علم أصول الفقه في ثوب الجديد

محمّد جواد مغنية

علم أصول الفقه في ثوب الجديد

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التيار الجديد
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٥٦

٧ ـ أن يكون كل من المطلق والمقيد في سياق النفي ، ومثلوا له ب لا تعتق رقبة ، ولا تعتق رقبة مؤمنة. ولا موجب للحمل والجمع هنا لإمكان العمل بهما معا ، وبالأصح لإمكان تركهما معا ، ولا شيء أيسر من الترك.

المعيار

والخلاصة ، ان المعيار الأساسي لحمل المطلق على المقيد هو وجود التنافي بينهما مع إمكان الجمع العرفي ، لأن التعارض انما هو في الصورة لا في الواقع ، وفي اللفظ لا في المعنى. ومن هنا يفترق التعارض في باب المطلق والمقيد عن التعارض الواقعي الحقيقي الذي سنتكلم عنه في بابه إن شاء الله .. إن أحد المتعارضين في باب التعارض لا يحمل في ذاته وطياته القوة الغالبة والمرجحة على الآخر ، بل يحتاج التقديم والترجيح الى مرجح من الخارج ، أما في الباب الذي نحن فيه فإن المقيد يحمل في ذاته القوة الغالبة الموجبة لتقديمه على المطلق ، ولا يحتاج الى إسعاف من الخارج.

التخيير والاستحباب

وتسأل : اذا كان القصد من حمل المطلق على المقيد هو مجرد رفع التنافي فإن هذا القصد يتحقق أيضا بحمل الأمر في كل من المطلق والمقيد على التخيير ، ويكون معنى «اعتق رقبة ، واعتق رقبة مؤمنة» أنت مخير أيها المكلف بين عتق أية رقبة شئت ، وعتق رقبة مؤمنة فقط ، وأيضا يرتفع التنافي بحمل الأمر في المقيد ـ مثل اعتق رقبة مؤمنة ـ على الاستحباب وان المؤمنة هي الفرد الأكمل؟ وعليه يكون حمل المطلق على المقيد دون الحمل على التخيير أو الاستحباب ـ ترجيحا بلا مرجح ، وواجبا بلا موجب.

الجواب :

انما يصح التخيير بين شيئين أو أشياء لا جامع بينها كالتخيير بين الكسوة والإطعام والعتق والصيام ، أما التخيير بين القدر الجامع وأحد أقسامه ، وبين الكلي وبعض أفراده فلا يتصوره عقل ، ولا يقول به عاقل. وهل ينقسم الشيء الواحد الى نفسه والى غيره؟.

٢٠١

أما حمل الأمر في المقيد على الاستحباب فهو خلاف الظاهر ، ولا يسوغ القول به إلا بقرينة ودليل ، ولا دليل هنا سوى الزعم والوهم بأن إطلاق المطلق يزاحم ظهور المقيد! وسبقت الاشارة في رقم (٢) الى أنه لا إطلاق هنا من الأساس لعدم توافر مقدمات الحكمة ، وإذن فلا مزاحمة ، وبالتالي فلا مفر من إرجاع المطلق الى المقيد وحمله عليه ، واعتبارهما دليلا واحدا لا دليلين.

الندب

اذا كان الأمر في المطلق والمقيد للندب لا للوجوب ـ فلا موجب لحمل المطلق على المقيد ، لأن المندوب مرخص بتركه بالاضافة الى انه على درجات متفاوتات ، واذن فأين المنافاة التي تستوجب الجمع العرفي ، ومن أمثلة ذلك : يستحب الدعاء ، ويستحب الدعاء ليلة الجمعة. وقال الشيخ الأنصاري : ذهب المشهور الى عدم حمل المطلق على المقيد في المستحبات لأن تعدد الاستحباب كما يكون بتعدد الفعل وتكراره يكون أيضا بتعدد المراتب ، فإذا ورد خبر مطلق بزيارة الحسين (ع) ثم مقيد بزيارته يوم عرفة يحمل المقيد على زيادة الاستحباب في عرفة.

