علم أصول الفقه في ثوب الجديد

محمّد جواد مغنية

علم أصول الفقه في ثوب الجديد

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التيار الجديد
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٥٦

الجواب :

ان المراد بالمقدمة المفوتة هنا خصوص المقدمة العقلية التي لها تأثير في قدرة المكلف على إيجاد المأمور به في حينه بما له من أجزاء وشروط بحيث إذا لم يبادر المكلف فاته الواجب ، ومن هنا حكم العقل بتحصيلها قبل الوقت على تقدير الانحصار بها ، أما المقدمة الشرعية فهي خارجة عن بحث المفوتة لأن الشارع هو الذي يعتبرها ، وبعد اعتباره لها تكون بحكم الجزء من المأمور به ، فالوضوء وان كان من مقدمات الوجود دون الوجوب لكن الشارع أمر به عند الصلاة لا قبلها. قال سبحانه : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الخ ـ ٦ المائدة». ولا نص على وجوب الوضوء قبل الوقت فكيف نوجبه نحن؟

ومن البديهي ان عدم وجوب الوضوء شرعا قبل الوقت لا يتنافى مع حكم العقل بوجوب المبادرة قبل الوقت الى المقدمة التي يفوت الواجب بفواتها لو لا هذه المبادرة. وبهذا نعرف الفرق بين حفظ الماء قبل الوقت مع الحصر به ، وبين الوضوء قبل الوقت ، وان الأول وجب لأنه مقدمة عقلية يتوقف عليها امتثال الواجب في حينه ، ولم يجب الثاني لأنه مقدمة شرعية نص الشارع على وجوبه عند الصلاة ، ولم ينص عليه قبلها ، والأمر له وفي يده.

النفسي والغيري

إن الغاية القصوى من كل ما يأمر به الشارع أو ينهى عنه هي الحياة الراضية المرضية عند الله سبحانه والصالحين من عباده .. أبدا لا يدع الاسلام شيئا فيه خير وصلاح للناس بأية جهة من الجهات إلا أمر به ، أو فيه شر وفساد إلا نهى عنه.

أجل ، قد يأمر سبحانه بشيء كوسيلة لأمر آخر ، وهذا الآخر أيضا قد يكون وسيلة لغيره ، ولكن الأوامر بكاملها تقع في سلسلة واحدة تنتهي الى طلب الحياة الطيبة دنيا وآخرة. وما رأيت في الشرع الاسلامي كلاما مطلوبا لذاته ومن حيث هو إلا النطق بالشهادتين حيث يكون لمن نطق بهما ما للمسلمين وعليه ما عليهم في الحياة الدنيا ، أما في الآخرة فحسابه عند ربه ، أما الذكر والقراءة في الصلاة واسم الله في النذر واليمين فلمجرد الصحة وكفى.

١٠١

وتسأل : اذا كانت كل الأوامر تهدف الى مرضاته تعالى ولو بالواسطة ـ فمعنى هذا انه لا أمر نفسي في الشرع على الاطلاق ، وعليه يكون تقسيم الأمر الى نفسي وغيري كما فعل الأصوليون ـ كلاما فارغا؟.

الجواب :

إن الأصوليين نظروا الى ظاهر اللفظ بصرف النظر عن أهداف الشرع ومقاصده ، كما هي مهمتهم .. انهم رأوا واجبا لا من أجل واجب آخر فسمّوه نفسيا ، وواجبا من أجل واجب آخر فسمّوه غيريا.

الشك في النفسية والغيرية

اذا علمنا بأن هذا الشيء واجب يقينا ، وشككنا في نوع وجوبه وانه نفسي أو غيري فما ذا نصنع؟

الجواب :

اذا كان وجوب هذا الواجب ثابتا بدليل لفظي ظاهر في الاطلاق ولا قرينة تصرفه عنه ، اذا كان ذلك اعتمدنا على أصل الظهور وحكمنا بموجبه ان الواجب نفسي لا غيري .. لأن الغيري يحتاج الى بيان زائد يربطه بوجوب آخر. ولا خلاف في ذلك ، أو لا ينبغي الخلاف فيه. أما اذا امتنع الاعتماد على أصل الظهور والتمسك بالاطلاق لسبب من الأسباب ـ فالمرجع الأصل العملي ، وهو يختلف تبعا لموارده. وفيما يلي التفصيل :

