علم أصول الفقه في ثوب الجديد

محمّد جواد مغنية

علم أصول الفقه في ثوب الجديد

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التيار الجديد
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٥٦

حول لا ضرر ولا حرج

السند

من المسلّمات الأولية بين المسلمين كافة قديما وحديثا قولا وعملا ، ان نبي الرحمة (ص) قال : «لا ضرر ولا ضرار». ومصدر هذا القول شريعة الوحي وبديهة العقل ، قال سبحانه : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ـ ٧٨ الحج» اما بديهة العقل فلأن الضرر يرفضه الانسان والحيوان بالفطرة والغريزة ، أبعد هذا وغيره يليق بعالم أو عاقل أن يبحث ويحقق في سند لا ضرر ولا ضرار؟ اللهم إلا إذا ارتاب في وجود الليل والنهار والنجوم والبحار.

المعنى اللغوي

الضرر في اللغة : الأذى من كل شيء ، ماديا كان كالأمراض والأوجاع والنقص في الجسم والأهل والأموال والثمرات ، أو أدبيا كالافتراء والغيبة والتنفير والتشهير وإذاعة السر ، وكل ما يجرح الشعور ويحط من الشأن والمكانة.

اما الضرار فيستعمل لغة في معنيين : الأول في الضرر بحيث تكون الكلمتان مترادفتين وعطف احداهما على الثانية لمجرد التوكيد والتفسير ، وهذا الاستعمال شائع وكثير ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) ـ ٢٣١ البقرة» وقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً) ـ ١٠٧ التوبة» والضرر في الآية الاولى من الأزواج ، وفي الثانية من المنافقين وحدهم.

٣٤١

المعنى الثاني مقابلة الضرر بالضرر كمن اعتدى على سيارة جاره لأنه اعتدى على سيارته.

لا عرف هنا للشرع والشارع

والضرر والضرار ليسا من الأسماء الشرعية كالصلاة والصيام ، فإذا وردا في آية أو رواية فالمراد منهما عين المعنى العرفي واللغوي تماما كالدم ولحم الخنزير («وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) ـ ٤ ابراهيم». وإذن فلا ضير عليك أن تفسر الضرار في الحديث بالضرر ويكون العطف لمجرد التوكيد والتفسير ، وأن تفسره بمقابلة الضرر بالضرر ، ويكون المعنى نفي الضرر مطلقا سواء أكان ابتداء ، أم على سبيل المقابلة والمقاصّة ، ونحن على هذا التفسير الأخير.

وتسأل : ان تفسير «لا ضرار» بنفي الثأر والمقاصة ـ كما اخترت ورأيت ـ يتنافى ويصطدم مع قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ـ ١٩٤ البقرة»؟.

الجواب :

إن موضوع الآية الكريمة يختص بالقصاص في الجناية على النفس والبدن ، وقد شرع سبحانه هذا لحكمة اشار اليها بقوله : («وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ـ ١٧٩ البقرة» أي ان الجناية على النفس والبدن لا يقمعها أو يخفف منها إلا عقوبة من جنسها حيث يعلم الجاني أنه في النهاية يجني على نفسه بنفسه.

اما موضوع «لا ضرار» فيختص بالمال ونحوه ، فمن أتلف مال غيره يضمنه بمثله أو قيمته ، وهذا خير ألف مرة للناس ولصاحب المال من مقابلة اتلاف المال بمثله حيث يكثر الضرر ويتسع نطاقه بلا جدوى وعوض.

فقه الحديث

والمراد هنا بفقه الحديث صلته بالفقه وتأثيره في تشريع الأحكام بشتى أنواعها

٣٤٢

التكليفية والوضعية ، ويتلخص معنى الحديث الفقهي بأن النفي لم يتعلق بطبيعة الضرر ووجوده ، لأنه موجود بالحس والوجدان .. وانما القصد من النفي أن الله سبحانه ما شرع حكما فيه شائبة الضرر سواء أكان عاما أم خاصا ، ماديا أم أدبيا ، موجودا بالفعل أم سيوجد ، فوجوب الصوم ـ مثلا ـ منفي عن المريض وعمن يخشى حدوث المرض أو شدته أو طول مدته.

ومن هنا قال الفقهاء : ان قاعدة لا ضرر مقدّمة وحاكمة على جميع أدلة الأحكام حتى ولو كان بينها وبين القاعدة عموم من وجه ، أو كان ظهور أدلة الأحكام أقوى وأظهر من دلالة لا ضرر ، لأن عملية تقديم الأظهر على الظاهر إنما تجري بين المتعارضين لا بين الحاكم والمحكوم ، لأن الحاكم يخرج منذ البداية جميع موارده وأفراده عن موضوع المحكوم ـ مثلا ـ الوضوء مع الضرر فرد من أفراد قاعدة «لا ضرر» وخارج موضوعا عن قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الخ ٦ المائدة» وكذلك البيع مع الغش والضرر بعيد كل البعد عن وجوب الوفاء المدلول عليه ظاهرا بقوله تعالى : (.. أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ـ ١ المائدة».

الأمر بالضرر

وتسأل : لقد أمر الاسلام بتحمل الضرر في الجهاد والخمس والزكاة ، ونفقة الوالدين والأولاد ، فكيف نقض بأمره هذا ما أبرمه في «لا ضرر ولا ضرار».