الحكم الوضعي

الأحكام الشرعية منها تكليفية ، كالإيجاب والتحريم ، ومنها وضعية كالصحة والفساد ، والنوع الأول يتعلق بالمعروف والمنكر ، ويقع الثاني في العقود والموجبات ، وسبق الكلام عن الحكم التكليفي المتعلق بالمطلق والمقيد. والآن نشير الى الحكم الوضعي ، وهل حال المطلق والمقيد معه تماما كحالهما مع الحكم التكليفي سلبا وايجابا؟

ولا بد من التفصيل بين صورتين : الأولى أن يكون المطلق في سياق الإثبات ، والمقيد في سياق النفي مثل : البيع سبب للملك ، وبيع الخنزير ليس سببا للملك. وفي مثله يحمل المطلق على المقيد لوجود المنافاة.

الصورة الثانية أن يكون كل من المطلق والمقيد في سياق الإثبات مثل البيع سبب للملك ، والبيع الفلاني سبب للملك. وفي هذه الحال يبقى المطلق على إطلاقه ،

٢٠٢

والمقيد على قيده لعدم المنافاة بينهما ، ويكون المعنى ان كلا من المطلق والمقيد جائز ومشروع. وعلى ذلك فقهاء الطائفة بشهادة الشيخ الأنصاري.

وخلاصة ما سبق ان حكم المطلق والمقيد تماما كحكم العام والخاص ، فكل ما يجري هناك يجري هنا من حمل المطلق على المقيد موصولين ومفصولين ، تقدم المقيد أم تأخر عن المطلق ، علم تاريخهما أم جهل. ومن النسخ بعد العمل بالمطلق ومن تقييد الكتاب بالكتاب والسنة ، وتقييد السنة بالسنة والكتاب ، الى غير ذلك.

٢٠٣

المجمل والمبين

المبين هو الذي لا تفتقر معرفة المراد منه الى تفسير وبيان ، ويقابله المجمل ، أي الذي تفتقر معرفة المراد منه الى بيان وتفسير ، والأسباب الموجبة للإجمال ثلاثة :

١ ـ أن يكون اللفظ موضوعا لأكثر من معنى ، كالقرء للحيض والطهر ، والناهل للعريان والعطشان. وكل كلمة اتحد لفظها وتعدد معناها الحقيقي فهي من نوع المشترك اللفظي اسما كانت كالقرء والناهل ، أم فعلا كعسعس للمقبل والمدبر ، أم حرفا ك «من» الجارة للتبعيض والابتداء ، وغيرها.

٢ ـ أن ينقل اللفظ من معناه اللغوي الى معنى آخر غير معلوم ، كلفظ الربا ، فإنه موضوع في اللغة لكل زيادة حتى ولو كانت في البيع والهبة ، ثم استعمله الشارع في نوع خاص من الزيادة ونهى عنه ، فإذا انسد باب العلم بالزيادة التي حرمها الشارع يكون لفظ الربا مجملا بالقياس اليها.

٣ ـ أن يكون المعنى الذي استعمل فيه اللفظ غريبا عن الافهام ، ومن ذلك الأحاديث النبوية المشتملة على كلمات غامضة لعدم شيوعها في الاستعمال ، ويسمى هذا النوع من السنّة الأحاديث الغريبة لفظا ، وقد ألّف فيها جماعة ، منهم النضر بن شميل ومعمر بن المثنى والقاسم بن سلام ومسلم بن قتيبة والشريف الرضي.

ومن هذه الأحاديث قول الرسول الأعظم (ص) : «إياكم وخضراء الدمن» حيث يحتمل أن يكون النهي هنا نهيا عن زواج المرأة الجميلة في منبت السوء ، وأيضا يحتمل أن يكون نهيا عن حلاوة اللسان مع مرارة الجنان كما قال الشاعر :

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى

وتبقى حزازات النفوس كما هيا

٢٠٤

وإذا وردت كلمة في الشريعة ، وترددت بين أكثر من معنى ولا دليل على التعيين ـ وجب التوقف عن العمل بالحديث الغريب ، وتكون الواقعة المشكوك في حكمها من جهة إجمال اللفظ ، تماما كأنه واقعة لا نص عليها ، لأن مجرد تصور المعنى لا أثر له إذا لم يقترن بالتصديق ، ولا تصديق بلا سبب يوجبه.

