علم أصول الفقه في ثوب الجديد

محمّد جواد مغنية

علم أصول الفقه في ثوب الجديد

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التيار الجديد
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٥٦

ويدفع بالضرر الأخف شريطة أن تقدّر الضرورة بقدرها». والمصدر الأول لذلك قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ـ ١٧٣ البقرة».

التنبيه السادس

واحدا بعد واحد

أهمل صاحب الكفاية العديد من تنبيهات الشبهة المحصورة التي تعرض لها الأنصاري ، ومنها هذا التنبيه ، ولم يذكر الا ثلاثة : الاضطرار والابتلاء والملاقي.

وخلاصة ما نحن الآن بصدده أن أطراف العلم الاجمالي قد توجد على التوالي والتتابع واحدا بعد واحد ، ومثال ذلك أن تعلم علم اليقين بأنك لو خرجت من بيتك اليوم أو غدا حدث لك حادث قهري لا يأذن لك الدين والشرع بالإقدام عليه ، ويأمرك بالتحفظ منه ، فهل يكون علمك هذا نافذا فيجب عليك أن تحتاط ولا تخرج في هذا اليوم ولا في الغد ، أو يسوغ لك الخروج اليوم دون الغد أو الغد دون اليوم؟.

والحق أنه لا فرق على الإطلاق بين وجود الأطراف دفعة واحدة ، أو أن يتقدم بعض منها ويتأخر بعض ما دام الجميع محل الابتلاء ، والعقل حاكم بالطاعة والموافقة القطعية دفعا للضرر ، والمكلف قادرا على الاحتياط.

وتسأل : ان المراد بشرط الابتلاء هنا هو أن تكون أطراف العلم الاجمالي مجتمعة لا متفرقة بحيث تكون بالكامل وفي آن واحد تحت قدرة المكلف وسلطانه ، يترك منها أو يفعل ما يشاء ساعة يشاء ، ويستحيل أن يتحقق هذا الشرط في الأطراف المتتابعة المتوالية ، لأن المكلف حين يبتلى بالطرف السابق لا يوجد اللاحق ، وحين يوجد اللاحق يذهب السابق ولا يبتلى به ، فكيف يجب الاحتياط وهذي هي الحال؟.

الجواب :

إن الهدف الأول والأخير من شرط الابتلاء هو صحة الخطاب بالاجتناب عن

٣٠١

الحرام وكفى ، وهذا الخطاب يعم ويشمل الحرام المردد بين السابق واللاحق تماما كما هو الشأن عند وجودهما معا ، ولا صلة للنهي عن الحرام بزمن الأطراف من قريب أو بعيد ، بخاصة فيما نحن فيه ، وكل ما يدل عليه النهي هو الابتعاد عن الأطراف أينما وجدت ومتى وجدت وكيف وجدت تماما كما لو علم المكلف بالتفصيل لا بالاجمال أن الحرام سيوجد غدا أو بعد غد.

وأي فرق بين قول الشارع : لا تشتر اللحم من هذا الجزار يوم الجمعة والسبت إذا علمت وأيقنت بأنه يبيع الميتة في واحد من هذين اليومين ، وبين قوله : لا تشتر اللحم منه يوم السبت اذا علمت وأيقنت بأنه يبيع الميتة في يوم السبت بالذات؟.

٣٠٢

الشبهة التحريمية

غير المحصورة

معناها

قلنا في فصل الاحتياط فقرة أسباب الشك : ان الشبهة التحريمية الموضوعية منها محصورة ومنها غير محصورة ، وتكلمنا عن الشبهة المحصورة وما يلحق بها من التنبيهات ، والآن نتحدث عن غير المحصورة ، وهي ـ في الغالب ـ ما توافر فيها أمران : الأول كثرة الأطراف ، والثاني أن يتمكن المكلف ويقدر عقلا لا عادة على ترك الأطراف كلها جمعاء ، ولكن مع الشدة والمشقة تماما كصيام الشيخ والشيخة ، ومثال ذلك المسافر يدخل بلدا ، ويعلم أن في بعض مطاعمه إناء أو خبزا أو إداما متنجسا ، ولكنه في حاجة ماسة إلى الطعام والشراب.

فإذا كثرت الأطراف ولا مشقة في تركها ، فليست من الشبهة المحصورة في شيء ، كحبة حنطة متنجسة من صاع ، وإذا قلّت الأطراف وكان في تركها بالكامل مشقة دخلت في المحصورة ، وسبق الحديث عنها وعن الاضطرار إلى بعض أطرافها. وأية غرابة في إلحاق الضيق والمشقة بالضرر والاضطرار؟ قال سبحانه : («وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ـ ٧٨ الحج».

حكمها

وحكم الشبهة التحريمية الموضوعية غير المحصورة ـ جواز المخالفة الاحتمالية وعدم وجوب الموافقة القطعية. ومن أدلة القائلين بذلك : الاجماع ، وهو كما يعرف الجميع حدس في حدس على طريق القدامى.

٣٠٣

ثانيا : ان الاحتياط بالموافقة القطعية يستدعي الضيق والحرج ، وهو منفي شرعا وعقلا ، وفي حاشية الآشتياني على الرسائل : «لم أر من لم يتمسك بهذا الدليل ممن تعرض لحكم المسألة ، بل ربما يجعلونه الضابط لغير المحصور».

