علم أصول الفقه في ثوب الجديد

محمّد جواد مغنية

علم أصول الفقه في ثوب الجديد

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التيار الجديد
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٥٦

والجواب باختصار وبساطة : إن مرجع الشك في التسمية العرفية واللغوية أيا كان مصدره هو التبادر وعدم صحة السلب ، وليس الاطلاق وغيره من الأصول اللفظية ، لأن هذه الأصول وسيلة لإثبات الحكم للموضوع ، وليست وسيلة لتشخيص الموضوع وتعيينه ـ مثلا ـ قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وارد لبيان حكم العقد ووجوب الالتزام به ، لا لتعريف العقد وتفسيره.

٤١

المشتق

المراد من المشتق

اختار الأصوليون لهذا الفصل اسم المشتق ، وجعلوه عنوانا له ، والمشتق في عرف النحاة إخراج الكلمة من مصدرها ، كإخراج المسافر من السفر ، وليس هذا موضوع البحث ، وفيما يلي البيان.

إذا أسندنا الى الذات اسما يمكن وصفها بمعناه ـ فلا يخلو هذا المعنى الموصوف به من كونه واحدا من الفروض التالية :

١ ـ أن يكون نفس الذات المسند اليها ، أو من مقوماتها بحيث تدور معه وجودا وعدما مثل المثلث له ثلاثة أضلاع ، والحجر جسم ، والانسان حيوان. وهذا النوع خارج عن موضوع البحث لما يأتي :

٢ ـ أن يكون خارجا عن حقيقة الذات ، ولكنه لازم لا ينفصل عنها كغريزة حب الذات والحرص على الحياة. وهذا خارج أيضا عن محل الكلام.

٣ ـ أن يكون عارضا على الذات ، ويمكن فصله عنها في الوجود بحيث ينقضي الوصف ، وتبقى الذات. وهذا النوع من صميم ما نحن بصدده ، ومنه يتضح السبب الموجب لخروج الفرض الأول والثاني ، ودخول كل ما يمكن حمله على الذات ، شريطة أن لا يكون ذاتيا ولا ملازما للذات ، مشتقا كان كالضارب والمضروب ، أو غير مشتق كالزوج وذي عيال ، أو اسم مكان كالمسجد أو اسم آلة كالمفتاح .. الى كل وصف لا يزول الموصوف بزواله.

٤٢

وبهذا يتضح معنا أن موضوع البحث يعم ويشمل بعض الأسماء الجامدة ، ويخرج منه بعض المشتقات ، أما الأفعال فخارجة عنه تخصصا لا تخصيصا.

الزمان والمشتق

إذا قال قائل : زيد ضارب فهل تدل صيغة «فاعل» على أن الضرب حدث في الزمان الحاضر أو الماضي أو الآتي؟.

الجواب :

ان الأسماء بكاملها لا تدل على الزمان من قريب أو بعيد ، أما الجامد منها كالقلم والكتاب فواضح ، وأما المشتق فهو موضوع للذات المتصفة بالمعنى الذي انبثق منه اسم الفاعل أو المفعول أو الصفة المشبهة ـ مثلا ـ الضارب اسم فاعل مشتق من الضرب ، والضرب يدل على الحدث وكفى. وهكذا سائر المشتقات. وإذن فمن أين تأتي الدلالة على الزمان؟ أما قول النحاة : ان اسم الفاعل والمفعول إذا تجردا من اللام فلا يعملان عمل الفعل في المفعول إلا إذا كانا بمعنى الحال أو الاستقبال ، أما هذا القول فالمراد به الدلالة على الزمان مع القرينة مثل الآن والغد.

وعلى هذا جميع الاصوليين ، بل قال صاحب الكفاية وغيره : حتى الأفعال لا دلالة فيها على الزمان ، لأن صيغة افعل تدل على طلب الفعل فقط ، وصيغة فعل تدل على مجرد الإخبار عن الحدوث وكفى ، وصيغة يفعل تدل على أن الفعل ما زال في عالم الكتمان ، وأنه سيظهر الى عالم الوجود. فأين هو الزمان والدلالة عليه؟

أجل ، ان الإخبار عن حدوث الفعل ووقوعه يدل بالملازمة العقلية على أنه حدث قبل زمان النطق في مكان ما ، وان الإخبار عما سيحدث يدل أيضا بهذه الملازمة على أن الحدوث يأتي بعد زمان النطق في مكان من الأمكنة. وبديهي ان دلالة اللفظ شيء ، ودلالة العقل شيء آخر .. هذا ، الى أن دلالة العقل يستوي فيها الزمان والمكان ، ولا قائل بأن الفعل يدل على المكان ، فالقياس يقضي أن لا يدل الفعل بوضعه على الزمان.

٤٣

الحال والماضي والاستقبال

وتسأل : كيف يمكن الجمع بين قول الأصوليين : المشتق لا يدل على الزمان ، وقولهم : هو حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ في الحال ، ومجاز فيمن تلبس به في الاستقبال اتفاقا ، ومحل الخلاف فيمن تلبس به في الماضي ، فمن قائل بأنه مجاز ، وقائل بأنه حقيقة في القدر المشترك بين الماضي والحال؟.

