الرمة. والأنآء جمع نؤى ، وهو ما يحفر حولى البيت يمنع المطر ، والأهلة جمع هلال ، وهو هنا ما استقوس واعوج من الأنآء ، والشام جمع شامة وهى العلامة. وانظر الديوان ٦٣٦.

(٣) يريد أن (ما) استفهامية كأى الاستفهامية وليست موصولة فهى ليست معمولة للفعل السابق لأن الاستفهام له الصدر.

(٤) الآية ٢٢ سورة الأنبياء.

(٥) هو أوس بن حجر. وانظر الكتاب ١ / ٣٦٢ ، وشرح المفصل ٢ / ٩٠ ، واللسان فى (عبد).

(٦) فى الطبري «هما بمعنى».

١٠١

بوجهين قوله (إِنَ (١) لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) و (سبخا) (٢) بالحاء والخاء. والسّبخ : السعة. وسمعت العرب تقول : سبّخى صوفك وهو شبيه بالندف ، والسّبح نحو من ذلك ، وكلّ صواب بحمد الله.

وقوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) [٤٨] الظّلّ يرجع على كلّ شىء من جوانبه ، فذلك تفيّؤه. ثم فسّر فقال : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) فوحّد اليمين وجمع الشمائل. وكل ذلك جائز فى العربيّة. قال الشاعر (٣) :

بفي الشامتين الصخر إن كان هدّنى

رزيّة شبلى مخدر فى الضراغم

ولم يقل : بأفواه الشامتين. وقال الآخر (٤) :

الواردون وثيم فى ذراسبأ

قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس

وقال الآخر / ٩٥ :

فباست بنى عبس وأستاه طيّئ

وباست بنى دودان حاشا بنى نصر

فجمع ووحّد. وقال الآخر :

كلوا فى نصف بطنكم تعيشوا

فإنّ زمانكم زمن خميص (٥)

فجاء التوحيد لأن أكثر الكلام يواجه به الواحد ، فيقال : خذ عن يمينك وعن شمالك لأن المكلّم واحد والمتكلّم كذلك ، فكأنه إذا وحّد ذهب إلى واحد من القوم ، وإذا جمع فهو الذي لا مسألة فيه. وكذلك قوله :

__________________

(١) الآية ٧ سورة المزمل.

(٢) هذه قراءة ابن يعمر وعكرمة وابن أبى عبلة كما فى البحر المحيط ٨ / ٣٦٣. وهى قراءة شاذة.

(٣) هو الفرزدق يرثى ابنين له. والمخدر : الأسد ، والضراغم جمع ضرغم وهو الأسد أيضا. وانظر الديوان ٧٦٤.

(٤) هو جرير فى هجاء عمر بن لجأ التيمي. والرواية فى الديوان طبعة بيروت ٢٥٢ : «تدعوك ثيم وثيم ... أراد بعض جلد الجواميس أنهم أسرى وفى أعناقهم أطواق من جلد الجواميس.

(٥) ورد فى أمالى ابن الشجري ١ / ٣١١ و ٢ / ٣٨ و ٣٤٣. وفيه : «تعفوا» فى مكان «تعيشوا».

١٠٢

بنى عقيل ماذه الخنافق

المال هدى والنساء طالق

وجبل يأوى إليه السارق (١)

فقال : طالق لأن أكثر ما يجرى الاستحلاف بين الخصم والخصم ، فجرى فى الجمع على كثرة المجرى فى الأصل. ومثله (بفي الشامتين) وأشباهه.

وقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) [٤٩] فقال : (مِنْ دابَّةٍ) لأن (ما) وإن كانت قد تكون على مذهب (الذي) فإنها غير مؤقّتة ، وإذا أبهمت غير موقّتة أشبهت الجزاء ، والجزاء تدخل (من) فيما جاء من اسم بعده من النكرة. فيقال : من ضربه من رجل فاضربوه. ولا تسقط من فى هذا الموضع. وهو كثير فى كتاب الله عزوجل. قال الله تبارك وتعالى (ما أَصابَكَ (٢) مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) وقال (وَمَنْ (٣) يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وقال (٤) (أَوَلَمْ (٥) يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ولم يقل فى شىء منه بطرح (من) كراهية أن تشبه أن تكون حالا لمن وما ، فجعلوه بمن ليدلّ على أنه تفسير لما ومن لأنهما غير مؤقّتتين ، فكان دخول (من) فيما بعدهما تفسيرا لمعناهما ، وكان دخول (من) أدلّ على ما لم يوقّت من من وما ، فلذلك لم تلقيا (٦). ومثله قول الشاعر :

حاز لك الله ما آتاك من حسن

وحيثما يقض أمرا صالحا تكن

وقال آخر.

عمرا حييت ومن يشناك من أحد

يلق الهوان ويلق الذلّ والغيرا (٧)

__________________

(١) الخنافق جمع خنفقيق وهى الداهية. وانظر الخصائص ٢ / ٦٢.

(٢) الآية ٧٩ سورة النساء.

(٣) الآية ١٢٤ سورة النساء.

(٤) فى ا ، ش ، ب : «قوله» والمناسب ما أثبت وهو متصل بما قبله.

(٥) الآية ٤٨ سورة النحل.

(٦) فى الطبري : «تلغيا».

(٧) غير الدهر أحداثه وفى ب : «العبرا» ويظهر أنه تحريف.