وذكر السيد الخوئي المجمل والمبين في تقريراته لدرس النائيني ، وكل ما نقله عنه يتلخص بأن مفهوم المجمل ومصاديقه مجهولة ، وان من اللفظ ما هو مجمل عند زيد ومبين عند عمرو لعلم الثاني بالوضع أو القرينة دون الأول ، ومثلوا للمجمل بالعديد من الأمثلة ، وفي الكثير منها نظر. ولا يترتب على البحث في ذلك أي غرض أصولي.

أما المقرر الخراساني فقد أهمل هذا البحث من الأساس ، ولم يشر اليه من قريب أو بعيد.

وهو سبحانه المسئول أن يهبنا من لدنه رحمة وتوفيقا لأداء أمانة الدين والعلم. والصلاة على محمد وآله.

٢٠٥
٢٠٦

مبحث القطع والظن

٢٠٧
٢٠٨
٢٠٩
٢١٠

القطع

الوظائف الثلاث

تختلف وظيفة المكلّف تبعا لعلمه بالحكم وظنه به وشكه فيه ، وتحدث الأصوليون عن وظيفة الأول في باب مستقل بعنوان القطع ، وعن وظيفة الثاني في باب آخر بعنوان الظن ، وعن وظيفة الثالث في باب الشك ، ودوّنوا هذه الأبواب في القسم الثاني من اصول الفقه بحسب الدراسة والتأليف لا بحسب النوعية والهوية (١). اما القسم الأول فهو مباحث الألفاظ ، وبالأصح البحث في شكل الاستنباط وعملية استخراج الحكم من الدليل السمعي. وسبق الكلام عن ذلك فيما تقدم.

ونعود إلى المكلف المذكور أعلاه لنشير إلى أن المراد به المجتهد ، لأنه المقصود الأول بمباحث الظن والشك من الأخذ بالامارات والاصول العملية ، ولا عبرة بظن المقلد ـ بكسر اللام ـ وشكه ، أجل قد تشمله بعض مباحث القطع ، ولكن تبعا واستطرادا ، والمراد بالحكم هنا الواقعي فقط لمكان التكليف به أولا وقبل كل شيء ، ولأنه المقصود الأساسي بالدرس والبحث ، اما الحكم الظاهري فلا يجب التعبد به إلا بعد الاطلاع على مدركه ودليله ، ومتى استخرجناه منه وجب علينا العمل بموجبه سواء أعلمنا بموافقته للواقع أم ظننا أم شككنا.

وفي بعض الحالات نعمل بالظاهر مع علمنا بأنه خلاف الواقع. ومن ذلك ما إذا علمنا بأن هذا المتاع لزيد أو لعمرو ، وقد تداعياه معا ولا يد أو بينة لأحدهما ، فإنهما يحلفان ويقتسمان بالسوية ، وشاع على ألسنة الفقهاء : التفكيك بين الأحكام الظاهرية والواقعية ليس بعزيز (انظر اصول الاثبات للمؤلف ص ١٦٠).

__________________

(١) قسموا مباحث الاصول بحسب النوع الى أربعة أقسام : اللفظية والعقلية والامارات والاصول العملية.

٢١١

نتيجة القطع

المصادر التي ينشأ منها القطع لا يبلغها احصاء. ولست بصدد تتبعها ونقدها في هذا الفصل ، بل بصدد القطع بالذات وأقسامه وبعض آثاره وكشفه عن الواقع في نظر القاطع. وليس من شك أن الكشف ذاتي في القطع ، وليس من صنع صانع وجعل جاعل تماما كالوجود بالنسبة إلى الموجود ، بل القطع هو الكشف بعينه عن المقطوع به ، ولذا عرفوا العلم بأنه معرفة المعلوم ، اما النتيجة الحتمية لهذا القطع والكشف فهي العمل بالمقطوع به ، لأن القطع يفرض نفسه على القاطع ، ولا يدع له عذرا يتعلل به مع الامكان والمقدرة : فان ترك واهمل ، وهذي هي الحال ، استحق الذم والعقاب. قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : قطع العلم عذر المتعللين.

وتسأل إذا كان القطع يفرض نفسه على القاطع ، ويحتم عليه العمل بالمقطوع به ـ يكون معذورا أمام الله والناس ان هو أخطأ الحق والواقع ، وكان علمه وقطعه عمى وجهلا!. ولا قائل بذلك.