الجواب :

أراد الأصوليون بالتلبس هنا مجرد اتصاف الذات بالمعنى ومباشرتها له في أي زمان ، ومرادهم بالمبدإ المعنى والمصدر الذي انبثق منه الوصف ، وأما الحال الذي أوقع السائل وغيره في الالتباس ـ فإن الأصوليين لا يريدون به الزمان ، ما في ذلك ريب ، وانما يريدون حالة اتصاف الذات بالمعنى وتلبسها به ، ومباشرتها له بصرف النظر عن زمان الاتصاف والتلبس تماما كما تقول : قبض على فلان بالجرم المشهود ، أي حال مباشرته الجريمة بصرف النظر عن زمن حدوثها.

أجل ، ان المراد هنا بكل من الماضي والاستقبال ـ الزمان ، ولكن على انه ظرف لاتصاف الذات بالمبدإ والمصدر الذي انبثق منه الوصف ، وليس قيدا له (أي لمدلول المشتق). وهذا الظرف الذي حدث فيه الاتصاف قد يكون مقارنا لزمن النطق ، وقد يكون سابقا عليه ، أو لاحقا له. وبناء على ان الزمان ليس قيدا لمدلول المشتق نتساءل : اذا أطلقنا المشتق على الذات المتصفة بمصدره ومبدأه ، وأردنا انها كذلك في زمان معين من الأزمنة الثلاثة ـ فهل يكون هذا الاطلاق حقيقة أم مجازا؟ والجواب عن هذا التساؤل يستدعي التفصيل التالي :

١ ـ أن نطلق المشتق على الذات لمجرد أنها قد اتصفت به في آن ما ، مثل فاعل السوء مجزي به ، والسارق يقطع ، والزاني يجلد ، ومن عبد صنما لا يكون إماما. وهذا النحو من الإطلاق حقيقة بالاتفاق ، وخارج عن موضوع البحث.

٢ ـ أن نطلق كلمة ضارب على زيد ـ مثلا ـ قبل أن يباشر الضرب ، نطلقها عليه لمجرد الحكاية والإخبار بأنه سيكون ضاربا غدا. وقد اتفقوا على أن مثل هذا الاطلاق حقيقة حيث لاحظنا واعتبرنا حالة الاتصاف والتلبس الآتية ،

٤٤

وعلى أساسها استعملنا اللفظ ، ومن الذي يشك في أن «باسما» مستعمل فيمن وضع له في قولنا : سوف يأتي زيد باسما.

٣ ـ أن تباشر الذات نوعا من الفعل في وقت ما ، ثم ينقضي الفعل وتبقى الذات ، كما لو ضرب زيد شخصا ، وبعد الضرب قلنا : زيد ضارب ، وأردنا مجرد الحكاية والإخبار بأنه كان ضاربا في الأمس أي انه كان مصداقا لهذا الوصف في الماضي لا في الحاضر. واتفق الجميع على ان هذا الإطلاق حقيقة وليس بمجاز ، لنفس السبب الذي أشرنا اليه في الصورة الثانية.

وإذا قصدنا أن مفهوم الضارب يصدق الآن على زيد الذي ضرب بالأمس ، وانه بالفعل مصداق له وفرد من أفراده تماما كما لو كان الآن مباشرا للضرب دون أدنى تفاوت ، إذا أردنا ذلك فهو محل الكلام ، ومن أجله جرى الخلاف والنزاع في أنه حقيقة أو مجاز. ويأتي البيان في الفقرة التالية.

محل النزاع

والآن وبعد التمهيد بما يلقي الضوء على محل النزاع نشير اليه بالآتي :

اختلفوا في أن المشتق هل وضع لخصوص الذات المتصفة فعلا بالمبدإ والمصدر الذي انبثق منه المشتق بحيث لا يصدق على الذات حقيقة إلا اذا كان الوصف قائما فيها ، وكانت هي متلبسة به حين الاطلاق حتى اذا زال الوصف وانتهى صدق المشتق على الذات مجازا لا حقيقة ، أو أن المشتق موضوع للقدر الجامع الذي يعم ويشمل من اتصف بالمبدإ فعلا ، ومن انتهى عنه أيضا بحيث يستوي استعماله فيهما على قدم المساواة ، ويكون إطلاق الضارب مثلا على الذات بعد الضرب حقيقة تماما كإطلاقه عليها حين الضرب ، لأن كلا منهما فرد حقيقي للمشتق.

وتظهر ثمرة هذا النزاع فيما اذا تعلق خطاب الشارع بوصف ، ثم زال وبقيت الذات ، مثال ذلك أن يقول الشارع : «لا تقبل شهادة العدو على عدوه» وأن تحدث عداوة بين اثنين ، وبعد ذهاب الشحناء وتصافي القلوب شهد أحدهما على الآخر ، وشككنا في قبول هذه الشهادة ، والسبب الموجب لشكنا هذا هو أن كلمة العدو هل تصدق حقيقة على من كان عدوا بالأمس دون اليوم أو لا؟

٤٥

فبناء على ان المشتق موضوع لخصوص من تلبس بالوصف فعلا ـ يجب قبول الشهادة لعدم صدق التسمية والعنوان ، وبناء على ان المشتق موضوع للأعم يجب ردها لصدق العنوان والتسمية.