١٠٣

فدلّ مجىء أحدها هنا على أنه لم يرد أن يكون ما جاء من النكرات حالا للأسماء التي قبلها ، ودلّ على أنه مترجم (١) عن (٢) معنى من وما. وممّا يدلّ أيضا قول الله عزوجل (وَما أَنْفَقْتُمْ (٣) مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) لأن الشيء لا يكون حالا ، ولكنه اسم مترجم. وإنما ذكرت هذا لأن العرب تقول : لله درّه من رجل ، ثم يلقون (من) فيقولون لله درّه رجلا. فالرجل مترجم (لما (٤) قبله) وليس بحال ، إنّما الحال التي تنتقل ؛ مثل القيام والقعود ، ولم ترد لله درّه فى حال رجوليّته فقط ، ولو أردت ذلك لم تمدحه كلّ المدح ؛ لأنك إذا قلت : لله درّك قائما ، فإنما تمدحه فى القيام وحده.

فإن قلت : فكيف جاز سقوط من فى هذا الموضع؟ قلت من قبل أن الذي قبله مؤقت فلم أبل أن يخرج بطرح من كالحال ، وكان فى الجزاء غير موقت فكرهوا أن تفسّر حال عن اسم غير موقّت فألزموها من. فإن قلت : ٩٥ ب قد قالت العرب : ما أتانى من أحد وما أتانى أحد فاستجازوا إلقاء من. قلت : جاز ذلك إذ لم يكن قبل أحد وما أتى مثله شىء يكون الأحد له حالا فلذلك قالوا : ما جاءنى من رجل وما جاءنى رجل.

وقوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) [٥٢] معناه : دائما. يقال : وصب يصب : دام. ويقال : خالصا.

وقوله : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [٥٣] (ما) فى معنى جزاء ولها فعل مضمر ، كأنك قلت : ما يكن بكم من نعمة فمن الله ؛ لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم ، إن ظهر فهو جزم وإن لم يظهر فهو مضمر ؛ كما قال الشاعر :

__________________

(١) ضبط فى ا بفتح الجيم والظاهر كسرها.

(٢) ا : «على».

(٣) الآية ٣٩ سورة سبأ.

(٤) سقط فى ا.

١٠٤

إن العقل فى أموالنا لا نضق به

ذراعا وإن صبرا فنعرف للصبر (١)

أراد : إن يكن فأضمرها. ولو جعلت (ما بِكُمْ) فى معنى (الذي) جاز وجعلت صلته (بكم) و (ما) حينئذ فى موضع رفع بقوله (فَمِنَ اللهِ) وأدخل الفاء كما قال تبارك وتعالى (قُلْ إِنَ (٢) الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) وكلّ اسم وصل ، مثل من وما والذي فقد يجوز (٣) دخول الفاء فى خبره ؛ لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء. ولا يجوز أخوك فهو قائم ؛ لأنه اسم غير موصول وكذلك مالك لى. فإن قلت : مالك جاز أن تقول : فهو لى. وإن ألقيت الفاء فصواب. وما ورد عليك فقسه على هذا. وكذلك النكرة الموصولة. تقول : رجل يقول الحقّ فهو أحبّ إلىّ من قائل الباطل. وإلقاء الفاء أجود فى كلّه من دخولها.

والجؤار (٤) : الصوت الشديد. والثور يقال له : قد جأر يجأر جؤارا إذا ارتفع صوته من جوع أو غيره بالجيم. وكذلك (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) وقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) [٥٧] نصب (٥) لأنها مصدر ، وفيها معنى من التعوّذ والتنزيه لله عزوجل. فكأنها بمنزلة قوله (مَعاذَ (٦) اللهِ) وبمنزلة (غُفْرانَكَ (٧) رَبَّنا).

وقوله : (لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (ما) فى موضع رفع ولو كانت نصبا على : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون لكان ذلك صوابا. وإنما اخترت الرفع لأن مثل ذا من الكلام يجعل مكان لهم لأنفسهم ؛

__________________

(١) ورد البيت فى أمالى ابن الشجري ٢ / ٢٣٦ ، وقال : «أراد» إن يكن العقل أي إن تكن الدية ، وقوله :

(وإن صبرا) أي وإن نصبر صبرا بمعنى نحبس حبسا» وقوله : «نحبس» بالبناء للمفعول ، وكانه يريد الحبس للقصاص ، وقوله : فنعرف للصبر أي نخضع له ونقر.

(٢) الآية ٨ سورة الجمعة.

(٣) ش : «يجاز».

(٤) أي فى قوله تعالى فى الآية (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ).

(٥) الحديث عن (سبحانه).

(٦) فى الآيتين ٢٣ ، ٧٩ سورة يوسف.

(٧) فى الآية ٢٨٥ سورة البقرة.

