علم أصول الفقه في ثوب الجديد

محمّد جواد مغنية

علم أصول الفقه في ثوب الجديد

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التيار الجديد
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٥٦

فإذا تصرف المشتري في سلعة ابتاعها من صاحب اليد تصرف المالك في ملكه فعليه بطبيعة الحال أن يعامل صاحب اليد معاملة المالك لما في يده وإلا بطل تصرفه هو في السلعة وناقض نفسه بنفسه.

اما الفقرة الثانية فهي : «ولو لم يجز ذلك ما قام للمسلمين سوق» فإن هذا التعليل إمضاء متين وصريح لما عليه الناس ، يستمد قوته ومتانته من صميم الحياة ونظامها وقوامها ، ومنه نستكشف أن اليد أمارة حيث لا تعبّد وعبودية في طريقة أهل العرف ، بل لا بد من سبب معقول ومقبول ، ولا سبب هنا نتصوره ونتعقله أقرب وأوثق من أن اليد تكشف عن الملكية. ومرة ثانية نقول بشرط الجهل بحالها وعدم العلم بأنها أمانة أو عارية أو غاصبة.

اليد عند التخاصم

اليد تشهد لصاحبها بأنه مالك لما في يده بشرطها وشروطها ، فإن نازعه فيه منازع فعليه الاثبات ، ولو عكسنا الأمر وكلفنا صاحب اليد بالاثبات لمهدنا السبيل إلى الفوضى ، وتكثير دعاوى الزور ، واحتاجت قرية صغيرة لعشرات القضاة.

أجل ، تدل اليد على الملك بظاهر الحال ، وهذا الظاهر قوي يطرح معه احتمال الخلاف في مقابل الأصل العملي ، فإذا ادعى مدع على صاحب اليد وكان الأصل العملي معه فلا نتمسك بهذا الأصل ، بل نسقطه ، ونتمسك بظاهر اليد ، وعلى المدعي أن يثبت دعواه بمثبت أقوى من ظاهر اليد ، والمثبت الأقوى هنا إقرار صاحب اليد ، والبيّنة العادلة.

استصحاب حال اليد

قلنا : ان اليد أمارة ظاهرة في الملك بشرط الجهل بحالها ، فإذا علمنا بهذه الحال ، وأن صاحب اليد كان قد استأجر أو اغتصب العين التي بيده ونحو ذلك من العارية وغيرها ، ثم شككنا : هل انتقلت هذه العين بسبب مشروع الى صاحب اليد ، إذا كان ذلك استصحبنا حال اليد وصفتها وأبقينا ما كان على ما كان

٤٠١

حتى يثبت العكس ، وهذا الاستصحاب حاكم ومقدم على اليد تماما كما تحكم هي وتتقدم على الاستصحاب حين الجهل بحالها وسببها.

وإذا قال صاحب اليد للمدعي : كانت العين لك ، وانتقلت منك إليّ بالشراء أو بالهبة ، وأنكر المدعي ذلك ـ انقلبت الدعوى وصار المدعي منكرا ، والمنكر مدعيا ، وعلى صاحب اليد عبء الاثبات بعد أن كان هذا العبء على عاتق خصمه.

ولو قال صاحب اليد : ملكتها من فلان ـ غير المدعي ـ تبقى اليد على أمارتها وظاهرها ، ويبقى صاحب اليد على ملكه وسلطانه ولا ينقلب مدعيا لأنه أقر لغير طرف من أطراف الدعوى ، ويبقى خصمه مدعيا ومسئولا عن الاثبات واقامة البينة.

وتسأل : لنفترض أن صاحب اليد لم يقر بأن العين كانت للمدعي ولا لغريب عنه ، بل أقر إلى مورث المدعي ، كما لو قال له : ملكتها من أبيك ، فهل تنقلب الدعوى ويصير صاحب اليد مدعيا ، ويسقط ظهور يده عن الاعتبار؟.

الجواب :

كلا ، حيث لا ملازمة بين الإقرار بأن العين كانت ملكا للمورث وبين الاقرار بأنها قد انتقلت بالارث حتما إلى الوارث إذ من الجائز أن تكون العين قد انتقلت من ملك المورث إلى غيره قبل موته ، وانه مات وهي على غير ملكه ، ولا يمكن أن نثبت بالاستصحاب بقاء ملكه لها إلى حين الموت ، لأن اليد حاكمة على الاستصحاب ورافعة لموضوعه ، وأيضا لا مجال هنا لاستصحاب حال اليد من عارية ونحوها حيث لا علم سابق بهذه الحال كما هو الفرض ، وإذن يبقى صاحب اليد على سلطانه ولا ينقلب مدعيا.

فدك وأبو بكر

ومما سبق يتبين معنا أن قول المعصومة لأبي بكر : ان أباها أنحلها فدكا ـ لا يسقط ظهور يدها في ملكية فدك حيث لا ملازمة بين أن يكون النبي (ص)

٤٠٢

مالكا لفدك في آن من الآنات ، وبين أن ينتقل إلى ربه وهو مالك لفدك ، أبدا لا ملازمة هنا كي تنتقل فدك بالإرث من النبي إلى المسلمين أو إلى أبي بكر بوصفه وكيلا عنهم.

