علم أصول الفقه في ثوب الجديد

محمّد جواد مغنية

علم أصول الفقه في ثوب الجديد

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التيار الجديد
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٥٦

شبهة العمل بالظن وأدلتها

بين إفراط وتفريط

ادعى قلة من العلماء أنهم يملكون الأدلة على أن الظن حجة بوجه العموم في مقابل من قال : لا شيء بحجة وراء العلم واليقين ، وقد أفرط أولئك كما فرط هؤلاء ، والطريق الوسطى أن الأصل في الظن المنع عن العمل به الا ما خرج بدليل القطع. وسبق الحديث مفصلا عن هذا الأصل وما خرج عنه بالدليل. والآن نذكر أدلة الواثقين بالظن أو الأدلة على شبهة العمل بكل ظن ، وهي أربعة نلخصها كالآتي :

الضرر المزعوم

١ ـ إنّ ظن المجتهد بوجوب شيء يستدعي الظن بالعقاب على تركه ، وظنه بحرمة شيء يستلزم الظن بالعقاب على فعله ، والضرر المظنون يجب دفعه بحكم العقل ، فيجب العمل بالظن دفعا للضرر ، لأن المقدمات تدل على النتيجة.

الجواب :

أولا ان هذا القياس واضح البطلان لعدم الملازمة بين الحكم الواقعي من حيث هو وبين استحقاق العقاب ، وإلّا كان الجاهل القاصر مستحقا للعقاب ، ولا قائل بذلك ، حيث اتفق الجميع على أن الحكم الواقعي لا أثر له إلّا إذا بلغ مرتبة التنجيز ، والشرط الأساسي في بلوغ الحكم هذه المرتبة هو العلم به أو

٢٤١

ما يقوم مقامه. قال سبحانه : («وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) ـ ١١٥ التوبة». وقال الإمام الصادق (ع) في تفسير هذه الآية : «حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه .. ان الله احتج على الناس بما آتاهم وعرّفهم». ومحل الكلام الجاهل العاجز عن المعرفة ، فكيف يستحق العقاب؟ وبالتالي فلا سبيل إلى دعوى الملازمة بين الظن بالوجوب والحرمة وبين استحقاق العقاب.

ثانيا لو سلمنا ـ جدلا ـ بهذا القياس فانه أخص من الدعوى لأنها تعم وتشمل كل مظنون حتى المكروه والمندوب مع العلم بأنه لا عقاب على فعل الأول ولا على ترك الثاني.

الراجح والمرجوح

٢ ـ لو لم يجب العمل بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، والراجح هنا الظن لقربه من العلم ، وقبيح في نظر العقل ترك الظن الى الشك والوهم.

الجواب :

أبدا لا ملازمة بين ترك العمل بالظن وترجيح المرجوح ، لأن المجتهد غير ملزم ولا مضطر إلى العمل إما بالظن واما بالشك والوهم ، بل يجوز له ترك العمل بهما معا لسبب واضح وبسيط وهو عدم الدليل على الإلزام والاضطرار.

الحرج المزعوم

٣ ـ العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرمات ، وان منها ما هو مظنون ، وآخر مشكوك ، وثالث موهوم. والاحتياط بإتيانها جميعا عسر وحرج ، ويرتفع هذا الحرج بترك المشكوك والموهوم ، وعندئذ يتعين الامتثال بالظن دون الشك والوهم.

وأجاب الشيخ الانصاري أولا بأن هذا الدليل يرجع الى الدليل الرابع ، ويأتي الكلام عنه.

٢٤٢

ثانيا إذا كان القصد دفع الحرج وكفى فإنه يرتفع بترك الموهوم فقط ، فلما ذا يترك المشكوك أيضا مع انه أحد أطراف العلم الإجمالي ، بل يجب فعل المظنون والمشكوك معا ، وليس فعل المظنون فقط ، لأن الضرورة تقدّر بقدرها.

مقدمات الانسداد

٤ ـ مقدمات انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية وهي أربعة (١) ان باب العلم بمعظم المسائل الفقهية مسدود ولا يفتح إلا لأهل العصمة ، فأين هم الآن؟ اللهم إلا ما ثبت بضرورة الدين وهو أقل من القليل (٢) نحن مسئولون عن الأحكام الشرعية ، ولا بد من الخروج عن عهدتها بأي طريق ممكن (٣) الاحتياط في كل الأحكام عسر وحرج ، والله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وإعمال أصل البراءة في كل حكم مجهول محق للدين ومروق منه (٤) وإذا تعذر العلم والأصل والاحتياط فما عسى أن يبقى من شيء غير الظن ، ولو أهملناه لكانت الشريعة اسما بلا مسمى.