١٠٥

ألا ترى أنك تقول : قد جعلت لنفسك كذا وكذا ، ولا تقول : قد جعلت لك. وكلّ فعل أو خافض ذكرته من مكنىّ عائد عليه مكنيّا فاجعل مخفوضه الثاني بالنفس فنقول أنت لنفسك لا لغيرك ، ثم تقول فى المنصوب أنت قتلت نفسك وفى المرفوع أهلكتك نفسك ولا تقول أهلكتك. وإنما أراد بإدخال النفس تفرقة ما بين نفس المتكلّم وغيره. فإذا كان الفعل واقعا من مكنىّ على مكنىّ سواه لم تدخل النفس. تقول غلامك أهلك مالك ثم تكنى عن الغلام والمال فتقول : هو أهلكه ، ولا تقول : هو أهلك نفسه وأنت تريد المال ، وقد تقوله العرب فى ظننت وأخواتها من رأيت وعلمت وحسبت فيقولون : أظنّنى قائما ، ووجدتني صالحا ؛ لنقصانهما وحاجتهما إلى خبر سوى الاسم. وربما اضطرّ الشاعر فقال : عدمتنى وفقدتنى فهو جائز ، وإن كان قليلا ؛ قال الشاعر ـ وهو جران العود ـ :

لقد كان بي عن ضرّتين عدمتنى

وعمّا ألاقي منهما متزحزح

هى الغول والسعلاة حلقى منهما

مخدّش ما فوق التراقى مكدّح

وقوله : (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) [٥٨] ولو كان (ظلّ وجهه مسودّ) لكان صوابا تجعل الظلول للرجل ويكون (١) الوجه ومسودّ فى موضع نصب كما قال (وَيَوْمَ (٢) الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) والظلول إذا قلت [٩٦ ا](مُسْوَدًّا) للوجه.

وقوله : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) [٥٩] الهون فى لغة قريش : الهوان وبعض بنى تميم يجعل الهون مصدرا للشىء الهيّن. قال الكسائىّ : سمعت العرب تقول : إن كنت لقليل هون المئونة مذ اليوم. وقال : سمعت

__________________

(١) فى ش ، ر «قد يكون».

(٢) الآية ٦٠ سورة الزمر.

١٠٦

الهوان فى مثل هذا المعنى من بنى (١) إنسان قال قال (٢) لبعير له ما به بأس غير هوانه ، يقول : إنه هيّن خفيف الثمن. فإذا قالت العرب : أقبل فلان يمشى على هونه لم يقولوه إلّا بفتح الهاء ، كقوله (يَمْشُونَ (٣) عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) وهى السكينة والوقار. حدثنا محمّد قال حدثنا الفراء قال حدثنى شريك عن جابر عن عكرمة ومجاهد فى قوله (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) قالا : بالسكينة والوقار ، وقوله : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ) يقول : لا يدرى أيّهما يفعل : أيمسكه أم يدسّه فى التراب ، يقول : بدفنها أم يصبر عليها وعلى مكروهها وهى الموؤدة ، وهو مثل ضربه الله تبارك وتعالى :

ثم فسّر المثل فى قوله : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) [٦٠] ولو كان (مَثَلُ السَّوْءِ) نصبا لجاز ، فيكون فى المعنى على قولك : ضرب للذين لا يؤمنون مثل السوء ، كما كان فى قراءة أبىّ (وضرب (٤) مثلا كلمة خبيثة) وقراءة العوامّ هاهنا وفى إبراهيم بالرفع لم نسمع أحدا نصب.

وقوله : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) [٦٢] أنّ فى موضع نصب لأنه عبارة عن الكذب. ولو قيل (٥) : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) تجعل الكذب من صفة الألسنة واحدها كذوب وكذب ، مثل رسول ورسل. ومثله قوله (وَلا تَقُولُوا) (٦) (لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) ، وبعضهم يخفض (الكذب) يجعله مخفوضا باللام التي فى قوله (لما) لأنه عبارة عن (ما) والنصب فيه وجه الكلام ، وبه قرأت العوامّ. ومعناه : ولا تقولوا لوصفها الكذب.

وقوله (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) يقول : منسيّون فى النار. والعرب تقول : أفرطت منهم ناسا أي

__________________

(١) كذا و (إنسان) على هذا أبو قبيلة ولم أقف عليه. وقد يكون «فى» أي فم.

(٢) كذا بتكرر (قال) وكأن (قال) الأولى فاعلها الفراء و (قال) الثانية فاعلها العربي.

(٣) الآية ٦٣ سورة الفرقان.

(٤) الآية فى قراءة الناس غير أبى : «ومثل كلمة خبيثة» فى الآية ٢٦.

(٥) جواب لو محذوف أي لجاز. وهى قراءة معاذ بن جبل وبعض أهل الشام كما فى البحر ٥ / ٥٠٦

(٦) الآية ١١٦ سورة النحل. وجاءت قراءة الكذب جمع الكذوب عن معاذ وابن أبى عبلة وبعض أهل الشام كما فى البحر ٥ / ٥٤٥

١٠٧

خلفتهم ونسيتهم. وتقرأ (١) (وأنّهم مفرطون) بكسر الراء ، كانوا مفرطين فى سوء العمل لأنفسهم فى الذنوب. وتقرأ (٢) (مفرّطون) كقوله (يا حَسْرَتى (٣) عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) يقول : فيما تركت وضيّعت.

وقوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [٦٦] العرب تقول لكلّ ما كان من بطون الأنعام ومن السّماء أو نهر يجرى لقوم : أسقيت. فإذا سقاك الرّجل ماء لشفتك قالوا : سقاه. ولم يقولوا : أسقاه ؛ كما قال الله عزوجل (وَسَقاهُمْ (٤) رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) وقال (وَالَّذِي (٥) هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) وربما قالوا لما فى بطون الأنعام ولماء السّماء سقى وأسقى ، كما قال لبيد :

سقى قومى بنى مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال (٦)

رعوه مربعا وتصيّفوه

بلا وبإ سمىّ ولا وبال

وقد اختلف القراء فقرأ بعضهم (٧) (نُسْقِيكُمْ) وبعضهم (نسقيكم).