ثالثا : ان أخبار الحل والإباحة والطهارة تعم وتشمل كل مجهول ومشكوك في حكمه حتى ولو كان طرفا للشبهة المحصورة. وأيضا أخبار الاحتياط والتوقف عند الشبهات تعم كل شبهة حتى ولو كانت طرفا لغير المحصورة ، وطريق الجمع أن نحمل أخبار الاحتياط على الشبهة المحصورة لمكان العلم بوجوب الموافقة القطعية فيها ، ونحمل أخبار الحل على غير المحصورة ، أيضا للعلم بعدم وجوب الاحتياط فيها.

رابعا : ان السبب الموجب لحكم العقل بالاحتياط ووجوب الموافقة القطعية في الشبهة هو أن احتمال الضرر الأخروي قوي ومتمكن إلى حد لا يقبح معه العقاب على المخالفة ، أما احتمال الضرر في غير المحصورة فهو واه وضعيف لا وزن له إطلاقا ويقبح معه العقاب على المخالفة في نظر العقل والعقلاء. ومثّل له الأنصاري بالفرق البعيد بين العلم بوجود السم في إناء من اثنين والعلم بوجوده في إناء من ألفين ، وأيضا فرّق بين العلم بشتم شخص من شخصين والعلم بشتم واحد لا على التعيين من أهل البلد ، وأيضا بين الخبر بموت رجل من رجلين ، والخبر بموت واحد من الجيش أو من أهل البلد ، كل هذه الأمثلة وكثير غيرها دليل واضح على أن الأثر لقوة الاحتمال ، وانه لا أثر للاحتمال الضعيف. وهكذا كل ضعيف.

وليس من شك أن هذه الأدلة بمجموعها تتعاضد في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط لو فرضنا وسلّمنا بأن كل واحد منها لا يفي بالحجة الالزامية الكافية.

التنبيه الأول

الشك في الحصر

عرفنا من كل ما سبق وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية المحصورة دون غيرها ، ونسأل الآن : ما هو مقتضى الأصل عند الشك في الحصر وعدمه ،

٣٠٤

هل يجب الاحتياط في مشكوك الحصر تماما كما لو علمنا بعدم الحصر؟ ولمجرد التقريب نعرض هذا المثال ، وهو أن تنحصر النجاسة بين إناءين ، ثم يختلطان في العديد من أوان متشابهة شكلا وحجما ، ولا ندري هل صارت الشبهة بسبب ذلك غير محصورة ، أو أن الخلط لم يحدث أي تغيير بالنسبة إلى الحصر؟.

الجواب :

لا مفر هنا من العمل بالاحتياط لأن التكليف ثابت باليقين كما هو الفرض ، والشك إنما هو في وجود المانع (أي عدم الحصر) والأصل عدمه حتى يثبت العكس ، وعلى حد ما قاله الأنصاري ـ محتوى لا أسلوبا ـ ان الدليل القاطع قام على وجود الحرام وتنجيزه محصورا كان أم غير محصور ، فوجب الاجتناب عن الاثنين من غير فرق ، ثم قام دليل آخر على خروج غير المحصور ، فأخرجنا المعلوم منه ، وبقي المشكوك مشمولا بوجوب الاجتناب ، ومصداقا لدليله حيث لا دليل على خروجه ، ولا أمن وأمان من الوقوع في الضرر على فرض المخالفة وبكلمة أجمع : التكليف اليقيني يستدعي الامتثال اليقيني.

التنبيه الثاني

لا مخالفة قطعية

بعد العلم بأن الاحتياط لا يجب في الشبهة غير المحصورة ، فهل تجوز المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف بحيث يعلم المكلف أنه في فعله هذا وقع في الإثم والمعصية؟.

أورد هذا السؤال الأنصاري وقال في جوابه من جملة ما قال : «التحقيق عدم جواز ارتكاب الكل لاستلزامه طرح الدليل الواقعي الدال على وجوب الاجتناب عن المحرم». وقال النائيني : ان هذا السؤال غير وارد من الأساس بعد الفرض بأن ارتكاب جميع الأطراف في الشبهة غير المحصورة ، متعسر ومتعذر. ونحن مع النائيني في جوابه هذا لأن القدرة العقلية لا تؤثر أثرها في تنفيذ التكليف وتنجيزه مع الضيق والحرج الذي اعتبر قيدا في غير المحصور.

أجل ، ان المخالفة القطعية متيسرة وممكنة في الشبهة الوجوبية غير المحصورة

٣٠٥

ـ مثلا ـ إذا علم المكلف بأن عليه درهما لواحد من أهل البلد لا يعرفه بشخصه فلا شيء أيسر عليه من التجاهل واللامبالاة ، ولكن يصعب عليه جدا أن يترك أكل اللحم لعلمه بأن جزارا واحدا من عشرات الجزارين لا يحسن الذبح الشرعي أو يحسنه ويتسامح ، ومن هنا صح تقسيم الشبهة التحريمية إلى محصورة وغير محصورة دون الشبهة الوجوبية.