والأصل الأساسي في هذه المقدمات المقدمة الأولى القائلة بانسداد باب العلم ، ولذا سمي هذا الدليل بالانسداد ، أما سائر المقدمات فهي صحيحة في نفسها ، وأي عاقل يشك في المسئولية عن التكاليف ووجوب الخروج عن عهدتها ، أو يشك في نفي الحرج ، أو في أن أصل البراءة لا يجري في كل الأحكام أو جلها؟

ولكن لا صلة اطلاقا لشيء من ذلك بالظن إلا على القول بانسداد باب العلم ، فإذا ثبت أنه مفتوح على مصراعيه يكون الحديث عن المقدمات الثلاث بعيدا عما نحن بصدده إذ لا بقاء لفرع بعد ذهاب أصله.

ومن أجل هذا نقصر الحديث على المقدمة الاولى ، ونلخص ما قاله الأقطاب حولها ، بأن الشارع بعد أن أمر ونهى أرشد إلى طرق المعرفة بأمره ونهيه كأخبار الآحاد الموثوقين ، بالإضافة إلى الأخبار المتواترة وظواهر الكتاب والسنة ، وهي كافية وافية بتوفير العلم بمعظم الأحكام الشرعية ، أو ما يقوم مقام العلم ، وعندئذ ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي بأكثر الأحكام ، وتجري الأصول والقواعد في البقية الباقية بلا محذور ولازم باطل وفاسد.

هذه وقفة قصيرة مع انسداد باب العلم بالأحكام ، وتلخيص خاطف وسريع

٢٤٣

قصدنا منه أن يكون الطالب على شيء من العلم به ، لأن أكثر الطلاب أو الكثير منهم يتجاوزونه في الدراسة ، لأنه مجرد فرض لا تدعو اليه الحاجة إلا على أساس العلم بالتراث ، أو العلم بالشيء خير من الجهل به. وبعد أن أبطل الأنصاري والخراساني والنائيني انسداد باب العلم ـ عادوا وافترضوا صحته وتحدثوا عن ثمره على تقدير وجوده ـ وفرض المحال ليس بمحال ـ وفيما يلي نشير إلى بعض ما قالوه حول ثمره ونتاجه ، على عقمه!.

الحكم وطريقه

ليس من شك أن الظن بالحكم حجة كافية ـ على القول بالانسداد ـ فهل الظن بالطريق إلى الحكم أيضا يكون حجة حتى ولو لم يحصل منه الظن بنفس الحكم ـ مثلا ـ إذا ظن الفقيه بأن خبر مجهول الحال حجة شرعية يجب العمل به ، وأخبره هذا المجهول بوجوب شيء نقلا عن الشارع ، ولكن الفقيه لم يحصل له الظن بالوجوب ، إذا كان ذلك فهل يجوز للفقيه أن يفتي بالوجوب لمجرد أنه ظن بحجية خبر المجهول؟.

الجواب :

أجل ، ان الظن بطريق الحكم حجة تماما كالظن بنفس الحكم ، لأنه نائب عن العلم وخليفة له ـ على القول بالانسداد ـ ، والعلم حجة لازمة سواء أوقع على الحكم نفسه أم على طريقه ودليله ، وإن لم يحصل العلم بالحكم ، كما هو الشأن في خبر الواحد العادل ، فإنّا نقطع بوجوب العمل به حتى مع الشك في مؤداه ، وحتى مع امكان تحصيل العلم بالواقع ، بناء على انفتاح باب العلم. وبكلمة : إذا قلنا بأن ظن المجتهد حجة فعلينا أن لا نفرق في حجيته ووجوب اتباعه بين المسائل الفقهية والمسائل الأصولية.

الكشف والحكومة

بعد البناء على أن مقدمات الانسداد تبرر العمل بالظن وتوجبه ـ نتساءل : هل وجوب العمل بالظن ، وهذي هي الحال ، من باب الكشف أو الحكومة؟

٢٤٤

ومعنى الكشف هنا أن العقل يستخلص ويكتشف من مقدمات الانسداد أن الشارع هو الذي جعل واعتبر الظن طريقا لطاعته وامتثال أمره دون أن يحكم العقل بشيء سلبا ولا ايجابا ، لأنه أداة كاشفة لا سلطة حاكمة.

ومعنى الحكومة أن العقل يحكم هنا بأن الشارع يقبح في حقه أن يطلب من المكلّف الطاعة بغير الظن بعد أن انسد في وجهه باب العلم. وأيضا يحكم العقل مستقلا بأن المكلف لا يسوغ له أن يترك الامتثال بالظن إلى الامتثال بالشك أو الوهم ما دام الظن ميسورا أو ممكنا.

ونحن مع صاحب الكفاية في قوله بالحكومة دون الكشف ، لأن مقدمات الانسداد بمجموعها تدور حول الطاعة والخروج عن عهدة التكليف ، وتفرض أن المكلف عاجز عن الامتثال العلمي ، وأن الاحتياط ليس بواجب ، وان الرجوع إلى أصل البراءة ليس بجائز ، وان الظن هو المتعين ، وان العقاب على العمل به قبيح بحكم العقل ، وأقبح منه أن يمتثل المكلف بالشك والوهم مع قدرته على الامتثال بالظن ، وكل ذلك يعود إلى الطاعة ، وكل ما يعود إلى الطاعة فهو من وظيفة العقل دون الشرع ، وإن أمر الشرع بالطاعة فأمره ارشاد إلى حكم العقل ، وليس انشاء وتأسيسا.