الجواب :

تحدثنا عن القطع هنا وأثره بالنسبة للقاطع ، وهو لا يرى قطعه إلا حقا وصوابا ، ومن هنا تحتم عليه العمل بموجبه. وهذا لا يتنافى أبدا مع القول بأن الانسان يحاسب ويعاقب على تقصيره واهماله ، وعلى تعصبه الأعمى لآبائه وأجداده. ان الله سبحانه حمّلنا مسئولية الدرس والبحث ، وبذل كل ما لدينا من طاقات عقلية في التفكير العلمي الجاد ، قال سبحانه من جملة ما قال حكاية عن أهل النار : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) ـ ١١ الملك». ومعنى هذا ان الذي لا يستعمل عقله يعد مذنبا لأنه أهمل أسمى ما ميزه الله به عن غيره ، وهو العقل.

سؤال ثان : نسب إلى الاخباريين أو بعضهم القول بأنه لا وزن للقطع من حيث الأخذ والعمل بالمقطوع به إلا إذا حصل ونشأ من بديهة العقل أو دليل الشرع ، وأيضا نسب إلى أحد الأقطاب أن قطع القطّاع وشكه بمنزلة سواء ، فما رأيك في ذلك؟.

٢١٢

الجواب :

لقد نفى صاحب الكفاية هذه النسبة عن الاخباريين وبرّ أهم منها. وعلى فرض وجود قائل بالتفرقة بين القطّاع وغيره ـ فقوله ليس بشيء ما دامت حقيقة القطع هي الكشف التام الناجز في نظر القاطع ، وما دامت بديهة العقل تفرض على القاطع العمل بما قطع به ، ومن البديهة بمكان ان حكم العقل لا يقبل نسخا ولا تخصيصا ، هذا ان كان القطع طريقا للحكم ، وليس موضوعا له أو قيدا من قيوده. وفيما يلي التوضيح.

القطع الطريقي والموضوعي

قد يثبت الحكم الشرعي للفعل بعنوانه الأولي مجردا عن كل قيد مثل : الخمر حرام ، فالحكم هنا لازم لاسم الخمر وعنوانه بما هو وتابع له بلا قيد وشرط ، فإن علم به وأصابه من أصاب بقصد أو غير قصد ـ يكون علمه مجرد أداة ، وليس موضوعا للحكم ولا قيدا من قيوده.

ومن أجل ذا سماه الأصوليون بالقطع الطريقي.

وقد يناط الحكم بعلم المكلف كموضوع واقعي له بالكامل بحيث يدور مداره وجودا وعدما دون أن يكون للواقع أية صلة في ذلك مثل : كل مائع قطعت وجزمت بأنه خمر فهو حرام محرم عليك ، فإذا عصى المخاطب وشرب مائعا يقطع بأنه خمر استحق اللوم والعقاب حتى ولو تبين بعد ذلك ان ما شربه كان خلا لا خمرا ، لأن القطع أخذ موضوعا كاملا بما هو في نفسه لا بما هو كاشف عن الواقع كي يسأل عنه ، بل لا يمكن الجمع بحال بين أخذ القطع تمام الموضوع وبين اعتبار الكشف فيه عن الواقع ، لان معنى كون تمام الموضوع ان الواقع غير ملحوظ ولا معتبر اطلاقا ، ومعنى أخذ القطع موضوعا كاملا من حيث الكشف عن الواقع أن الواقع ملحوظ ومعتبر. وهذا عين التناقض. وعلى أية حال فإن هذا النوع يسمى بالقطع الموضوعي.

وقد يناط الحكم بالواقع والعلم به معا ، فيوجد بوجودهما معا ، وينتفي بانتفاء أحدهما مثل كل خمر علمت بحقيقته فهو حرام ، فإذا شرب المكلف مائعا يقطع بأنه خمر ، ثم تبين أنه خل فلا شيء عليه ، حيث لا خمر في الواقع الذي أخذ جزءا مقوما لموضوع الحكم. ثم ان هذا القسم بالذات من القطع الموضوعي قد يؤخذ

٢١٣

جزءا من الموضوع من حيث هو بصرف النظر عن جهة الكشف عن الواقع ، وقد يؤخذ جزءا من الموضوع من حيث هو كاشف عن الواقع.