وأجاب الأنصاري بأن هذه الأمثلة ونحوها خرجت عن قاعدة لا ضرر بالدليل ، وكلامه صريح في ذلك بخاصة في رسالته الملحقة بالمكاسب ، وأجاب النائيني ـ كما في «منية الطالب» في حاشية «المكاسب» للخوانساري ـ بأن الضرر على نوعين : الأول وصف عرضي خارج عن حقيقة الموصوف كالمرض الناشئ عن الصيام. والثاني وصف ذاتي داخل في حقيقة الموصوف كالجهاد وأمثاله ، وقاعدة لا ضرر تنفي الأضرار العرضية دون الذاتية.

٣٤٣

وفي رأينا ان اطلاق الضرر على الجهاد ونحوه فيه الكثير من التسامح ، لأن الجهاد والاستشهاد في سبيل الدين والوطن والحرية عزة وكرامة وخلود وعلو كبير في الدنيا والآخرة ، وأي نفع وأ من وراء ذلك؟ قال الامام أمير المؤمنين (ع) : «الموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين».

أما النفقة على الوالدين والأولاد فهي بر ووفاء وانسانية ، واما الأخماس والزكوات وكل الصدقات فهي في سبيل الله والصالح العام ، وان أبيت إلا أن تسمي ذلك ضررا ـ سلّمنا بما تدعي وقلنا : ان الشارع حين التشريع ـ وليس العقل عند الامتثال والتزاحم ـ نظر الى الأهم فأوجبه وقدمه على المهم ، فهل في ذلك مشكلة ومعضلة؟.

الضرر لا يزال بالضرر

لا يجوز للمضرور أن يدفع الضرر عن نفسه بإدخاله على غيره ، فلو أن سيلا أخذ طريقه إلى دار خاصة لا يحق لصاحبها أن يحوّل السيل إلى ملك الغير ليصرفه عن داره ، لأن الضرر لا يزال بمثله ، أجل لو لم يجد المضطر إلى دفع الهلاك عن نفسه جوعا إلا مال الغير ، أخذ منه بمقدار ما يسد الخلة وضمن إلى ميسرة.

وأيضا لا يجب على الانسان أن يتحمل الضرر ليدفعه عن غيره لأن الضرر لا يزال بمثله ، والنفقة لا تفرض للقريب الفقير على من يكابد العوز والفقر.

تعارض الضررين

إذا تعارض ضرران بالنسبة إلى شخص واحد ولا مفر له من أحدهما فما ذا يصنع؟ الجواب : إن تساويا اختار أيهما شاء ، وان كان أحدهما أشدّ دفعه بالضرر الأخف كالجرّاح يقطع عضوا ليدفع ضررا يسري إلى الجسم كله. ولا ريب في هذا الحكم أو خلاف لأنه نتيجة حتمية لنفي الضرر عقلا وشرعا.

وإذا تعارض ضرران بالنسبة إلى طرفين فله صورتان نشير اليهما فيما يلي :

٣٤٤

١ ـ ان يدور الأمر بين ضرر خاص وآخر عام ، ومثاله أن يشب حريق في بيت من بيوت البلد ، ويخشى سريانه إلى كل بيت إلا إذا هدمت البيوت الملاصقة للحريق ، فتهدم منعا للضرر الأشد بالضرر الأخف.

٢ ـ ان يدور الضرر بين شخصين ، ومثاله إذا حفر المالك بئرا في ملكه تضرر الجار ، وان ترك الحفر تضرر المالك. قال الأنصاري : الأوفق بالقواعد أن يتصرف المالك في ملكه بلا معارض ، لأن في منعه ضررا عليه يعارضه ضرر الجار ، فيتساقطان ، ويبقى حديث : «الناس مسلّطون على أموالهم» على عمومه بلا معارض.

وقال النائيني في «منية الطالب» في حاشية «المكاسب» للخوانساري : «الظاهر من كلمات الأصحاب رعاية المالك ، فيجوز تصرفه وان كان ضرر الجار أعظم ، بل يجعلونه من مصاديق قاعدة «لا يجب تحمل الضرر لدفعه عن الغير».

وفي رأينا أن تقدير ذلك يترك إلى نظر المجتهد العادل ، فهو وحده يقرر الحق تبعا لحال الشخصين وظروفهما قوة وضعفا وفقرا وغنى .. ان الله سبحانه قد رفع الضرر والحرج عن عباده منة منه ورحمة ، والكل عنده بمنزلة سواء تماما كأسنان المشط ، وإلقاء هذا في البحر حرصا على حرية ذاك يتنافى مع فضل الله وكرمه ، فإن للحرية حدا محدودا بحرية الآخرين فكيف بإدخال الضرر عليهم.

بين الضرر والحرج

لا أذكر أني رأيت ـ أثناء تتبعي ومطالعاتي ـ أحدا من الفقهاء القدامى قد فرّق بين الضرر والحرج ، وفي المؤلفات الحديثة كلام عن الفرق بينهما ، ولكنه موزع بين مسائل العبادات والمعاملات تبعا لما يقتضيه الحال. وقد استخلصت من مجموعه أن الحرج ما يمكن تحمله بتعب وضيق ومشقة على الجسم دون أن يصل إلى حد الضرر بالصحة والمال ، وان الشارع نفى الحرج عن عباده من

٣٤٥

باب الرخصة والتوسعة لا من باب العزيمة والإلزام ، فإذا تحمل المكلف المشقة الشديدة ، وأتى بالعبادة صحت وقبلت منه كصيام الشيخ والشيخة.

اما الضرر فيصعب تحمله عادة كالمرض أو زيادته ، وقد نفاه سبحانه من باب الإلزام والعزيمة ، فمن صام أو اغتسل من الجنابة مع العلم بالضرر بطل صيامه وغسله لأنه أقدم على الحرام عامدا ، ولم ينته متعمدا ، والشرط الأساسي في العبادة هو التقرب اليه سبحانه ، وليس من شك ان الله لا يطاع من حيث يعصى.