إشارة وتذكير

سبقت الاشارة في فصل الاحتياط فقرة : أسباب الشك ، ان الشبهة التحريمية على قسمين : موضوعية وحكمية ، وأنهينا الحديث عن الموضوعية المحصورة وغير المحصورة مع التنبيهات ، وبقي الكلام عن الشبهة التحريمية الحكمية وهي ما كان سبب الشك فيها عدم النص أو إجماله أو معارضته. ولا ريب في وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية إذا كان سبب الشك عدم النص أو إجماله وكانت الشبهة محصورة ـ لنفس الدليل الذي عرضناه في وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الموضوعية المحصورة ، أما إذا كانت التحريمية غير محصورة وكان سبب الشك عدم النص أو إجماله ـ فلا يجب الاحتياط ، أيضا للدليل المتقدم في الشبهة الموضوعية غير المحصورة.

وإذا كان سبب الشك في الشبهة التحريمية الحكمية تعارض النصين في تعيين الحرام الثابت واقعا ـ فقد ذهب المشهور بشهادة الآشتياني في حاشيته على الرسائل ، إلى التخيير ، لقيام الدليل الشرعي على ذلك.

وتجدر الإشارة إلى أن عبارة الأنصاري هنا تومئ وتوهم بأن الحكم فيما إذا كان سبب الشك تعارض النصين تماما كالحكم فيما إذا كان السبب عدم النص أو إجماله ، وهو تسامح في التعبير لبعده عن الواقع ، ومثلها أيضا عبارة النائيني برواية الخراساني.

والخلاصة ان الشبهة التحريمية غير المحصورة لا تجب فيها الموافقة القطعية ، أما المحصورة فتجب فيها الموافقة القطعية بقول مطلق إذا كانت موضوعية ، أما الحكمية فتجب فيها الموافقة القطعية إذا كان سبب الشك عدم النص أو إجماله ، وإذا كان تعارض النصين فالحكم هو التخيير.

٣٠٦

الشبهة الوجوبية

معناها

معنى الشبهة الوجوبية هنا أن يشتبه الواجب بغير الحرام ، وأن يكون المكلف قادرا على الموافقة القطعية إذا كانت محصورة ، ويأتي الكلام ، أما التقييد بغير الحرام فللاحتراز من الوقوع في المعصية ، ومثال ذلك أن يعلم المكلف بأن عليه فريضة لا يدري : هل هي صلاة الصبح أو الظهر ، والاحتياط ممكن دون أي محذور لأن إحدى الصلاتين واجبة ، والثانية لا يحرم فعلها.

أقسامها

وللشبهة الوجوبية العديد من الأقسام ، فهي باعتبار أسباب الشك تنقسم إلى حكمية وموضوعية ، فإن كان سببه عدم النص أو جماله أو معارضته فحكمية ، لأن الشك أتى من جهة الشارع ، وإن كان الشك لاشتباه الأمور الخارجية فموضوعية حيث لا يد للشارع ولا أثر له في هذا الإجمال والإبهام.

وأيضا تنقسم الوجوبية باعتبار أطرافها إلى محصورة وغير محصورة على غرار الشبهة التحريمية ، وأيضا إلى تردد الواجب بين متباينين ، وبين الأقل والأكثر ، ومثال الأول اشتباه القبلة إلى جهتين أو أكثر ، ومثال الثاني الشك في التيمم عن الغسل : هل تكفي له ضربة على الصعيد أو لا بد من اثنتين؟. ويأتي المزيد من التوضيح والأمثلة إن شاء الله.

٣٠٧

بين المتباينين ولا نص

ونبدأ الحديث بتردد الواجب بين متباينين لعدم النص ، ومثاله أن يعلم المكلف بأن عليه واجبا مرددا بين أن يتصدق بما تيسر مرة واحدة في الأسبوع ، أو يصلي صلاة الليل في كل جمعة ، ولا نص على التعيين ، فما يصنع؟ هل يجوز له أن يترك الصدقة وصلاة الليل معا بحيث يحصل له العلم بالوقوع في المعصية والإثم ، أو يحرم ذلك عليه؟.

الجواب :

لا ريب في حكم العقل والعقلاء بحرمة المخالفة القطعية وترك جميع الأفراد ، وبحسن العقاب على المخالفة لأن المكلف يعلم بوجود الواجب في مورد العلم الإجمالي ، ولا شيء يمنع من تنجيزه وتنفيذه تماما كما هو الشأن في الشبهة التحريمية التي تقدم الكلام عنها مطولا ومفصلا.

سؤال ثان : أجل ، لا ريب في حرمة المخالفة القطعية وترك جميع الأطراف ، ولكن هل تجب الموافقة القطعية بإتيان جميع الأطراف بحيث يحصل العلم للمكلف بفعل الواجب ، أو تجوز المخالفة الاحتمالية والاكتفاء بفعل بعض الأطراف فقط؟.

الجواب :

كلا ، لا يجزي فعل بعض الأطراف عن فعل الكل ، ولا مبرر للمخالفة الاحتمالية ، ولا مفر من وجوب الموافقة القطعية ، والسر في ذلك هنا هو السر في حرمة المخالفة القطعية ، ونعني به شمول دليل الواجب لجميع العلم الإجمالي ، وعلم المكلف بالتكليف ، وعدم المانع من بلوغه حد التنجيز والتنفيذ.

أجل ، للشارع أن يكتفي في مقام الطاعة والامتثال ببعض الأطراف ، ويجعله بدلا عن الواقع ، وعندئذ يرفع العقل يده عن الموافقة القطعية ، ولا يحكم بوجوبها لانتفاء السبب الموجب لهذا الحكم ، وهو الخوف على المكلف من سخط الله ومؤاخذته ، فاذا أمن واطمأن على نفسه من المؤاخذة والحساب ، انتهت مهمة العقل.