١ ـ أن نعلم بوجوب شيئين : أحدهما نعلم أيضا بنوع وجوبه وانه نفسي من غير شك ، وقد صار منجزا يجب أداؤه وامتثاله لدخول وقته وتوافر كل ما يعتبر فيه كوجوب صلاة الظهر بعد تحقق الزوال. وثانيهما نجهل نوع وجوبه ولا ندري هل هو نفسي مستقل أو غيري ومقدمة لسواه ، كما لو شككنا في وجوب الطهارة بعد الزوال أيضا هل هو نفسي أو مقدمة لصلاة الظهر؟ ويرجع هذا في واقعه الى الشك في ان الصلاة هل تصح بلا طهارة لأن وجوب الطهارة نفسي ومستقل ـ كما هو الفرض ـ أو انها شرط لصحة الصلاة؟ مجرد فرض.

١٠٢

وفي جميع الأحوال لا بد من الإتيان بالطهارة في كلا الحالين ، إما لوجوبها النفسي حيث تصح قبل الوقت وبعده ، وإما لوجوبها المقدمي حيث تصح بعد الوقت لا قبله ، والفرض في مسألتنا ان الشك حدث بعد الوقت لا قبله ، وفيه يكون وجوب الطهارة معلوما سواء أكان في واقعه نفسيا أم غيريا لأن وقت الصلاة قد دخل.

٢ ـ الفرض السابق مع فارق واحد ، وهو ان الواجب النفسي كالصلاة لم يصر بعد فعليا لعدم دخول الوقت ومع هذا شككنا في نوع وجوب الطهارة قبل وقت الصلاة هل هو لنفسه كي تجب الطهارة ، أو هو للصلاة كيلا تجب لعدم دخول الوقت؟ ويرجع هذا الى الشك في وجود الوجوب على كل حال أو في حال معينة. وفي مثله يجري أصل البراءة. وسبقت الاشارة الى ذلك في فقرة «الشك في الإطلاق».

الثواب على المقدمة

تحدّث بعض الأقطاب عن الثواب على فعل الواجب الغيري والعقاب على تركه ، وتبعه من جاء بعده. وهذه المسألة لا تمّت الى الأصول بسبب ، لأن الفقيه لا يستخرج منها حكما شرعيا ، وإنما هي كلامية بحت.

هذا ، الى أن الله سبحانه يثيب على مجرد نية الطاعة فبالأولى إذا اقترنت النية بالعمل وان كان مقدمة لغيره. وفي القرآن الكريم : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ـ ٣٢ الزخرف». وفي الحديث ما معناه ان طرق الثواب الى الله أكثر من أنفاس الخلائق. ومن أحب أن يعرف مدى إحسانه تعالى وتفضله على مقدمات المستحب فضلا عن الواجب ومقدماته فليقرأ ما ورد في زيارة سيد الشهداء الحسين (ع) والثواب على كل خطوة ذهابا وإيابا مع العلم بأن خطوات الإياب ليست من المقدمات.

أما النزاع في أن ثواب المطيع هل هو من باب الاستحقاق أو التفضل ـ فقد حسمه سبحانه بقوله : (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ـ ٥٤ الأنعام». أي أنه سبحانه هو الذي أوجب التفضل والإحسان على نفسه ، وجعله

١٠٣

بمشيئته حقا لمن أطاع. وهذا هو اللائق بكرم الذات القدسية وجلالها (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) ـ ٣٠ فاطر».

الطهارات الثلاث

وهي الوضوء والغسل والتيمم ، وكل منها عبادة يشترط في صحتها التقرب الى الله بقصد امتثال الأمر ، ويثاب فاعلها بالنص والإجماع.

وهنا سؤال يطرح نفسه ، وهو أن أمر الثواب سهل يسير ما دام ربك غنيا كريما كما سبقت الإشارة ، ولكن الإشكال في قصد القربة بامتثال الأمر المتعلق بها ، لأنه غيري لا نفسي ، ومقدمي من أجل الصلاة ، ومن المسلم به عند كثيرين أنه لا قابلية للأمر الغيري أن يتقرب به الى الله سبحانه ، وإنما يتقرب اليه بطاعة الأمر النفسي ، ولا وجود له في الطهارات الثلاث أي ان الذي يصح التقرب به غير موجود ، والموجود لا يصح التقرب به.