لقد كان على أبي بكر أن يقيم أولا وقبل كل شيء البينة على ان النبي توفي مالكا لفدك وانها من جملة ما ترك ، ثم يحتج على سيدة النساء فاطمة ، ولكنه عكس الأمر وطلب البينة من صاحب اليد المالكة المتصرفة ، طلب منها البينة لا لشيء إلا لمجرد دعواه بأن ما تركه أبوها فهو صدقة!. ونحن نسلم ـ جدلا ـ بذلك ، ولكن نتساءل : هل كان النبي (ص) يملك فدكا حين وفاته حتى يصدق عليها أنها من جملة ما ترك؟ كيف ، وقد ذهب إلى ربه وفدك ليست في يده ولا في تصرفه ، بل في يد السيدة المعصومة وفي سلطانها وتصرفها باعتراف أبي بكر وجميع الصحابة.

وبعد ، فإن حكاية المعصومة وفدك وأبي بكر تماما كحكاية والد وهب ولده دارا وسكنها الولد في حياة الوالد ، وبعد موت الوالد جاء فلان الفلاني وقال للولد الساكن المتسلط : عليك أن تخلي الدار وتسلمني إياها لأن أباك قد أوصى لي بجميع ما ترك ، قال هذا دون أن يثبت أن الدار من جملة ما ترك الموصي! ومع التسليم بالوصية وصحتها هل يسوغ لعاقل وفاهم أن يقول للولد المتسلط عليك أن تسلم الدار للمدعي لأن أباك قد أوصى له بجميع ما ترك بعد العلم بأن أباه مات ، وهذه الدار على غير ملكه ، لأنها في يد غيره ، واليد تدل على الملك؟.

اليد والوقف

قلنا : ان اليد أمارة على الملك مع الجهل بحالها ، وانه مع العلم بالحال نستصحب هذه الحال المعلومة ، ولا نأخذ باليد ، ونشير هنا الى ان اليد قد تسقط عن الأمارة والدلالة على الملك حتى مع الجهل بالحال السابقة ، وذلك فيما إذا استولت يد على عين نعلم بأنها ـ فيما مضى ـ كانت وقفا بلا ريب ، وحين رأينا اليد عليها تساءلنا : هل عرض لهذه العين عارض جعلها قابلة ومؤهلة للملك

٤٠٣

والنقل والانتقال ، وأن صاحب اليد استولى عليها بعد عروض السبب المشروع ، أو ان العين ما زالت وقفا على هويتها الأولى ، وان صاحب اليد معتد أثيم؟. فهذا المورد وأمثاله يجري فيه الاستصحاب ، ولا أثر لليد إطلاقا.

والدليل على ذلك ان اليد لا تدل على ملكية العين إلا بعد التثبت واليقين بأنها قابلة ومؤهلة للملكية ، وليس من شك في أن هذه القابلية والأهلية لا تثبت باليد ، ولا تدل عليها من قريب أو بعيد ، وإنما تثبت بسبب آخر لا يمت إلى اليد بصلة ، وأي عاقل يستدل على وجود الموضوع في الخارج بدليل حكمه ، وعلى بلوغ الغلام رشده بنفس العقد الذي أجراه مع آخر بالغ راشد؟.

٤٠٤

قاعدة الفراغ والتجاوز

لمجرد التمهيد

قد يطلب منك أن تقوم بعمل معين ، فتستجيب وتفعل ، وبعد فراغك من العمل شككت وترددت : هل أديت المطلوب بالكامل ، أو ضيعت وقصرت في جزء أو شرط؟. إذا كان ذلك فما ذا تصنع؟ هل تستأنف العمل وتعيده من جديد ، أو تمضي في شأنك ولا تلتفت تماما كما لو أيقنت وآمنت بصحة ما فعلت وسلامته. هذا هو موضوع قاعدة الفراغ التي تقول : امض ولا تعتدّ بشيء من هذا النوع من الشك.

أما موضوع قاعدة التجاوز فهو أن تشك وأنت في أثناء العمل : هل ذهلت عن بعض ما يعتبر فيه بعد أن تجاوزت محله المقرر له ، كما لو شككت في الركوع بعد الدخول في السجود.

هذه صورة مجملة ، ولمحة خاطفة عن قاعدة الفراغ والتجاوز ، مهدنا بها ليكون القارئ الغريب عن هذا الفن على شيء من فهم ما يقرأ ، وان كان في هذا التمهيد ثغرة يجب أن تسد أو شرط ينبغي أن يضاف فالحديث الآتي فيه تبيان ما لا بد من بيانه.

أصل لا أمارة

قيل : ان قاعدة الفراغ والتجاوز أمارة لا أصل ، لأن العاقل إذا أراد وعزم

٤٠٥

على فعل شيء يتضمن العديد من الحركات المتنوعة وباشره ـ فلا ينصرف عنه إلا بعد تمامه وإكماله على الوجه المطلوب ، وهذه الحال تدل بظاهرها على أن الفاعل قد أتى بكل ما قصد الإتيان به. ويعزز ذلك ـ ما زلنا نتكلم بلسان القيل ـ قول الإمام (ع) : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» فإنه يومئ إلى ان هذه القاعدة أمارة لا أصل حيث اعتبر من يباشر أي عمل من الأعمال ذاكرا ملتفتا إلى ما قصد وأراد ، ولا شك أن هذه الحال ظاهرة في أن الفاعل ما ترك شيئا من أهدافه ومقاصده. هذا كل ما يملكه القائلون بالأمارة.