٣٤٦

الاستصحاب

جدال سطحي

كل العلماء أو جلّهم يقولون : الحد الحقيقي متعذر أو متعسر ، وأن كل تعريف لعلم أو لأصل أو لأي شيء إنما هو لفظي ، وبالصفات واللوازم العارضة على حقيقته وماهيته تماما كتفسير لفظ مجهول بآخر معلوم لمجرد التقريب والتوضيح ، ومع هذا نرى بعض المؤلفين يذكر تعريفا لسالف ، ثم ينقضه طردا وعكسا ، وإذا ما جاء من بعد هذا المؤلف كاتب آخر فعل به ما فعل بالأسبق وزيادة ، وكتب بعض المؤلفين الجدد حول تعريب الاستصحاب والتمهيد له ما يقرب من أربعة صفحات!. ولما ذا إضاعة الوقت ، وهو محدود ومعدود ، في جدال سطحي؟.

وأيضا قد يناقش بعضهم في المثال ويسهب ، فإذا ما ناقشه آخر في مثاله قال : النقاش في المثال ليس من دأب المحصّلين ، ولكل أحد أن يمثل بما تيسر لهدف الشرح والتفسير.

تعريف الاستصحاب

الاستصحاب في اللغة : من الصحبة والمصاحبة ، تقول : استصحبت هذا ، أي هو معي وأنا معه ، وفي الاصطلاح : الالتزام بآثار معلوم الحدوث وأحكامه بعد عروض الشك في بقائه واستمراره. وقد يكون المستصحب وجودا كعلمك بحياة زيد الغائب ، ثم تشك في بقائه حيا فتستصحب الحياة ، وتكتب له بما تريد ، وقد يكون عدما كعلمك بأن زيدا غير متزوج ثم تشك في زواجه فتستصحب حاله السابقة ، ولا تبرق له بالتهنئة.

٣٤٧

أركان الاستصحاب

للاستصحاب أركان أنهاها بعض الجدد إلى سبعة ، وربما كان بعضها من الشروط الخارجة لا من الدعائم الداخلة ، وليس هذا من المهمات ، ومهما يكن فنذكر هنا أربعة أركان (١) المستصحب (٢) اليقين بحدوثه (٣) الشك في بقائه (٤) أن يكون كل من اليقين والشك موجودا بالفعل حين ترتب آثار المستصحب المتيقن لا بالفرض والتقدير ـ مثلا ـ من كان على يقين من الحدث ، ثم ذهل عن يقينه هذا وصلى وبعد الفراغ شك في أنه هل توضأ قبل الصلاة؟ فلا يجري استصحاب الحدث بالنسبة إلى هذه الصلاة لأن شكه فرضيّ وتقديري لا فعلي ، وتجري قاعدة الفراغ لتمام موضوعها ، ويتوضأ للصلاة الآتية عملا بالاستصحاب حيث أصبح كل من اليقين والشك فعليا بعد نوم الغفلة.

والسبب الموجب لهذا الشرط هو أن العمل على اليقين والأخذ بآثاره وأحكامه لا يمكن بحال مع الغفلة والنسيان حيث لا مكان لليقين ولا للشك ولا للدليل أو الأصل إلا مع اليقظة.

ثم ان المراد باليقين هنا ما يعم ويشمل الدليل الشرعي المعتبر وان لم يحصل منه العلم ، كما ان المراد بالشك ما يعم ويشمل الظن غير المعتبر شرعا.

وقد يظن أن أمد اليقين لا بد وأن يكون متقدما على أمد الشك كما يبدو للوهلة الأولى من هذا التعبير : «الاستصحاب يقين سابق وشك لاحق» وليس هذا بشرط وان كان الأكثر الأغلب ، وإنما الشرط الأساسي في الاستصحاب أن يقع الشك على بقاء المستصحب بعد العلم بوجوده ، ومعنى هذا أن يكون زمن المتيقن متقدما على زمن المشكوك بصرف النظر عن تقدم اليقين على الشك أو تقدم الشك على اليقين أو تقارنهما معا ، وإليك هذا المثال :

أنت لبناني ولك صديق عراقي ، وقد اعتاد أن يصطاف في لبنان ، وفي اليوم الأول من شهر آب شككت هل جاء إلى لبنان كعادته؟ وعلى فرض مجيئه هل بقي إلى هذا التاريخ؟ وساعة شكك هذا أخبرت بمجيئه في أول تموز ، فذهب الشك في المجيء وتحول الى العلم به ، ولكنه مقترن بالشك في البقاء بلبنان ، فاقترن العلم بالحدوث مع الشك في البقاء والاستمرار في أمد واحد ، فتستصحب

٣٤٨

بقاء صديقك في لبنان ، وإذا علمت بمجيئه بعد الشك فيه بأسبوع يكون أمد الشك متقدما على أمد العلم ، وأيضا تستصحب البقاء لأن الشك وقع في الحالين على البقاء والاستمرار بعد العلم بالحدوث فصحّ الاستصحاب ، فالمهم تقدّم زمن المتيقن (أي الحدوث) على المشكوك (أي البقاء) وليس زمن اليقين على الشك.

