علم أصول الفقه في ثوب الجديد

محمّد جواد مغنية

علم أصول الفقه في ثوب الجديد

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التيار الجديد
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٥٦

الصيام يوم العيد يدل على ان الصيام الصحيح شرعا يمكن أن يقع من الصائم في هذا اليوم ، ولو كان ممتنعا بالذات لاستحال التكليف به ، لأن الشارع لا يكلف بالممتنعات والمستحيلات.

ثم رد الغزالي هذا القول بما يتلخص : ان النهي لا يدل إلا على التحريم ، والصحة ليست عين التحريم ولا ملازمة له فكيف تكون من ضرورات النهي! .. وقد اعتمد هذا الرد جل الأصوليين من الشيعة والسنّة. ونعطف عليه أن فساد الصوم يوم العيد تولّد ـ كما سبقت الاشارة ـ من نهي الشارع عنه لسبب هو به أعلم ، وليس من ذات الصوم وطبيعته ، ولا من أي شيء آخر ، كما يبدو لنا نحن الفقهاء المستنبطين ، ولو لا هذا النهي لحكمنا بصحة الصوم المذكور. وعلى هذا الأساس أخرجنا الصوم يوم العيد عن سائر الأفراد الصحيحة الراجحة.

١٤١

المنطوق والمفهوم

دلالة المنطوق

والمراد بها هنا دلالة لفظ الجملة التركيبية على حكم مذكور في الكلام سواء أدل اللفظ على الحكم الملفوظ به بنحو الحقيقة مثل («وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ٢٧٥ البقرة». أم بنحو المجاز مثل («أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ـ ٤٣ النساء». حيث دل الكلام المركب بمنطوقه في الآية الأولى على جواز البيع وتحريم الربا بنحو الحقيقة ، ودل في الآية الثانية على وجوب التيمم عند عدم الماء ووجود الجنابة المعبر عنها باللمس مجازا. وهذا هو ما أراده الأصوليون من تعريف المنطوق بأنه حكم دل عليه اللفظ في محل النطق. وربما سمي المنطوق بدليل الخطاب حيث يفهم منه مباشرة وبلا واسطة.

وتسأل : هل يختص المنطوق بدلالة المطابقة ، كدلالة كلمة البيت ـ مثلا ـ على مجموعه وتمامه ، أو يعم ويشمل دلالة التضمن كدلالة البيت على جزء منه كالسقف ، وأيضا يشمل دلالة الالتزام كدلالة السقف على الجدران القائم عليها؟.

ويعرف الجواب عن هذا السؤال مما ذكرناه في تعريف المنطوق وانه تخصيص الحكم بالذكر بحيث يفهم من لفظ الجملة مباشرة وبلا قرينة ، ومعنى هذا ان المنطوق يختص بما دلت عليه الجملة بالمطابقة لا بالتضمن أو الالتزام سواء أكان ذلك بسبب الوضع ، أم بسبب الظهور الموجب للفهم. وفي جميع الحالات فإن المقصود الأول في البحث هو المفهوم انطلاقا من المنطوق ، ومن هنا دعت الحاجة للإشارة الى المنطوق.

١٤٢

دلالة المفهوم

والمراد بها هنا دلالة لفظ الجملة التركيبية على حكم غير مذكور في الكلام لوجود الملازمة البينة الواضحة بين هذا الحكم المفهوم وبين الجملة الملفوظ بها بحيث يستدل بوجودها على وجوده عند الاطلاق وتجرد الكلام من كل القرائن. وهذا هو المراد من تعريف المفهوم بأنه حكم دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، وبهذا يتضح معنا ان المنطوق والمفهوم وصفان من أوصاف المعنى باعتبارهما مدلولين للفظ ، وليس من أوصاف اللفظ بالذات كالفصاحة والاطناب والإيجاز. وبكلام آخر ان المعنى من حيث النطق بلفظ يدل عليه يسمى منطوقا ، ومن حيث ان الناطق يقصده ويعنيه يسمى معنى ، ومن حيث ان السامع يفهمه من الكلام يسمى مفهوما ، ومن حيث وضع الاسم له فهو مسمى.

وينقسم المفهوم الى موافق ومخالف ، وحدّ الموافق دلالة اللفظ على ثبوت الحكم الملفوظ للمسكوت عنه وموافقته له نفيا وإثباتا لاشتراكهما في العلة سواء أكانت في المفهوم أقوى وأعلى كدلالة قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) ـ ٥ الزلزلة» على حكم ما وراء الذرة ، ودلالة قوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) ـ ٧٥ آل عمران» على تأدية الدرهم والدينار ، أم كانت العلة في المنطوق والمفهوم بمنزلة سواء كدلالة قوله عزّ من قائل : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) ـ ١٠ النساء» على حرمة إحراقها وإهلاكها.

وقد يطلق على المفهوم الموافق لحن الخطاب وفحوى الخطاب ، لأن الحكم الثابت للمنطوق ، يثبت للمفهوم من نفس الخطاب وروحه ومعناه. والمفهوم الموافق حجة عند الجميع إلا من شذ من أهل الظاهر ، ولذا لا نطيل فيه الكلام. ومن الطريف ما نقل عن ابن حجر في شرحه على البخاري ان بعض الظاهرية قال : إن البكر اذا أعلنت رغبتها في الزواج لم يجز العقد ، لأن رسول الله قال : إذن البكر سكوتها. فيجب الجمود على ظاهر النص!.