القياس بين الشرع والعقل

وتسأل : من المقرر أن القواعد والأحكام العقلية لا تقبل التخصيص ، وعليه فلو كان العقل مستقلا في الحكم بحجية الظن ـ كما ادعيت بناء على الانسداد ـ لما ساغ للشارع أن ينهى عن شيء من الظن أيا كان السبب الموجب له مع العلم بأن الشارع نهى عن القياس ، وأنكر أشد الإنكار على العاملين به حتى ولو حصل منه ألف ظن وظن ، فكيف نقض الشرع ما أبرم العقل وحرم ما أوجب؟ وكل الراسخين في علوم الإسلام قد أوجبوا تقديم ما يشير به العقل إذا تعارض مع ظاهر الشرع ، ومعنى هذا وجوب العمل بالقياس حتى ولو نهى عنه الشرع؟.

الجواب :

إن العقل هنا لا يحكم بحجية الظن مطلقا ومن غير قيد ، وإنما يحكم بحجية

٢٤٥

الظن الذي لم ينه عنه الشارع ، فإذا ثبت هذا النهي بالقطع واليقين يخرج الظن المنهي عنه عن حكم العقل منذ البداية. ومعنى هذا أن القياس خارج موضوعا عن حكم العقل ، وأن الشرع والعقل متفقان في الحكم بخروج القياس والخبر الضعيف وكل ما دل الدليل القطعي على خروجه وعدم اعتباره.

قياس ابليس

وبمناسبة ما تقدم نشير إلى أن حديث القياس كثير وطويل (١) ونكتفي بالايماء إلى الأصل والأساس الذي بني عليه اختلاف السنة والشيعة في القياس .. أبدا لا خلاف بين المسلمين على وجوب الحكم بما أنزل الله ، وأنه لا حرام إلا ما حرم ، ولا حلال إلا ما أحل ، وانما الخلاف بين السنة والشيعة ـ حول القياس ـ في أنه هل يسوغ لأحد أن ينسب إلى دين الله وشريعته أحكاما رآها هو بظنه ، واكتشف عللها برأيه؟.

قال الشيعة : كلّا وألف كلا ، فإن دين الله لا يصاب بالآراء والظنون وإلا لكان الناس في غنى عن ارسال الرسل وانزال الكتب. وأيضا ان الله لم يكل تشريع دينه وأحكامه إلى ملك مقرب أو نبي مرسل ، فكيف يكله إلى ظن فقيه أو رأي مجتهد؟. بالاضافة إلى العديد من الآيات والروايات الآمرة بالرد إلى الله ورسوله ، الناهية عن القول على الله بالظن والرأي.

وقد دحض سبحانه رأي ابليس وظنه في قياسه الذي احتج به و (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ـ الاعراف ١٢» بل دحض سبحانه كل ظن لابليس إلا ظنا واحدا صدقه فيه ، وهو (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ـ ٨٣ ص».

وليس من شك أن من عمل بقياس ابليس فهو من المستشهدين بين يديه ، اما التصديق من الله تعالى بهذا القسم فتشهد له الآية ٢٠ من سبأ : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ).

__________________

(١) من أراد التطويل والتفصيل فعليه بالسفر القيم للسيد التقي الحكيم : «الأصول العامة للفقه المقارن» فلقد أعطى القياس من صفحاته ٥٥ صفحة دون أن يأخذ المؤلف من القياس حرفا واحدا.

٢٤٦

وقال السنة : إذا لم نجد نصا على حادثة نحكم عليها بحكم حادثة ثانية نطق النص بحكمها ، اما الملازمة بين حكم المسكوت عنه وحكم المنطوق به ـ فيناط أمرها وتحديدها إلى نظر المجتهد ورأيه ، لأن المجتهد ـ في مذهب السنة ـ كما يسوغ له أن يستخرج الأحكام من النصوص أيضا يسوغ له أن يستنبط علل الأحكام بظنه واجتهاده دون أن يعتمد على نص ودليل من الشرع ، ثم يعطي حكم المنصوص عليه للمسكوت عنه لا لشيء إلا لأن الاثنين يشتركان في العلة التي استنبطها المجتهد بحدسه وتصوره.

ـ مثلا ـ نص الشرع على أن الخال وابن الأخت يتوارثان ، وسكت عن حكم النفقة وانها هل تجب للمعسر على الموسر منهما أم لا تجب؟ فيحكم الفقيه القياسي على الموسر بالانفاق لأن ما هو علة للتوارث يجب ـ في رأي القياسي ـ أن يكون أيضا علة للانفاق.

ويدحض هذا النوع من الاجتهاد :

أولا انه غير مفيد للقطع واليقين لجواز أن يكون الحكم ثابتا لذات الموضوع وخصوصه لا لعمومه ، أو لعلة خارجة عنه ، وقد غابت عن حدس المجتهد القياسي وفهمه.