أما نحن فلم يتضح لدينا الوجه السليم لهذا القول لأن الفرق الأساسي بين الأمارة والأصل أن الأمارة فيها جهة كاشفة دون الأصل ، والكشف يدرك بالحس والتبادر لا بالفلسفات والنظريات ونحن لم ندرك هذا الكشف بأي سبيل فكيف نؤمن به ، أما قول الإمام (ع) : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» فلعله اشارة إلى أصل عدم النسيان ، أو أي شيء آخر غير الكشف والظهور ، هذا إلى أن الشارع بما هو شارع قد يتمم الكشف ويكمل ما فيه من نقص ، اما أن يوجده ويخترعه فلا. وعليه فالأقرب أن هذه القاعدة أصل لا أمارة. وان قال قائل : ان الشارع هنا اكمل الكشف الموجود لا إنه أوجد الكشف من عدم ـ أعدنا القول مرة ثانية : لم يتضح لنا هذا الكشف.

وعلى جميع الأقوال والأحوال فإن هذه القاعدة مقدمة على الاستصحاب بالاتفاق لأن دليلها أخص من دليله ، ومورده أعم من موردها ، ولو تقدم هو عليها لوجب طرحها واهمالها من الأساس ، ولم يبق لها من مورد وموضوع.

مدرك القاعدة

حاول بعض الفضلاء أن يرجع هذه القاعدة إلى بناء العقلاء ، وأن الشارع رضي وأمضى ما تبنّوه وفعلوه. والحق أن المدرك هو الضرورة المذهبية ، وان كان هناك بين الفقهاء من خلاف فهو في التطبيق والجزئيات لا في المبدأ والفكرة. والسبب الأول لهذه الضرورة النصوص الصحيحة الصريحة عن الآل الأطهار (ع). ومنها ما يلي :

«إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء .. إن شك

٤٠٦

في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيء شك فيه ، وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه .. كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو .. إذا شككت في الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء ، انما الشك في شيء لم تجزه .. كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه كما هو .. وعن رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ منه قال الإمام : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك».

وبعد أن اتفق علماؤنا على العمل بهذه الأخبار اختلفوا : هل يستفاد منها قاعدة واحدة أو قاعدتان؟ وأيضا اختلفوا حول المراد من بعض محتوياتها ومفرداتها كلفظ الشيء ، والمحل ، والدخول بالغير ، وكلمة الشك ونحو ذلك مما نشير اليه فيما يلي :

قاعدة أو قاعدتان؟

هل يستفاد من أخبار هذا الباب قاعدة واحدة تسمى باسم مركب من الفراغ والتجاوز ، أو قاعدتان تستقل كل منهما عن الثانية معنى ومبنى إحداهما تسمى قاعدة الفراغ ، والثانية قاعدة التجاوز؟.

الجواب :

لا بد أولا وقبل كل شيء من النظر إلى موارد الأخبار وتتبعها بالكامل ، وهي لا تخلو من أحد فروض ثلاثة :

١ ـ أن تكون جميع مواردها من نوع واحد كالشك في أصل وجود الشيء من حيث هو لا في صحة الشيء المفروض وجوده بالفعل ، وعليه يكون المستفاد من الأخبار قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز عن المحل.

٢ ـ أن تكون جميع الموارد أيضا على نسق واحد ، ولكن الشك تعلق بصحة الشيء الموجود بالفعل لا بأصل وجوده من حيث هو ، وعليه يكون المستفاد منها أيضا قاعدة واحدة هي قاعدة الفراغ.

٣ ـ أن تكون موارد الأخبار من النوعين لا من نوع واحد ، بعضها مورده الشك في أصل الوجود ، وبعضها الآخر في صحة الشيء الموجود ، فيكون المستفاد من الأخبار قاعدتان : الاولى قاعدة الفراغ ، والثانية قاعدة التجاوز.

٤٠٧

وإذا رجعنا إلى الأخبار ونظرنا اليها على هذا الأساس ، وجدنا مورد البعض منها الشك في صحة الشيء الموجود كقول الإمام (ع) : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فأمضه. وقوله : كلما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو. وأيضا وجدنا مورد البعض منها الشك في أصل الوجود من حيث هو كقول الإمام : إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما.

وعليه فلا مناص من القول بوجود قاعدتين : احداهما قاعدة الفراغ ، ومحلها الشك في صحة العمل بعد الفراغ منه ، والثانية قاعدة التجاوز ، ومحلها الشك في أصل وجود الشيء بعد الخروج من محله المقرر والدخول في غيره ، وقد تلتقي القاعدتان على صعيد واحد ، وذلك اذا فرغ المكلف من عمل مركب ، وشك في إخلاله ببعض الشروط والأجزاء.

وتسأل : وأي مانع من القول بأن المستفاد من الأخبار قاعدة كلية لمفهوم عام وقدر مشترك بين النوعين؟.

وأجابوا عن ذلك بأنه لا قدر مشترك بينهما لمكان التغاير والتنافر بخاصة ان كلمة «في» في قول الإمام : «شككت فيه» حرف ، ومعاني الحروف جزئية لا كلية. قال الآشتياني هنا من جملة ما قال : «ان معاني الحروف آلية ربطية جزئية لا تجمع بين معنيين في اطلاق واحد».

وقال الأنصاري : يمكن إرجاع المعنيين إلى معنى واحد ، وهو الشك في وجود الشيء الصحيح الذي يشمل الشك في أصل الوجود ، والشك في صحة الموجود ، وعبّر عن ذلك بأكثر من أسلوب ، من ذلك قوله : «إن الشك في وصف الصحة للشيء ملحق بالشك في أصل الشيء». وفي مكان آخر قال : «إن الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو لأن مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح».