الأقوال

وهي كثيرة ، والمشهور منها قولان : الأول الوضع لخصوص المتصف فعلا دون غيره. الثاني للأعم ، واستدل كل من الفريقين من جملة ما استدل بالتبادر وصحة السلب! .. ونميل نحن الى القول الأخص دون الأعم ، لأن الماضي صار في خبر كان. ومن الذي يشك في ان معنى فقير ذات ثبت لها الفقر ، ومعنى غني ذات ثبت لها الغنى ، وان من استعمل كلا من الكلمتين في معناها الفعلي فقد استعمل اللفظ فيما وضع له ، وان من استعمل كلمة الغني في الفقير لأنه كان غنيا فافتقر ، وكلمة الفقير في الغني لأنه كان فقيرا فاغتنى ـ فقد استعمل اللفظ في غير ما وضع له؟.

وتسأل : لقد رأينا الناس يلقبون الانسان بكلمة قالها ، أو فعلة فعلها حتى تصير علما عليه في حياته وبعد مماته ، أليس هذا دليلا على ان المشتق للأعم؟.

الجواب :

كلا ، لأن هذا اللقب أو هذا الاستعمال إنما جرى باعتبار حالة الاتصاف والتلبس تماما كالحكاية عما جرى وكان. وهذا خارج عن محل الكلام ، كما تقدم.

وأتوا البيوت من أبوابها

وبعد ، فإن بعض الأصوليين تحدث في هذا الفصل وأطال في التفريع والتعليل والعراك مع الخصوم في ساحة الكلام! ومرحبا بذلك وأكثر منه لو كان يهدي الى رشد في الفقه ومسائله.

ان المشتقات في النصوص الشرعية واضحة المعنى والمرمى ، ويمكن ردها من حيث تعلق الحكم الشرعي بها الى نوعين : الأول المشتق الذي تعلق به الحكم ما دام الوصف قائما في الذات بالفعل بحيث يدور معه وجودا وعدما كالمسافر يقصر ، والحاضر يتم ، والجنب لا يمس الكتاب العزيز.

٤٦

الثاني : المشتق الذي تعلق به الحكم لمجرد صدق الوصف على الذات في آن من الآنات بحيث يكون مجرد عروض الوصف علة للحكم حدوثا وبقاء كالسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، وكالزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ، ومثل لا ينال عهدي الظالمين .. الى غير ذلك كثير.

وكل من هذين النوعين أوضح وأبين من عبارة «الشيخ والمحقق». وان دعت الحاجة الى الكلام في المشتق ـ فالذي ذكرناه فيه الكفاية وزيادة : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ـ ١٨٩ البقرة».

٤٧

لفظ الأمر

مادة الأمر

تقوم التكاليف الشرعية على الأمر والنهي ، وبهما نميز بين حلال الله وحرامه وتتحقق الطاعة والخروج عن عهدة التكليف ، ومن هنا كان لا بد لطالب الفقه من معرفة الأمر والنهي لفظا ومعنى ، وما لكل من خصائص وأثر في دين الله وشريعته.

وللأمر مادة أي (أم ر) وهي موضوع البحث في هذا الفصل ، وله أيضا العديد من الصيغ نشير اليها في الفصل التالي مباشرة. وقد استعمل القرآن الكريم كلمة الأمر في معان شتى ، وما هي من شغلنا ما دامت لا تمت الى الفقه وأصوله بسبب ، والذي يهمنا هو أن كلمة الأمر اذا أطلقت بلا قرينة فأي شيء يفهم منها. وفي رأينا ان الأمر عند إطلاقه يدل على الحتم والوجوب ، إما بالوضع منذ البداية ، وإما بالانصراف لغلبة الاستعمال ، ولا يحمل على الندب إلا بقرينة ، إذ لا فرق عند العرف بين قول الشارع : أمرت ، وقوله : أوجبت أو حتمت أو فرضت أو كتبت عليكم.

وقيل : هو للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، لأنه ينقسم اليهما ، ويقال : الأمر منه وجوب ومنه ندب. ونجيب بأن هذا التقسيم إن دل على شيء فإنه يدل على صحة الاستعمال وكفى ، وبديهي ان الاستعمال يعم الحقيقة والمجاز ، والعام لا يدل على فرد منه بعينه .. هذا ، الى أن الأمر ينقسم أيضا الى التهديد والتعجيز والإهانة ، ولا قائل بأنه حقيقة في شيء من ذلك.

٤٨

وأيضا قيل : إن مادة أمر موضوعة لطلب القول الدال على طلب الفعل بصيغة أفعل وما في معناها ، فإذا استعملت هذه المادة في طلب القول مثل : وأمر أهلك بالصلاة ، كان الاستعمال على سبيل الحقيقة ، وان استعملت في طلب الفعل مباشرة مثل أمرتك بالصلاة ـ فمجاز.

ونجيب بأن مادة الأمر تدل على الوجوب سواء تعلق هذا الوجوب بالقول ، أم بالفعل ، لأن كل واحد منهما فرد من أفراد المأمور به.