ولكن العبرة بوجود الدليل الشرعي على ذلك ، فأين هو؟ أما الدليل الخاص فلا عين له ولا أثر ، واما العام فلا شيء لدينا إلا أخبار الإباحة ، وهي اجنبية

٣٠٨

عما نحن بصدده لأن موضوعها الشك في التكليف لا في المكلف به بعد العلم بالتكليف ، وسبق الحديث عن ذلك مرارا وتكرارا.

بين المتباينين واجمال النص

اذا كان اللفظ مجملا من كل وجه ولا شيء يفهم منه اطلاقا ـ فوجوده كعدمه ، وهذا النوع من الاجمال خارج عما نحن فيه ، وإذا فهمنا من اللفظ وجوب أمر من أمرين ، والثاني ليس بمحرم ، فهذا هو المقصود بالبحث ، ومثاله أن يقول لك من تجب طاعته : اكرم زيدا العالم ، وفي العلماء زيدان.

وليس من شك في وجوب الاحتياط باكرام الاثنين كما هو الشأن مع عدم النص ، والدليل هو الدليل.

وتسأل : ما رأيك فيما ذهب اليه القمّي ، ونسب الى الخونساري من جواز المخالفة القطعية هنا ، لأن المجمل لا يصلح ـ كما زعما ـ لأمر ولا لزجر؟

الجواب :

ذاك المجمل من كل وجه ، وقد أخرجناه عن البحث منذ البداية ، وفرضنا الكلام في العالم تفصيلا بوجوب الواجب من نفس النص المبين من هذه الجهة ، والإجمال إنما هو في تعيين الواجب وتمييزه عما عداه ، وأيضا فرضنا الكلام في القادر على الطاعة والامتثال ، وتردد الواجب بين شيئين لا مانع يحول دون التكليف وتنجيزه ، ولا دون حكم العقل بالمؤاخذة على المخالفة وعدم الامتثال.

بين المتباينين لمعارضة النص

إذا اشتبه الواجب بغير الحرام لتعارض نصين متكافئين من كل وجه ـ فالمشهور بين الفقهاء بشهادة الأنصاري أن المكلف يختار العمل بأيهما شاء ، وذلك لثبوت الدليل الشرعي على التخيير. وقال الآشتياني في حاشيته الكبرى على الرسائل ج ٢ ص ١٣١ : «الحكم عندنا وعند المشهور هو التخيير فيما تعارض النصان في جميع الصور من غير فرق بين الشك في التكليف وفي المكلف به لأن هذا هو الثابت عن الشارع».

٣٠٩

بين المتباينين لاشتباه الموضوع

إذا اشتبه الواجب لسبب خارجي لا يمد إلى الشارع بصلة ـ وجب على المكلف أن يحتاط ولا يدع طرفا واحدا من الأطراف المحتملة ، فمن نسي من صلاة يومه واحدة ، ولا يدري : هل الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية ، صلى اثنتين وثلاثا وأربعا ، والدليل :

أولا : حكم العقل بأن التكليف اليقيني يستدعي الامتثال اليقيني دفعا للضرر.

ثانيا : النص ، فقد سئل الإمام الصادق (ع) عمّن نسي صلاة واحدة من الخمس ولا يدري أيتها؟ فقال : «يصلي ثلاثا وأربعا وركعتين ، فإن تكن الظهر أو العصر أو العشاء فقد صلى أربعا ، وإن تكن المغرب أو الغداة فقد صلى». وهذا التعليل لبراءة الذمة والخروج عن عهدة التكليف على كل فرض وحال هو ارشاد وامضاء لحكم للعقل بالقاعدة الشاملة القائلة : التكليف اليقيني يستدعي الامتثال اليقيني ، قال صاحب الجواهر : «المشهور على ذلك قديما وحديثا نقلا وتحصيلا ، بل في العديد من المؤلفات نقل الإجماع عليه».

وقال الفاضل القمّي : يكفي الاتيان بطرف واحد ولا يجب الزائد عليه إذا اشتبه الواجب بغير الحرام من جهة اشتباه الموضوع ، لمكان قبح التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة.

وجوابه ان بيان التكليف هنا موجود ولا إجمال ، كما قلنا في فقرة إجمال النص قبل قليل. ثانيا : ان الاشتباه هنا من الخارج لا من الشارع لأنه في المصداق والموضوع كما هو الفرض.

وقال النائيني برواية السيد الخوئي في أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٧٩ طبعة ١٩٣٣ : «لا قبح في تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان هناك مصلحة مقتضية له».

ويلاحظ بأنه مع وجود المصلحة لا حاجة إلى البيان لأن عدمه خير وأفضل ، وعليه فلا يصح ـ في هذه الحال ـ نفي القبح عن تأخير البيان الى وقت الحاجة ، إذ لا نقش بلا عرش. والحق جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، كما هو

٣١٠

الشأن في النسخ ، لا عن وقت الحاجة ، والدليل على ذلك تحمله كلمة «الحاجة» في مبناها ومعناها.

والخلاصة أن الاحتياط واجب بقول مطلق في الشبهة الوجوبية الموضوعية المحصورة وفي الشبهة الوجوبية الحكمية إذا كان السبب الموجب للشك عدم النص أو إجماله ، أما إذا كان سبب الشك تعارض النصين فالحكم التخيير.