وأما حدّ المفهوم المخالف فهو دلالة اللفظ على مخالفة حكم المسكوت عنه للحكم المذكور في السلب والإيجاب ، لانتفاء قيد من القيود المعتبرة في المنطوق ، ومثاله : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ـ ٩٥ المائدة» فإن تخصيص الحكم بالمتعمد يدل ـ إن قلنا بالمفهوم ـ على نفي الحكم عن المخطئ.

١٤٣

ثم ان المفهوم المخالف ينقسم باعتبار القيود المأخوذة في المنطوق ونوعها ـ الى أقسام ، أنهاها بعضهم الى عشرة ، وأهمها ستة : مفهوم الشرط والوصف والغاية والحصر والعدد واللقب ، وعقد الأصوليون لكل واحد منها فصلا مستقلا.

تنبيهان

وقبل الحديث عن هذه المفاهيم الستة تحسن الإشارة الى أمرين : الأول أنه لا خلاف إطلاقا في أن المفهوم المخالف حجة متبعة بشتى أنواعه على فرض وجوده ودلالة اللفظ عليه ، لأن مداليل الألفاظ حجة عرفا وشرعا بالاتفاق ، وإنما الخلاف في أصل وجود المفهوم ، ودلالة اللفظ ، أي ان الخلاف في الصغرى لا في الكبرى تماما كالخلاف في أن هذه الرواية عن المعصوم هل هي صحيحة أو ضعيفة بعد الاتفاق على ان قوله وفعله وتقريره حجة قاطعة.

الأمر الثاني : ان الشرط الأساسي في أي مفهوم اختلف فيه الأصوليون هو أن يكون لموضوع القضية حالان يمكن تعلق الإثبات بإحداهما والنفي بالثانية مع بقاء الموضوع على حاله مثل : ان أحسن إليك زيد فأحسن اليه ، فزيد باق وموجود في حال إحسانه وإساءته ، وعليه يمكن أن يكون لهذه القضية مفهوم ، وهو إن لم يحسن إليك فلا يجب الإحسان اليه.

أما القضية التي ليس لموضوعها إلا حالة واحدة فلا مفهوم لها ، وبالتالي تخرج عن محل الكلام. ومثالها ان وجدت زيدا حيا فسلم عليه ، فإنه لا يسوغ القول : وان لم تجده حيا فلا تبلغه السلام. ومثله ان أمرك أبوك فلا تعص له أمرا حيث لا عصيان بلا أمر. وقد نعود الى هذا الموضوع حين تدعو المناسبة.

١٤٤

مفهوم الشرط

المراد من الشرط

ذكروا للشرط أكثر من معنى ، والمراد به هنا ، بقولنا : «هل للشرط مفهوم» هو تعليق الحكم بأداة من أدوات الشرط على أمر لعلاقة بينهما. وقد تكون هذه العلاقة من نوع السببية التامة المنحصرة بخصوص الشرط الذي تعلق عليه الجزاء ، ولا يخلف الشرط المذكور شيء آخر ويسد مسده بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، كالحمل في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ـ ٦ الطلاق». فإن وجوب الإنفاق على المطلقات الحاملات يدور مدار الحمل وجودا وعدما.

وقد يكون ما تعلق عليه الحكم والجزاء سببا تاما في التأثير ولكنه غير منحصر ويمكن أن يخلفه ويؤثر أثره سبب آخر بحيث يلزم من وجوده الوجود ولا يلزم من عدمه العدم كالأكل عن عمد ، فإنه يفسد الصيام ويبطله مستقلا وبلا ضميمة ولكن لا على سبيل الحصر ، لأن الصيام يبطل أيضا بالشرب والجماع عن عمد.

وقد يكون الشرط سببا ناقصا وجزءا من السبب التام لوجود الجزاء والحكم أي لا يلزم من وجوده الوجود ، وإن توقف عليه من جملة ما يتوقف ، كأهلية البائع بالعقل والبلوغ ، فإنها شرط في عقد البيع ولا يوجد بدونها ، ولكن الأهلية بمفردها وبما هي لا توجب وجود العقد بل لا بد معها من إرادة المتعاقدين ، وقابلية المعقود للتملك والتمليك. وبعد هذا التمهيد نشير فيما يلي الى محل الخلاف في مفهوم الشرط.

١٤٥

محل الخلاف

اختلفوا في أن تعليق الجزاء على فعل الشرط ، كما في قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ـ ١٨٥ البقرة» هل يدل بالوضع أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة (١) على انحصار السبب التام للجزاء بفعل الشرط وحده بحيث يلزم من عدمه العدم تماما كما يلزم من وجوده الوجود ، ومعنى هذا ان للشرط مفهوما يستفاد من نفس اللفظ بلا قرينة ، وهو انتفاء الجزاء وثبوت نقيضه عند انتفاء شرطه. وعليه نحكم بأنه لا صيام على المسافر استنادا لآية «(فَمَنْ شَهِدَ) الخ» .. ولا نحتاج الى دليل غيرها ، أو ان الجملة الشرطية إنما تدل بمنطوقها على وجود الجزاء عند وجود الشرط وكفى ولا تدل على انتفاء الجزاء وثبوت نقيضه عند انتفاء شرطه إلا بدليل خارج عن المنطوق ، ومعنى هذا أن الشرط لا مفهوم له.