قاعدة اليقين

تبين مما سبق أن قوام الاستصحاب هو الشك في البقاء بعد العلم بالحدوث ، فلو حدث اليقين ثم أزاله الشك من الأساس امتنعت عملية الاستصحاب ، ومثاله ان تجلس إلى فلان الفلاني ، فيعجبك منطقه وألفاظه ، وتوقن بفهمه وعلمه حتى إذا امتد الكلام وتشعب ظهر في فلتات لسانه ما أوحى بجهله ، وارتبت في أمره : هل كان مجرد ببغاء في حديثه الأول ، ومعنى هذا أن شكك اللاحق أحال يقينك السابق بعلمه إلى سراب ، ومعه لا مكان لعملية الاستصحاب ، وهذا النوع من اليقين والشك يسمى بقاعدة اليقين ، وبالشك الساري في مقابل الشك الطارئ الذي هو أحد أركان الاستصحاب.

الاستصحاب المقلوب

سبقت الإشارة إلى ان الاستصحاب هو ثبوت المشكوك في بقائه لاحقا بناء على العلم بحدوثه سابقا ، اما الاستصحاب المقلوب فعلى العكس تماما أي ثبوت المشكوك في حدوثه سابقا بناء على العلم بوجوده لاحقا ، وهذا الاستصحاب باطل عند الإمامية ، ويسمونه بالاستصحاب القهقري ، قال الأنصاري : «لو شك في زمان سابق عليه فلا استصحاب ، وقد يطلق عليه الاستصحاب القهقري مجازا» يريد المجاز في كلمة الاستصحاب لا في كلمة القهقري.

وهو صحيح عند المالكية ، ومثّلوا له بالزوج يكون غائبا عن زوجته دون ان يترك لها نفقة ، ثم يقدم فتطلب منه ما انفقته اثناء غيبته ، فيدّعي الإعسار ،

٣٤٩

وتدعي العكس ، فينظر إلى حال قدومه : فإن كان موسرا حكم باستصحاب يسره في زمن غيبته وبنفقة ما انفقته أثناء غيبته (١).

الاستصحاب أصل لا أمارة

في فصل ، حول الشك في الحكم فقرة : بين الأصل والدليل ـ قلنا : ان الدليل الظني المعتبر شرعا يسمى بالحجة والأمارة والدليل العلمي ، وأشرنا إلى وجه واحد للفرق بين الأصل والأمارة تمهيدا للحديث عن الاصول الأربعة : البراءة والتخيير والاحتياط والاستصحاب ، والآن نعطف على ما سبق ما يزيده وضوحا ، ويثبت أن الاستصحاب أصل لا أمارة. والفرق بين هذين من وجهين :

١ ـ ان الأصل ينظر إلى الواقع ، ولا يكشف عنه لأن الشك في الواقع جزء مقوم لموضوع الأصل ، وهو بذلك أشبه بالشك المذهبي ، اما الأمارة فعلى العكس ، انها تنظر إلى الواقع ، وتكشف عنه بنحو أو بآخر ، والشك عند العمل بها مجرد ظرف ومورد ، أشبه بالشك المنهجي (٢).

٢ ـ إن المجعول في الأمارة هو اعتبار الظن الناشئ منها ، وتنزيله منزلة العلم من حيث العمل به والالتزام بآثاره ، اما الأصل فالمجعول الشرعي فيه مجرد العمل بمؤداه كبديل عن الواقع بعد أن تعذر الكشف عنه بالعلم أو الظن المعتبر شرعا.

والاستصحاب لا يكشف عن الواقع علما ولا ظنا لأن الشك في الواقع ركن ركين له كما هو الفرض ، وإذن هو أصل لا أمارة. أجل ، يفترق الاستصحاب عن غيره من الاصول والقواعد في ان الدليل الدال على وجوب العمل به قد

__________________

(١) كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية لعلال الفاسي من علماء الطبقة الأولى بجامعة القرويين. وفي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة أن المالكية يسقطون عن الزوج نفقة زوجته مع عسره سواء أكانت مدخولا بها أم لا. وقال الإمامية : تثبت النفقة في ذمته إلى ميسرة.

(٢) الشك المذهبي غاية عند صاحبه لا وسيلة ، به يبدأ وإليه ينتهي حيث لا طريق بزعمه إلى العلم بأي شيء ، أما الشك المنهجي فهو عند صاحبه وسيلة لا غاية يبدأ به ليبعد الآراء السابقة ، وينتهي عن طريق البحث إلى العلم مجردا عن المؤثرات الذاتية والوهمية.

٣٥٠

اعتبر الشك المقوم لموضوعه كالقطع وفي وزنه ومنزلته من حيث الالتزام بآثاره ، ومعنى هذا ان الاستصحاب يصيب الواقع ويحرزه ولا يتجاوزه تنزيلا لا واقعا ، وحكما لا حقيقة ، وتشريعا لا تكوينا ـ ومن هنا أطلق عليه العلماء اسم الأصل المحرز أو الاحترازي ، وقدموه على سائر الاصول ، وأشرنا إلى شيء من ذلك في مبحث الإجزاء ص ٨٩ وقد نعود اليه لمناسبة ثالثة.

هل الاستصحاب من الفقه أو الأصول

قد يقال : الاستصحاب قاعدة فقهية لا مسألة أصولية ، وقبل الجواب نشير بالجملة لا بالتفصيل إلى الفرق بين الفقه وأصوله ، ثم الى الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية.

يبحث علم الأصول عن الأدلة الشرعية ووجوه دلالتها على الأحكام ، وما يعرض لها من إجمال أو تفسير وتقليم أو تطعيم بصرف النظر عن تعلقها وصلتها بأفعال المكلفين ، أما علم الفقه فيبحث عما يعرض لأفعال المكلفين وما يتعلق بها من وجوب وحرمة ، انظر ص ١٣.