التنبيه الأول

حول المتباينين

الاحتياط ونية القربة

سبقت الاشارة في التنبيه الأول من تنبيهات البراءة ، إلى أن من شك في عبادة فعل من الأفعال ، فله أن يتعبد به بداعي الأمر المحتمل ورجاء المحبوبية لأن هذا هو المناسب والموافق لوضعه وحدود معرفته حيث لا علم تفصيلا ولا اجمالا بالأمر ولا بالمحبوبية ، وعليه نتساءل : لو علم المكلف اجمالا بأن أحد الفعلين عبادة واجبة والفعل الآخر غير محرم كالذي نحن بصدده ، فهل له أن يأتي بأحد المحتملين بداعي احتمال الأمر تماما كما ساغ ذلك مع الشك في التكليف لا في المكلف به؟.

قال الأنصاري : إن وجد العلم الاجمالي وجب على صاحبه أن يقصد الأمر المعلوم بالاجمال عملا بالواقع الثابت حسا ووجدانا ، ولا يتم ذلك ويتحقق إلا إذا عزم منذ البداية على اتيان جميع الأطراف ، وقصد عند اتيانه بالطرف الأول أن يستوعب الأفراد الباقية ، أما إذا كان عازما على الاكتفاء والاقتصار على طرف واحد وفعله بداعي الأمر المحتمل ـ فلا يقبل منه حتى ولو صادف الواقع ، لأن الذي تعلق به القصد ، وهو الأمر المحتمل ، لا وجود له ، والأمر الموجود ، وهو المعلوم اجمالا ، لم يتعلق به القصد.

ولاحظ النائيني على الأنصاري بأن كل طرف من أطراف العلم الاجمالي مأمور

٣١١

به بالأمر المحتمل لا بالأمر المعلوم بالاجمال كي يقصده المكلف ، ولا علاقة أو ملازمة بين الأطراف حتى يكون التكليف المعلوم بالنسبة إلى كل الأطراف معلوما أيضا بالنسبة إلى كل طرف بخصوصه ، ومعنى هذا أنه لا فرق اطلاقا بين التعبد بفعل نشك ابتداء في تعلق الأمر به ، وبين التعبد بأي طرف من أطراف العلم الاجمالي ، فإذا صح الاحتياط هناك يصح هنا أيضا.

ونحن مع النائيني لأن المهم في قصد الأمر ونية القربة إلى الله تعالى هو أن تكون العبادة خالصة لوجهه الكريم ، أما الشكل واللون فليس مقصودا لذاته. وبالمناسبة ـ لا بقصد الاستدلال ـ فقد روي أن النبي (ص) قال لرجل : كيف تقول في الصلاة؟ قال : أتشهد ثم أقول : اللهم اني أسألك الجنة واعوذ بك من النار ، أما اني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ـ الدندنة الكلام المبهم ـ فقال نبي الرحمة (ص) وحولها ندندن.

التنبيه الثاني

اشتباه الشرط الواجب

من كل ما تقدم تبين معنا أن الشبهة الوجوبية والتحريمية المحصورة ، يجب فيها الاحتياط بشتى أقسامها وصورها ما عدا صورة واحدة ، وهي ما كان السبب الموجب للشك تعارض النصين ، فيتعين التخيير.

ولكن بعض الفقهاء استثنوا صورة ثانية من وجوب الاحتياط وقالوا : ان الشبهة الوجوبية الموضوعية لا يجب فيها الاحتياط بقول مطلق ، بل لا بد من التفصيل فيها بين الواجب لذاته والواجب لغيره ، فيجب الاحتياط في النوع الأول دون الثاني ـ مثلا ـ إذا علم المكلف بفوات صلاة المغرب أو العشاء فعليه أن يحتاط ويصلي ثلاثا وأربعا لأن الصلاة واجبة لذاتها ، أما إذا كان عنده ساتران : أحدهما طاهر والآخر نجس ، ولا يدري أيهما الطاهر ولا ثالث لديه ـ فعليه أن يتركهما معا ويصلي عاريا لأن طهارة الساتر شرط في صحة الصلاة وليست واجبة لذاتها والشروط تسقط عند الاشتباه.

٣١٢

الجواب :

أولا : إن هذا القول يبتني على أساس باطل ، وهو أن العلم المفصل بالشرط شرط رئيسي في وجوبه ، فطهارة الساتر والقبلة ـ مثلا ـ ليسا بشرط إلا بعد العلم بهما ، وهكذا سائر الشروط ، كلها علمية لا واقعية!. وأصغر الطلاب لا يخفى عليه أن إطلاق أدلة الشروط وواجباتها يعم ويشمل العالم والجاهل والقاصر والمقصر سوى ان الجهالة عن قصور عذر وكفى ، وأن العلم بالحكم وموضوعه شرط لتنجيز الحكم وتنفيذه لا لجعله وإنشائه.

ثانيا : ان محل الكلام يشمل الشرط الواقعي الذي علمنا بوجوبه على اليقين ، ثم اشتبه علينا لسبب من العوارض الخارجية ، ومن البديهي أن اشتباه الواجب لا يسقط وجوبه المعلوم ، وعلى فرض سقوطه ـ وفرض المحال ليس بمحال ـ يخرج عن محل البحث ، لأنه في الشك في المكلف به بعد العلم بالتكليف لا في التكليف الساقط.