أما العلم بأن الشارع قد أخذ القطع جزءا من الموضوع على هذا الوجه أو ذاك فيستفاد من مراجعة الأدلة ، لأن اطلاق موضوع الحكم وتقييده بيد الحاكم وحده ، فإذا لم نجد في كلامه أثرا لذكر القطع كان القطع طريقا الى حكمه ، وان قيد موضوع الحكم بالقطع الى نظرنا جهة التقييد وأسبابه ، وحكمنا بموجبها.

وبالاجمال والاختصار أن القطع على أربعة أقسام :

١ ـ القطع الطريقي الذي يكشف عن الواقع في نظر القاطع ، ولا يمد بسبب إلى ما تعلق به الحكم من قريب أو بعيد.

٢ ـ القطع الموضوعي الذي هو وحده تمام الموضوع سواء أصاب الواقع ام أخطأه لأنه غير ملحوظ كما سبقت الاشارة.

٣ ـ القطع الموضوعي الذي هو جزء من الموضوع ، ولكن لا من حيث الكشف عن الواقع ، وان كان الكشف ذاتيا للقطع.

٤ ـ القطع الموضوعي الذي هو جزء من الموضوع ، ولكن من حيث كشفه عن الواقع. وحكم هذا القسم الرابع قريب من القسم الأول ، أما القسمان الثاني والثالث فيفترقان عن القطع الطريقي في أكثر من وجه ، وفيما يلي بيان الفارق.

بين الموضوعي والطريقي

يفترق القطع الطريقي عن الموضوعي من وجهين :

١ ـ ان الشيء المقطوع به في القطع الطريقي تلحقه وتترتب عليه جميع آثاره العقلية والشرعية والعرفية أيا كان القاطع ، وفي أي زمان أو مكان حدث القطع ، ومن أي سبب نشأ حتى ولو كان السبب الموجب رفيف الغراب ، لأن هذه الآثار من لوازم الذات للكشف ، وهو موجود بالفعل في كل الحالات والخصوصيات ، اما القطع الموضوعي فيمكن اعتباره موضوعا أو قيدا في حال دون حال ، كما هو الشأن في حد الزنا ، فإنه لا يقام على الزاني والزانية حتى ولو شهد أربعة

٢١٤

شهداء عن علم وجزم إلا إذا كان علمهم ويقينهم ناشئا عن رؤية الميل في المكحلة.

٢ ـ ان القطع الطريقي يمكن أن تسد مسدّه عند فقده الأمارات والاصول العملية المحرزة دون القطع الذي أخذ تمام الموضوع أو قيدا له من حيث هو لا من حيث كشفه عن الواقع. والسر أن الطريق إلى معرفة الحكم الشرعي لا ينحصر بالعلم والقطع ، بل هناك طرق أخرى الى معرفته اقامها الشارع عند عدم العلم بمراده ، واعتبر مؤداها بمنزلة الواقع ، وأمر بتطبيق العمل بموجبها تماما كالقطع ، فكما يجب علينا أن نقيم الصلاة للقطع بوجوبها كذلك يجب ان لا نصرف وجوهنا عن القبلة ـ مثلا ـ أثناء الصلاة لخبر الثقة حتى ولو لم نقطع بصدقه. ويأتي الحديث مفصلا ان شاء الله عن الامارات والاصول ، ومنها الخبر الواحد والاستصحاب.

وتسأل : لما ذا خصصت وحصرت قيام الامارات والاصول المحرزة بالقطع الطريقي والموضوعي شريطة أن يؤخذ قيدا من حيث كشفه عن الواقع لا من حيث هو؟.

الجواب :

ان المقدمات تدل على النتيجة ، وقدمنا ان الشارع اعتبر مدلول الامارة ومؤدى الأصل المحرز بمنزلة الواقع تماما كالمقطوع به ، ومقتضى ذلك جواز قيام الامارة والأصل مقام القطع ، اما القطع الموضوعي من حيث هو لا من حيث الكشف ـ فليس له مدلول ولا مؤدى ، وانما هو مجرد قيد من صفات المكلف اعتبره الشارع لسبب أو لآخر غير الكشف تماما كما اعتبر العدالة في امام الجماعة ، والنسبة إلى هاشم في مستحق الخمس.