ومهما يكن ، فنحن مع ظاهر الأخبار الدال بصراحة على وجود قاعدتين لا قاعدة واحدة ، لمكان التعدد والتنوع في مواردها. وسجلنا رأينا هذا في كتاب فقه الإمام جعفر الصادق (ع) منذ سنوات ، وما زلنا على هذا الرأي برغم دراسة الموضوع مرة ثانية بروية وعناية. وكل الآراء تحتمل الخطأ والصواب ، وأي عاقل أو عالم لا يتوقع الخطأ في أقواله وأفعاله؟

٤٠٨

المحل

تكلموا هنا في تفسير المحل وما هو المراد منه؟ مع العلم بأن هذه الكلمة لم ترد اطلاقا في أخبار القاعدة ، وانما وردت كلمة الشك ، والفراغ ، والمضي ، والدخول ، والخروج ، والتجاوز ، ولكن التجاوز عن الجزء المشكوك في إتيانه لا يكون أبدا بالتجاوز عنه بالذات لعدم احرازه ، وانما يكون بالتجاوز عن محله ، فاقتضى الواقع بيان المراد من المحل.

ومن البديهي أن محل كل شيء بحسبه ، فمحل الفاتحة في الصلاة ـ مثلا ـ بعد تكبيرة الإحرام وقبل السورة ، ومحل القبول في العقد بعد الايجاب. قال الأنصاري : «محل الشيء مرتبته المقررة له بحيث لو أتى به فيه لم يقع اختلال».

الدخول بالغير

هنا خلافان بين العلماء : الأول هل جاء ذكر الدخول بالغير في هذه الأخبار كغاية وشرط أصيل بحيث إذا تحقق معنى التجاوز والفراغ عرفا بلا الدخول بالغير ـ لا يكفي ولا يسوغ الأخذ بالقاعدة إلا مع الدخول بالغير ، أو أن الأخبار ذكرت هذا الدخول واعتبرته كوسيلة لتحقيق مفهوم التجاوز والفراغ ، فإذا تحقق هذا المفهوم في نظر العرف بلا الدخول بالغير جرت القاعدة من دونه؟.

والحق أن ذكر الدخول بالغير في الأخبار وسيلة لا غاية ولا امتياز له على الاطلاق إلا إذا كان محققا للفراغ والتجاوز عن المحل ، فإذا وجدا من دون الدخول جرت القاعدة وصح العمل بها. وليس من شك في أن الدخول بالغير يوجب العلم واليقين بوجود الفراغ والتجاوز ، وعليه فالأولى اعتباره بخاصة في العبادة من باب الحيطة في الدين.

الخلاف الثاني حدث في معنى الغير والمراد منه. وبما أن الشارع لا عرف له ولا اصطلاح في معنى الغير ـ وجب حمله على كل ما يراه العرف غيرا سواء أكان من المستقلات أم من المقدمات. ومن هنا قال بعض الفقهاء : «إذا شك في كلمة من الحمد ، وقد دخل في كلمة أخرى فضلا عن الدخول في الآية أو السورة أو الهويّ إلى الركوع فقد تجاوز المحل ، لإطلاق قول الإمام : «إذا خرجت

٤٠٩

من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» والكلمة المشكوكة شيء ، والتي تليها غيرها ، ما في ذلك ريب ، ولكن كثيرا من الفقهاء ذهبوا إلى أن الفاتحة بكاملها فعل واحد ، وقال آخر : الفاتحة والسورة فعل واحد!. والتحقيق في كتب الفقه الطوال.

الطهارات الثلاث

لا ريب ولا خلاف في أن قاعدة الفراغ تجري في الصلاة والوضوء والغسل والتيمم ، وفي كل عمل بعد الفراغ منه للإجماع والسيرة القطعية وللروايات الكثيرة ، ومنها ما رواه محمد بن مسلم : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو .. كل ما مضى من صلاتك وطهورك .. فأمضه» وهذا نص على الطهارة بالخصوص.

وأيضا لا شك ولا خلاف في أن قاعدة التجاوز تجري في الصلاة للإجماع والسيرة والروايات ومنها صحيحة زرارة : «في رجل شك في التكبير وقد قرأ قال الامام : يمضي ، قلت : شك في القراءة وقد ركع قال : يمضي ، قلت : في الركوع وقد سجد قال : يمضي».

وأيضا لا إشكال ولا نزاع في أن قاعدة التجاوز لا تجري في الوضوء للإجماع والسيرة وصحيحة زرارة عن الإمام : «إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه».

وإنما الإشكال والخلاف في أن قاعدة التجاوز هل تجري في الغسل والتيمم كما تجري في الصلاة ، أو لا تجري كما هو الحكم في الوضوء؟ ذهب المشهور إلى أنها لا تجري فيهما إلحاقا لهما بالوضوء لأن الجميع من باب الطهارة ، وهي بكاملها فعل واحد في نظر الشارع بالإضافة إلى ان الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

هذا صفوة القول في الطهارات الثلاث ، وللفقهاء فيها كلام طويل عريض يصعب على الطالب أن يتابعه ويسايره ، وينتهي منه إلى ما ينفعه ، ومن أجل هذا خففنا عنه بهذه الخلاصة السهلة الواضحة.

٤١٠

احتمال التعمد

ومن شروط العمل بقاعدة الفراغ والتجاوز أن يكون الشك واحتمال الخلل ناشئا عن سهو لا عمد أو احتماله ، فمن احتمل ترك جزء أو شرط عن قصد فلا يسوغ له أن يجري هذه القاعدة ويتمسك بها لأن قول الامام (ع) : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» لا يتناول إلا من كان مصمما منذ البداية على أن لا يدع صغيرة ولا كبيرة تتصل بالعمل إلا أتى بها ، أما المتعمد أو المتردد فبعيد كل البعد عن مدلول «اذكر منه».