وأمّا قوله (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ولم يقل بطونها فإنه قيل ـ والله أعلم ـ إن النّعم والأنعام شىء واحد ، وهما جمعان ، فرجع التذكير إلى معنى النّعم إذ كان يؤدى عن الأنعام أنشدنى بعضهم :

إذا رأيت أنجما من الأسد

جبهته أو الخراة والكتد

بال سهيل فى الفضيح. ففسد

وطاب ألبان اللقاح وبرد (٨)

__________________

(١) هى قراءة نافع.

(٢) هى قراءة أبى جعفر.

(٣) الآية ٥٦ سورة الزمر.

(٤) الآية ٢١ سورة الإنسان.

(٥) الآية ٧٩ سورة الشعراء.

(٦) مجد : أم كلب وكلاب ابني ربيعة بن عامر بن صعصعة. وانظر الخصائص ١ / ٣٧٠.

(٧) هى قراءة نافع وابن عامر وأبى بكر عن عاصم ويعقوب. وقراءة الباقين بضم النون.

(٨) انظر ص ١٢٩ من الجزء الأول.

١٠٨

فرجع إلى اللبن لأن اللبن والألبان يكون فى معنى واحد. وقال الكسائي (نسقيكم ممّا بطونه) : بطون ما ذكرناه ، وهو صواب ، أنشدنى بعضهم :

مثل الفراخ نتقت حواصله (١)

وقال الآخر :

كذاك ابنة الأعيار خافى بسالة الرجال وأصلال الرجال أقاصره (٢) ولم يقل أقاصرهم. أصلال (٣) الرجال : الأقوياء منهم.

وقوله (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) يقول : لا يشرق باللبن ولا يغصّ به.

وقوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) [٦٧] هى الخمر قبل أن تحرّم. والرزق الحسن الزبيب والتمر وما أشبههما.

وقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [٦٨] ألهمها ولم يأتها رسول.

وقوله : (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) وهى سقوف البيوت.

وقوله : (ذُلُلاً) [٦٩] نعت للسبل. يقال : سبيل ذلول وذلل للجمع ويقال : إن الذّلل نعت للنحل أي ذللّت لأن يخرج الشراب من بطونها.

وقوله (شِفاءٌ لِلنَّاسِ) يعنى العسل دواء ويقال (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) يراد بالهاء القرآن ، فيه بيان الحلال والحرام :

__________________

(١) انظر ص ١٣٠ من الجزء الأول.

(٢) الأعيار جمع العير ومن معانيه السيد والملك ، وكأن هذا هو المراد هنا. وقوله : «كذاك» فى اللسان (قصر) : «إليك» وأقاصره جمع الأقصر. يقول لها : لا تعيبينى بالقصر فإن أصلال الرجال ودهاتهم أقاصرهم. وانظر ص ١٢٩ من الجزء الأول.

(٣) هو جمع صل ، وهو فى الأصل الحية.

١٠٩

وقوله : (لِكَيْلا يَعْلَمَ) [٧٠].

يقول : لكيلا يعقل من بعد عقله الأوّل (شَيْئاً) وقوله : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [٧١] فهذا مثل ضرب الله للذين قالوا : إن عيسى ابنه تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ، فقال : أنتم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونون (١) سواء فيه ، فكيف جعلتم عبده شريكا له تبارك وتعالى.

وقوله : (وَحَفَدَةً) [٧٢] : والحفدة الأختان (٢) ، وقالوا الأعوان. ولو قيل : الحفد : كان صوابا ؛ لأن واحدهم حافد فيكون بمنزلة الغائب والغيب والقاعد والقعد.

وقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) [٧٣] نصبت (شَيْئاً) بوقوع الرزق عليه ، كما قال تبارك وتعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ (٣) الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) أي تكفت (٤) الأحياء والأموات. ومثله (أَوْ إِطْعامٌ (٥) فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) ولو كان الرزق مع الشيء لجاز خفضه : لا يملك لهم رزق شىء من السموات. ومثله قراءة من قرأ (فجزاء (٦) مثل ما قتل من النّعم).

وقوله : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) وقال فى أوّل الكلام (يَمْلِكُ) وذلك أن (ما) فى مذهب جمع لآلهتم التي يعبدون ، فوحّد (يَمْلِكُ) على لفظ (ما) وتوحيدها ، وجمع فى (يَسْتَطِيعُونَ) على المعنى. ومثله قوله (وَمِنْهُمْ (٧) مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وفى موضع آخر (وَمِنْهُمْ (٨) مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)

__________________

(١) فى الطبري : «فتكونوا» بالنصب فى جواب النفي ، وقد جاء الرفع هنا على الاستئناف.

(٢) فى الطبري عن بعضهم : «هم الأختان أختان الرجل على بنانه» وفيه عن بعضهم : «هم الأصهار» فالأختان على هذا : أزواج البنات. وفى القاموس أن الختن الصهر أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ.

(٣) الآيتان ٢٥ ، ٢٦ سورة المراسلات.

(٤) أي تضم وتجمع.

(٥) الآيتان ١٤ ، ١٥ سورة البلد.

(٦) الآية ٩٥ سورة المائدة ، وهو يريد القراءة بإضافة (جزاء) إلى (مثل) وهى قراءة غير عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف كما فى الإتحاف.

(٧) الآية ٢٥ سورة الأنعام ، والآية ١٦ سورة محمد.

(٨) الآية ٤٢ سورة يونس.