ومن أوضح الأدلة على أن الأمر بمادته يدل على الوجوب قوله تعالى لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ـ ١٢ الأعراف». فإن التعليل «بإذ» يومئ إلى أن الأمر بمجرده للإلزام ، ومثل هذه الآية في الصراحة والوضوح قوله سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ـ ٦٣ النور». لأن الذم والتهديد إنما يتوجهان لمن أعرض وتولى عما وجب عليه وفاؤه وأداؤه. وقال : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ـ ٩٣ طه». ولا معصية بلا وجوب.

وقال الرسول الأعظم (ص) : «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» أي لو أمر لوجب ، ولكنه لم يأمر فلم يجب. ويثبت الندب بدلالة الإشارة دون العبارة حيث لا مشقة في المندوب.

أما القول بأن الوجوب في الأمر مدلول للعقل دون اللفظ لحكمه بطاعة المولى فلسنا بحاجة اليه ما دام الأمر هو السبب الموجب ، مباشرة أو بالواسطة ولا فرق في الحالين من حيث النتيجة.

العلو والاستعلاء

قالت طائفة من الأصوليين القدامى والجدد : ان العلو والاستعلاء أو أحدهما جزء أو قيد لمدلول الأمر احترازا عن الدعاء والالتماس ، ومرادهم بالعلو سمو المكانة في الواقع ونفس الأمر ، وبالاستعلاء إظهار العلو سواء أكان لهذا الإظهار واقع أم لم يكن.

ونحن نرفض التعالي والعلو ، لأن للإنسان وصفاته كلمات خاصة تدل عليه وعليها ، وليس منها أمره ونهيه ، أجل قد يقال : فلان ذو أمر ونهي كناية

٤٩

عن شأنه ومكانته ، كما يقال : هو عريض القفا كناية عن البله والبلادة ، ولكن الكناية عن العلو شيء ، واعتباره قيدا لمدلول الأمر شيء آخر.

وتسأل : إذا لم تعتبر العلو أو الاستعلاء في مفهوم الأمر فبأي شيء نحترز من طلب الداني والمساوي؟

الجواب :

إن أمر الداني والمساوي يدل بالوضع على الوجوب تماما كأمر العالي ، ولكن الطاعة لا تجب إلا بحكم العقل ، وهو لا يحكم بها إلا اذا صدر الأمر من العالي بحق حيث لا قدسية لغيره.

اتحاد الطلب والارادة

هذه المسألة مكانها في علم الكلام ، لأنها كلامية بحت ، ولا تمت الى الفقه وأصوله بسبب ، ولكن علماء السنّة أشاروا اليها في كتب الأصول ، وفي مبحث الأمر بالخصوص لا لشيء إلا لمكان كلمة الأمر والطلب ، وتبعهم جماعة من علماء الشيعة ، وأطالوا الحوار نقضا وإبراما بلغة العلّامة المتعمق لا بلغة خالي الذهن وطالب الفهم! وأشرنا اليها نحن لإعطاء فكرة واضحة عن أصل الموضوع وبقصد التسهيل وشق السبيل الى فهم عبارة الكفاية المقررة للتدريس وغيرها ، وليكون الطالب على بينة مما يقرأ ويسمع ، ولا يخبط في التيه ، وهو في توهمه الطريق الواضح.

بين المعتزلة اتباع واصل بن عطاء ، والأشاعرة ـ وهم السنّة ـ أتباع أبي الحسن الأشعري ، بين هاتين الطائفتين خلاف كبير في العديد من مسائل العقيدة .. والشيعة الإمامية يلتقون مع السنّة في بعض هذه المسائل دون المعتزلة ، وأيضا يلتقون مع المعتزلة دون السنّة في بعضها الآخر (١). ومن هذا البعض مسألة اتحاد الطلب والإرادة.

__________________

(١) في آخر كتاب معالم الفلسفة الإسلامية فصل بعنوان الإمامية بين الأشاعرة والمعتزلة ـ ذكرت فيه طرفا من هذه المسائل. وللأخ العلامة السيد هاشم معروف كتاب خاص باسم الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة.

٥٠

وملخصها أن السنّة قالوا في كتب علم الكلام وأصول الفقه : لا تلازم إطلاقا بين الإرادة والطلب المدلول عليه بالأمر والنهي ، وان الله سبحانه كثيرا ما يأمر عبده بما يكرهه منه ولا يريده ، وينهاه عما يحبه منه ويريده. واستدلوا على ذلك بأن كل ما وقع ويقع في الوجود من خير وشر فهو مراد لله ، وكل ما لم ولن يقع فهو غير مراد له خيرا كان أم شرا ، لأنه تعالى ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن.

والثابت بالقطع والاتفاق أن الله طلب الإيمان من الكافر الذي عصى وأصر على الكفر ، ولو كانت الإرادة عين الطلب أو لا تنفصل عنه بحال لكان الله مريدا للإيمان الذي طلبه من العاصي ، وهذا محال لأن معناه ان الله أراد شيئا من عبده ولكن العبد غلب الخالق على ما أراد .. مضافا الى أن الله سبحانه يعلم مقدما أن العاصي المتمرد لن يؤمن بحال ومع ذلك طلب منه الإيمان وأمره به ، وبديهي أن الحكيم يستحيل في حقه أن يريد شيئا وهو يعلم سلفا بأنه ممتنع الوجود ومستحيل الوقوع. وإذا بطل هذا تعين أنه لا تلازم بين الطلب والإرادة. وأنه تعالى يطلب الإيمان من المتمرد ولا يريده بدليل عدم تحققه ، وانه سبحانه ينهاه عن الكفر وهو يريده منه بدليل تحققه. (انظر من كتب الأصول للسنّة كتاب جمع الجوامع وشرحه مبحث الأمر ، ومن كتب علم الكلام الجزء الثامن من المواقف وشرحه المقصد الرابع في ان الله مريد لجميع الكائنات ، غير مريد لما لا يكون).