وأيضا لا تجري هذه القاعدة في حق الجاهل ـ مثلا ـ من كان يجهل وجوب الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر في غسل الجنابة ، ثم علم بعد ذلك ، وشك في صحة أعماله الماضية التي لم يحفظ الآن صورتها بالضبط وانه هل كان يغتسل فوضى أو على الترتيب؟ فلا يسوغ له ، والأمر كذلك ، أن يتمسك بقاعدة الفراغ ، وعليه أن يبحث عن دليل آخر لعدم وجوب الاعادة كالإجماع والسيرة ، ونفي العسر والحرج ونحو ذلك غير قاعدة الفراغ.

٤١١

أصل الصحة

لمجرد التمهيد

مورد قاعدة الفراغ والتجاوز هو عمل العامل بشخصه وخصوصه ، أما مورد أصل الصحة فهو عمل الآخرين بحمله على الصحة بمعنى انه (أي الفعل) هو المطلوب الشرعي ، وعدم الاعتناء بالشك في فساده من الوجهة الشرعية ـ مثلا ـ إذا رأيت متعبدا فلا ينبغي لك أن تقول : هذا مراء في عبادته يتخذ منها ساترا ومتجرا إلا أن تعلم ذلك منه علم اليقين.

وهذا الأصل على فطرة الله بساطة ووضوحا ، وأيضا يكشف عن إيمان الاسلام بطبيعة الانسان من حيث هو إنسان بلا فرق بين فرد وفرد وفئة وفئة ، وانه كائن مختار ومنزه عن الخطأ والخطيئة بحكم البراءة الأصلية حتى يثبت العكس ، وليس كالدين المسيحي القائل بأن الانسان عنصر شيطاني خاطئ بطبعه وطبيعته ، ومن هنا كانت نظرية الفداء وغفران الكنيسة أو حرمانها .. من صميم هذا الدين وأركانه.

المدرك

استدل على صحة هذا الأصل بعض من كتب وألّف ، بقوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ـ ٨٣ البقرة». وقوله : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ـ ٣٠ الحج». وقوله : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ـ ١٢ الحجرات». وردوا عليه بأن

٤١٢

هذا الحكم أخلاقي!. يا سبحان الله! وهل أحكام الاسلام غير أخلاقية؟. والرد الاقوى هو أن النهي عن سوء الظن معناه أن العامل لم يرتكب حراما بعقيدته وأنه غير آثم. وهذا شيء ، والحكم بصحة عمله شيء آخر.

وأيضا استدلوا بما جاء عن الآل الأطهار (ع) ومنها : «لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا ، وأنت تجد لها في الخير سبيلا .. من اتهم أخاه فهو ملعون ملعون .. إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الايمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء .. كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة انه قال ، وقال هو : لم أقل فصدقه وكذبهم .. ان اشتبه عليك أمر بعض الناس فكلهم إلى عالم الغيب ، وقل : اللهم اني محب لمن احببت انت ورسولك ، ومبغض لمن أبغضت أنت ورسولك» إلى غير ذلك كثير.

وعلق الأنصاري على هذه الأخبار بقوله : هذا غير ما فيه ، فإن الذي يهمنا أن العقد الصادر من العاقد هل هو صحيح أو فاسد؟ وهذه الأخبار ـ ما زال الكلام للأنصاري ـ تقول : ما يصدر عن الفاعل أحمله على الوجه الحسن لا على الوجه القبيح.

وقول الأنصاري صواب في عالمه ، ولكن لا يمنعنا من القول : ان هذه الأخبار بخاصة قول الإمام (ع) : «كذّب سمعك وبصرك» تدل بصراحة على أن الإسلام يبحث عن الإيمان حتى في قلب الكافر ، وعن الصدق حتى في نفس الكاذب ، وعن الخير حتى في مقاصد الشرير وأهدافه .. فهل يتعظ بهذا ويذكر من يفسّق الناس ويكفرهم بلا وزن وكيل وعد؟.

وعلى أية حال ، فإن أمكن النقاش والقال في الأدلة السمعية فلا محل للكلام في بناء العقلاء والسيرة القطعية لكل العلماء من كل مذهب وفي كل زمان .. أبدا لا شيء ناقص وفاسد لذاته وفي عالمه بمقتضى الأصل جمادا كان أم نباتا أم حيوانا أم انسانا ، فكل موجود على طبيعته ، وكل عدم يبقى في عالم الغيب تماما كالمطلق يبقى على اطلاقه حتى يثبت العكس ، فهل في هذا نظر وكلام؟

٤١٣

كلا ، حتى ظاهرة السوء فانها مؤوّلة بعذر صاحبها دينا وتعبدا ما دام التأويل ممكنا وبابه مفتوحا. فكيف بمن استغش الذين يتقربون إلى الله بإكرامه وخدمته!!.

أصل لا أمارة

أصل الصحة لا يمت الى الأمارة بسبب لأن الكشف من طبيعتها ولوازمها ، وإن كان ناقصا وتم بدليل الاعتبار كما تقدمت الاشارة ، ولا كشف إطلاقا في أصل الصحة تام أو ناقص ، ومن أجل هذا قال الأنصاري والنائيني وغيرهما من الأقطاب : لا يثبت أصل الصحة إلا الآثار الشرعية التي تلحق مؤداه مباشرة وبلا واسطة ، أما ما ثبت منها بالمستلزمات العقلية والعادية فيلحق بالأصل المثبت الباطل.