الجواب :

أولا : ان العبادة ليست وقفا على الأمر النفسي ولا هو محتكر لها ، بل تصح العبادة بنية التقرب الى الله وقصد الطاعة بكل أمر من أوامره سواء أسند اليه مباشرة أم بألف سبب وسبب ، فالمهم مجرد الانقياد وطاعته وحده لا شريك له. وأين هي الآية والرواية التي تقول : لا عبادة ولا مثوبة إلا على الأمر النفسي والذاتي؟ بل ان آيات الطاعة وأحاديثها تعم وتشمل كل أمر لله سبحانه نفسيا كان أم غيريا؟ وأخيرا فأي محذور بحكم العقل أو الشرع في صحة العبادة مع التقرب اليه ، جلت عظمته ، بالأمر التابع لأمره الأصيل؟ وعلى هذا القطب الهمداني الكبير في مصباحه باب الوضوء.

ثانيا : لو سلمنا ـ جدلا ـ بأن الأمر الغيري لا يكفي في نية القربة وصحة العبادة ـ فإن الأمر النفسي موجود بالفعل في الطهارات الثلاث لأن الأمر بالصلاة أمر بجميع أجزائها وأركانها وشروطها ، وكل ما يتصل بها من قريب أو بعيد.

حكم المقدمة عند ترك واجبها

قال مؤلف جليل : انما تجب المقدمة اذا كان المكلف عازما ومريدا لفعل

١٠٤

واجبها ، لأن الغرض من وجوبها هو التوصل بها اليه ، ومع الاصرار على تركه فلا داعي لوجوبها. وبكلمة : لما ذا نصب السلّم اذا لم ترد الكون على السطح؟ وهذا القول يحمل في طياته الرد عليه ، لأن معناه ان التكاليف الشرعية تناط بإرادة المكلف ، وعندئذ يسوغ لقائل أن يقول : وعلى الاسلام السلام!.

أما الباعث الأول على هذه الدعوى الغريبة فهو تصحيح العبادة اذا كان تركها مقدمة لواجب أهم ، مثال ذلك أن يضيق وقت الصلاة ولا يبقى منه إلا بمقدار فعلها فقط ، وصادف في هذا الوقت الضيق ان من يريد الصلاة فيه رأى غريقا يقدر على غوثه وخلاصه. وعندئذ يجب عليه ترك الصلاة كمقدمة ـ في رأيه ـ لاستنقاذ الغريق لأنه أهم وأعظم ، وعليه يكون فعل الصلاة في هذا الوقت محرما ، وتركها واجبا ، فإذا قدّم الصلاة على غوث الغريق تكون باطلة لأنها محرمة وغير مقبولة إذ لا يطاع الله من حيث يعصى ، هذا اذا كان قاصدا خلاص الغريق بعد الصلاة ، أما اذا كان منصرفا عنه منذ البداية فلا يكون ترك الصلاة واجبا لأنه ليس بمقدمة في هذه الحال ، وبالتالي فلا يكون الإتيان بالصلاة محرما ويصح التقرب بها الى الله. وندع الكلام عن ذلك الى الفصل التالي «مسألة الترتب» فإلى هناك.

وقال آخر : لا بد في المقدمة من قصد التوصل بها الى واجبها كقيد لوجوده لا كشرط لوجوب المقدمة نفسها! ونسب هذا القول الى الشيخ الانصاري في التقريرات ، وأنكر الأقطاب هذه النسبة الى الشيخ الكبير لأن مثلها لا ينسب الى مثله ، كيف؟ ووجوب الواجب إنما يتوقف على مجرد وجود المقدمة ـ غير الطهارات الثلاث ـ سواء أقصد بها التوصل الى واجبها أم لم يقصد ، بل يوجد الواجب النفسي حتى ولو قصد عدم التوصل بمقدمته كما هو الشأن في الساتر حين الصلاة ، فكل المصلين يلبسونه بدافع آخر غير التوصل الى صحة الصلاة ومع هذا تصح بلا ريب.

وربما كان السبب الموجب لهذا القول أن عنوان المقدمة لا يتحقق إلا بهذا القصد ، ويرده بأن عنوان المقدمة يتوقف على إمكان التوصل بها لا على قصده.

الأصلي والتبعي

قال بعض الأصوليين : ينقسم الواجب أيضا الى أصلي وتبعي. ولم أجد لهذا

١٠٥

التقسيم أثرا فيما لدى من أصول السنة وبعض كتب الشيعة ، ومنها تقريرات النائيني. والذين اخترعوا ذلك لم يبنوه على أساس متين ، وقاعدة واضحة ، كما هو الشأن في سائر أقسام الواجب.