الأقوال

وأثبت المشهور مفهوم الشرط ، ونفاه بعض الأصوليين ، ونحن مع الكثرة الكاثرة ، لأن تعليق الحكم على الشرط معناه الانتفاء بانتفائه وإلا لم يكن للتعليق أية جدوى ، بل يكون تخصيص الشرط بالذكر لغوا وعبثا ما دام ذكره والسكوت عنه بمنزلة سواء.

وتسأل : ان وضع اللغة يثبت بالتبادر وعدم صحة السلب لا بالاستحسان والتعليل بأن هذه الأداة أو هذه الجملة لو لم تكن موضوعة للارتباط أو للانحصار ـ مثلا ـ لم يكن لها من معنى أو فائدة.

الجواب :

أولا : ان التبادر موجود لأن أهل العرف والأذهان الصافية الخالية يفهمون من التعليق في الجملة الشرطية ، انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه. «وكفى بذلك حجة ودليلا» على حد ما قال الشيخ الأنصاري في التقريرات.

ثانيا : ليس هذا إثباتا لوضع اللغة بما فيه من فائدة ، وإنما هو بحث عن

__________________

(١) أشرنا إليها في الحاشية عند الكلام عن تعليق التكليف بالطبيعة أو بالأفراد.

١٤٦

فائدة التعليق في الجملة الشرطية لتشخيص المراد منه ومن استعماله لا لتعيين وضعه اللغوي ، فإذا بحث الفقيه عن الفائدة من التعليق ولم تظهر له إلا الانتفاء ـ تعين حمل القيد على ذلك صونا لكلام الحكيم عن اللغو.

ثالثا : لو سلمنا بأن مفهوم الشرط لا صلة له بالوضع والواضع من قريب أو بعيد ـ أثبتناه بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، وخلاصتها ان الحكيم اذا كان في مقام البيان ، وعلق حكما على شرط خاص نصّ عليه صراحة ، وسكت عن غيره ، ولم يشر من قريب أو بعيد الى أي شيء آخر يخلف الشرط ويقوم مقامه. اذا كان ذلك اكتشفنا من إطلاق كلامه بالنسبة الى غير الشرط المذكور ، الانحصار به وحده ونفي ما عداه .. وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، واللازم باطل. وسنعود الى مقدمات الحكمة مرة ثانية أو ثالثة.

ولم أر في كتب الأصول للسنّة ذكرا لكلمة «مقدمات الحكمة» ولكن موجودة فيها بالمعنى والمضمون. من ذلك ما نقله صاحب (تفسير النص) عن كتاب (الأحكام) للآمدي ، وهو : «إن مفهوم الشرط يؤخذ به من جهة المعنى لا من جهة الوضع اللغوي». وهذا يلتقي مع قولنا : إن مفهوم الشرط يؤخذ به من جهة مقدمات الحكمة التي نكتشف منها المعنى المراد للمتكلم بصرف النظر عن تشخيص المعنى الموضوع له.

واستدل النافون لمفهوم الشرط بأدلة خاوية. منها ـ على سبيل المثال ـ ان الشرط الذي تعلق عليه الحكم يمكن أن ينوب عنه شرط آخر!.

الجواب :

أجل ، ولكن الكلام في الإثبات لا في الثبوت ، وفي الظهور والإطلاق لا في مجرد الإمكان عقلا وواقعا. ومنها وجود بعض النصوص التي لا تدل على المفهوم مثل قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ـ ٣٣ النور». ولو كان للشرط مفهوم للزم جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن ، واللازم باطل.

والجواب : إن هذه الآية وردت لبيان موضوع الحكم وكفى تماما كقول القائل : إن ركب الشيخ فخذ بركابه ، وإن ألّف كتابا فاقرأه. حيث لا ركاب بلا ركوب ، ولا قراءة بلا كتابة .. وأيضا لا إكراه إلا مع الإرادة ، وسبقت

١٤٧

الإشارة في فقرة : «التنبيهين» أن كل قضية ينتفي محمولها بانتفاء الموضوع فهي خارجة عن محل الكلام.

وبعد ، فإن مجرد الإمكان أو الاستعمال أو انتفاء المحمول بانتفاء الموضوع ـ شيء ، وظهور اللفظ إذا تجرد من القرينة ودلالته على انتفاء المحمول مع بقاء الموضوع ـ كما هو محل الكلام ـ شيء آخر .. وما من أحد ينكر أو يشك في ان الشرط في الجملة الشرطية قد يذكر أحيانا لمجرد التوكيد والتقرير ، أو للترغيب ، أو للترهيب ، أو لبيان أنه الأعم الأغلب ، أو غير ذلك مما لا مفهوم له ، ولكن مع القرينة من حال أو مقال. ومحل الكلام فيما إذا تجردت الجملة الشرطية وتعرت عن كل القرائن بشتى أنواعها.