المتجرى

جرء وجراءة وجرأة : أقدم وهجم ، وبهذا المعنى تكلموا عن المتجرى الذي أقدم على عمل بسوء نية وقصد المعصية ، ولكنه أخطأ الفعل المقصود ، وتبين ان ما أقدم عليه لا سوء فيه ولا إثم ، كمن شهد على آخر شهادة زور في علمه ويقينه ، ثم تبين أنها حق وصدق ، فهل يعد هذا آثما يستحق العقاب على جرأته هذه أو لا شيء عليه؟. وتجدر الاشارة إلى أن عرض مسألة التجرؤ على

٢١٥

هذا الشكل يجعلها كلامية لا أصولية ولا فقهية ، لأن البحث في استحقاق العقاب أو عدمه من علم الكلام في الصميم.

وليس من شك أن الفعل المقصود به المعصية باق على هويته ، لأن سوء النية لا تحرم حلالا ، كما ان حسنها لا يحلل حراما ، وان دل التجرؤ على شيء فانه يدل على سوء الضمائر وخبث السرائر. وعلى حد تعبير بعض العلماء ان القبح هنا فاعلي لا فعلي ، ومن هنا قال كثيرون : ان المتجرى يستحق التعنيف والتأنيب دون العقاب والتعذيب لأنه لم يأت بفعل محظور نص الشرع على عقوبته ، وغاية الأمر ان المتجرى نوى وكفى ، والعقاب على مجرد النية تماما كالعقاب على مجرد التفكير ، فاذا كان هذا قبيحا فذاك مثله ، والفرق تحكم ، اما تعنيف المتجرى دون المفكر فلأن الأول تحرك وباشر عملا ما يعتقد بحرمته ، والثاني لم يقدم على شيء كما هو الفرض.

وتسأل : ما قولك بحديث «انما الأعمال بالنيات» فانه يدل بظاهره أن المعيار الأساس لكل عمل هو النية والطوية؟.

الجواب :

إن أفعال العباد منها ما لا يختلف ولا يرتبط حسنا وقبحا بنية الفاعل ، بل بذات الفعل وهويته كالفساد في الارض بعد اصلاحها ، واصلاحها بعد فسادها ، ومنها ما يرتبط بنية الفاعل ونظرته كالعبادات والعقود والموجبات. والمراد من حديث النيات هذا النوع من الاعمال ، وليس كل الاعمال وإلّا لم يكن للخير والشر من عين ولا أثر الا في ذات الانسان وأعماقه.

٢١٦

الظن

سلطان الشارع ومنهجه

القطع لا يقبل احتمال النقيض ، والشك تساوي الاحتمالات بلا رجحان لأحدها ، والظن احتمال راجح على نقيضه دون أن يلغيه. ومعنى هذا أن في الظن ايماء إلى الواقع ، ولكن لا يوثق بشهادته حتى عند الظان نفسه ان كان من أهل الفطنة والحجى. وليس هذا محلا للبحث والكلام ، وأيضا ليس من شك وخلاف في ان الإلزام باتباع الظن وايجاب العمل به ممكن ذاتا وغير مستحيل عقلا ، وإنما الكلام في ان إلزام الشارع باتباع ما يوجب الظن بأحكامه كالخبر الواحد ـ مثلا ـ هل يتولد منه مفسدة وادغال في الدين ، أو لا يستدعي شيئا من ذلك؟.

الجواب :

ان الذي بيده سلطة التشريع ، وله كل الحق في ان يقول : هذا حلال وهذا حرام ، وعلى الناس ان يتعاملوا معه بالسمع والطاعة ، ان هذا الشارع المتسلط يحق له أيضا ـ وبطريق أولى ـ أن يختار لمعرفة احكامه أي طريق يشاء ، وأن يكتفي بالظن في طاعتها وامتثالها ، ولو أطعناه فيما يحلل ويحرم ، وعصيناه في هدايته وارشاده إلى سبيل الطاعة ووجهها ـ لكنّا تماما كمن يعترف بالأصل وينكر الفرع ، ويسلم بالمقدمات دون النتيجة.