ـ مثلا ـ إذا مر بك زيد ، وسمعت منه كلمة خفي عليك معناها ، وانها مسبّة أو تحية؟ أجريت أصل الصحة بمعنى أنه لم يرتكب محرما ، اما وجوب رد التحية بالمثل أو بالأحسن فلا لأنها لا تثبت إلا بالأصل المثبت والملازمة بين نفي السب واثبات التحية حيث لا ثالث هنا.

الصحة الواقعية

كلمة الصحة تعبر عن نفسها وتدل على أن البحث والكلام هو في الفعل من حيث الحكم الوضعي مع الجهل بحال الفاعل والشك في صحة فعله وفساده شرعا ، اما من حيث الحكم التكليفي وعدم الإثم وقصد الحرام فمحل وفاق بين الجميع ، أيضا بشرط الجهل وعدم العلم بالحال. ومن هنا أجمعوا قولا واحدا على أن من فاحت رائحة الخمر من فيه فلا حد عليه ، فلعله قد تمضمض بها ، أو شربها مضطرا أو مكرها.

ولصحة العمل نسبتان : الأولى إلى اعتقاد الفاعل ، والثانية إلى الواقع ، ويتضح الفرق بينهما من المثال التالي :

علمنا أن زيدا يجيز العقد ويوجب تنفيذه والوفاء به بمحض التوافق بين إرادة المتعاقدين من دون حاجة إلى أي شكل من الأشكال في الايجاب والقبول ،

٤١٤

وفي رأينا نحن أن العقد لا يجب الوفاء به إلا إذا وقع على شكل خاص بين المتعاقدين ، ثم أجرى زيد عقدا مع آخر ، وشككنا : هل توافر في هذا العقد الشكل الذي نشترطه نحن ولا يوجبه زيد كي يكون صحيحا عنده وعندنا ، أو أن العقد وقع على غير الشكل الذي نريد كي يكون صحيحا عنده دون الواقع في نظرنا؟.

فبناء على القول بأن المراد من الحمل على الصحة هو الصحة الواقعية لا الفاعلية يجب الحكم بصحة العقد المشكوك في صحته ، وبناء على القول بأن المراد الصحة باعتقاد الفاعل فلا يسوغ الحكم بصحة العقد المذكور.

والحق أن كل فعل أو عقد يقبل الصحة والفساد فهو موضوع لأصل الصحة الواقعية دون الفاعلية لبناء العقلاء والاجماع القائم على الكبرى الكلية لا الجزئيات بشهادة النائيني الذي قال برواية الخراساني : «يكفينا من الأدلة على أصل الصحة الاجماع المحقق .. والظاهر أن تكون نفس أصالة الصحة معقد الاجماع على الكبرى الكلية ، ولا يضر التمسك بالاجماع وقوع الاختلاف في بعض الموارد الجزئية .. وأيضا الظاهر أن يكون المراد من الصحة في معقد الاجماع الصحة الواقعية لا مجرد الصحة عند الفاعل».

العقد وأصل الصحة

الشروط الأساسية للعمل بأصل الصحة وجريانه في العقد هي أولا احراز الموضوع والعنوان الذي تعلق به الأمر وعليه يترتب الأثر ، ثانيا قابلية الموضوع لعروض الصحة والفساد ، ثالثا أهلية المتعاقدين للمعاملة ، والعوضين للتمليك والتملك ، ومع الشك في شيء من ذلك تجري الاصول الموضوعية ، ولا يجري أصل الصحة لأن الأصل أو الحكم لا يثبت موضوعه ، وفيما يلي التفصيل :

يتكون العقد بجملته من عناصر ثلاثة : الصيغة ، والمتعاقدين ، وهما الموجب والقابل ، والعوضين ، وهما الثمن والمثمن ، ولكل واحد من هذه الثلاثة شروط ، فمن شروط الصيغة ـ مثلا ـ تطابق الايجاب والقبول ، ومن شروط المتعاقدين أن يكون كل منهما عاقلا بالغا رشيدا مختارا عالما بحقيقة الثمن والمثمن ، ولكن العقل والبلوغ والرشد شروط أساسية ترتكز عليها أهلية المتعاقد ، وهي بهذا

٤١٥

الاعتبار موضوع للعقد ولا يمكن تحققه بدونها. أما العلم والاختيار فهما شرطان لصحة العقد لا لأهلية المتعاقدين ، وأما العوضان فمن شروطهما أن يكون كل منهما ملكا طلقا قابلا للنقل والانتقال ، لا وقفا ولا خمرا ولا خنزيرا.

وعليه فإن شككنا في صحة عقد وفساده نظرنا قبل كل شيء إلى سبب الشك ، فإن كان ناشئا عن فقدان شرط من شروط الصيغة كعدم تطابق القبول مع الايجاب ونحوه أجرينا أصل الصحة ، لوجود الموضوع وإحرازه والشك في محموله وليس فيه بالذات ، وطرحنا أصل الفساد واستصحاب عدم النقل والانتقال ، وكذا الحال إذا كان الشك ناشئا عن عدم التحقق من اختيار أحد المتعاقدين أو جهله بالثمن أو المثمن لأن الاختيار أو العلم من شروط صحة العقد لا من شروط أهلية المتعاقد ، وإن رجع الشك في صحة العقد وفساده إلى الشك في قابلية العوضين أو أحدهما للنقل والانتقال ـ فلا يجري أصل الصحة بحال ، بل يتعين العمل بالأصل الموضوعي ، أو باستصحاب ما كان على ما كان قبل العقد.