التنبيه الثالث

الشبهة الوجوبية غير المحصورة

تنقسم الشبهة الوجوبية إلى محصورة وغير محصورة على غرار الشبهة التحريمية ، كما سبقت الاشارة ، وغير المحصورة لا يجب فيها الامتثال اليقيني والموافقة القطعية ، تحريمية كانت أم وجوبية حيث يعجز المكلف عادة ـ في الغالب ـ ان يرتكب ويفعل جميع الأطراف الكثيرة المتفرقة في الوجوبية تماما كما يعجز عادة عن ترك جميع الأطراف في التحريمية ، فمن نذر ـ مثلا ـ صوم يوم معين من سنة معينة ، ثم نسي تعيين اليوم المنذور ، يصعب عليه أن يصوم السنة بالكامل ، ومن علم أن في السوق ثوبا غصبا ، يشق عليه أن يجتنب كل ما فيه من ثياب ما دام في حاجة إلى واحد منها.

أبدا لا فرق بين الشبهتين من حيث الموافقة القطعية وعدم وجوبها ، وانما

٣١٣

الفرق بينهما في المخالفة القطعية ، فانها تحرم في الوجوبية غير المحصورة لمكان القدرة على ترك جميع الأطراف ، وأي شيء أيسر من ترك الواجب؟ ولا تحرم المخالفة القطعية في التحريمية غير المحصورة لأن العلم الاجمالي لا أثر له من الأساس بعد الفرض بأن المخالفة القطعية فيها متعسرة وغير ممكنة عادة كما هو الفرض. وتقدم الحديث عن ذلك بالتفصيل.

وإذا حرمت المخالفة القطعية في الشبهة الوجوبية غير المحصورة ـ تعين وجوب الموافقة الاحتمالية بفعل بعض الأطراف دون بعض. وقال بعض العلماء : يأتي المكلف من الأطراف قدر الامكان. وما هذا القول ببعيد لأن الضرورة تقدّر بقدرها.

٣١٤

الأقل والأكثر

تمهيد

سبقت الإشارة إلى أن الواجب المشتبه قد يتردد بين متباينين ، أو بين الأقل والأكثر ، وأنهينا الكلام عن الأول ، ونتحدث الآن عن الأقل والأكثر ، وهو على قسمين : استقلالي وارتباطي ، وفيما يلي بيان الفرق بين الاثنين.

معنى الاستقلالي

الواجبات في الشريعة على أصناف ، منها فعل بسيط لا تركيب فيه ولا أجزاء له كردّ الأمانة والعارية ، وقصد امتثال الأمر في العبادات ، ومنها واجب مركب من أفراد أو أجزاء.

والمراد بالواجب الاستقلالي هنا الواجب الذي له أكثر من فرد على أن يكون كل فرد مستقلا بنفسه من حيث الأمر وطاعته ومعصيته ، ولا تتوقف صحته على وجود الأكثر على تقدير وجوبه ، ومن أمثلته صيام شهر رمضان ، فإن صحة الصيام في أي يوم منه لا تتوقف على صيام أيامه بالكامل ، بل لكل يوم تكليفه وحسابه.

وهذا الواجب الاستقلالي ، وان تردد بين الأقل والأكثر فهو خارج عن موضوع الكلام ومبحث الاحتياط وداخل في باب البراءة ، لأن الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير ، ولا رابط بينه وبين الأكثر ، فينحل العلم الاجمالي

٣١٥

ويزول أثره من حيث التنجيز والتنفيذ ، ويرجع الشك في الزائد على الاقل إلى الشك في نفس التكليف ، والأصل فيه البراءة.

معنى الارتباطي

وإذا عرفت معنى الواجب الاستقلالي هانت عليك معرفة الواجب الارتباطي ، وهو المركب من أجزاء والمقيد بشروط لا يستقل شيء منها بنفسه من حيث الأمر والصحة والامتثال ، بل هي بمجموعها متلاحمة متشابكة ، ولا أثر لأي جزء منها أو شرط إلا منضما مع الكل. وأوضح مثال لهذا الواجب الصلاة بما فيها من ايمان واخلاص وحل وطهارة واستقبال وتهليل وتكبير وتشهد وتسليم وركوع وسجود وقيام وقعود إلى آخر هذا التركيب العجيب الذي أخذ بعضه برقاب بعض.

محل البحث

وهذا الواجب المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيّين هو وحده محل البحث والكلام دون غيره ، والأقل هو الواجب المعلوم في سائر الأحوال إما لذاته وإما في في ضمن الواجب الأكثر لذاته أيضا من دون حد لعدد أجزاء الأقل وشروطه ، والأكثر هو مجموع الأجزاء والشروط المعتبرة بما فيها الزائد المشكوك على تقدير وجوبه ، وبعض العبارات تطلق الأكثر على خصوص هذا الزائد ، وبمتابعة ما نعرضه في هذا الفصل يتضح معنى الأقل والأكثر بصورة أوضح.

وقد يكون الشك في الزائد على الأقل في جهة الجزئية أي هل هو جزء من الواجب أو أجنبي عنه ، وقد يكون الشك في جهة الشرطية ، وأسباب الشك في كل من الجزء والشرط أربعة : عدم النص وإجماله ومعارضته واشتباه الموضوع الخارجي على غرار غيرهما ، ونبدأ الحديث بالشك في الجزء لعدم النص ، ثم سائر الأسباب والأقسام.