سنخ الحكم لا شخصه

قد يقال : ان الخلاف في مفهوم الشرط لا معنى له ، ولا يمكن أن يتصور بحال ، لأن قولنا : ان جاء زيد فأكرمه وما أشبه هو إنشاء خاص بوجوب إكرام زيد المقيد بمجيئه ، فإذا انتفى القيد ينتفي هذا الوجوب من أساسه بانتفاء شرطه ، وبالتالي ينتفي المفهوم حتما لأنه تبع له. وبكلمة ان انتفاء وجوب إكرام زيد بالخصوص لانتفاء الشرط يجعل قولنا : ان جاء زيد فأكرمه بمنزلة العدم كأن لم يكن ، وإذن فمن أين يأتي المفهوم؟.

الجواب :

لا شك ولا خلاف في نفي الحكم الخاص المقيد بقيد خاص عند انتفاء هذا القيد ، لأن المشروط عدم عند عدم شرطه ، وإنما الكلام في أن انتفاء هذا الحكم الخاص ، وهو وجوب إكرام زيد عند مجيئه ، هل يستلزم ويستدعي عدم وجوب الإكرام المطلق بالنسبة الى بقية القيود ـ غير المجيء ـ أو لا يستدعي ذلك؟.

فمن قال بمفهوم الشرط يدعي ان انتفاء القيد المذكور يستدعي انتفاء الوجوب المطلق بالقياس الى غير الشرط المنطوق حيث فهم من ذكره دون سواه أنه السبب التام المحصور ، كما أسلفنا ، ومن نفى مفهوم الشرط يدعي أن انتفاء القيد لا يستدعي انتفاء الوجوب المطلق.

١٤٨

وبعد ، فإن الغاية من هذا الإشكال وجوابه هي توضيح ما أراده صاحب (الكفاية) والأنصاري والنائيني وغيرهما من الأصوليين ، ما أرادوه من قولهم : «إن المراد من انتفاء الحكم عند الشرط هو انتفاء سنخ الحكم لا شخصه»!.

وحدة المنطوق والمفهوم

لا بد من مراعاة الوحدة بين المنطوق والمفهوم موضوعا ومحمولا ، وشرطا وجزاء وقيدا ونسبة ، وما الى ذلك ما عدا السلب والإيجاب. واذا كان القيد في فعل الشرط أكثر من واحد ينتفي الجزاء بانتفاء واحد من القيود المذكورة في المنطوق ـ مثلا ـ اذا قال الشارع : من قتل بريئا متعمدا فجزاؤه القتل ـ فلا يقتص منه بالقتل اذا قتل مجرما عن عمد ، أو بريئا عن خطأ. والسر ان الكل لا يوجد إلا بوجود أجزائه بالكامل ، ولكنه ينتفي بانتفاء واحد منها.

تعدد الشرط

تقدم ان تعليق الجزاء على الشرط يوحي بأن الشرط وحده هو السبب المنحصر لوجود الجزاء بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. وعليه نسأل : لقد ورد في الشرع جزاء واحد معلق على شرط في جملة مستقلة ، وعلى شرط ثان في جملة أخرى مستقلة أيضا ، ومن ذلك قول الشارع : «اذا خفي الأذان فقصر». وقوله : «اذا خفيت الجدران فقصر». فالجزاء واحد في الجملتين وهو وجوب القصر ، والسبب الموجب متعدد ، وهو خفاء الأذان في الجملة الأولى وخفاء الجدران في الجملة الثانية.

وعلى القول بالمفهوم الذي يرتكز على الحصر والانحصار يكون مفاد الجملة الأولى عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان حتى ولو خفيت الجدران ، وهذا المفهوم يناقض وينافر بصراحة منطوق الجملة الثانية القائلة : «اذا خفيت الجدران فقصر». وأيضا يكون مفاد الثانية عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الجدران حتى ولو خفي الأذان ، وهذا يعارض بوضوح منطوق الجملة الأولى القائلة : «اذا خفي الاذان فقصر» فما هو الحل والعلاج؟.

١٤٩

والجواب عن ذلك يستدعي التفصيل بين أن يكون الجزاء المشروط قابلا لتكرار الجزاء مثل ان نمت فتوضأ ، وان بلت فتوضأ. فإن وجوب الوضوء يمكن أن يتكرر بعدد موجباته ، وبين أن يكون الجزاء المشروط غير قابل للتكرار كوجوب قصر الصلاة (١). ويأتي الكلام عن الأول. ونتحدث الآن عن الثاني ، وفيما يلي البيان.

لا مفهوم مع تعدد الشرط

سبقت الاشارة الى أن الجملة الشرطية تدل على المفهوم بواسطة مقدمات الحكمة ، ومنها عدم وجود القرينة على أن الشرط المذكور يخلفه ويقوم مقامه شرط آخر ، وهذه القرينة موجودة هنا بالفعل ، فإن قول الشارع : «اذا خفيت الجدران فقصر» قرينة واضحة على ان خفاء الأذان وان كان علة تامة لقصر الصلاة ، ولكنها غير منحصرة بالأذان وحده ، بل هناك علة ثانية تخلفها وتحل محلها ، وهي خفاء الجدران.