١١٠

ومثله (وَمَنْ (١) يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) و (يَعْمَلْ صالِحاً) فمن ذكره ردّ آخره على أوّله (٢) ، ومن أنّث ذهب إلى أن (من) فى موضع تأنيث ، فذهب إلى تأنيثها. وأنشدنا بعض العرب :

هيا أمّ عمرو من يكن عقر داره

جواء عدىّ يأكل الحشرات (٣)

ويسودّ من لفح السموم جبينه

ويعر وإن كانوا ذوى نكرات (٤)

فرجع فى (كانوا) إلى معنى الجمع وفى قراءة عبد الله ـ فيما أعلم ـ (ومنكم (٥) من يكون شيوخا) ولم يقل (شيخا) وقد قال الفرزدق :

تعشّ فإن واثقتني لا تخوننى

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما

أخيّين كانا أرضعا بلبان (٦)

فثنّى (يصطحبان) وهو فعل لمن لأنه نواه ونفسه.

وقوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) [٧٥] ضرب مثلا للصنم الذي يعبدون أنه لا يقدر على شىء ، (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي يحمله ، فقال : هل يستوى هذا الصنم (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فقال : لا تسوّوا بين الصنم وبين الله تبارك وتعالى.

وقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) [٨٠] يعنى الفساطيط (٧) للسفر ، وبيوت العرب التي

__________________

(١) الآية ٣١ سورة الأحزاب. وقراءة الياء لحمزة والكسائي وخلف ، وقراءة التاء لغيرهم

(٢) هو التذكير فى (يقنت).

(٣) عقر الدار أصلها ، ويفسر بمحلة القوم. وقوله : «جواء عدى» ففى ش : «حوى» والجواء الواسع من الأودية ، وهو أيضا موضع بالصمان فى نجد كما فى معجم البلدان ، والحوى من معانيه الحوض الصغير.

(٤) «نكرات» جمع نكرة ـ بالتحريك ـ وهو اسم من الإنكار ، يراد به استنكار ما لا يوافقهم وذلك من سمات القدرة والحفيظة.

(٥) كأن ذلك بدل قوله تعالى : «ومنكم من يرد إلى أرذل العمر» في الآيتين ٧٠ سورة النحل ، ٥ سورة الحج.

(٦) كان الفرزدق طرقه فى سفره ذئب فألقى إليه كتف شاة مشوية وذكر ذلك فى هذه القصيدة ، واللبان الرضاع.

وانظر الديوان ٨٧٠ ، وأمالى ابن الشجري ٢ / ٣١١

(٧) جمع الفسطاط ؛ وهو بيت من الشعر.

١١١

من الصوف والشعر. والظعن يثقّل فى القراءة ويخفّف (١) ؛ لأن ثانيه عين ، والعرب تفعل ذلك بما كان ثانيه أحد الستة (٢) الأحرف مثل الشعر والبحر والنهر. أنشدنى بعض العرب :

له نعل لا تطبى الكلب ريحها

وإن وضعت بين المجالس شمّت (٣)

وقوله (أَثاثاً وَمَتاعاً) المتاع إلى حين يقول يكتفون بأصوافها إلى أن يموتوا. ويقال إلى الحين بعد الحين.

وقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [٨١].

ولم يقل : البرد ، وهى تقى الحرّ والبرد ، فترك لأن معناه معلوم ـ والله أعلم ـ كقول الشاعر :

وما أدرى إذا يمّمت وجها

أريد الخير أيّهما يلينى

يريد أىّ الخير والشر يلينى لأنه إذا أراد الخير فهو يتّقى الشرّ وقوله (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) وبلغنا عن ابن عباس أنه قرأ (لعلكم تسلمون) من الجراحات.

وقوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) [٨٣] يعنى الكفار إذا قيل لهم ، من رزقكم؟ قالوا : الله ، ثم يقولون :

بشفاعة آلهتنا فيشركون فذلك إنكارهم (نِعْمَتَ (٤) اللهِ).

[قوله] : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) [٨٦] آلهتهم ردّت عليهم قولهم (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي لم ندعكم إلى عبادتنا.

وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) [٩٢] : من بعد إبرام. كانت تغزل

__________________

(١) التخفيف أي إسكان العين لابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف. والتثقيل أي فتح العين للباقين.

(٢) يريد أحرف الحلق. وهى الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء.

(٣) من قصيدة لكثير فى رثاء عبد العزيز بن مروان. و «تطبى» : تدعو وتستميل يريد أن نعله من جلد مدبوغ فلا يقبل عليها الكلب. يصفه برقة نعله وطيب ريحها. وانظر الخصائص ٢ / ٩

(٤) ا : «نعمته»

١١٢

الغزل من الصوف فتبرمه ثم تأمر جارية لها بنقضه. ويقال : إنها ريطة (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) يقول : دغلا وخديعة.

قوله (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) يقول : هى أكثر ، ومعناه لا تغدروا بقوم لقلّتهم وكثرتكم أو قلّتكم وكثرتهم ، وقد غررتموهم بالأيمان فسكنوا إليها ٩٧ ب. وموضع (أدنى) نصب. وإن شئت رفعت ؛ كما تقول : ما أظن رجلا يكون هو أفضل منك وأفضل منك ، النصب على العماد (١) ، والرفع على أن تجعل (هو) اسما. ومثله قول الله عزوجل (تَجِدُوهُ (٢) عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) نصب ، ولو كان رفعا كان صوابا.