فبعض العبارات يفهم منها ان التقسيم جرى على أساس اللفظ والدلالة كعبارة القوانين ، وهذه هي بالنص : «ينقسم الواجب باعتبار تعلق الخطاب به بالاصالة وعدمه الى أصلي وتبعي» ومثلها عبارة الحاشية الكبرى على المعالم ، وهي «الواجب الأصلي ما تعلق به الخطاب أصالة ، والواجب التبعي ما يكون وجوبه لازما للخطاب».

وبعض العبارات صريحة بأن التقسيم على أساس الإرادة. قال الشيخ الأنصاري في التقريرات : «ان كان الواجب مستقلا بالارادة فهو واجب أصلي وإلا فتبعي وهو ما لا تتعلق به إرادة مستقلة». وقال صاحب الكفاية : «ان نظرنا الى مرتبة الامكان والثبوت جرى التقسيم على أساس الارادة ، أي ان المراد المستقل واجب أصلي ، والمراد بالتبع تبعي ، وان نظرنا الى مرتبة الابراز والاثبات جرى التقسيم على أساس الدلالة ، فالمقصود بالخطاب والافادة أصلي ، وغير المقصود بالخطاب تبعي.

وفي جميع الأحوال لا جدوى وراء هذا النزاع وهذه الأقوال.

الخلاف والثمرة

اختلفوا في أن ما لا يتم الواجب إلا به من أفعال المكلفين ـ هل هو واجب أم لا؟ وبعضهم أنهى الأقوال في ذلك الى عشرة! وفي رأينا أن هذا الخلاف بجوهره يرجع الى الخلاف في أن الواجب هل يجب فعله أو لا؟

ورب قائل : أجل ، لا ريب في حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدماته ، وان هذه الملازمة من المسلمات الأولية ، وإنما الخلاف في الحكم الشرعي. كما جاء في القوانين ، وهذا نصه «الوجوب المتنازع فيه هو الوجوب الشرعي لأن الوجوب العقلي لا يرتاب فيه ذو مسكة .. وبالجملة النزاع في ان الخطاب بالكون على السطح هل هو تكليف واحد ، أو تكاليف بأمور أحدها الكون على السطح ، والباقي بمقدماته».

١٠٦

الجواب :

أيضا لا مجال للنزاع هنا في الحكم الشرعي بعد التسليم بأن كل ما حكم به العقل يحكم به الشرع. وعن بعض الأفاضل : انه لا مبرر إطلاقا لحكم الشارع بمقدمة الواجب ، لأن الأمر بالمطلوب الذاتي يخلق في نفس المكلف الباعث على فعله وفعل مقدماته ، وانه لا بد أن يأتي بها حين يريد الاتيان بواجبها ، وعليه يكون الأمر بالمقدمات لغوا وتحصلا للحاصل. ويعزز هذا ما قلناه من ان الخلاف في وجوب ما لا يتم الواجب إلا به أشبه بالخلاف في ان الواجب هل يجب فعله أو لا؟.

واذا كان الخلاف في وجوب المقدمة أشبه بالخلاف في وجوب فعل ما يجب فعله ـ فلا يبقى للحديث عن الثمرة من موضوع ، لأن الفرع يسقط بسقوط الأصل. ونقل الشيخ الأنصاري وصاحب (الكفاية) والنائيني وغيرهم من الأقطاب نقلوا الأقوال في ثمرة النزاع ، وأبطلوها بالكامل. ومن جملة ما قاله الشيخ الأنصاري : «وكيف كان فإن أهم الثمرات المزعومة هنا أيضا لا ترجع الى حاصل ، ولا تعود الى طائل». وقال النائيني في (تقريرات) الشيخ الخراساني ص ١٧٢ طبعة ١٣٦٨ ه‍ : «لا يترتب على البحث في مقدمة الواجب ثمرة عملية أصلا ، بل كان البحث علميا صرفا» أي علما بلا عمل!.

الأصل في وجوب المقدمة

وتسأل : لنفترض ان وجوب المقدمة ليس بهذه المكانة من الوضوح وشككنا فيه ـ فهل الأصل يقضي بوجوبها؟.