وكذلك قوله : إذا خفي الأذان فقصر. فإنه قرينة على عدم حصر السبب الموجب بخفاء الجدران وحده ، بل ومثله خفاء الأذان ، ومعنى هذا أنه لا مفهوم للشرط في كل من القضيتين لانتفاء عنصر أساسي من عناصر مقدمات الحكمة ، وانه يمكن الجمع بين القضيتين الشرطيتين في كلام واحد بلا تدافع وتهافت ، فيقال : إذا خفي الأذان أو الجدران فقصر. وعليه نعمل بهما ملتقيين ومنفردين ، وان التقيا معا نتمم ولا نقصر. وقال الانصاري وصاحب الكفاية : «ولعل العرف يساعد على هذا الوجه» حيث يبقي ظهور الشرط في العلة التامة على ما هو ، غاية الأمر أنه ينفي عنها صفة الانحصار وكفى.

وتسأل : ما رأيك في قول من قال : ان كلا من قضية «اذا خفي الاذان ،

__________________

(١) لا فرق بين وجوب الوضوء ووجوب القصر من حيث سقوط الوجوبين بمجرد الامتثال ، وان كان من تفرقة فهي ان الوضوء يستحب تكراره بنية القربة وإن لم يكن رافعا للحدث ، أما صلاة الفريضة فلا يجوز تكرارها بأية نية مع العلم بصحتها وفراغ الذمة يقينا. ومهما يكن فان القصد من تمثيل الأصوليين بما مثلنا هو مجرد التوضيح ، ولا مماحكة في التمثيل.

١٥٠

وإذا خفيت الجدران» تنحلّ الى قضية موجبة هي المنطوق ، وأخرى سالبة ، هي المفهوم ، فيكون عندنا أربع قضايا : موجبتان وسالبتان : الأولى إذا خفي الاذان فقصر ، والثانية مفهومها وهو إذا لم يخف الأذان فلا تقصر ، والثالثة إذا خفيت الجدران فقصر ، والرابعة مفهومها وهو إذا لم تخف الجدران فلا تقصر. فنقيد مفهوم كل من القضيتين بمنطوق الأخرى لأن دلالة اللفظ على منطوقه أقوى من دلالته على مفهومه ، ويكون المعنى هكذا : إذا لم يخف الأذان فلا تقصر إلا إذا خفيت الجدران ، وإذا لم تخف الجدران فلا تقصر إلا إذا خفي الاذان.

وعليه يجب القصر عند خفاء الأذان أو خفاء الجدران ، وبالأولى ان خفيا معا ، ولا يجب التمام إلا إذا سمعنا الأذان ورأينا الجدران معا تماما كما هو الشأن لو رفعنا اليد عن مفهوم القضيتين مع الاختلاف في الاسلوب وكيفية الاستدلال.

الجواب :

أشرنا قبل قليل في فقرة «وحدة المنطوق والمفهوم» أن المفهوم غير مستقل عن المنطوق ، وانه تابع له موضوعا ومحمولا وكل قيد ما عدا السلب والإيجاب.

وهنا موضوع كل من القضيتين مباين لموضوع القضية الأخرى ، لأنه في احداهما الأذان وفي الثانية الجدران ، فكيف نقيد مفهوم القضية بما يباين منطوقها؟.

سؤال ثان : هل يسوغ تقييد منطوق كل من القضيتين بمنطوق الأخرى ، وتكون النتيجة هكذا : إذا خفي الاذان فقصر شريطة أن تختفي الجدران أيضا ، وإذا خفيت الجدران فقصر شريطة أن يختفي الأذان ، وعليه يكون خفاء الأذان فقط أو الجدران فقط جزء علة للقصر ، وخفاؤهما معا علة تامة للقصر؟.

الجواب :

إن هذا التقييد والجمع اعتباطي محض لا يستند الى أساس من عرف ولا شرع.

التداخل

تكلمنا فيما سبق عن تعدد الشرط مع وحدة الجزاء الذي لا يقبل التكرار. والآن نتحدث عن تعدد الشرط مع اتحاد ماهية الجزاء القابلة للتكرار وايجادها في

١٥١

العديد من أفرادها ، فإن كان الشرط واحدا فقط ، أو كان الجزاء أكثر من واحد ، أو كانت ماهيته لا تقبل التعدد والتكرار فهو خارج عن محل الكلام ، ومثال ما نحن فيه ان بلت فتوضأ ، وان نمت فتوضأ ، وان أجنبت فاغتسل ، وان مسست ميت الانسان فاغتسل ، فإن ماهية كل من الوضوء والغسل يمكن ايجادها مرات بعدد ما حدده الشارع من موجبات.

ولا يختلف اثنان من الفقهاء في ان وضوءا واحدا مجز وكاف مهما تعددت أسبابه الموجبة ، سواء اتحدت بالنوع أم اختلفت ، وجدت دفعة واحدة أم على التعاقب ، بل ذلك من الضروريات. وأيضا اتفقوا على انه اذا وجدت أسباب عديدة ومختلفة للحدث الأكبر ـ يكفي غسل واحد للجميع لقول المعصوم : «اذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك غسل واحد» وغير ذلك من الروايات ، وانما الخلاف حدث بين الفقهاء والأصوليين فيما تقتضيه الأصول والقواعد بقطع النظر عن القرائن والأدلة الخاصة تماما كما لو قال المولى قولا مجردا : إن جاء زيد فأعطه درهما ، وإن سلّم عليك فأعطه درهما.