ثانيا ان علل الأحكام الإلهية لا يعرف كنهها إلا الذي شرعها ، وإذا جاز لعالم ضليع أن يبين الحكمة من تشريع حكم من أحكام الله ـ فلا يسوغ له أن يتخذ من هذه الحكمة المستنبطة مبدأ عاما للتفريع والتطبيق.

ثالثا ليس من الضروري أن تشترك الأشباه والنظائر في علة الحكم ، فإن مبنى شريعة الإسلام على جمع المتفرقات ، وتفريق المجتمعات ، فمن الأول الجمع بين النوم والغائط في موجبات الوضوء ، ومن الثاني قطع يد السارق دون الغاصب ، وهو أشد جرما.

رابعا يجوز أن تكون العلة التي استنبطها المجتهد هي في واقعها حكمة لا يجب اطرادها ، أو جزء علة لا يلزم من وجودها الوجود وان لزم من عدمها العدم ، إلى غير ذلك كثير.

وان شئت أن تعرف ما قاله أهل البيت (ع) في القياس فانظر أول باب القضاء في وسائل الشيعة للحر العاملي.

٢٤٧

وفي الختام نشير إلى أن القياس عند السنة ليس مجرد قاعدة أو أصل كالاستصحاب ، بل هو من أصول الأدلة كالكتاب والسنة ، ومن هنا عدوّه معهما في أدلة الفقه وقالوا : هي أربعة : الكتاب والسنة والاجماع والقياس. وقال صاحب كشف الأسرار الحنفي : «القياس مدرك في أحكام الشرع ودليل يوقف به على الحكم». وقال الغزالي الشافعي في كتاب المنخول : «القياس أمارة الحكم شرعا». وقال ابن القيم الجوزية الحنبلي في اعلام الموقعين ج ١ ص ١٣٣ : القياس الصحيح هو الميزان الذي عناه الله بقوله : («لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) ـ ٢٥ الحديد».

وفي كتاب «مالك» للشيخ أبو زهرة فصل الاصول التي عليها مالك هي أربعة : الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والقياس.

وبعد ، فإن المذاهب الأربعة بالكامل ترى القياس أصلا من اصول الأدلة تماما كالنص ، قال ابن القيم في أعلام الموقعين ج ١ الفصل الرابع : «ليس أحد من الأئمة إلا وهو موافق على هذا الأصل من حيث الجملة». والفرق في مدى الاعتماد عليه سعة وضيقا ، اطلاقا وتقييدا.

٢٤٨

مباحث الشك

٢٤٩
٢٥٠

حول الشك في الحكم

قلنا في أول باب القطع : إن وظيفة المكلف تختلف تبعا لعلمه بالحكم وظنه به وشكه فيه. وسبق الحديث عن حكم القطع والظن ، وآن الأوان للحديث عن الشك.

الشك والمشكوك

والمراد بالشك هنا ما يعم الظن الذي لا حجة له ولا دليل عليه ، والمراد بالمشكوك ما يشمل التكليف والمكلف به ، والشك في التكليف يسمى شبهة حكمية ، وفي المكلف به شبهة موضوعية ، والفرق بين الشبهتين أولا أن متعلق التكليف المشكوك في الاولى فعل كلي كشرب التتن ، ومتعلقه في الثانية فعل خاص وجزئي كشرب هذا السائل الموجود في إناء معين. وثانيا ان مصدر الشك في الاولى اليأس من معرفة الدليل على الحكم ، وفي الثانية اشتباه الفرد المطلوب بأمثاله ونظائره مع العلم بالحكم ودليله كالشك في أن هذا خل أو خمر بعد العلم بأن ذاك حلال وهذا حرام.

بين الحكم الظاهري والواقعي

الحكم الواقعي هو المجعول بالجعل الأولي في أصل الشريعة وبدايتها بلا قيد أو شرط ، ولذا يعم ويشمل العالم والجاهل والقادر والعاجز ، والفرق أن هذا الحكم

٢٥١

الواقعي لا يصل ويبلغ مرحلة البعث والتنجيز في حق ذوي الأعذار ، ويصل اليها بالنسبة إلى من لا عذر له كالعالم القادر.

اما الحكم الظاهري فإنه مجعول للفعل من حيث الجهل بحكمه الواقعي وعدم العلم به ، ولا بد من التنبيه إلى ان مؤدى الأدلة الظنية المعتبرة شرعا ليس حكما واقعيا ولا ظاهريا ، لأنها مجرد طريق إلى الواقع وكفى ، فإن صادفته تنجز وإلا فهي عذر فقط. وسبق الحديث عن ذلك في فصل الظن ، فقرة : طريق الأمن والأمان. أما الشك في مورد الدليل الظني المعتبر فهو في حكم العدم شرعا وتعبدا. وفيما يلي التفصيل.