الجواب :

كلا ، أما أصل البراءة فإنه يجري فيما يحتمل العقاب على تركه ، ووجوب المقدمة ـ عند الأكثر ـ لا يستدعي العقاب ، وإذن فلا مبرر لهذا الأصل. أما الاستصحاب فقيل : انه يجري هنا حيث كنا نعلم يقينا بعدم وجوب المقدمة قبل الأمر بواجبها ، وبعدها نشك فنستصحب بقاء ما كان كما كان. ونجيب أولا : لا أثر شرعي هنا يصحح الاستصحاب لعدم العقاب على ترك المقدمة.

ثانيا : إن العقل إما أن يحكم بالملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب واجبها ،

١٠٧

وإما أن يحكم بعدم الملازمة ، وعلى الأول نعلم بالوجوب يقينا ، وعلى الثاني نعلم بعدم الوجوب يقينا فأين الشك كي يجري الاستصحاب. أما الملازمة العقلية فلا يجري فيها أصل من الأصول ، لأنها من الأمور الحتمية. إما أن تكون ، وإما أن لا تكون منذ البداية.

مقدمة الندب والحرام والمكروه

مقدمة المندوب يسري عليها ما يسري عليه حكما وإطلاقا وتقييدا ، فتقول : ما لا يتم به المندوب فهو مندوب تماما كما تقول : ما لا يتم به الواجب فهو واجب ، والدليل واحد : البديهة والملازمة العقلية.

وأيضا تقول : كل ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فحرام فعله. والفرق بين مقدمات الواجب ومقدمات الحرام ، ان مقدمات الأول تجب بكاملها سببا تاما كانت أم جزءا من السبب ، لأن المطلوب في الواجب هو فعله وايجاده بجميع حدوده وقيوده ، ولن يتحقق ذلك إلا مع توفر كل مقدمة من مقدماته الكبيرة منها والصغيرة. أما الحرام فإن المطلوب تركه والابتعاد عنه ، ويكفي لذلك ترك بعض مقدماته حيث يلزم من عدم الجزء عدم الكل ، ومعنى هذا ان البقية الباقية ليست مقدمة للحرام ، بل خارجة عنه موضوعا ، لأن تركه لا يناط بتركها ، وأيضا معنى هذا ان مقدمة الحرام ليست بحرام إلا اذا كانت علة تامة لوجود فعل الحرام بحيث اذا تلبس بالمقدمة وقع في المحرمات ، وهلك من حيث يريد أو لا يريد.

والحكم في مقدمة المكروه هو نفس الحكم في مقدمة الحرام. أبدا لا تفاوت في شيء بينها ، والدليل في الجميع واحد. ومن المفيد أن نشير فيما يلي الى مسألتين تمتان بسبب ما الى مقدمة الحرام ولو فيما يبدو.

العزم على الحرام

اذا صمم الانسان على فعل الحرام ، ثم ترك ولم يفعل ، فهل أذنب بذلك وأثم؟

الجواب :

أجل هو مذنب وآثم ، لأنه صمم مختارا ، ولكن عفو الله يشمله. ومن أدلة

١٠٨

التحريم والتأثيم قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ .. يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ـ ٢٨٤ البقرة». وقوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) ـ ٣٦ الإسراء» الى غير ذلك من الآيات ، وفي معناها أكثر من حديث.

وتسأل : إن هذا نقض لما أبرمت من أن مقدمة الحرام ليست بحرام إلا اذا صاحبها ولازمها فعل الحرام ، والمفروض في مسألتنا انه لا قول ولا فعل ولا شيء سوى العزم الباطن؟.

الجواب :

من الجائز ان مجرد العزم بنفسه معصية أو مرتبة من مراتب الحرام في نظر الشارع. وإن أبيت إلا أن تجعل العزم مقدمة فنجيب بأن هذه المقدمة غير التامة خرجت بالخصوص عن القاعدة للنص ، شأنها في ذلك شأن ما خرج عن أصل الإباحة وغيره من الأصول.

أما العفو فمن أدلته حديث «من همّ بالسيئة لم تكتب عليه ما دام لم يعمل ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، ومن هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات». وعلى ذلك كل العلماء ، ولم يفرقوا بين من ترك عن قصد أو عن عجز. ولعل التارك عن قصد يدخل في عداد التائبين ، وعليه يخرج عن موضوع الكلام لأن من تاب عن الذنب كمن لا ذنب له.