فهل يجب في مثل ذلك تكرار الجزاء والإتيان به بعدد الأسباب الموجبة حيث لا تداخل في الأسباب ولا في المسببات ، لا في الشروط ولا في الجزاء ، أو يكفي الإتيان بالجزاء مرة واحدة إما لتداخل الأسباب بحيث يكون أثرها جميعا واحدا فقط ، وإما لتداخل المسببات المتعددة بتعدد الشروط والموجبات ، ولكن يسد مسدها جميعا واحد فقط عند الطاعة والامتثال؟. ونجيب عن هذا السؤال أولا بما يقتضيه الأصل اللفظي من الوحدة أو التكرار ، ثم ما يقتضيه الأصل العملي من براءة أو احتياط.

الأصل اللفظي

ذهب كثير من الفقهاء والأصوليين الى ان الأصل اللفظي هنا لا يقتضي التداخل في الأسباب ولا في المسببات ، وان على المكلف أن يكرر فعل الجزاء ويوجده مرات بعدد شروطه وأسبابه الموجبة إلا اذا دل الدليل الخاص على الاكتفاء بالمرة الواحدة ، لأن كل شرط يدل بإطلاقه وظهوره على انه مستقل في التأثير ووجود الجزاء المترتب عليه بحيث يلزم من وجوده الوجود دون أية ضميمة كما أسلفنا ،

١٥٢

والمفروض ان ماهية الجزاء قابلة للتكرار وايجادها في أكثر من فرد ، فيجب تكرار الايجاد.

وتسأل : إن في الجملة الشرطية ظهورين لا ظهورا واحدا ، وكل منهما يصادم الآخر وينافره : الأول ظهور كل شرط من الشروط المتعددة في التأثير والاستقلال به ، ومقتضاه تعدد الجزاء. والثاني ظهور الجزاء في الوحدة والاكتفاء بالمرة ، وعليه فلا بد من التصرف ورفع اليد عن ظهور أحدهما دون الآخر : إما عن ظهور الشروط المتعددة بإرجاعها الى شيء واحد لا يقتضي إلا جزءا واحدا ، ويكون ذلك من باب تداخل الأسباب ، وإما عن ظهور الجزاء ووحدته ، واعتباره متعددا بعدد الشروط ، ولكن يكفي عنه في مقام الامتثال فعل واحد ، ويكون ذلك من باب تداخل المسببات ، والنتيجة في الحالين واحدة ، وهي الاكتفاء بالفعل الواحد ، وبهذه العملية يلتقي الأصل اللفظي مع الأدلة الخاصة الدالة على إجزاء الوضوء الواحد والغسل عن الجميع.

الجواب :

أولا : لا نسلّم بظهور الجزاء ودلالته على الوحدة ، وانما يدل على إيجاد الطبيعة المهملة من حيث المرة والتكرار ، كما سبقت الإشارة في دلالة صيغة افعل ، ومعنى هذا أنه لا ظهور للجزاء في الوحدة كي يعارض ظهور الشرط في التعدد.

ثانيا : لو سلمنا ـ جدلا ـ بظهور الجزاء في الوحدة فإن ظهور الشروط في تعدد المطلوب وإيجاده مرات حاكم ومقدم على ظهور الجزاء ، لأن المشروط يتبع الشرط سعة وضيقا.

ثالثا : ان التداخل في المسببات هنا لا يتصور بحال ، لأنه تداخل بين فردين من طبيعة واحدة كما هو الفرض ، ويستحيل التداخل بين الأفراد المتشخصة في الخارج مع حفظ المشخصات والمميزات تماما كما يستحيل أن يكون الفرد الواحد بما هو واحد فردين ، والفردان بما هما فردان فردا واحدا.

وان قال قائل : كيف تدعي استحالة التداخل بين الأفراد ، وهو واقع بالفعل مثل أكرم هاشميا ، وأضف عالما ، حيث يتحقق امتثال الأمرين معا إذا أكرم المكلف العالم الهاشمي بالضيافة ـ قلنا في جوابه : هذا من توافق المفهومين وتصادق الطبيعتين على فرد واحد ، وهو ممكن بلا ريب ، ولكنه أجنبي عما نحن فيه ،

١٥٣

لأن كلامنا في الاتيان بفردين من طبيعة واحدة ، وليس من شك أن اتحادهما في الخارج محال مع احتفاظ كل فرد بما يميزه عن الآخر.

الأصل العملي

ويختلف الأصل العملي تبعا لمورد الشك وما يتعلق به ، فإن تعلق بالسبب الموجب للتكليف وتعدده ، وهل هو في الواقع واحد أو أكثر ـ أتى المكلف بالجزاء مرة واحدة أخذا بالمعلوم يقينا ، ونفى الزائد المشكوك بأصل براءة الذمة من الشواغل الشرعية في مورد الشك وعدم اليقين ، ويسمى هذا النوع شكا في الأسباب أي في تأثير كل شرط على حده أو منضما الى غيره من الشروط.

أما إذا ثبت باليقين أن كل شرط قد أثر أثره منفردا عن سواه ، وان التكليف متعدد بعدد الشروط بلا ريب ، ولكن شككنا في أن الامتثال الواحد هل يقوم وينوب عن امتثال الجميع؟ إذا كان ذلك تعين العمل بالاحتياط ، حيث يرجع الشك الى سقوط التكليف بعد العلم به ، ومن البديهي ان الاشتغال اليقيني يستدعي الامتثال اليقيني ، ويسمى هذا شكا في المسببات.