وتفترق الشبهة الحكمية عن الموضوعية في أن الشك في الشبهة الحكمية يرجع إلى الشك في نفس التكليف لا في الفعل الذي تعلق به التكليف ، والسبب الموجب لهذا الشك عدم وصول الأدلة الشرعية أو قصور دلالتها ، أما الشك في الشبهة الموضوعية فيرجع الى الشك في الفعل الذي تعلّق به التكليف لا في نفس التكليف الكلّي ، وسبب هذا الشك اشتباه الأمور الخارجية لا الشرع والأدلة الشرعية. وتقدم الكلام عن ذلك في فصل البراءة ، فقرة : الشبهة الموضوعية.

وبعد هذه الإشارة الخاطفة نقول مع القائلين : كل استصحاب يجري في الشبهة الحكمية فهو من المسائل الأصولية ، لأن البحث فيها بحث عن الدليل الشرعي وما يعرض له لا عما يعرض لأفعال المكلفين ، وكل استصحاب يجري في الشبهة الموضوعية فهو من المسائل الفقهية لأن البحث فيها بحث عما يعرض لأفعال المكلفين لا عن الدليل الشرعي وعوارضه.

٣٥١

المقتضي والمانع

اسم المقتضي يدل عليه ، ويوحي بأنه لو خلا له الجو لفعل فعله وأثر أثره كالنار بالنسبة إلى الإحراق ، وكذلك المانع يومئ الى المعاكسة والمشاكسة والوقوف حائلا دون ما ينبغي أن يكون ، ومن هنا قال كثيرون : عدم المانع في حقيقته شرط للوجود لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم ، والمانع ما يلزم من وجوده العدم فكان عدمه شرطا.

ومسألة اليقين بوجود المقتضي والشك في وجود المانع غير مسألة الاستصحاب وان كان كلّ من اليقين والشك ركنا له ، لأن اليقين والشك في مسألة الاستصحاب يقعان على شيء واحد وإن تعددت الجهة حدوثا وبقاء ، اما في مسألة المقتضي والمانع فاليقين يقع على شيء والشك على شيء آخر ، كاليقين بوجود تركة الميت ، والشك في وجود الدّين عليه المانع من الارث فيما يعادل الدين ، وعليه فأدلة الاستصحاب لا تشير إلى مسألة المقتضي والمانع لا من قريب ولا من بعيد.

أقسام شتى

للاستصحاب أقسام عدة باعتبارات شتى ، وفيما يلي نشير إلى طرف منها بقصد التمهيد والتيسير للعلم بمكان البحث ونتيجته.

باعتبار المستصحب

ينقسم الاستصحاب باعتبار المستصحب إلى وجودي كالطهارة والنجاسة ، وعدمي كبراءة الذمة من الشغل بالتكليف ، وكلا النوعين محل للخلاف ، قال الأنصاري : لم نجد في أصحابنا من فرّق بين الوجودي والعدمي في محل الخلاف ، نعم ذكر بعضهم التفصيل بينهما عن الحنفية. وقال النائيني : وقع الخلاف في كل واحد من أقسام الاستصحاب.

وتجدر الإشارة إلى أن الفقهاء اتفقوا على العمل بأصول وقواعد مستقلة عن

٣٥٢

الاستصحاب ، ولكنها تلتقي معه على صعيد واحد من حيث النتيجة ، مثل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعدم الدليل دليل العدم ، وأصل عدم القرينة والتخصيص والتقييد ، وعدم النقل ، وغير ذلك.

باعتبار الدليل

وينقسم المستصحب باعتبار الدليل على ثبوت الحكم المستصحب إلى ما ثبت بالشرع كحكمه بحرمة الأكل من المتنجس يقينا بالنسبة إلى المكلفين ، وشكا بالنسبة لتقديمه إلى الأطفال ، وإلى ما ثبت بالعقل كحكمه بقبح الصدق الضار بالنفس قطعا ، وبغيره شكا ـ على سبيل المثال ـ وفصل الأنصاري بين الحكم الثابت بدليل شرعي فيجري فيه الاستصحاب ، وبين الحكم الثابت بدليل عقلي فلا يجري فيه. وذلك لأن العقل لا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلا بعد العلم بموضوع الحكم ، والاحاطة بكل ما يتصل به. ومعنى هذا أن الحكم العقلي إما معلوم الوجود ، واما معلوم العدم ، ولا يمكن تصور الشك فيه بحال ، فإذا ما حدث شك فإنما هو في موضوع حكم العقل لا في الحكم بالذات ، ومن البديهي أنه لا مكان لأي أصل من الأصول إلا بعد إحراز موضوعه والتثبت من وجوده.

وهذا بخلاف الأحكام الشرعية فإنها تبع للموضوعات العرفية لا إلى ما تقتضيه الدقة العقلية ، ولذا اشتهر بين الفقهاء أن الأحكام الشرعية تدور مدار الاسماء وجودا وعدما ، وإذا امتنع الاستصحاب في الحكم العقلي فإنه يمتنع أيضا في الحكم الشرعي الذي اكتشفناه وتوصلنا اليه عن طريق العقل ، لأن اللازم عدم عند ملزومه. ونعود إلى هذا الموضوع في التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب.

باعتبار المقتضي

وأيضا ينقسم الاستصحاب باعتبار الاقتضاء إلى الشك في المقتضي والمانع ، والمراد بالشك في المقتضي أن نشك طبيعة الموجود من حيث استعداده الذاتي للبقاء ومدى استمراره في عالم الوجود ، وانه هل هو كريشة في مهب الريح ،

٣٥٣

أو انه صامد ومستقر؟ والمراد بالشك في المانع أن نشك في وجود القاطع والناقض لاستمرار البقاء تماما كقطع الشجرة المثمرة ، وهدم الحصن الحصين.