العزم مع مباشرة بعض المقدمات

إذا عزم الانسان على الحرام ، وباشر مقدمة من مقدماته ، ثم أحجم كمن أراد السرقة أو الدعارة ، وسعى لها سعيها وهو مصمم عليها ، وفي أثناء الطريق تراجع ـ فما هو حكمه؟.

الجواب :

ان نكص ندما وبملء إرادته فهو من التوابين ، وان عاد راغم الأنف لسبب أو لآخر فلا بأس عليه ، لأن مقدمة الحرام لم تتم ، فيكون حكمه حكم من عزم ولم يباشر شيئا حتى المقدمة ، قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : «من العصمة تعذر المعاصي».

١٠٩

وتسأل : لقد جاء في الحديث : ان غارس الخمرة وعاصرها وبائعها وساقيها وشاربها بمنزلة سواء. وأيضا جاء في الحديث : ان الساعي في الفتنة والنميمة أو أية مضرة فهو من شر الناس ، وكل ذلك مقدمة غير تامة للحرام ، ومع هذا نص الشارع على التحريم؟.

وتقدم مثل هذا التساؤل مع الجواب عنه في المسألة السابقة ، ولمجرد التوضيح نعطف عليه : ان العناوين هي مناط الأحكام الشرعية ، والعبرة في التحريم الذاتي هو صدق الاثم أو الاعانة عليه. وغرس الخمرة وعصرها وبيعها نوع من الاعانة على الاثم وعليه تكون الحرمة من هذا الباب لا من باب المقدمة ، ولكن سبحانه يعفو عن مثله تماما كالظهار عند كثير من الفقهاء.

أما النميمة والفتنة ومضرة الناس وكل ما يتصل بها من قريب أو بعيد ـ فهي عين الاثم وأكبر الكبائر ، ولا عفو عنها على الاطلاق نصا وإجماعا إلا أن يعفو صاحب الحق الخاص.

١١٠

الضد

محل الكلام

«الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده»؟ بهذا الاستفهام افتتح الأصوليون مبحث الضد. والمراد بالأمر هنا مطلق الوجوب سواء أكان مدلولا عليه بالنقل أم الإجماع أم العقل. والمراد بالشيء نفس الفعل المأمور به ، وبالاقتضاء الداعي والموجب بنحو من الأنحاء. وبالضد كل ما ينافر المأمور به ولا يجتمع معه بحال.

هذه هي معاني المفردات في جملة «الأمر بالشيء الخ» .. أما المحتوى بمجموعه فهو ان الشارع إذا أمر بشيء معين اكتشفنا منه أن هذا الشيء مراد ومقصود له بلا ريب وخلاف ، ولكن هل أمره هذا بالذات يصدق عليه أيضا أنه عين النهي عن كل ما يضاد الفعل المأمور به وينافره في الوجود ، أو مستلزم للنهي عن الضد بسبب أو بآخر ، وان لم يكن الأمر عين النهي ، أو ان الأمر بالشيء لا يمتّ بأية صلة وعلاقة الى النهي عن ضده لا من قريب ولا من بعيد ، فقول الشارع مثلا : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) لا يدل إلا على وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وكفى؟.

هذا باختصار هو محل الكلام بين الأصوليين ، وسيزداد وضوحا من مطاوي الأقوال والنقاش بخاصة عند الحديث عن مسألة الترتب ان شاء الله.

الأقوال

قال أهل التحقيق والنظر : ليس للأمر بالشيء أي اقتضاء أو دلالة على النهي

١١١

عن أضداده الوجودية. وذلك بأن مراد المتكلم يعرف ويكتشف من كلامه ، والمفروض في مسألة الضد أن المتكلم الآمر لم ينطق بسوى الأمر. والحس يشهد والبديهة أن صيغة الأمر غير صيغة النهي ، فقول الشارع مثلا : «صل» ليس عين قوله : «لا تنم» كي يدل أحدهما على الآخر بالمطابقة ، ولا هو جزء منه ليشير اليه بالتضمن ، ولا من لوازمه كي يوشي به ، وإذن كيف؟ ومن أين اقتضى الأمر بالشيء نهيا عن ضده الوجودي؟ وأية ضرورة أوجبت أن يكون كل آمر بشيء ناهيا عن ضده؟ ومرة ثانية لا شيء يدل على أن النهي عن الضد مدلول للآمر بالشيء أو مقصودا للآمر.