١٥٤

مفهوم الوصف

الوصف

والمراد بمفهوم الوصف دلالة اللفظ المقيد بصفة على انتفاء الحكم عن غير الموصوف ، فإذا قلت : أكرم رجلا عالما أفاد بمنطوقه الأمر بإكرام العالم ، وبمفهومه ـ على القول به ـ النهي عن إكرام سواه. أما المراد بالوصف فهو :

١ ـ كل لفظ يضيّق من معنى الموصوف ويقلل من شيوعه وشموله نعتا نحويا كان مثل : أكرم رجلا عالما ، أو مضافا نحو : في سائمة الغنم زكاة ، أو ظرفا أو مجرورا نحو : أطعم رجلا يوم الجمعة ، وتصدق على رجل من الفقراء وغير ذلك.

وبهذا يتضح ان الوصف المقصود بالبحث لا بد وأن يكون أخص من الموصوف كالأمثلة المذكورة ، فإن كلا من الرجل والغنم له أكثر من وصف ، وذكر الوصف الواحد بالخصوص يضيّق من مدلول الموصوف ويحدّ من معناه الشامل. وأيضا يتضح ان الوصف المساوي للموصوف خارج عن محل الكلام مثل لا تذكر امس الدابر ، وأكرم زيدا أخاك ، حيث ينتفي الموصوف بانتفاء الوصف ولا يبقى للمفهوم من مكان ، ومثله تماما الوصف الأعم من الموصوف كقولك : أرفق بزيد لأن له كبدا رطبة ، والنبي (ص) يقول : «في كل كبد رطبة أجر» حيث لا يشذ عن هذا التعليل فرد من الأفراد كي يثبت له حكم المفهوم.

١٥٥

٢ ـ أن يعتمد الوصف على موصوف مثل (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) ـ ٤ البلد» فإذا كان الوصف هو الموضوع بالذات يكون حكمه حكم الجوامد ، فيخرج عن مفهوم الوصف ويدخل في مفهوم اللقب ، ومن أمثلته قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) ـ ٣ الانفطار».

وإن قال قائل : لكل وصف ذات لا محالة ، فقولنا : أكرم عالما معناه أكرم ذاتا ثبت لها العلم ، وعليه فلا فرق بين أن يعتمد على موصوف ظاهر أو مضمر ، ان قال هذا قائل قلنا في جوابه : للجوامد أيضا ذوات ، فقولنا أكرم رجلا معناه أكرم ذاتا ثبت لها الانسانية والرجولة ، فلما ذا أخرج العلماء هذا عن مفهوم الوصف وأدخلوه في مفهوم اللقب؟.

محل الخلاف

لا شك ولا خلاف في أن الوصف يستعمل مع القرينة في العديد من المعاني ـ غير المفهوم ـ من ذلك الذم والهجاء نحو «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». والمدح والثناء «بسم الله الرحمن الرحيم» والقرينة هنا علم المخاطب بحال الموصوف ، والتوكيد (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) والخروج مخرج الغالب (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) الى غير ذلك من الاستعمالات التي لا عد لها ولا حصر مثل : رأيت اليوم رجلا طويلا ، وأمس مات رجل عالم ، وغدا يزورني رجل من الشام.

كل ذلك وما إليه لا ريب فيه ، وإنما الخلاف إذا تجردت الجملة الوصفية وتعرت عن كل القرائن فهل تدل على انتفاء الوصف ، أو لا دلالة على ذلك ، وان هذا الانتفاء يفتقر الى دليل مستقل؟.

الأقوال

والمشهور بين الأصوليين الجعفريين أن الوصف بما هو لا مفهوم له ، ولا يحتج به إلا بقرينة تدل عليه ، لأن الوصف ظاهر كالشمس في أنه قيد للموضوع لا للحكم ، فقول الشارع مثلا : المرأة المدخول بها أو الحائض أو اليائس حكمها

١٥٦

كذا وكيت ، وقوله : الرجل الغني أو الفقير يفعل ذا ويترك ذاك ، كل هذه الصفات وما اليها قيود لموضوعات الأحكام.

وان وجد وصف أنيط الحكم به مباشرة فهو خارج عن محل الكلام. قال الشيخ الأنصاري في (التقريرات) : «الظاهر من كلمات العلماء اختصاص النزاع بما اذا كان الوصف قيدا للموضوع لا للحكم» أي ان الحكم مطلق وموضوعه مقيد بالوصف ، فإذا انتفى الوصف تبعه موضوع الحكم الجزئي المختص بالموصوف المنصوص عليه ، أما نفي نوع الحكم عن غير هذا الموصوف فيحتاج الى دليل تماما كما هو الشأن في مفهوم اللقب ، ومثاله أكرم زيدا ، فإن وجوب الإكرام المختص بزيد ينتفي بموته ـ مثلا ـ أما نفي الإكرام عن غير زيد فلا يستفاد من أكرم زيدا ، بل من دليل آخر. والأمر كذلك في أكرم رجلا عالما.