الشك في الجزئية لعدم النص

إذا شك المكلف في جزئية شيء من المأمور به لعدم النص فما هو مقتضى

٣١٦

الأصل : البراءة أو الاحتياط؟ ـ مثلا ـ الفقيه يعلم بوجوب هذه الصلاة التي يقيمها في الأوقات الخمسة من كل يوم ، ثم شك لعدم الدليل في ان الاستعاذة بعد تكبيرة الإحرام وقبل بسملة الحمد في الركعة الأولى هل هي واجبة كجزء من الصلاة أو غير واجبة؟ فبأي أصل يأخذ في مثل هذه الحال؟.

والأقوال في ذلك ثلاثة : الأول وجوب الاحتياط للعلم بالتكليف وشغل الذمة به ، وهذا العلم اليقيني يستدعي الامتثال اليقيني بالاحتياط ، فيجب بحكم العقل دفعا للضرر. وهذا القول ضعيف ومتروك عند الكثرة الكاثرة من العلماء ، لأن احتمال الضرر الأخروي الذي هو الموضوع والموجب لحكم العقل بالاحتياط ، لا عين له هنا ولا أثر مع وجود الأدلة الشرعية على البراءة ، والأمن والأمان من الحساب والعقاب. ويأتي التفصيل.

القول الثاني البراءة عقلا وشرعا ، وعليه الأنصاري ، القول الثالث البراءة شرعا لا عقلا ، وعليه النائيني وظاهر عبارة الخراساني في كفايته ، ونحن على ذلك مع العلم بأنه لا فرق جوهريا بين القول الثاني والثالث من حيث النتيجة وعدم الاحتياط ، والفرق أنه على القول الثاني تكون البراءة الشرعية تقريرا وإمضاء للبراءة العقلية ، وعلى القول الثالث تكون البراءة الشرعية واردة على حكم العقل بالاحتياط ورافعة لموضوعه بالبيان الآتي.

وخلاصة السبب الموجب لحكم العقل بالاحتياط بصرف النظر عن الأدلة الشرعية ـ أن العلم الاجمالي يتنجز به التكليف وينفذ تماما كالعلم التفصيلي ، وان الإتيان بالأقل وحده وترك الجزء المشكوك يلازم حتما الشك في الامتثال ، لأن احتمال وجوب المتروك ما يزال قائما. ومتى حصل العلم بالتكليف ولو اجمالا ، وشككنا في الامتثال والخروج عن العهدة ـ قامت الحجة اللازمة ، وتمت العلة الموجبة لحكم العقل بالاحتياط والتحرر من مسئولية التكليف بالامتثال اليقيني.

وتسأل : ان العلم الاجمالي لا أثر له هنا لأنه غير منجز على كل تقدير بعد الفرض بأن وجوب الأقل معلوم بالتفصيل ، وانه لا بد من الاتيان به على كل حال ، إما وحده ، واما مع غيره ، وبتعبير أهل الاصول القدر المتيقن موجود ، ومعه ينحل هذا العلم الاجمالي ويذهب مع الريح ، ويكون الزائد في حكم المشكوك منذ البداية ، فيجري فيه أصل البراءة بلا معارض؟.

٣١٧

الجواب :

إن العلم الاجمالي هنا لا ينحل بوجود العلم التفصيلي كيف اتفق ، وانما ينحل ويذهب إذا حصل العلم التفصيلي بفراغ الذمة خاصة ، والخروج عن عهدة التكليف على كل تقدير عند الطاعة والامتثال ، لا بالعلم بوجود التكليف على كل الفروض والتقادير ، لأن هذا ليس بشيء إذا كان الإتيان بمعلومه ومتعلقه لا يحصل منه العلم ببراءة الذمة من التكليف والتحرر من مسئوليته ، بل يبقى احتمال عدم الطاعة قائما بعد الإتيان به كما هي الحال فيما نحن فيه.

فإن المكلف يعلم تفصيلا بوجوب الأقل ، ما في ذلك ريب ، ولكنه مع هذا العلم يشك من جهة ثانية في ان هذا الوجوب المعلوم يقينا : هل تعلق بالأقل وحده كي يكتفى به عند الامتثال بدون الزائد المشكوك ، أو تعلق به وبهذا الزائد كي يجب الإتيان بهما معا؟. وهذا هو عين الشك في الامتثال بعد العلم بالتكليف ، فيجب الاحتياط ببديهة العقل دفعا للضرر المحتمل. وبالتالي يكون وجود هذا العلم التفصيلي كعدمه .. لأنه لا يغني شيئا في مقام الطاعة وتحصيل العلم بها الذي هو الهدف وبيت القصيد.

وبهذا يتبين معنا أنه لا مكان للبراءة العقلية مع الشك في الجزئية المقصودة بالكلام ، لعدم انحلال العلم الاجمالي ، ووجوب الاحتياط بحكم العقل مع صرف النظر عن الأدلة الشرعية على البراءة التي نعرضها فيما يلي :

البراءة الشرعية

أي شيء نجهل نوع التكليف به ، ونشك في وجوبه أو حرمته فهو مدلول ومشمول لحديث : رفع عن أمتي ما لا يعلمون ، وحديث : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ، وغير ذلك من أحاديث البراءة ، سواء أكان المشكوك في وجوبه واجبا بذاته ولذاته أو لكونه جزءا أو شرطا لغيره. أجل ، هنا شرط واحد وأساسي للعلم بأدلة البراءة الشرعية ، وهو أن لا يستدعي العمل بها أي محذور عقلي أو شرعي كالمخالفة القطعية للحكم الواقعي ، وكالاصطدام مع اطلاق أية رواية ومعارضتها.