وقال الشيعة والمعتزلة : ان الارادة لا تنفصل عن الطلب بحال ، والدليل على ذلك واضح وبسيط ، وهو أن الناس ، كل الناس ، يفهمون بالفطرة أن العاقل إذا أراد شيئا من غيره طلبه منه وأمره به ، وإذا كره شيئا منه نهاه عنه وحذره منه. ويستحيل في حقه تعالى أن يطلب الايمان من المعاند ولا يريده ، وينهاه عن الكفر ويريده ، يستحيل ذلك لأمرين :

١ ـ ان من طلب شيئا لا يريده ، أو نهى عن شيء يريده فهو أحمق وسفيه في نظر العقلاء. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. واذا استحال في حق الحكيم أن يريد ما يعلم مقدما انه محال وممتنع ـ كما يقول السنّة ـ فأيضا يستحيل في حقه أن يطلبه ويأمر به.

٥١

٢ ـ قال سبحانه : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ـ ٦ المائدة». وليس من شك ان إرادة التطهير منه تعالى لعباده هي عين إرادة الإيمان وكراهية الكفر ، والى هذا يومئ قوله : (لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) حيث لا نعمة إطلاقا توازي نعمة الإيمان. وأيضا قال سبحانه : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ـ ٧ الزمر» .. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ـ ٣١ غافر». واذا عطفنا على هذه الآيات وأمثالها ، عطفنا عليها الآيات الآمرة بالإيمان الناهية عن الكفر ـ تبين لنا جليا ان إرادته لا تنفصل عن طلبه أمرا ونهيا.

أما القول بأن الله لو أراد الإيمان من المعاند المتمرد لكان سبحانه مغلوبا على أمره ، لأنه لم يبلغ ما أراد ، أما هذا القول فجوابه ان لله إرادتين : إرادة الخلق والتكوين ، وهي التي يوجد المراد بمجرد وجودها ، ولا ينفصل عنها بحال ولا تحتاج الى كلام وصيغة حتى يقال : هل هي متحدة مع الطلب أو منفصلة عنه. والارادة الثانية إرادة التشريع ودعوة المكلف الى الطاعة والامتثال بإرادته واختياره. ولا بد لهذه الارادة من أمر ونهي ودعوة لعمل الخير والكف عن الشر بلا جبر وإكراه.

ومن قال باتحاد الطلب والارادة أو بالتلازم بينهما قصد إرادة الإرشاد والتشريع لا إرادة الخلق والتكوين. وليس من شك ان إرادة التشريع والدعوة لا تستلزم المراد إلا اذا اختار المكلف ، لأن المأمور به أو المنهي عنه مشروط بهذا الاختيار .. وأي عالم يشك في أن الله أمر بالمشروعات ونهى عن المحظورات بإرادة التشريع دون التكوين ، وان عليها وحدها مدار الابتلاء والمثوبة والعقوبة. قال سبحانه : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ـ الكهف». وفي نهج البلاغة : «إن الله يختبرهم .. وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب».

٥٢

صيغة افعل

الأمر دون حروفه

عقد الأصوليون للأمر فصلين ، تحدثوا في الأول عن لفظه ومادته (أم ر). وتكلموا في الثاني عن صيغته دون حروفه مجتمعة. ونحن وجدنا آباءنا على أمة فاقتدينا وخصصنا الفصل السابق للمادة ، وهذا الفصل لكل صيغة تدل على الأمر تماما كما فعل السلف.

وتسأل : ان موضوع البحث عام في هذا الفصل لكل صيغ الأمر كما أشرت سواء أكانت فعل أمر كأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، أم فعل مضارع اقترن باللام مثل فلينفق ذو سعة من سعته ، أم جملة خبرية كالمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أم اسم فعل نحو صه بمعنى اسكت ، ومه بمعنى اكفف وغير ذلك. وما دام البحث بهذا العموم والشمول فلما ذا عنونه الأصوليون بصيغة «افعل»؟.

الجواب :

لخفتها وكثر استعمالها بخاصة في النصوص الشرعية.

سؤال ثان : ان معنى مادة الأمر وصيغته واحد ، ولا فرق إلا في الشكل واللفظ ، فلما ذا أفرد الأصوليون لكل منهما فصلا مستقلا؟.

الجواب :

١ ـ قد جرى الخلاف حول لفظ الأمر هل هو موضوع الطلب القول :

افعل فقط ، أو لطلب هذا القول والفعل ، كما سبقت الإشارة ، وهذا النزاع لا يتصور إطلاقا في صيغة افعل.