والسر في ذلك أن أهلية المتعاقدين والعوضين ركن للعقد وموضوع له ، وعليه يكون الشك في هذه الأهلية والقابلية شكا في أصل العقد وتحققه لا في صحته بعد وجوده ، وبديهي أن موضوع أصل الصحة الشك في صحة الموجود بالفعل لا الشك في أصل الوجود.

وعلى هذا ، إذا ادعى البائع فساد عقد البيع لأن القبول لم يطابق الايجاب ، أو لأنه كان مكرها ، أو جاهلا بالثمن ، أو محجورا عليه لفلس ـ فعليه الاثبات ، أما إذا قال : بعت قبل البلوغ أو قبل الرشد فالقول قوله بيمينه ، والبيّنة على خصمه ، لرجوع الشك حينئذ إلى أهلية المتعاقد. وكذا لو وضع انسان يده على عين موقوفة مدعيا شراءها من المتولي بعد وجود المبرر والمسوغ لبيعها ، فإن أصل الصحة لا يجري هنا لأن الحكم لا يتعرض لموضوعه ولا يثبته.

معنى الحمل على الصحة

الصحة والفساد من الأمور الإضافية يختلف معناها تبعا للمضاف اليه ، فصحة الجسم سلامته من الأمراض ، وصحة العقل إدراك الشيء على حقيقته ، وصحة الخبر صدقه ، وصحة الصلاة قبولها وموافقتها لأمر الشارع وسقوط القضاء عن

٤١٦

المكلف ، وصحة العقد ترتب الأثر الشرعي والعرفي عليه كالملك والحل والإرث.

ومن هنا اشتهر «صحة كل شيء بحسبه». وكما يصدق هذا على العقد المركب من الإيجاب والقبول وسائر الشروط ، وعلى الصلاة بمجموعها أجزاء وشروطا ـ يصدق أيضا على كل جزء وشرط منها بمفرده ، فمعنى صحة الايجاب في العقد ، وصحة الركوع في الصلاة ـ مثلا ـ أنه لو انضمت اليه الاجزاء والشروط الباقية لصحت الصلاة بكاملها ، وصح العقد بمجموعه ، وليس معنى صحة الايجاب انها توجب حتما وجود العقد.

وأيضا صحة العقد بمجموعه لا تستدعي وجود الشرط الذي هو بمنزلة الجزء والركن كالقبض في الهبة والوقف ، والإجازة في الفضولي ، والإذن ببيع الرهن ، فأصل الصحة يجري في عقد الواهب كصيغة ، وكذلك في عقد الواقف والمرتهن والفضولي حتى مع العلم بعدم القبض أو الاجازة ، ولكنه لا ينفذ فور إنشائه لأن التنجيز والتنفيذ يرتبط بالقبض في الهبة والوقف ، وبالاجازة في الفضولي والمرتهن ، وعليه يكون معنى صحة العقد أنه لو حصل القبض أو الاجازة لاكتفينا في مقام التنفيذ بالعقد الموجود ، ولا داعي لعقد جديد.

وقبل الختام نشير إلى أن أصل الصحة لا يختص بفعل المسلم ، بل يعمّ ويشمل أفعال الناس بالكامل ، أما التعبير بفعل المسلم فلأن الأغلبية العظمى في بلاد الفقهاء كانوا مسلمين ، وكان الفقهاء يخاطبون بالأحكام الجمهور المسلم. قال الآشتياني : «ان اصالة الصحة ليست مختصة بفعل المسلم ، بل مجراها أعم منه».

احراز الموضوع والعنوان

لا يجري أصل الصحة إلا بعد أن نعلم ونحرز نفس الموضوع والعنوان الذي تعلق به الأمر وعليه يترتب الأثر الشرعي مباشرة وبلا واسطة ، وان شككنا في موضوع الحكم وتردد بين شيئين فلا يجري أصل حيث لا حكم بلا موضوع ، ولا نقش بلا عرش ـ مثلا ـ إذا رأيت رجلا يغتسل وتساءلت في نفسك : هل يتطهر من الجنابة أو يغتسل لمجرد النظافة؟ فأصل الصحة لا يثبت انه جنب وانه يتطهر من الجنابة ، وأن طهارته هذه صحيحة شرعا!. ومن يعمل بأصل كهذا فهو تماما كمن يكذب على نفسه ، ثم يصدق كذبته ويرتب عليها آثار الواقع.

٤١٧

أجل هناك أفعال تدل صورتها عليها ، ولا أحد يشك فيها ، كالصلاة على الميت بل مطلق الصلاة والوضوء وزيارة الحسين عليه‌السلام ، فكل انسان إذا رأى شيئا من ذلك يجزم بأنه عبادة ، ويخبر عنه ويقول : رأيت فلانا يتوضأ أو يصلي أو يزور الحسين (ع) ولا يحتمل اطلاقا ان فعله هذا مجرد عمل اعتاد عليه الفاعل ، أو قصد به الرياضة ، أو أي شيء آخر.

ولكن إذا شك في هذه العبادة : هل هي عن نفسه أو نيابة عن غيره ، وانه هل يصلي قضاء أو أداء ـ فأصل الصحة لا يثبت شيئا من ذلك لأن القضاء والنيابة من العناوين القصدية (١) فالقصد مأخوذ في موضوعه ومفهومه ، والشك فيه يمنع من العمل بأصل الصحة ، ومن أراد إثبات العناوين القصدية فعليه أن يعتمد على اخبار القاصد ، أو أي شيء سوى أصل الصحة. والتفصيل في كتب الفقه.