بين الأصل والدليل

الدليل ما يستدل به على الشيء لأنه يكشف عنه ، والكشف منه تام ، وهو ما من شأنه أن يوجب العلم بالمدلول ، ومنه ناقص وهو ما من شأنه أن يوجب الظن دون العلم. فإن قام الدليل الشرعي القطعي على الأخذ به والاعتماد عليه في المسائل الشرعية كالظن الناشئ من خبر الواحد ـ مثلا ـ كان هذا الدليل متمما للكشف الظني ولاغيا للشك من حيث الأثر تعبدا.

والدليل الظني المعتبر شرعا يسمى بالحجة وبالأمارة والدليل العلمي ، لأن العمل به عمل بنفس العلم لا بالظن في حقيقة الأمر والواقع ، وذلك بأن الشرط الأساسي في الدليل الذي يستدل به على اعتبار الظن وحجيته ـ أن لا يعترضه الشك والريب ولا يسقط عن الاعتبار والدلالة ، لأن مجرد الشك في وجود الدليل أو في نعت الموجود بالدليل وصحة الاستدلال به ـ كاف في الدلالة على أنه ليس بشيء يوصل إلى العلم والمعرفة.

أما الأصل فلا تطلق عليه كلمة أمارة بحال لأن من شأنها الكشف عن الواقع ، والمفروض ان الشارع ألغى الاحتمال المعاكس في موردها ، وأين الأصل من ذلك؟ فإن الشك شرط رئيسي في موضوعه وكيانه ، والشك ـ كما هو في طبعه ـ أبعد ما يكون عن الكشف والحكاية. وقال بعض الفقهاء : يجوز أن نطلق على الأصل كلمة الدليل الفقاهتي بالنظر إلى أن الفقيه يلجأ اليه عند الحيرة ، ويطبق عمله على موجبه بعد اليأس من دليل العلم والعلمي. أما كلمة الدليل الاجتهادي

٢٥٢

فتختص بالأمارة لأن المجتهد يبذل كل ما يملك للبحث عن الدليل الظني المعتبر بالحكم الشرعي. ويجوز أن يطلق على الأصل كلمة الحجة حيث يحتج به الفقيه إذا أورده في مورده.

ومن كل ما تقدم يتبين لنا أنه لا تعارض ولا تخصيص بين الأصل والدليل ، لأن الدليل متقدم ذاتا على الأصل ، والأصل متأخر رتبة عن الدليل ، ومعنى هذا أنهما لا يجتمعان ولا يتواردان على موضوع واحد حتى في عالم الجواز والإمكان ، لأنه مع وجود الدليل لا موضوع للأصل ، والأصل لا يوجد إلا بعد اليأس من وجود الدليل. ومن هنا قال أهل النظر والتحقيق : ان الأصل خارج عن الدليل موضوعا وتخصصا لا حكما وتخصيصا.

الأصول الأربعة

الأصول كثيرة العدد ، وشرحها يطول ، والجامع بين شتاتها أنها وظيفة للجاهل بالواقع من حيث جهله به ويأسه من الكشف عنه بالعلم أو الظن المعتبر. أما الفرق بين أصل وأصل فيعرف من مورد الجهل وما وقع عليه الشك ، والقصد الأول من حديثنا الآن وما بعده هو الأصول الشهيرة الأربعة : البراءة والتخيير والاحتياط والاستصحاب ، وقد يجري الحديث عن غيرها ولكن استطرادا وبالمناسبة.

وتسأل : ولما ذا الاهتمام بالأصول الأربعة دون سواها؟

الجواب :

لأنها عامة تجري في الشبهات الحكمية والموضوعية ، وفي كل كتاب وباب من كتب الفقه وأبوابه ؛ أما غيرها من الأصول فإن عم وشمل الشبهة الحكمية والموضوعية اختص بباب واحد من أبواب الفقه كأصل الطهارة فإنه خاص بها ، بالإضافة الى أنه محل وفاق بين الجميع. وعلى فرض دخول أصل ما في أكثر من باب ـ فإنه يختص بالشبهة الموضوعية وحدها كأصل الصحة في فعل النفس والآخرين.

وهناك بعض الأصول لا تجري إلا في مسألة واحدة فقط كالحرية في الانسان ، وأصل الولد للفراش. ومن هنا جاء الاهتمام بالأصول الأربعة دون سائر الأصول.

٢٥٣

وموضوع أصل البراءة الشك في جنس التكليف وهويته بشرط غض النظر عن الحال السابقة وعدم لحاظها وان كانت موجودة.

وموضوع التخيير العلم بوجود الإلزام والمسئولية مع التردد بين محذورين بحيث لا يمكن الجمع بينهما بالاحتياط والموافقة القطعية كالوجوب والحرمة.

وموضوع الاحتياط الشك في المكلف به بعد فرض العلم بنوع التكليف والقدرة على الموافقة القطعية وحصر المشتبه بأطراف معينه.

وموضوع الاستصحاب الشك في التكليف أو المكلف به بشرط النظر إلى الحال السابقة ولحاظها. وقال الشيخ الأنصاري : «ان موارد الاصول قد تتداخل لأن المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقنة ، ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظة الحالة السابقة وان كانت موجودة». وما من شك ان التداخل الحقيقي غير مراد للشيخ ، كيف ولكل أصل قيوده وحدوده التي تبتعد به عن غيره من الأصول؟ وانما أراد أن الحال السابقة قد توجد في موارد الأصول الثلاثة ولكن دون النظر اليها ، ولو نظرنا اليها لجرى الاستصحاب.