٥٣

٢ ـ من تتبع النصوص الشرعية كثيرا ما يرى صيغة افعل مستعملة في الندب حتى ظن كثيرون أنها موضوعة للقدر المشترك بينه وبين الوجوب ، ولم يرد لفظ الأمر للندب في هذه النصوص ، أو ورد نادرا. ومن هنا جرى البحث في كل على حدة.

العرف وصيغة افعل

في كتاب (جمع الجوامع وشرحه) ان صيغة افعل ترد لستة وعشرين معنى ، وذكرها كاملة مع التمثيل لكل معنى ، من ذلك الوجوب : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، والندب : (فَكاتِبُوهُمْ) ، والامتنان : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ) ، والإكرام : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) ، والتعجيز : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، والامتهان : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) الخ .. ومن النظرة الأولى الى أكثر هذه المعاني ومواردها ـ نجد صيغة افعل مستعملة في غير مكانها الطبيعي ، وكفى بذلك دليلا على الخروج عن محل الكلام.

وفي تقريرات النائيني لتلميذه الخراساني أن صيغة افعل لم تستعمل إطلاقا في أي معنى من تلك المعاني حتى الوجوب ، ويتلخص دليله المطول بأن المادة في افعل موضوعة للحدث ، والهيئة للنسبة الانشائية ، ولا شيء وراء ذلك ـ مثلا ـ المادة في اضرب موضوعة للضرب ، والهيئة لنسبة الضرب الى الضارب ان شاء لا إخبارا ، فأين الوجوب والتهديد وما اليهما؟.

أجل ، ان انشاء النسبة يكون مرة بقصد الطلب ، وتارة بدافع الامتهان ، وحينا بداعي التهديد ، الى آخر ال ٢٦ معنى. وليس معنى هذا ان كلمة افعل بمادتها أو بهيئتها أو بهما معا ـ موضوعة أو مستعملة في شيء من هذه المعاني ، كلا بل مستعملة في معنى واحد فقط ، وهو انشاء النسبة ، كما أشرنا. وبعد ثلاث صفحات قال المقرر ما معناه : نعم ، اذا أنشأ الشارع أو المولى نسبة الفعل الى الفاعل مريدا بعثه وتحريكه نحو الفعل ، اذا كان الأمر كذلك حكم العقل بوجوب الطاعة ، وعليه يكون الوجوب بحكم العقل لا بدلالة اللفظ.

وقد يكون هذا القول مسموعا من جانب النقاش النظري ، أما من الجانب العملي فلا جدوى منه ، ولا يسوغ الركون اليه في محل النزاع والخلاف ، وهو كما حرره الأصوليون ، ما ذا يفهم أهل العرف من صيغة افعل اذا تجردت عن

٥٤

كل القرائن؟ وليس من شك ان النسبة والناسب والمنسوب أبعد الأشياء عن إفهامهم ، وانهم لا يفهمون من افعل إلا وجوب الفعل ، وعليه استقر رأي الجمهور قولا وعملا للأسباب التالية :

١ ـ كل الناس يفهمون ويعلمون ان البدوي اذا قال لولده : اعقل الناقة فإنه لا يرضى عنه إلا اذا صدع بالأمر ، ونفس الشيء اذا قال الحضري لسائق سيارته : ضعها في المرأب ، ويرون الولد أو السائق عاصيا يستحق الذم اذا هو هو ترك وأهمل ، ولا تنفعه المعذرة بأن صيغة افعل لوحدها وبلا قرينة لا تدل على الإلزام والوجوب.

٢ ـ إن الفقهاء قديما وحديثا يستدلون على وجوب الفعل بصيغة افعل في كتبهم وحوارهم واحتجاجهم بلا تردد وتوقف ، لأن دلالتها على الوجوب عندهم من المسلّمات الأولية حتى عند من ناقش في الأصول وأشكل.

٣ ـ ذم سبحانه من خالف الأمر بصيغة افعل ، ولا ذم بلا وجوب. من ذلك قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) ـ ٤٨ المرسلات». وقوله : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) ـ ٣٨ التوبة».

وبعد ، فلا مبرر لتكثير الكلام في صيغة افعل ودلالتها ، لأن هذا الموضوع لفظي بحت يعتمد على إفهام العرف لا على الدقة العقلية ، والتجليات العلوية. وغرضنا من الاشارة الى القول بالنسبة الانشائية هو مجرد توضيح الفكرة التي ركّز عليها المرزا النائيني في تقريراته ، ومن قبله الشيخ التقي في حاشيته على المعالم.

وتسأل : لقد استعمل الشارع صيغة افعل في الوجوب والندب معا كقوله : «اغتسل للجنابة والجمعة» فالغسل الأول واجب والثاني مستحب ، ومعنى هذا أن الصيغة موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، وليس للوجوب وحده كما قلت.

الجواب :

ان مجرد الاستعمال لا يدل على الحقيقة لأنه أعم منها ومن المجاز. أما القول بأن الأصل في الاستعمال الحقيقة فقد أصبح في خبر كان ، وحلّ مكانه أصل الحقيقة في تعيين المراد دون الوضع. وتقدم الكلام عن ذلك.

٥٥

الرخصة والعزيمة

من المعلوم بالضرورة أن الأحكام الشرعية خمسة أنواع : الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة. وعدّ الإباحة مع التكاليف من باب المجاز والإلحاق حيث لا كلفة فيها ، ولا عتاب على تارك المباح ، ولا ثواب لفاعله. والفرق بين هذه الأنواع واضح لا يحتاج الى شرح وبيان.