أصل الصحة والاستصحاب

كل فعل نشك في صحته وفساده من حيث ترتب الأثر عليه ـ فالأصل الأولي (أي العدم) يقتضي الفساد ونفي الأثر عنه ، سواء أكان هذا الفعل من نوع العبادات أو غيرها عملا بإبقاء ما كان على ما كان حتى يثبت العكس.

ولكن لما كان الشك في ترتب الأثر المقصود على الشيء المشكوك ناشئا ومسببا عن الشك في أن هذا المشكوك هل هو واجد لما اعتبره الشارع فيه ، وكان أصل الصحة ضامنا وكفيلا لإثبات ما أراد الشارع ، لما كان الأمر كذلك ينتفي الشك في فساد الفعل وعدم ترتب الأثر عليه ، ويرتفع موضوع الأصل الأول ، وهذا معنى حكومة أصل الصحة على استصحاب الفساد (أي عدم ترتب الأثر) ولو أخذنا بهذا الاستصحاب وقدمناه على أصل الصحة لم يبق لهذا الأصل من مورد وموضوع وكان لغوا وعبثا.

ولكن يجب أن لا ننسى ما سبقت الإشارة اليه من أن أصل الصحة لا يجري

__________________

(١) هذه العناوين القصدية هي الهدف من التنبيه الرابع الذي ذكره الأنصاري ، والأمر الرابع الذي حرره النائيني ، وكان الأنسب أن يشير إليه في التنبيه الثالث وكذلك النائيني ، وأيضا كان ينبغي أن نشير إليه في الفقرة المعنونة بالعقد وأصل الصحة ، ولكن آثرنا السير على درب الأنصاري تماما كما فعل النائيني.

٤١٨

بحال إلا بعد توافر شروطه الأساسية ، وهي احراز موضوعه ، وقابليته للصحة والفساد ، وأهلية المتعاقدين للمعاملة ـ فيما يعود إلى العقد ـ وقابلية العوضين للتمليك والتملك ، ومع الشك في شيء من ذلك لا يجري أصل الصحة بحال لأن الحكم لا يثبت موضوعه ولا شيء من دعائمه وأركانه.

أصل الصحة في الأقوال

بعد الحديث عن أصل الصحة في الأفعال نتساءل : هل يجري هذا الأصل في الأقوال؟ ويختلف الجواب عن ذلك تبعا لجهة الشك في أقوال المتكلم ، وفيما يلي التفصيل :

١ ـ أن نشك في أن المتكلم في حديثه هذا : هل هو آثم قد ارتكب الحرام المحرم ، أو معذور فيه لسبب أو لآخر؟. فنحمله على الصحة من هذه الجهة.

٢ ـ أن نشك في أن المتكلم هل قصد المعنى الظاهر من قوله ، أو فاه به من غير قصد ، فنحمله على الصحة بمعنى كشف الظاهر عن قصده ومرامه ، ولو ادعى عدم القصد لا نسمع منه إذا تعلق بحق الآخرين كالإقرار بمال ونحوه. وفي نهج البلاغة : الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه.

٣ ـ ان نشك في أن كلامه : هل يكشف عن اعتقاده حقا وواقعا ، أو هو مجرد كذب ورياء؟ فنحمله على الأحسن ، ومن هذا الباب القول المألوف : أنا محب ومخلص. وجوابه شكرا جزيلا.

٤ ـ أن نشك في انطباق كلامه على الواقع. ولا مكان هنا لأصل الصحة بالاتفاق لأن كل خبر يحتمل الصدق والكذب ، وكل رأي يحتمل الخطأ والصواب بطبعه ، ولو صح العمل بالأصل هنا لكان كل كلام حقا وصدقا. وقد كذب الناس على الله وملائكته ورسله وعلى بعضهم البعض ، بل وعلى أنفسهم أيضا.

أصل الصحة في الاعتقاد

لأصل الصحة في الاعتقاد معنيان : الأول أن يكون السبب الموجب للشك في

٤١٩

صحة الاعتقاد هو التقصير في البحث عن الدليل ، وانه آمن لمجرد الظن والحدس أو تقليدا ومحاكاة. قال الأنصاري : «الظاهر وجوب الحمل على الصحيح في مثل هذه الحال لظاهر ما دل من وجوب الحمل على الحسن دون القبيح». ولا بأس بذلك شريطه أن يكون المعتقد من أكثر أهل الجنة.

المعنى الثاني أن نشك في مطابقة اعتقاده للواقع. وهذا أسوأ حالا من مطابقة الكلام للواقع. انظر الرقم ٤ في الفقرة السابقة بلا فاصل. وذكرنا هذا الفرض محاكاة للأنصاري وإلا فلا أحد يشك في عقيدة الآخرين من حيث الصحة وعدمها إلا إذا كان هو بلا عقيدة ثابتة لأن عقيدة كل انسان تستولي على عقله وقلبه ، وترى ما عداها بدعة وضلالة ، ومعنى هذا أن صاحب العقيدة حقا لا يشك إطلاقا لا في عقيدته ولا في عقيدة غيره ، فهو قاطع وجازم في الحالين بصواب الأولى وخطأ الثانية ، ولا واسطة. وسلام الله على من قال : «ما شككت في الحق مذ أريته».

٤٢٠