ويظهر من عبارة الأنصاري أن الفقهاء المتأخرين يجرون الاستصحاب مع الشك في المقتضي ، قال : «المعروف بين المتأخرين الاستدلال بالأخبار على حجية الاستصحاب في جميع الموارد ، وفيه تأمل». ونحن مع الذين منعوا الاستصحاب مطلقا وبشتى أقسامه إلا بعد الجزم والتثبت من استعداد المستصحب للبقاء والاستمرار في الوجود الى زمن الشك وعملية الاستصحاب ـ على الأقل.

والدليل على ذلك أن النقض لا يكون إلا بعد الإبرام والنقش بعد العرش ، قال سبحانه : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ـ ٢٧ البقرة». وقال : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) ـ ٩١ النحل». وقال : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) ـ ٩٢ النحل» ومع الشك في المقتضي لا شيء ثابت ومبرم حتى نمضي عليه ونعمل به ولا نهدمه وننقضه ، واذن فالأخبار القائلة : لا تنقض اليقين بالشك ـ بعيدة كل البعد عن مورد الشك في المقتضي ، أما مع العلم بوجود الاقتضاء والاستعداد للاستمرار والبقاء فإن موضوع النقض يتحقق بالكامل ، فإذا ما طرأ الشك في حدوث الثالم والهادم للبناء فوجّه الخطاب بلا نقض اليقين بالشك .. أي امض وأنت شاك على ما مضيت عليه وأنت متيقن.

هل الاستصحاب بحاجة إلى دليل؟

كل من يدعي شيئا ضروريا لا يطالب بالدليل لأن الضروري لا ريب فيه ، ولكن قد يشتبه الضروري بالنظري ، فيطلب عندئذ الدليل على المدعى به ، وانه ضروري لا نظري ، وفي رأينا أن الخلاف في مسألة الاستصحاب من هذا النوع ، وإن الذين استدلّوا عليه بالنص والعقل وبناء العقلاء أرادوا أن يثبتوا أن الاستصحاب ضروري ولا ينبغي أن يتطرق اليه الشك.

اما نحن فلا نستدل على ذلك بعقل أو بنقل ، بل نتساءل : إذا ما قال قائل : كل ما ثبت باليقين لا يسوغ تجاهله ورفع اليد عنه إلا بدليل ـ نتساءل ـ هل هذه الحقيقة تحتاج إلى دليل؟ وأيضا إذا لم نأخذ باليقين السابق فما ذا نصنع؟

٣٥٤

هل نتوقف ونأخذ بالشك الطارئ؟ وإذن يكون الشك حجة لازمة ، والعمل باليقين بدعة وضلالة!.

وكل من أنكر وينكر الاستصحاب فقد تغلّب شكه على يقينه ، وهدم هذا بمعول ذاك من حيث يريد أو لا يريد. ولعل هذا يفسر لنا سر التوكيد والتكرار في صحيحة زرارة عن الإمام الصادق (ع) : «لا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط احدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين ، ويبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات».

ومع العلم بأن الاستصحاب حجة ضرورية يستدل به ولا يستدل عليه ، نشير فيما يلي الى طرف من الأدلة عليه من باب العدوى والمحاكاة.

القرآن الكريم

لا علم لي بأن أحدا من الإمامية استدل بآية قرآنية على الاستصحاب ، ورأيت في بعض كتب السنة من استدل عليه بقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ـ ٣٦ يونس» وفسّر الحق هنا بالحقيقة الواقعة كاليقين ، وانه لا ينقض بالظن والشك لأن اليقين أقوى. وهذا الاستدلال سليم من الريب. وأيضا رأيت في كتاب ثان للسنة من استشهد بقوله سبحانه : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) ـ ٤ النور». والآية الأولى أوضح في الدلالة ، وتصلح سندا لقاعدة عامة : «اليقين لا يزال بالشك» لأنها ذكرت اليقين بلفظ الحق ، وذكرت الشك بلفظ الظن ، أما الآية الثانية فلم تشر الى الشك من قريب أو بعيد ، وهو ركن ركين للاستصحاب.

ويمكن الاستدلال على صحة الاستصحاب بالآية ١٦ من يونس : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟). وشاهدنا في هذه الآية الكريمة أن الحال السابقة لا يسوغ تجاهلها والغفلة عنها ، وان على كل عاقل أن يعتبرها كشاهد وقرينة لها وزنها وتأثيرها في مقام النفي والإثبات ، ومن خلالها ينبغي أن يصدر الحكم ، أما من يجزم ويحكم على الشيء بضد ما يعلمه منه وبصرف النظر

٣٥٥

عن علمه كلية ـ فجزمه وحكمه ليس بشيء ، لأنه أهمل وتجاهل ما تجب رعايته والعناية به ، ومثله تماما من اهتم بالشك وأخذ بأثره ، ولم يمض على يقينه السابق لا لشيء إلا لطيف مرّ لخياله.