واستدل المثبتون لمفهوم الوصف بأدلة لا تغني عن الحق شيئا ، منها أن تعلّق الحكم بالوصف يشعر بالعلية! والجواب يتم هذا لو أنيط الحكم بالوصف ، وسبقت الاشارة الى ان الحكم هنا مطلق بالنسبة الى الوصف المذكور في المنطوق ، ونضيف ان مجرد الإشعار ليس بشيء إلا اذا بلغ أشده من الظهور على ان الوصف علة منحصر للحكم بحيث يدور مدارها وجودا وعدما ، ولا شيء من ذلك.

ومنها ان فائدة الوصف هي الاحتراز والانتفاء عند الانتفاء وإلا كان لغوا وعبثا.

والجواب : ان الفوائد من ذكر الوصف لا يبلغها إحصاء ، وان الوضع اللغوي أو الظهور العرفي لا يثبت بالفوائد إلا اذا اقترنت بقرينة خاصة أو عامة ، كما أسلفنا في مفهوم الشرط.

١٥٧

النقض بالمطلق والمقيد

وتسأل : في باب المطلق والمقيد قال الأصوليون : اذا ورد لفظ مطلق في نص ، ثم ورد هذا المطلق بعينه مقيدا في نص آخر منفصل عن الأول ، واتحد فيهما السبب الموجب مثل ان ظاهرت فأعتق رقبة .. وان ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة ، قالوا بالاتفاق : يحمل المطلق على المقيد مع العلم بأنه لا مبرر لهذا الحمل إلا على القول بوجود المفهوم للرقبة المؤمنة ، وهو لا تعتق رقبة غير مؤمنة.

بيان الملازمة أننا لا نجد أي مانع من بقاء المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده ، بناء على القول بعدم المفهوم ، لأن المقيد فرد من أفراد المطلق ، وعليه يكون قول الشارع : اعتق رقبة .. واعتق رقبة مؤمنة تماما كقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ـ ٢٣٨ البقرة». فنعمل بهما معا ، لأن النص حجة قائمة بذاتها ، والتقييد من غير دليل بدعة وتشريع من غير مشرع.

أما على القول بمفهوم الوصف فإن حمل المطلق على المقيد حتم لا مفر منه ، لأن : أعتق رقبة ، يفيد بمنطوقه ان المطلوب أية رقبة مؤمنة كانت أم كافرة ، واعتق رقبة مؤمنة يفيد بمفهومه ـ على القول به ـ ان الرقبة الكافرة لا تجزي وان الايمان شرط ، وعليه يحدث التعارض والتنافر بين مفهوم المقيد وإطلاق المقيد ، ولا وسيلة لرفع هذا التعارض إلا تقييد إطلاق المطلق بمفهوم المقيد.

الجواب :

ان التنافي والتعارض المبرر لحمل المطلق على المقيد واقع وموجود بالفعل بين نص المطلق وإطلاقه وبين لفظ المقيد ومنطوقه لا مفهومه ، لأن موضوع النصين واحد ، والسبب الموجب واحد ، وزمن الحكم كذلك .. ومع هذا أحدهما يوسع ويطلق ، والآخر يضيق ويقيد ، ومن هنا جاء التعارض أي من منطوقين لا من منطوق ومفهوم ، ولذا وجب حمل منطوق المطلق على منطوق المقيد بحيث يكون المراد من مجموع النصين مدلول النص المقيد بالخصوص باعتباره الأصل في بيان مراد الشارع.

١٥٨

الخلاصة

وبعد ، فإن لنا ولكل عالم أن يحمل المطلق على المقيد ، وفي الوقت نفسه ينكر مفهوم الوصف ، ولا منافاة بين هذا الانكار وذاك الحمل. وأيضا لكل عالم أن يقول بمفهوم الشرط دون مفهوم الوصف ، لأن الشرط في الجملة الشرطية قيد للحكم لا للموضوع ، والوصف في الجملة الوصفية قيد للموضوع لا للحكم.

١٥٩

مفهوم الغاية

لكلمة الغاية معان ، منها المسافة والفائدة ، ومنها الانتهاء المقابل للابتداء ، وهذا المعنى هو المراد بالبحث ، ومن الأدوات الدالة عليه «الى وحتى».

الحد والمحدود

هنا خلافان : الأول يتناول المنطوق فقط دون المفهوم ، والثاني في دلالة المنطوق على المفهوم. والآن وفي هذه الفقرة نتحدث عن الخلاف الأول الذي لا يتجاوز حدود المنطوق ، وخلاصته أن التقييد بالغاية إذا تجرد عن القرينة ـ هل يدل على ان حد الانتهاء الذي دخلت عليه الأداة هو جزء من المحدود المذكور وداخل فيه ، أو يدل على خروجه عنه ، أو لا دلالة في القيد بالغاية على ذا ولا ذاك؟.

من الأصوليين من قال بوجود هذه الدلالة مطلقا سواء أكان ما بعد الأداة من جنس ما قبلها نحو أكلت السمكة حتى أو إلى رأسها ، أم لم يكن نحو (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ـ ٢٨٠ البقرة». وسواء أكانت الأداة «الى أم حتى». ومنهم من تقى هذه الدلالة مطلقا من غير فرق بين «إلى وحتى» وبين أن يكون الحد والمحدود من جنس واحد أو من جنسين ، ومنهم من فصّل بين «الى وحتى» وآخر بين الجنس الواحد والجنسين.

١٦٠