وقال الأحناف : الأحكام سبعة حيث قسموا ما لا يجوز تركه الى فرض وهو ما ثبت وجوبه بطريق القطع ، والى واجب وأرادوا به ما ثبت وجوبه بطريق الظن. وأيضا قسموا ما لا يجوز فعله الى حرام بقول مطلق وهو ما ثبت تحريمه بالقطع ، والى مكروه كراهة تحريم وهو ما ثبت تحريمه بالظن ، أما ما يرجح تركه ويجوز فعله فأطلقوا عليه كراهة تنزيه. ولا بأس بتعدد الأسماء ما دام المسمى واحدا.

ومن جهة ثانية قسم الفقهاء الحكم الى رخصة وعزيمة ، والعزيمة عبارة عن الالتزام بما أوجب الله وحرّم ـ مثلا ـ أوجب الصلاة قصرا في السفر فلا تصح تماما مع الالتفات ، وحرّم الصلاة على الحائض فلا تقبل منها بحال. أما الرخصة فعلى التخيير بين الفعل والترك ، لأن القصد منها مجرد التسهيل ورفع التشديد كالإذن للشيخ والشيخة بالإفطار مع القدرة على الصيام ، ولكن بشدة ومشقة. وتجتمع الاباحة مع الرخصة في هذا المثال ، وتفترقان في الافطار في غير شهر رمضان ، لأنه مباح بالأصل ، ولا يقال : رخص الشارع بالأكل في شوال ـ مثلا ـ بل أباحه. أما العزيمة فلا تنفصل عن الوجوب والحرمة.

وأيضا قسم الفقهاء الحكم الى تكليفي كالوجوب والحرمة كما أشرنا ، والى وضعي كالصحة والفساد ويأتي الكلام عنه ان شاء الله.

الأمر بعد الحظر

سبق أن الكثرة الكاثرة من الأصوليين قالوا : ان الأمر بمادته وهيئته يدل على الوجوب ، وقد احتاج هؤلاء الى جولة ثانية مع الأمر ، وذلك إذا ورد بعد الحظر مجردا عن القرينة ـ فهل يبقى على وصفه ودلالته كما كان ، أو انه

٥٦

ينصرف عن الوجوب الى الاذن والرخصة بالفعل والترك؟ وهذا النزاع لا يشمل القائلين بأن الأمر لا يدل على الوجوب ، لأن الاذن بالترك لا ينفصل عن الأمر إطلاقا ـ كما هو الفرض ـ تقدم عليه نهي ، أم لم يتقدم. وفيما يلي نحرر النزاع بين القائلين بدلالة الأمر على الوجوب بكلام أكثر وأوضح.

ورد في النصوص الشرعية نهي بعده أمر ، والمأمور به ـ عين المنهي عنه. من ذلك ـ على سبيل التمثيل ـ ما رواه مسلم في صحيحه : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» فصيغة افعل وهي هنا «زوروها» تدل على الوجوب اذا كانت غير مسبوقة بنهي فهل هي أيضا تدل عليه اذا سبقت به بحيث يصبح الحرام واجبا ، أو ان صيغة الأمر تنصرف عن الوجوب ، في مثل هذه الحال ، الى الرخصة والتخيير بين الفعل والترك بحيث يصير المنهي عنه جائزا لا واجبا؟.

قيل ببقاء دلالة الأمر على ما هي ، وذلك بأننا نعلم يقينا ان الأمر يدل على الوجوب في حال عدم تقدم النهي ، وبعد تقدمه شككنا هل هذا النهي صرف الأمر عن ظاهره الى الرخصة ، أم بقي هذا الظاهر كما كان وان وجود النهي وعدمه سواء؟ وبديهي ان الأصل في مثل هذه الحال يوجب بقاء ما كان على ما كان ، لأن اليقين لا ينقض بالشك.

وقيل بالتوقف عن الحكم سلبا وايجابا ، لأن الأمر هنا مردد بين الرخصة والوجوب ، ولا حكم مع الشك والتردد.

وذهب الأكثر ـ كما قيل ـ الى الرخصة ورفع الحجر ، لأن الغالب في عرف الشارع أن يستعمل الأمر بعد الحظر لمجرد الإذن ورفع الحجر ، واستشهدوا على ذلك بالعديد من الآيات ، منها قوله تعالى : (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) بعد قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) ـ ١٠ الجمعة». وقوله سبحانه بعد المنع عن الصيد : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) ـ ٢ المائدة». وقوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) بعد قوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) ـ ٢٢٢ البقرة» .. الى غير ذلك كثير. وهذه الكثرة في الاستعمال قرينة على صرف الأمر عن الوجوب الى الرخصة ورفع الحجر.