هذه صورة مجملة وسريعة عن الأصول الأربعة ، رسمناها لمجرد التمهيد ، والكلام الجامع ، في محل البحث عن كل أصل منها على انفراد ان شاء الله.

أصل الحظر أو الإباحة

وتسأل : لما ذا الكلام عن البراءة والاحتياط ما دام هناك بحث آخر يعرفه الجميع وهو هل الأصل في الأشياء الحظر أو الاباحة؟ ألا يغني هذا عن بحث البراءة والاحتياط؟.

الجواب :

إن الجهة المبحوث عنها في أصل البراءة والاحتياط غير الجهة المبحوث عنها في حكم جميع الأشياء بمقتضى الأصل ، فإن هذا الأصل ينظر إلى الأشياء من حيث هي وبصرف النظر عن حكم كل حادثة وان لله في كل واقعة حكما ، أما أصل البراءة فموضوعه الحكم الخاص الذي شرعه الله لهذه الحادثة حين شرع الأحكام لكل شيء «حتى أرش الخدش فما سواه ، والجلدة ونصف

٢٥٤

الجلدة» كما في الحديث. أما أصل الاحتياط فموضوعه طاعة الأحكام وامتثالها ، وأين هذا من الحكم الواحد الذي يعم ويشمل كل الأشياء دون استثناء؟.

وقد يقول قائل : لما ذا سكتّ وتجاهلت حصر الاصول بأربعة ، وقول القائلين : «اما ان يلاحظ الحالة السابقة للشك ، واما لا ، وعلى الثاني اما ان يكون التكليف معلوما ، واما لا ، وعلى الاول اما ان يمكن الاحتياط ، واما لا. فللأول الاستصحاب ، وللثاني الاحتياط ، وللثالث التخيير ، وللرابع البراءة»؟. (انظر تقريرات النائيني للخراساني ج ٣ ص ١١٨ طبعة ١٣٥١ ه‍). هذي عبارة الكتاب ، ولا أدري : هل غلط الناسخ في شيء منها؟.

الجواب :

أولا المهم معرفة الاصول وكفى ، اما الحصر وأسلوبه وانه عقلي أو استقرائي ـ فلا ينفع من علمه ، ولا يضر من جهله. ثانيا رفقت بالطالب أن يقع في دوار يأخذ برأسه نقضا وابراما. والله في عون الاستاذ ما دام هو في عون طلابه وتلاميذه.

٢٥٥

البراءة

بين البراءة والإباحة

ذكروا العديد من الفروق بين أصل البراءة وأصل الإباحة ، نلخصها بالآتي :

١ ـ ان أصل البراءة لا يعنيه من أمر الحكم الواقعي شيء بعد أن تعذر وصوله إلى المكلف ، وإنما ينظر فقط إلى وظيفة المكلف في الحال التي هو عليها ، وتحريره من المسئولية وإعفائه من العقاب ، اما أصل الإباحة فإنه ينظر إلى الفعل الذي لا مصلحة فيه تلزم بإتيانه ، ولا مفسدة تلزم بتركه ، ومعنى هذا أن كلا من الأصلين يؤدي إلى نفس النتيجة التي يؤدي اليها الآخر ، وهي جواز الفعل والترك ، والاختلاف إنما هو في الطريق والوسيلة.

٢ ـ إن أصل الإباحة يعبر به في الشبهات التحريمية فقط لأنه ينفي التحريم ، أما أصل البراءة فيعبر به في الشبهة الوجودية لأنه ينفي الإلزام بالفعل والمسئولية عنه.

٣ ـ ان أصل الإباحة ينفي الحكم الشرعي الظاهر ، وأصل البراءة ينفي العقاب.

٤ ـ قال الآشتياني : أصل البراءة أعم وأشمل من أصل الإباحة.

هذا ما اطلعت عليه وانتهيت اليه بعد التتبع والاستقراء ، وما رأيت أي حد وفرق جوهري بين الأصلين ، كالفرق بين البراءة والاستصحاب مثلا. ولذا أعبر بما يسبق اليه لساني منهما دون تحفظ.

٢٥٦

على طريق الانصاري

سبقت الإشارة في الفصل المتقدم إلى أن المقصود بالبحث أولا الأصول الأربعة :

البراءة والتخيير والاحتياط والاستصحاب ، وابتدأ الشيخ الانصاري بالبراءة ، وقسّم البحث فيها الى الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية ، ثم قسّم كلا منهما باعتبار سبب الشك والاشتباه إلى مسائل أربع : عدم النص واجماله ومعارضته واشتباه موضوع الحكم في الخارج ، وأفرد كل مسألة ببحث خاص ، ونحاول نحن أن نسير في البحث على نهج الشيخ الواضح من حيث الترتيب.