طريق الأمن والأمان

وقال قائل : ان لله في كل واقعة حكما ، وحكمه تعالى لا يصاب بالظن لأنه لا يغني عن الحق شيئا ، ومن أجل هذا لا يسوغ بحال أن يلزمنا الشارع

٢١٧

بالطرق غير العلمية كالخبر الواحد ونحوه ، ويوجب علينا العمل بها في طاعة الله وامتثال أمره ونهيه ، ولو أن الشارع أباح ذلك لأوقع العباد في الأخطاء والمفاسد.

الجواب :

ان الأهم من كل شيء عند المكلف المنقاد هو أن يوقن ويقطع بفراغ ذمته والخروج عن عهدة التكليف ومسئوليته ، وأن يأمن على نفسه نقاش الحساب وأليم العذاب ، وليس من شك ان الوسيلة الأولى لذلك هي أن يسلك المكلف الطريق الذي قرره الشارع لطاعته أيا كان نوعه ، فإذا التزمه وعمل بموجبه فقد أيقن وقطع حتما بالخروج عن العهدة سواء أوافق عمله الواقع أم خالفه. وبكلمة ان الواقع من حيث العمل وبالنسبة إلى المكلف هو مدلول الدليل الشرعي وكفى ، وكل من عمل بهذا المدلول فقد أصاب الحكم الذي قرره الله في حقه.

وتسأل : هذا صحيح ، ولكنه لا يدحض الإشكال المعروف ، وهو إذا ثبت التعبد والالتزام بهذه الامارة ـ فالأمر لا يخلو من أحد فرضين :

الفرض الأول أن يبقى الحكم الواقعي كما كان قبل قيام الامارة ، وعندئذ يتوارد على حادثة واحدة حكمان : الحكم الواقعي الموجود قبل الامارة ، وعليه فإن كان الحكمان متضادين يلزم اجتماع الضدين ، وان كانا متماثلين يلزم اجتماع المتماثلين ، والأول محال والثاني قيل بأنه محال ، وقيل : هو تأكيد ، وقيل : تحصيل للحاصل.

الفرض الآخر هو خلو الحادثة من الحكم الواقعي ، ويحكم عليها بالحكم الظاهري فقط على وفق مؤدى الامارة ، وعليه يلزم التصويب الباطل عند الشيعة والعديد من مذاهب السنة. ويأتي الكلام عنه في الفقرة التالية :

وأجاب صاحب الكفاية والمرزا النائيني بأنّا نختار الفرض الأول ، وأنه ليس للحادثة إلا الحكم الواقعي المعين الذي كان قبل الامارة وثبت في أصل الشريعة ، وان الشارع حين اعتبر الامارة الظنية لم يشرع حكما ثانيا للحادثة على وفق مدلول الامارة يسمى بالحكم الظاهري ـ توهم ذلك من توهم ـ كي يلزم اجتماع المتضادين أو المتماثلين ، كلا وإنما جعل شيئا آخر سماه صاحب الكفاية بالحجية ، والنائيني بالوسطية في الاثبات ، ونسميه نحن باتمام الكشف وإلغاء أثر الاحتمال المعاكس ، وتكون النتيجة لذلك تنجيز الحكم الواقعي في صورة الموافقة واصابة الواقع ، والمعذرة ورفع المسئولية في صورة المخالفة والبعد عن الواقع.

٢١٨

إشكال آخر ، وهو أن العمل بالظن أكثر خطأ من العمل بالعلم ، وأكثر حرمانا من مصلحة الواقع ، وبديهي ان الضرورة تقدر بقدرها ، وعليه يجب العمل بالعلم وحده دون الظن حتى ولو نشأ من خبر الثقة ، وأجابوا عن هذا الاشكال بأن في الامارة أو في السلوك بموجبها مصلحة تعوّض وتجبر مصلحة الواقع الفائتة!. ولا أدري على أي شيء استند القائل بهذه المصلحة الجابرة ولا دليل عليها من آية أو رواية؟.

وهناك اشكالات وشبهات تقذف هي وأجوبتها بالطالب في متاه بني اسرائيل.