وقوله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [١٠١] إذا نسخنا آية فيها تشديد مكان (٣) آية ألين منها قال المشركون : إنما يتقوّله من نفسه ويتعلّمه من عائش مملوك كان لحويطب بن عبد العزّى كان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجم ، فقال الله عزوجل : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) [١٠٣] يميلون إليه ويهوونه (أَعْجَمِيٌّ) فقال الله : وهذا لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن عربىّ.

وقوله (٤) : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [٨٦] فكسرت (٥) لأنها من صلة القول. ومن فتحها لو لم تكن فيها لام فى قوله لكاذبون جعلها تفسيرا للقول : ألقو إليهم أنكم كاذبون فيكون نصبا لو لم يكن فيها لام ؛ كما تقول : ألقيت إليك أنك كاذب. ولا يجوز إلّا الكسر عند دخول اللام ، فتقول : ألقيت إليك إنّك لكاذب.

وقوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) [١١٠] يقول : عذّبوا. نزلت فى عمّار

__________________

(١) هو ضمير الفصل عند البصريين

(٢) الآية ٢٠ سورة المزمل

(٣) كذا. وكأن الأصل : «بمكان» أي بوجود آية ألين منها ، فسقطت الباء فى «بمكان» من الناسخ.

(٤) سبق كلام على هذه الآية

(٥) أي (إنكم)

١١٣

بن ياسر وأصحابه الذين عذّبوا ، حتّى أشرك بعضهم بلسانه وهو مؤمن بقلبه فغفر الله لهم ، فذلك قوله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) بعد الفعلة (١).

وقوله : (قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) [١١٢] يعنى مكّة أنها كانت لا يغار عليها كما تفعل العرب : كانوا يتغاورون (مُطْمَئِنَّةً) : لا تنتقل كما تنتجع العرب الخصب بالنّقلة.

وقوله (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) : من كلّ ناحية (فَكَفَرَتْ) ثم قال (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) ومثله فى القرآن كثير. منه قوله (فَجاءَها (٢) بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) ولم يقل : قائلة. فإذا قال (قائِلُونَ) ذهب إلى الرجال ، وإذا قال (قائلة) فإنما يعنى أهلها ، وقوله (فَحاسَبْناها (٣) حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً فَذاقَتْ).

وقوله (لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) ابتلوا بالجوع سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف. والخوف بعوث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسراياه. ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقّ لهم فحمل إليهم الطعام وهم مشركون. قال الله عزوجل لهم ، كلوا (وَاشْكُرُوا) (٤).

وقوله : (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) [١١٩] كلّ من عمل سوءا فهو جاهل إذا عمله.

وقوله : (أُمَّةً قانِتاً) [١٢٠] : معلما للخير.

وقوله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) [١٢٤] أتى موسى أصحابه فقال : تفرّغوا لله يوم الجمعة فلا تعلموا فيه شيئا ، فقالوا : لا ، بل يوم السبت ، فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض ، فشدّد عليهم فيه. وأتى عيسى النصارى بالجمعة أيضا فقالوا : لا يكون عيدهم بعد عيدنا فصاروا إلى الأحد. فذلك اختلافهم وتقرأ (٥) (إنما جعل ٩٨ السبت نصبا ، أي جعل الله تبارك وتعالى.

__________________

(١) يريد تفسير الضمير فى «بعدها»

(٢) الآية ٤ سورة الأعراف.

(٣) الآيتان ٨ ، ٩ سورة الطلاق.

(٤) ورد ذلك في الآية ١١٤

(٥) هى قراءة الحسن والمطوعى.

١١٤

وقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [١٢٦] (نزلت فى حمزة (١)) لمّا مثّل المشركون بحمزة يوم أحد فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأمثّلنّ بسبعين شيخا من قريش فأنزل الله عزوجل (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) ثم أمره بالصبر فقال (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ثم أمره بالصبر عزما فقال :

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [١٢٧].

وقوله (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) فالضّيق ما ضاق عنه صدرك ، والضّيق ما يكون فى الذي يتّسع ؛ مثل الدار والثوب وأشباه ذلك وإذا رأيت الضّيق وقع فى موقع الضّيق كان على وجهين : أحدهما أن يكون جمعا واحدته ضيقة كما قال (٢) :

كشف الضيقة عنا وفسح

والوجه الآخر أن يراد به شىء ضيّق فيكون مخففا ، وأصله التشديد مثل هين ولين تريد هيّن ليّن.

سورة بنى إسرائيل

ومن سورة بنى إسرائيل

قوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). الحرم كلّه مسجد ، يعنى مكّة وحرمها (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) : بيت المقدس (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) بالثمار والأنهار.

وقوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) يعنى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أسرى به ليريه تلك الليلة العجائب. وأرى الأنبياء حتّى وصفهم لأهل مكّة ، فقالوا : فإنّ لنا إبلا فى طريق الشام فأخبرنا

__________________

(١) هذه الجملة فى ا ، ش ، ب بعد «يوم أحد» والمناسب وضعها حيث وضعت

(٢) هو الأعشى. وصدره :

فلئن ربك من رحمته

١١٥

بأمرها ، فأخبرهم بآيات وعلامات ، فقالوا : متى تقدم؟ فقال : يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق. فقالوا : هذه علامات نعرف بها صدقه من كذبه. فغدوا من وراء العقبة يستقبلونها ، فقال قائل : هذه والله الشمس قد شرقت ولم تأت. وقال آخر : هذه والله العير يقدمها جمل أورق كما قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم لم يؤمنوا.

وقوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) [٢] يقال : ربّا ، ويقال : كافيا.

وقوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) [٣] منصوبة على النداء ناداهم : يا ذرّيّة من حملنا مع نوح ، يعنى فى أصلاب الرجال وأرحام النساء ممّن لم يخلق.

وقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [٤].

أعلمناهم أنهم سيفسدون مرّتين.

وقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) يقول : عقوبة أولى المرّتين ، وهو أول الفسادين (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ (١) عِباداً لَنا) يعنى بختنصّر فسبى وقتل.

وقوله : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) يعنى : قتلوكم بين بيوتكم (فَجاسُوا) فى معنى أخذوا وحاسوا أيضا بالحاء فى ذلك المعنى.

وقوله : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) [٦] يعنى على بختنصّر جاء رجل بعثه الله عزوجل على بختنصّر فقتله وأعاد الله إليهم ملكهم وأمرهم ، فعاشوا ، ثم أفسدوا وهو آخر الفسادين.

وقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) [٧] يقول القائل : أين جواب (إذا)؟ ففيه وجهان. يقال : فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوء الله وجوهكم (٢) لمن قرأ بالياء. وقد يكون

__________________

(١) ا : «عليهم»

(٢) هى قراءة ابن عامر وأبى بكر وحمزة وخلف ، كما في الإتحاف.

١١٦

ليسوء العذاب وجوهكم. وقرأها أبىّ بن كعب ٩٨ ب (لنسوءن وجوهكم) بالتخفيف يعنى النون. ولو جعلتها مفتوحة اللام كانت جوابا لإذا بلا ضمير فعل. تقول إذا أتيتنى لأسوءنّك ويكون دخول الواو فيما بعد (لنسوءن) بمنزلة قوله (وَكَذلِكَ نُرِي (١) إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ) نريه (٢) الملكوت ، كذلك الواو فى (وَلِيَدْخُلُوا) تضمر لها فعلا (٣) بعدها ، وقد قرئت (ليسوءوا وجوهكم) الذين (٤) يدخلون.

وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [٩]. يقول : لشهادة أن لا إله إلا الله.

(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) أوقعت البشارة على قوله (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) ويجوز أن يكون المؤمنون بشروا أيضا بقوله (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) لأن الكلام يحتمل أن تقول : بشّرت عبد الله بأنه سيعطى وأن عدوّه سيمنع ، ويكون (٥). ويبشّر الذين لا يؤمنون بالآخرة أنا أعتدنا لهم عذابا أليما ، وإن لم يوقع التبشير عليهم كما أوقعه على المؤمنين قبل (أنّ) فيكون بمنزلة قولك فى الكلام بشّرت أن الغيث آت فيه معنى بشّرت الناس أن الغيث آت وإن لم تذكرهم. ولو استأنفت (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) صلح ذلك ولم أسمع أحدا. قرأ به.

وقوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) [١١] حذفت الواو منها فى اللفظ ولم تحذف فى المعنى ؛ لأنها فى موضع رفع ، فكان حذفها باستقبالها اللام السّاكنة. ومثلها (سَنَدْعُ (٦) الزَّبانِيَةَ) وكذلك

__________________

(١) الآية ٧٥ سورة الأنعام

(٢) يريد أن متعلق الجار والمجرور فى قوله : «وليكون» هو فعل مقدر مؤخر وهو (نريه الملكوت)

(٣) أي وليد خلوا المسجد قدرنا ذلك وكتبناه

(٤) هذا تفسير للضمير فى (ليسوءوا)

(٥) هذا وجه آخر والمراد بالتبشير هنا الإخبار ، ولا يراعى فى الخير أنه سار

(٦) الآية ١٨ سورة العلق

١١٧

(وَسَوْفَ (١) يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ) وقوله (يَوْمَ (٢) يُنادِ الْمُنادِ) وقوله (فَما تُغْنِ (٣) النُّذُرُ) ولو كنّ بالياء والواو كان صوابا. وهذا من كلام العرب. قال الشاعر :

كفاك كفّ ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسيف الدّما (٤)

وقال بعض الأنصار :

ليس تخفى بشارتى قدر يوم

ولقد تخف شيمتى إعسارى (٥)

وقوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) يريد كدعائه بالخير فى الرغبة إلى الله عزوجل فيما لا يحبّ الداعي إجابته ، كدعائه على ولده فلا يستجاب له فى الشرّ وقد دعا به. فذلك أيضا من نعم الله عزوجل عليه.

وقوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) [١٢] حدّثنا محمد بن الجهم قال حدثنا الفراء قال حدثنى مندل بن علىّ عن داود بن أبى هند عن أبى حرب بن أبى الأسود الدّؤلي رفعه إلى علىّ بن أبى طالب رحمه‌الله قال : هو اللّطخ الذي فى القمر.

وقوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) [١٣] وهو عمله ، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا (وَنُخْرِجُ لَهُ) قرأها يحيى بن وثّاب بالنون (٦) وقرأها غيره بالياء (٧) مفتوحة : (ويخرج له) طائره ، منهم مجاهدو الحسن. وقرأ أبو جعفر المدنىّ (ويخرج ... له كتابا) معناه : ويخرج له عمله كتابا. وكلّ حسن.

__________________

(١) الآية ١٤٦ سورة النساء

(٢) الآية ٤١ سورة ق.