أما القول بأن المأمور به لا يتم إلا بترك ضده فهو ـ كما تمليه البديهة ـ من لوازم وجود الفعل في الخارج لا من لوازم وجوبه والأمر به ، لأن هذا التمانع والتعاند موجود بين الأضداد بحكم الواقع وطبيعة الحال حتى ولو لم يوجد أمر ونهي ، والاسم هنا ينبئ عن هوية المسمى.

وتسأل : إن المعيار في تحديد معاني الألفاظ هو فهم العرف ، وأهله يفهمون من الأمر بالسكون النهي عن الحركة ، ومن الأمر بالحركة النهي عن السكون ، ومعنى هذا ان الأمر بالشيء نهي عن ضده عند أهل اللسان واللغة.

الجواب :

إن هذا الفهم ـ على فرض التسليم به ـ يختص بالضدين اللذين لا ثالث لهما ، ولا يتعداهما الى سائر الأضداد. والسر ان السكون عين ترك الحركة ، والحركة عين ترك السكون في أفهام الناس تماما كما ان فعل الشيء عين ترك الترك له ، وعليه يكون الأمر بالسكون أمرا بترك الحركة ، وليس نهيا عنها وان كان المعنى واحدا. وبالتالي فإن الضدين اللذين لا ثالث لهما خارجان عن محل الكلام تماما كالنقيض أي ترك المأمور به.

أما القائلون بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ـ فعمدة ما لديهم دليلان : الأول ان فعل المأمور به يستلزم حتما ترك ما ينافره من الأضداد ، لأن الضدين لا يجتمعان ، والمتلازمين في الوجود يجب أن يتحدا في الحكم وإلا لزم جواز الجمع بين الضدين ـ مثلا ـ فعل الصلاة يستدعي بطبعه ترك الكتابة ، والصلاة واجبة شرعا فيجب أيضا ترك الكتابة اللازم حتما لأداء الصلاة ، ولو

١١٢

وجبت الصلاة دون ترك الكتابة لكان معنى هذا ان الصلاة تجتمع مع الكتابة ، وهو واضح الفساد ، واذا وجب ترك الكتابة في هذه الحال كان فعلها محرما بالضرورة ، ولا معنى لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده إلا هذا.

الجواب :

إن التلازم بين فعل المأمور به وترك أضداده انما هو بحكم ضرورة الوجود لا بحكم الطلب كما سبقت الاشارة ، لأن الحقائق تأخذ مجراها بمعزل عن الشرع وأحكامه. وتقول : أجل ، إن الحقائق الخارجية لا تتبع أحكام الشارع ، ولكن أحكامه تتبع الحقائق ، لأنه عليم حكيم ، وعليه فإذا كان فعل المأمور به مستلزما لترك ما يضاده في الواقع فأيضا يكون وجوب الفعل مستلزما للنهي عن ضده.

الجواب :

بعد التسليم بحتمية ترك الضد عند الإتيان بالمأمور به ـ يستحيل أن يكون هذا الترك موردا لحكم الشرع ، لأنه حتم لا مفر منه ، والأحكام الشرعية تتعلق بالفعل الاختياري دون القهري بالاضافة الى ان الحكم ، وهذه هي الحال ، يكون تحصيلا للحاصل.

أما الدليل الثاني للقائلين إن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده فهو ان الفعل لا يوجد إلا بعد تمام علته وتوافر جميع مقدماته. والعلة التامة تتألف من المقتضي والشرط وعدم المانع ـ مثلا ـ الأمر بالصلاة مقتض للبعث اليها ، والقدرة على فعلها شرط ، وترك الضد المنافر لوجودها كالكتابة عدم مانع. ومعنى هذا ان عدم الضد جزء من علة وجود الواجب ، واذا عطفنا على ذلك ان ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ـ ثبت أن ترك الضد واجب وفعله محرم ومنهي عنه.

الجواب :

أولا : ان مقدمة الشيء لا تقترن معه جنبا الى جنب وعلى صعيد واحد ، بل هي متقدمة عليه ، وهو متأخر عنها في الرتبة ، ومن البداهة ان الضدين نظيران يستويان في المنزلة ، ومعنى هذا أن عدم أحدهما مقارن لوجود الآخر تماما كما أن وجوده معاند لوجوده وليس بمقدمة له.