الشبهة التحريمية

ومعنى الشبهة التحريمية أن يعلم الفقيه بالتفصيل حقيقة هذا الفعل كشرب التتن الذي مثل به الانصاري ، وأيضا يعلم الفقيه باليقين أن هذا الفعل ليس بواجب ، ولكنه يجهل ويشك في حكمه الخاص عند الله : هل هو الحرمة أو الندب أو الكراهة أو الاباحة بالمعنى الأخص؟ أي إما يجب ترك المشكوك حتما ، واما يجوز فعله لا بنحو الحتم والإلزام. هذا هو المراد بالشبهة التحريمية.

وأشرنا قبل قليل إلى أسباب الشك الأربعة ، ومنها عدم النص ، ونتكلم الآن حول الشبهة التحريمية التي تعرض للفقيه بعد جهده وعجزه عن الاطلاع على النص ومعرفته به ، وفي هذه المسألة قولان : الأول البراءة وعدم المسئولية عن الحكم المشكوك ، وهذا القول لعلمائنا الأصوليين. والقول الثاني : وجوب الاحتياط بترك الفعل ، وهو للاخباريين كلهم أو جلهم. ونعرض أولا أدلة الاصوليين ، ونعقبها بأدلة الاخباريين.

آية نفي العذاب بلا بيان

استدل الاصوليون على البراءة بالأدلة الأربعة ، فمن الكتاب قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ـ ١٥ الاسراء». قال صاحب الكفاية : «ان هذه الآية أظهر الآيات التي استدلوا بها على البراءة». ووجه الدلالة أن المراد بالبعث هنا تبليغ الأحكام ، وبالرسول البيان نقلا أو عقلا ، والمعنى

٢٥٧

لا عذاب إلا بعد قيام الحجة الواصلة الكافية ، ونفي العذاب الأخروي والدنيوي يكشف عن التوسعة والرخصة بالفعل والترك ، ولا معنى للبراءة وراء ذلك.»

والحق أن هذه الآية أبعد ما تكون عما نحن بصدده ، لأنها تدل بصراحة أن كلمة العذاب حقت على من علم بالحق وقامت عليه الحجة اللازمة ، ومع هذا تمرد وعاند ، وأين هذا من وظيفة الجاهل بأحكام الله وهل عليه أن يحتاط؟ كما هو الفرض؟. وليست سائر الآيات التي استدل بها الاصوليون ، أوضح في الدلالة من هذه الآية ، بالإضافة إلى أن الاخباريين القائلين بوجوب الاحتياط يعترفون بأنه لا عقاب بلا بيان ، ولكنهم يدّعون وجود النص والبيان على وجوب الاحتياط ، واذن يجب على القائلين بالبراءة أن يبطلوا هذه الدعوى ، ويثبتوا نفي الدليل على الاحتياط في مقام الشك في التحريم.

حديث الرفع

وأيضا استدل الأصوليون بأحاديث ، منها المعروف بحديث الرفع ، وهو «رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا اليه ، والطيرة والحسد والوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة».

وهذا الحديث يدل بظاهره على أن التسعة المذكورة كلها مرفوعة من الأساس عن أمة محمد (ص) والواقع العياني المحسوس ينفي ذلك ويرفضه ، وعليه فلا بد من التأويل تصحيحا لكلام العليم الحكيم ، فبأي شيء نؤوّله ونفسره؟.

ويمكن الجواب عن هذا السؤال بصفحات طوال عراض ، كما فعل الأنصاري والنائيني ، وأيضا يمكن الجواب عنه بأسطر ، ونختصر ما أدركناه وفهمناه بأن المراد بالرفع هنا دفع المؤاخذة قبل ثبوتها ، ويكون المعنى أن الله سبحانه لا يحاسب ويعاقب على ترك الشيء أو العمل به تكليفا كان أو مكلفا به ما دام الفاعل أو التارك مخطئا أو ناسيا أو جاهلا أو عاجزا أو مكرها أو مضطرا أو حاسدا أو متطيرا أو موسوسا ، أبدا لا يؤاخذ واحدا من هؤلاء ، شريطة أن لا يكون مقصرا ومتهاونا فيما يطلب منه ، وأن لا يبغي إذا هو حسد ، وأن يمضي إذا تطير ، وان لا ينطق بسوء إذا وسوس الخنّاس في صدره.

٢٥٨

وهذا المعنى ـ كما ترى ـ يلتحم وينسجم مع كل عقل غني ، وفهم ذكي ، ومع فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ومع الشريعة السهلة السمحة التي لا عسر فيها ولا حرج. وعليه يكون المراد ب «ما» في قول النبي (ص) : «وما لا يعلمون» الذي هو محل الشاهد ، يكون المراد دفع المؤاخذة على الشيء المجهول تكليفا كان كحرمة شرب التتن ـ على فرض الحرمة بعلم الله ـ أو موضوعا للتكليف كالسائل المردد بين الخل والخمر ، وبتعبير علماء الأصول يشمل الدفع «فيما لا يعلمون» الشبهة الحكمية والموضوعية ، والقاسم المشترك بينهما مفهوم الشيء المجهول. ولا عبرة بقول من قال : لا جامع بين الحكم ومتعلقه ، لأن الشيء المجهول والمشكوك لدى الفقيه الحائر يعم الاثنين.