وبعد الاشارة إلى الهدف المقصود من الآية نذكر وجه الدلالة فيها على الاستصحاب ، وهو أن الله وبّخ المشركين ، ونفى عنهم العقل والإدراك ، واحتج عليهم بأنهم كانوا بالأمس القريب على علم اليقين بصدق النبي وأمانته حتى أطلقوا عليه لقب الصادق الأمين ، وكان ـ بحكم العقل والبديهة ـ على من جزم وقطع بكذب الدعوة المحمدية أن ينظر إلى سيرة صاحبها وسوابقه ، وفي ضوئها يصدر عليه حكمه ، ولا يسرع إلى القطع بالكذب والافتراء بمجرد اللمحة والبارقة ، وأيضا كان على من تشكك وتردد أن يأخذ بالماضي ويعمل به ، ولا يقف من الصادق الأمين موقف المكذّب والمحارب ، ولو لم يكن لليقين السابق هذا الأثر الذي ذكرناه ـ لما صح الاحتجاج عليهم بسيرة محمد (ص) وصدقه ، ولا توبيخهم بخطاب (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

الإجماع

استدل بعضهم على الاستصحاب بالإجماع ، وردوا عليه ب «الكليشة والماركة المسجلة» : الاجماع المحصل غير حاصل ، والحاصل ليس بحجة لأنه منقول ، وبأن دعوى الاجماع لا تسمع مع كثرة الخلافات وتعدّد الأقوال والتفصيلات. وقال النائيني : «نعم يمكن دعوى الشهرة أو ما يقرب من الاجماع على اعتبار الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع».

ومهما قيل أو يقال حول الاجماع أو الخلاف ، وان الاخباريين أنكروا الاستصحاب في الحكم الشرعي الكلي ، وان صاحب «الوافية» أقره في الحكم التكليفي دون الوضعي .. إلى آخر ما جاء في كتاب «الرسائل» ، مهما كان أو يكن فإن مدرسة أهل البيت (ع) قد أمرت بالاستصحاب ونهت عن مخالفته. اما أقوال الأقطاب الخالدين علما وتقى وأدلتهم وحججهم فانها تشهد بصراحة أن الاستصحاب عندهم من الأوليات والمسلّمات المتوارثة جيلا عن جيل.

٣٥٦

وقرأت الكثير من حوارهم وجدالهم وما رأيت واحدا تردد في صحة الاستصحاب ، وكل الذي رأيت أن العالم إذا احتج على آخر بالاستصحاب في مسألة من المسائل تحول النقاش إلى توافر شروطه وأركانه او عدم توافرها في المسألة المختلف فيها ، لا إلى نفس الاستصحاب كحجة ودليل ، ومن أجل هذا وحرصا على الوقت المحدود نتجاهل الأدلة الخاوية الواهية على نفي الاستصحاب وعدم صحته.

بناء العقلاء

لقد دأب العقلاء في كل عصر ومكان ومن كل فئة ودين ، واعتادوا بفطرتهم التي فطرهم الله عليها في شئونهم الخاصة والعامة ـ على انهم إذا أيقنوا وتأكدوا من وجود شيء أو عدمه يمضون على يقينهم حتى يثبت العكس.

وليس من شك ان كل معروف عند العقلاء فهو من صميم السنة النبوية شريطة أن لا يصطدم مع نهي الشارع ولا يتخطى الحدود الأساسية لدين الله وشريعته ، وانما أرجعنا بناء العقلاء بشرطه وشروطه الى السنة النبوية ، لأن هذه السنة تتمثل بالاتفاق وتتجسم في قول النبي (ص) وفعله وتقريره ، وبناء العقلاء على الحال السابقة مظهر من مظاهر تقرير النبي وفرد من أفراده ، وعليه يكون الظن الحاصل منه معتبرا عند الشارع ، وخارجا عن الأصل العام الذي تكلمنا حوله في مبحث الظن ، وهو حرمة العمل بالظن إلا ما خرج بالدليل.

وهنا سؤال يطرح نفسه ، وهو بأي شيء تثبت أن النبي (ص) أقر العقلاء وعملهم بالحال السابقة؟. ونستوحي الجواب عن السؤال من قول النائيني : «إن الله سبحانه قد ألهم عباده بالجري على ما سبق في امور معاشهم ومعادهم كيلا يختل النظام». ومعنى هذا أن النبي يستحيل في حقه أن ينهى العقلاء عن طريقتهم هذه ما دامت إلهاما من الله ، ورفقا بعباده ، وحرصا على حياتهم وسعادتهم .. وإذن فلا حاجة بنا إلى القول بأن النبي (ص) لو ردع لنقل الرواة ردعه وزجره ، بل لو نقل ناقل عنه الزجر والحظر لوجب تأويله أو طرحه ،

٣٥٧

هذا إلى أن النصوص الشرعية شائعة ذائعة على أن اليقين لا يزال بالشك ، وبعد قليل نتلو عليك شيئا من هذه النصوص.

وتجدر الإشارة إلى أن جماعة من العلماء ذهبوا إلى أن بناء العقلاء هو الأصل والعمدة في الاستصحاب ، وان النصوص الواردة فيه لمجرد الإمضاء والإرشاد.

وليس هذا ببعيد ، قال الفقيه الكبير الآغا رضا الهمداني في تعليقه على رسائل الانصاري ص ٤٦ : «إن العلماء يعتبرون الاستصحاب من باب (بناء) العقلاء». والظاهر من هذه العبارة أن كل العلماء على ذلك ، وقال في ص ١٥٣ : «العمدة في الاستصحاب بناء العقلاء ، والاخبار منزلة عليه ، وامضاء له ، ولكنك قد عرفت اختصاص هذا الدليل بما عدا الشك في المقتضي ، وان بناء العقلاء انما هو على عدم الاعتناء بالرافع .. فلو كانوا يقلدون شخصا لا يرفعون اليد عن تقليده بمجرد احتمال موته ، أو كان شخص وكيلا عن آخر لا ينعزل لاحتمال موته .. والحجية انما تعرف من هذه العادات ونحوها».