وكررنا القول فيما تقدم : إن مجرد الاستعمال لا يغني شيئا في باب الحقيقة ، بالاضافة الى ان هذه الآيات خارجة عن موضوع البحث من الأساس ، أما الآية الأولى فلأن البيع حلال بطبعه كما في الآية ٢٧٥ من سورة البقرة (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)

٥٧

وانما عرض عليه التحريم لمكان الصلاة ، فإذا أقيمت وقضيت زال التحريم العارض عن البيع ، وعاد الى حكمه السابق وهو الحل ، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. ونفس الشيء يقال في الآية الثانية والثالثة ، فإن الصيد والقرب من النساء كل منهما حلال بطبعه ، وانما عرض التحريم على الأول لمكان الإحرام للحج ، وعلى الثاني لمكان الحيض ، ومتى حصل الطهر من الحيض وانتهى المحرم من إحرامه ـ زال العارض عن الصيد والقرب ، ورجع كل منهما الى حكمه السابق.

وهكذا الحال في سائر آيات هذا الباب وأحاديثه. وعليه فلا يجوز الاستدلال بشيء منها فيما نحن بصدده ، لأن موضوع البحث في دلالة الأمر بعد الحظر مجردا عن كل القرائن. وفي رأينا ان مجرد ورود الأمر بعد الحظر هو شاهد ناطق بصرفه عن الوجوب الى الاذن والرخصة. هذا ما أحسه وأفهمه ، واذا لم يكن فهمي حجة على الآخرين فهو حجة لي ولله عليّ لحديث «إن الله يحتج على الناس بما آتاهم وعرّفهم».

لا بدار ولا تكرار

من البديهي أن الأمر يدل على وجوب الاتيان بالمأمور به وكفى ، لا يقتضي مرة ولا تكرارا ، ولا تأخيرا وبدارا .. واذا أراد الآمر شيئا من ذلك فعليه البيان بغير صيغة الأمر ، لأن المرة والتكرار والتأخير والبدار قيود زائدة وخارجة عن طبيعة المأمور به ، والقيد الزائد يحتاج الى بيان زائد.

ومن يأتى بالمطلوب مرة واحدة فقد امتثل وخرج من العهدة ، لا على ان الأمر يدل على المرة بل لأن المطلوب ماهية الفعل ، والمرة ضرورة للامتثال إذ لا شيء أقل منها. وبكلمة : تلزم المرة بحكم الطاعة لا بإطلاق اللفظ ودلالته ، ومن بادر أو كرر فقد تطوع.

وعليه فإن قام الدليل على أن هذا الواجب مؤقت كالصوم والصلاة ، وذاك الواجب غير مؤقت كالكفارات وقضاء ما فات ـ فنحن مع الدليل ، وكذلك ان قام الدليل على المرة كالحج أو على التكرار كالفرائض اليومية وإلا فلا بدار ولا تكرار.

وفي تقريرات المرزا النائيني لتلميذه الشيخ الخراساني ص ١٣٤ طبعة سنة ١٣٦٨ ه

٥٨

ما نصه بالحرف الواحد : «لما كانت مباحث مسألتي الفور والتراخي والمرة والتكرار قليلتي الجدوى بل لا طائل تحتهما كان الاعراض عنهما أجدر». أما السيد الخوئي فقد نقل عن استاذه النائيني وصف الخلاف في هاتين المسألتين بالبطلان (انظر التقريرات ص ١٦١ طبعة سنة ١٣٤٨ ه‍).

الأمر بالأمر

إذا قال حسن لخالد : آمرك أن تأمر زيدا بالسفر فهل يكون أمر حسن أمرا بالسفر؟.

قال الغزالي في المستصفى : «الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء ما لم يدل عليه دليل».

وقال القمي في القوانين ، وغيره من علمائنا : «الأظهر أن الأمر بالأمر أمر ، لفهم العرف والتبادر». وهكذا نفهم نحن.

٥٩

التعبد والتوصل

بين التعبدي والتوصلي

بعد الحديث عن الأمر ودلالته على الوجوب ـ نتحدث عن الواجب وأقسامه ، وهي كثيرة ومتنوعة تبعا لتنوع التكليف والحيثيات ، كتقسيمه الى مطلق ومقيد ، ومعلق ومنجز ، ومخيّر ومعيّن ، وعين وكفاية ، وموسع ومضيق ، وتعبد وتوصل. ويأتي الحديث عن هذه الأقسام ، والكلام الآن في التعبد والتوصل.

وكل واجب لا يؤدى على وجهه الأكمل إلا مع قصد الطاعة وامتثال الأمر الذي تعلق به فهو تعبدي سواء أكان من نوع المخترعات الشرعية كالصلاة ، أم لم يكن كالذبح والنحر والحلق والتقصير أيام الحج. وكل واجب لا يشترط فيه هذا القصد عند الطاعة والامتثال فهو توصلي. وأهم ما في هذا الفصل هو البحث في أن ظاهر الأمر هل يقتضي التعبد أو التوصل أو لا ذا ولا ذاك؟.

ومهدنا بهذه الإشارة في صدر البحث ليكون الطالب على بصيرة من الهدف المقصود منه ، وسيظهر ذلك بصورة أوضح من خلال ما نعرضه فيما يلي :

المباشرة والإرادة والإباحة

إذا علم المكلف بأن هذا الفعل فرض عين لا كفاية ، وأنه هو المسئول عنه دون غيره ، ولكنه شك في سقوطه عنه إذا تبرع بأدائه متبرع ، أو استناب المكلف شخصا عنه في الأداء ، وقام به النائب على وجهه ـ إذا كان ذلك فهل

٦٠