التصويب :

معنى التصويب ـ على وجه العموم ـ انه لا حكم لله اطلاقا في أية حادثة من الحوادث قبل اجتهاد المجتهدين ، وإنما ينتظر ، جلّت حكمته ، حتى يحكم المجتهد بما أدى اليه نظره ، وعندئذ ينشئ تعالى علوا كبيرا حكما موافقا لحكم المجتهد بحيث يكون حكم الجلالة تابعا لحكم من ليس له من الأمر شيء.

وهناك معنى آخر للتصويب ، وهو ان لله حكما في كل حادثة ، ولكن هذا الحكم يصاب بالنص الشرعي وبغيره ايضا ، كالاستحسان والقياس وما إلى ذلك مما لا دليل عليه من شرع ولا عقل.

ومعنى التخطئة ان لله في كل واقعة حكما واحدا معينا في أصل الشريعة ، وقبل الاجتهاد وبعده وإلى يوم يبعثون ، وان المجتهد يخطئ ويصيب ، وأجمع مثال وأوضحه هذه الكلمة العاقلة العالمة : «أقول في المسألة برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ورسوله ، وان كان خطأ فمني ومن الشيطان».

وذهب الامامية وأكثر الشافعية إلى نفي التصويب وبطلانه ، وفي كتاب اللمع لأبي إسحاق ص ٧١ طبعة ١٩٣٩ «الظاهر من مذهب مالك وأبي حنيفة القول بأن كل مجتهد مصيب ، وهو مذهب المعتزلة وأبي الحسن الأشعري». وهذا القول يحمل معه الأدلة القاطعة على فساده وضلاله ، ومع هذا نشير فيما يلي إلى بعض ما يستلزمه القول بالتصويب من المفاسد والمخاطر.

اللازم الأول أن يكون ظن المجتهد تماما كالوحي من الله ينزل على أنبيائه ورسله ، لأن المفروض عدم الخطأ في الحكم.

٢١٩

اللازم الثاني أن يتعدد حكم الحادثة الواحدة بعدد الآراء والأنظار.

اللازم الثالث أن نسد باب الجدال والمناظرة في الفقه ما دام الكل في الحق بمنزلة سواء.

اللازم الرابع ان التصويب يناقض نصوص القرآن والسنة. قال سبحانه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ـ ٤٩ المائدة» وقال نجيه الكريم : «اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». إلى غير ذلك كثير من الآيات والروايات.

وفي الختام نذكر ما نقله صاحب كشف الأسرار عن صاحب القواطع ، وهذا نصه «رأيت أكثر القائلين بالتصويب ليس لهم في الفقه معرفة ، ولا في الأحكام كثير حظ ، ولم يقفوا على شرف هذا العلم ومنصبه في الدين».

الأصل في اتباع الظن

والآن وبعد أن اتضح لدينا أن التعبد والإلزام بالظن كطريق إلى معرفة الأحكام الشرعية ـ لا يتنافى مع حكمة الشارع ، ولا يستدعي الفساد في دين الله وشريعته ، بعد هذا ننتقل إلى مرحلة الحس والواقع ، ونتساءل : هل في الأدلة الأربعة ما يدلنا على أن الشارع قد اعتبر الظن على وجه العموم أو على سبيل القضية الجزئية ، طريقا إلى بيان مراده ، وأمرنا بسلوكه لمعرفة أحكامه ، أو لا عين ولا أثر للطرق والامارات غير العلمية في الشريعة الإسلامية.

وقبل الجواب على هذا التساؤل ب «لا» أو ب «نعم» نفترض أن الشارع لم يشر من قريب أو بعيد إلى الظن كطريق إلى أحكامه سلبا ولا ايجابا ، ونبحث بصرف النظر عن كل شيء : هل هناك أصل يسوّغ لنا أن نطلب أحكام الشريعة عن طريق غير علمي؟ تماما كما نبحث عن الأصل في حكم شرب التتن عند عدم النص. وعليه تكون هذه المسألة فقهية لا أصولية. هذا هو المراد بالأصل الذي افتتح به هذه المسألة الانصاري والنائيني وصاحب الكفاية وقالوا : الأصل المنع دون أن يمهدوا بكلمة واحدة ترفع الغموض والالتباس.

واتفق المحققون على أن الأصل عدم جواز العمل بالظن في الأحكام الشرعية الا ما خرج بالدليل القطعي ، واستدلوا بالأدلة الأربعة. وفي رأينا أن المنع عن

٢٢٠