الاستقراء

المهم في هذه الفقرة أنها تمهد لمعرفة المراد مما نعرضه من الروايات ، وتدعمها فيما تهدف اليه من وجوب العمل بالاستصحاب.

جاء في رسائل الأنصاري : «تتبعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع ، فلم نجد من أول الفقه إلى آخره موردا إلا وحكم فيه الشارع بالبقاء حتى يثبت الخلاف .. والإنصاف أن هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع». ومعنى الاستقراء تتبع الجزئيات والافراد من أجل الحكم على الكلّي أو العام الشامل لكل ما يتناوله ، كما تحكم بأن السمك لا يحيا إلا بالماء بعد مشاهدة بعض أفراده. والاستقراء منه تام ، وهو أن تلاحظ كل الأفراد ، ومنه ناقص ، وهو أن تلاحظ بعضها دون بعض ، والأنصاري يدّعي الاستقراء التام وعليه تصح قاعدة «لا تهدم اليقين بالشك».

ولكن الاستقراء يفترض مبدأ الحتمية عند علماء اللغة والطبيعة ، اما علماء الدين والشريعة فأدلة الأحكام عندهم أربعة ، وليس منها الاستقراء اللهم

٣٥٨

إلا إذا أفاد القطع ، وعندئذ يكون هو الحجة ، والاستقراء طريق له ووسيلة ، ولذا استدرك الأنصاري وقال : «الإنصاف ان هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع».

والشيء الذي يمكن الركون اليه من هذا الاستقراء ـ على فرض تمامه ـ هو أن الاستصحاب إنما يكون حجة مع الشك في الرافع بعد إحراز الاقتضاء والاستعداد للبقاء والاستمرار. وعلى مبدأ صاحب القوانين القائل بأن مطلق الظن حجة يجوز العمل بالاستقراء ، وقد صرح هو بذلك حيث قال في آخر قانون الاستصحاب : «الظاهر ان الاستقراء حجة لإفادته الظن بالحكم الشرعي».

الروايات

في صحيح البخاري ج ١ باب : من لم ير الشيء إلا من المخرجين ، سئل رسول الله (ص) عن رجل خيل اليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال : «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا». ومثله في صحيح مسلم ج ١ باب : الدليل ، على أن من تيقن الطهارة ثم يشك في الحدث فله أن يصلي بطهارته. وفي فقه السنّة للسيد سابق ، باب ما لا ينقض الوضوء : أن هذا الحديث رواه الجماعة إلا الترمذي. يريد بالجماعة أصحاب الصحاح الستة.

واستدل علماء الإمامية على الاستصحاب بالعديد من روايات أهل البيت (ع) منها رواية زرارة ، قال : سألت الامام (ع) عن الرجل ينام ، وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال : قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن فقد وجب الوضوء. قال زرارة : فإن حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال الامام : لا حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، ولكن ينقضه بيقين آخر».

ومحل الشاهد في هذه الرواية قول الامام (ع) : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، ولكن ينقضه بيقين آخر» فاللام في اليقين للجنس تستغرق كل يقين سواء أكان يقينا بالوضوء أم بغيره تماما كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ

٣٥٩

الرِّبا) الشامل لكل بيع وربا دون استثناء ، والفرق تحكّم.

وقد يقال : ان اللام في اليقين للعهد لا للجنس بالنظر إلى ذكر الوضوء في الجملة الأولى ، وعليه ينحصر موضوع الرواية بخصوص الوضوء ، ويسقط الاستدلال بها على أصل عام لكل يقين طرأ الشك من بعده.

الجواب :

أولا : أبدا لا خصوصية هنا للوضوء دون غيره في نظر الشرع والعرف ، أما الشرع فواضح لأنه نهى صراحة عن نقض اليقين بالشك في الصلاة والصيام والطهارة وغيرها كثير تماما كما نهى عن نقضه في الوضوء ، وأما العقل والعقلاء فإنهم لا يرون أية ميزة وتفرقة بين اليقين بالوضوء واليقين بنواقضه ، ولا بين اليقين بالجنابة واليقين بالغسل منها.

ثانيا : إن اليقين في الجملة الثانية مطلق ومجرد عن كل قيد ، والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل على التقييد ، ولا دليل هنا ، ولو أراد الشارع التقييد لقال : «لا ينقض اليقين بالوضوء» فدل سكوته عن القيد ارادة الإطلاق والالزام تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وفوق ذلك كله أن مجرد قول : لا تنقض اليقين بالشك أبدا يتبادر منه لكل ذي لب أن العلة الموجبة للحكم بعدم نقض الشك لليقين هي قوة اليقين وضعف الشك من حيث هما لا من حيث ما وقعا عليه وتعلقا به ، والحكم يدور مدار علته وجودا وعدما ، فمتى أو أين وجد اليقين ثم طرأ شك يبقى اليقين على سلطانه نهيا وأمرا وعملا وأثرا حتى يخلفه يقين آخر في حجته ومنزلته ، لا فرق في ذلك بين واقعة وواقعة ، ولا بين شخص وشخص.

لا جديد في بقية الروايات

وهناك روايات كثيرة عن الآل الأطهار (ع) في معنى هذه الرواية ودلالتها على الاستصحاب ، وإن اختلفت في شيء فإنها تختلف في نوع الدلالة مطابقة أو التزاما وتكرارا أو اختصارا ، وليس في ذكرها والكلام حولها ـ فيما يعود الى

٣٦٠