٣١٨

ونحن نجهل وجوب ما زاد على الأقل ونشك في جزئيته كما هو الفرض ، ولا مانع ومحذور من الأخذ باطلاق أخبار البراءة والعمل بأصلها في الجزء المشكوك في طلبه واعتباره ، لأن المانع ، كما أشرنا قبل سطرين أو أكثر ، لا يخلو من أحد أمرين : المخالفة القطعية للحكم الواقعي ، أو الاصطدام مع اطلاق بعض الآيات والروايات ، والعمل بأصل البراءة في الزائد المشكوك لا يستدعي المخالفة القطعية إذ من الجائز جدا أن يكون الأقل المأتي به هو الواجب الواقعي ، وأيضا لا يصطدم أصل البراءة هنا مع أي عموم أو إطلاق في أدلة الأحكام الواقعية ، بل العكس هو الصحيح لأنه يتفق تمام الاتفاق مع إطلاق الدليل الدال على وجوب الأقل لأن كلا منهما ينفي وجوب الزائد المشكوك في جزئيته ، واذن لا مفر من العمل هنا بأخبار البراءة الشرعية وأصلها.

ومتى رفع الشارع التكليف فلا يبقى لحكم العقل بالاحتياط من موضوع ولا من سبب موجب حيث لا خوف في هذه الحال من حساب الشارع وعقابه لأنه هو الذي أباح واذن بالإقدام على ما حجب عنا علمه. ومن هنا اتفق العلماء الا من شذ على أن أدلة البراءة الشرعية واردة على قاعدة الاشتغال ، ورافعة لموضوعها الذي هو الركيزة والاساس لحكم العقل بالاحتياط ، ومثلوا لذلك ـ من جملة ما مثلوا ـ باشتباه القبلة ، فإن العقل يوجب الصلاة في هذا الفرض إلى الجهات الأربع إلا إذا اكتفى الشارع ببعضها لأن حكم العقل هنا فرع لا أصل يدور مدار أمر الشارع وجودا وعدما.

الشك في الجزئية لإجمال النص

إذا كان السبب الموجب للشك في الجزئية اجمال النص ، فالكلام فيه عين الكلام فيما لو كان السبب عدم النص حتى في الاقوال وأدلتها وما يرد عليها لعدم الفرق بين المسألتين ، ومثّل له السيد الخوئي في تقريرات النائيني بقوله : «كما إذا شك في صدق لفظ الصلاة على فاقدة السورة». وقال النائيني برواية الخراساني : «لا فرق في جريان البراءة الشرعية في دوران الأمر بين الأقل والاكثر الارتباطي في باب الاجزاء والشروط والموانع بين أن يكون منشأ الشك في وجوب الاكثر فقدان النص أو اجماله».

٣١٩

الشك في الجزئية لمعارضة النص

إذا كان السبب الموجب للشك تعارض النصين فالحكم هو التخيير بينهما ، قال الانصاري : «إذا تعارض نصان متكافئان في جزئية شيء لشيء ، فدل أحدهما على جزئية السورة ـ مثلا ـ والآخر على عدمها ، فمقتضى اطلاق أكثر الاصحاب القول بالتخيير بعد التكافؤ».

الشك في الجزئية لاشتباه الموضوع

قد يشك المكلف في جزئية شيء للمأمور به من أجل اشتباه الامور الخارجية التي لا تمد إلى الشارع بسبب ، ومثال ذلك أن يشك الجنب في ان هذا الجزء المعين من جسده : هل هو من الظاهر كي يجب غسله ، أو من الباطن كيلا يجب؟. ولا ريب عند الشيخ الأنصاري في وجوب الاحتياط لبديهة العقل وحكمه القاطع بالامتثال اليقيني خروجا عن عهدة التكليف اليقيني.

وتسأل : ما هو وجه الفرق بين الشك في الجزئية لعدم النص أو اجماله ، وبين الشك فيها بسبب الامور الخارجية حتى قال من قال بالبراءة في الحال الأولى ، وبالاحتياط في الثانية؟.

وأجاب الأنصاري بما معناه ان الشك لعدم النص أو اجماله يعود إلى الشارع بالذات لأنه سكت أو أبهم ، اما الشك بسبب الامور الخارجية فلا صلة للشارع فيه من قريب أو بعيد لأنه تكلم وأفصح وبيّن وأوضح ، ولا شك اطلاقا في الحكم الشرعي ، وانما الشك في موضوعه تماما كمن شك في إقامة الصلاة في وقتها أو خارجه ، وفي قراءة الفاتحة أو تركها.

هذا تلخيص وتوضيح لقول الأنصاري في الرسائل ، ولا رأي لنا في هذه المسألة إلا القول بأن الاحتياط حسن على كل حال ، وقال الآشتياني في تعليقه على ذلك : «لا اشكال ولا خلاف بين الاصحاب في وجوب الاحتياط

٣٢٠