(٣) الآية ٥ سورة القمر

(٤) تليق : تمسك. يصفه بالكرم والشجاعة. وقد ورد البيت فى اللسان (لوق) من غير عزو

(٥) «بشارتى» كذا فى ا ، ش. وفى اللسان (يسر) : يسارتى» واليسارة الغنى. وهذه الرواية ظاهرة. والبشارة الجمال وحسن المظهر. يريد أنه لا تظهر عليه الكآبة نوما.

(٦) وكذا قرأها أكثر المفسرين.

(٧) هى قراءة يعقوب ، وقد وافقه الحسن وابن محيصن

١١٨

وقوله : (اقْرَأْ كِتابَكَ) [١٤] : فيها ـ والله أعلم ـ (يقال) مضمرة. مثل قوله (وَيَوْمَ تَقُومُ (١) السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) ومثل قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ (٢) اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) المعنى ـ والله أعلم ـ : فيقال : أكفرتم.

وقوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) [١٦] قرأ الأعمش ٩٩ ا وعاصم ورجال من أهل المدينة (أَمَرْنا) خفيفة حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال حدّثنى سفيان بن عيينة عن حميد الأعرج عن مجاهد (أَمَرْنا) خفيفة. وفسّر بعضهم (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بالطاعة (فَفَسَقُوا) أي إن المترف إذا أمر بالطاعة خالف إلى الفسوق (٣). وفى قراءة أبيّ بن كعب (بعثنا فيها أكابر مجرميها) وقرأ الحسن (آمرنا) وروى عنه (أمرنا) ولا ندرى أنها حفظت عنه لأنا (٤) لا نعرف معناها هاهنا. ومعنى (آمرنا) بالمدّ : أكثرنا. وقرأ أبو العالية الرياحي (أمّرنا مترفيها) وهو موافق لتفسير ابن عباس ، وذلك أنه قال : سلّطنا رؤساءها ففسقوا فيها.

قوله : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [١٤] وكلّ ما فى القرآن من قوله (وَكَفى بِرَبِّكَ) (وَكَفى بِاللهِ) و (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ) فلو ألقيت الباء كان الحرف مرفوعا ؛ كما قال الشاعر (٥) :

ويخبرنى عن غائب المرء هديه

كفى الهدى عمّا غيّب المرء مخبرا

وإنما يجوز دخول الباء فى المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه ؛ ألا ترى أنك تقول : كفاك به ونهاك به وأكرم به رجلا ، وبئس به رجلا ، ونعم به رجلا ، وطاب بطعامك طعاما ، وجاد بثوبك ثوبا. ولو لم يكن مدحا أو ذمّا لم يجز دخولها ؛ ألا ترى أن الذي يقول : قام أخوك أو قعد أخوك

__________________

(١) الآية ٤٦ سورة غافر

(٢) الآية ١٠٦ سورة آل عمران.

(٣) ب : «الفسق»

(٤) روى عن أبى زيد أن (أمر) بكسر الميم كأمر بفتحها بمعنى أكثر. وانظر البحر ٦ / ٢٠

(٥) هو زيادة بن زيد العدوى كما فى اللسان (هدى). والهدى : السيرة والسمت.

١١٩

لا يجوز له أن يقول : قام بأخيك ولا قعد بأخيك ؛ إلّا أن يريد قام به غيره وقعد به.

وقوله : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [١٨] أي ذلك منا لمن نريد.

وقوله : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ) أوقعت عليهما نمدّ أي نمدهم جميعا ؛ أي نرزق المؤمن والكافر من عطاء ربّك.

وقوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا) [٢٣] كقولك : أمر ربك وهى فى قراءة عبد الله (وأوصى ربّك) وقال ابن عباس هى (ووصّى) التصقت واوها. والعرب تقول تركته يقضى أمور الناس أي يأمر فيها فينفذ أمره.

وقوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) معناه : وأوصى بالوالدين إحسانا. والعرب تقول أوصيك به خيرا ، وآمرك به خيرا. وكان معناه : آمرك أن تفعل به ثم تحذف (أن (١)) فتوصل الخير بالوصيّة وبالأمر ، قال الشاعر :

عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبى دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأننا جافونا

وقوله : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) فإنه ثنّى (٢) لأن الوالدين قد ذكر قبله فصار الفعل على عددهما ، ثم قال (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) على الائتناف (٣) كقوله (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) (٤) ثم استأنف فقال : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) وكذلك قوله (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا (٥) النَّجْوَى) ثم استأنف فقال : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وقد قرأها ناس كثير (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) جعلت (يَبْلُغَنَّ) فعلا لأحدهما. فكرّرت (٦) ب فكرت عليه كلاهما.

__________________

(١) يريد (أن) ومعمولها من الفعل

(٢) هى قراءة حمزة والكسائي وخلف.

(٣) كأن المراد أن يكون الكلام على تقدير فعل أي إن يبلغ أحدهما أو كلاهما كما جاء فى إعراب العكبري والمعروف أن (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) بدل من الضمير فى (يَبْلُغَنَّ) ، وكذا ما بعده مما جعله على الائتناف هو يدل من الضمير فى الفعل قبله عند الكثير ، وعند الفراء فاعل لفعل مقدر.

(٤) الآية ٧١ سورة المائدة

(٥) الآية ٣ سورة الأنبياء

(٦) يريد : عطفت. وفى ا ، ش : «فكرت»

١٢٠