هل يمكن رفع المرفوع

وتسأل : ان دفع الشيء أو رفعه إنما يتصور بعد أن يثبت السبب الموجب لوجود الشيء الذي يراد دفعه أو رفعه ، وبدون ذلك لا يمكن الدفع والرفع حيث لا نقش بلا عرش ، ولا أصل بدون فرع ، وبديهي أن المؤاخذة فرع ونتيجة لوجود التكليف الشرعي ومعصيته ، وأيضا من البداهة بمكان أن الشارع الحكيم لا يكلف المخطئ والناسي والمكره والمضطر ، إلى آخر التسعة المذكورة في الحديث ؛ لأن التكليف مع أي عارض من هذه التسعة إلا الاحتياط في مورد الجهل ـ هو تكليف بما لا يطاق ، وإذن فلا معنى لدفع المؤاخذة بعد العلم بأنها قد ارتفعت وانتفت بانتفاء سببها لا برفع الشارع أو غيره. اللهم إلا على أساس دفع المدفوع ، ورفع المرفوع؟.

الجواب :

ان الاحكام الشرعية الأولية ترتكز على العقل والبلوغ والقدرة ، وتسمى هذه العناصر الثلاثة بالشروط العامة ، لأنها تعم وتشمل كل حكم تكليفي بلا استثناء ، وهي بالكامل مجتمعة شروط رئيسية لأصل التكليف لا لتنجيزه وتنفيذه وبلوغه مرتبة الإلزام والعقاب على معصيته وإهماله. أما غير العقل والبلوغ والقدرة من الصفات الطارئة كالعلم وعدم الخطأ والنسيان وعدم الإكراه والاضطرار ، أما هذه فلا شيء منها بشرط لأصل التكليف وتشريعه ، وإنما هي من شروط تنجيز

٢٥٩

التكليف الذي لا ينجز إلا بعد وصول الحجة الكافية ، وبكلمة : وجودها مانع ، وعدمها شرط لتنفيذ الأحكام لا لوجودها في عالم التشريع.

وبعد العلم بهذه الحقيقة يسوغ لنا أن ننتهي إلى القول بأن المراد بدفع المؤاخذة دفع السبب الموجب لها ، وهو التكليف الذي أمره بيد الشارع وضعا ودفعا ، اما الطريق إلى دفعه فيختلف تبعا للموارد وما يطرأ على المكلف من صفات وحالات ، فدفعه عن المخطئ والناسي والمكره والمضطر ـ يتم ويتحقق ببقاء الحكم الواقعي في مرتبته الاولى التي كان عليها في أصل التشريع ولا ينتقل إلى مرتبة التنجيز والتنفيذ التي يكون المكلف معها مسئولا عن الحكم ومؤاخذا عليه.

وعلى هذا يكون معنى رفع الخطأ والنسيان وما دعت الضرورة اليه أو الإكراه ، يكون معناه أن أي عمل يتصف بشيء من ذلك فلا حساب على فاعله ولا عقاب حتى ولو كان حكمه في الواقع التحريم ، لا عقاب لوجود الأعذار الطارئة. هذا فيما يعود إلى حقوق الله سبحانه دون حقوق العباد ، فمن أتلف مال غيره نسيانا أو خطأ لا يرفع عنه وجوب الضمان ، ومثله من أكل مال غيره مضطرا ، لأن العفو هنا وعدم الحساب لا يتفق مع التفضل والامتنان منه تعالى ، بل ولا مع العدالة الإلهية لمكان الضرر بالآخرين.

اما رفع ما لا يطاق فالمراد به هنا دفع التكليف عن غير المقدور من الأساس حتى في عالم التشريع والواقع ، لأن القدرة من الشروط الأساسية لأصل التكليف كما أسلفنا ، وعندئذ يكون معنى قول النبي الكريم (ص) : «رفع عن أمتي ما لا يطيقون» مرادفا لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ـ ٢٨٦ البقرة». ومثله الطيرة والحسد والوسوسة ما دامت هذه الامور خارجة عن القدرة والطاقة الا ما ظهر من آثارها في القول والفعل ، ومن هنا قال الشارع الحكيم : وإذا حسدت فلا تبغ. ولم يقل : لا تحسد.

اما الدفع فيما لا يعلمون فالأمر فيه سهل يسير ، لأن الاحتياط في مقام الشك ممكن ومقدور ، كما هو الفرض ، فيدفعه سبحانه عن عبده منة وكرما.

هذا ما رأيته أقرب إلى الحق وأيسر على الفهم وأوجز في التعبير بعد البحث والنظر إلى ما قاله الأقطاب حول حديث الرفع ، والعصمة لأهلها. وهناك روايات استدلوا بها على البراءة مثل : الناس في سعة ما لا يعلمون .. ما حجب

٢٦٠