ثانيا : لو كان ترك أحد الضدين مقدمة وعلة لوجود الآخر ـ لكان أيضا وجود هذا الآخر مقدمة وعلة لترك ضده ـ مثلا ـ لو اعتبرنا ترك النوم مقدمة

١١٣

للصلاة لكانت الصلاة أيضا مقدمة لترك النوم ، وعليه يكون التوقف من الطرفين أي يكون كل من الفعل والترك علة ومعلولا للآخر ، متقدما عليه ومتأخرا عنه في آن واحد. وهو الدور المحال. وإذن فترك أحد الضدين ليس مقدمة لفعل الآخر ، وان التلازم جاء من باب الاتفاق والمقارنة. ومن هنا قيل : العدم لا يعلل.

والخلاصة أن الأمر بالشيء لا يقتضي شيئا إلا طلب الفعل وكفى ، أما ملازمة الفعل المطلوب لترك الضد فهي من ضرورات الوجود تماما كملازمة السواد لعدم البياض ، والقرب من بغداد للبعد عن الشام ، ولا علاقة لهذه الملازمة الكونية بالأحكام الشرعية سلبا ولا إيجابا.

شبهة الكعبي

ومما تقدم يتضح وجه الرد على شبهة الكعبي حيث أنكر المباح في الشريعة من الأساس وقال : ما من فعل اختياري مضاد لفعل الحرام إلا وهو ملازم لترك الحرام كالزنا والسرقة ، وترك الحرام واجب فما يلازمه كذلك. وفي كثير من كتب الأصول جاءت شبهة الكعبي بأسلوب آخر ، وهو ان ترك الحرام واجب ، ولا يتم إلا بفعل من الأفعال ، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فذلك الفعل واجب.

ويتلخص الرد عليه بأن ترك الحرام يستند الى الانصراف عنه وعدم الداعي له ، وعليه يكون ترك الحرام مقارنا للفعل المباح وغير المباح مقارنة الشرب لعدم الأكل ، والكتابة لعدم الحياكة ، والمتقارنان في الوجود لا يجب تساويهما في الحكم ، وأيضا ليس أحدهما مقدمة للآخر.

الثمرة

قد يسأل سائل : هل من ثمرة للبحث والخلاف في النهي عن ضد المأمور به؟ وجوابه ان للفعل المأمور به ـ غير العبادة ـ أضدادا تزاحمه في الوجود وتعانده ، ومن جملتها بعض العبادات ، فإن اقتضى الأمر النهي عن ضده تبطل هذه العبادة

١١٤

لمكان النهي عنها وإلا تصح حيث لا نهي. هكذا قيل ، ويأتي التفصيل. ولمجرد التوضيح نعرض هذا المثال : أن يأمر الشارع بإنقاذ الغريق ، ويقدمه على كل عبادة لأنه في نظره أهم وأفضل ، ولكن المكلف القادر على غوث الغريق تركه لعسره وتراكم الأمواج ، وانصرف الى الصلاة. فهل تقبل منه وتصح ، أو ترد لأنها محرمة عليه؟.

قال جماعة من الفقهاء : ان الحكم بصحة هذه الصلاة أو عدم صحتها يتوقف على العلم بأن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا يقتضيه؟ فعلى القول بالاقتضاء تكون الصلاة باطلة لمكان النهي عنها ، وهو يدل في العبادة على فسادها. وعلى القول بعدم الاقتضاء تكون الصلاة صحيحة حيث لا نهي يفسدها ويبطلها.

ولكن إذا استطعنا أن نثبت بالدليل أن هذه الصلاة فاسدة حتى ولو كان الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده ، كما يرى الشيخ البهائي ، أو استطعنا أن نثبت صحتها حتى ولو كان الأمر يقتضي النهي ، اذا أمكن ذلك لم يكن وراء هذا البحث والخلاف أية جدوى.

ويتلخص قول البهائي بأن العبادة لا تصح إلا بقصد الأمر المتعلق بها بالخصوص ، ولا أمر بصلاة تضاد الواجب الأهم وتنافره كإنقاذ الغريق ، لأن الأمر بالصلاة مع الأمر بالانقاذ معناه طلب الإتيان بالضدين معا في بعض الحالات ، وهذا محال لمكان التكليف بما لا يطاق ، واذا لم تكن هذه الصلاة مأمورا بها فلا مبرر لصحتها حتى ولو قلنا بعدم النهي عنها. وبكلمة : ان فساد العبادة على رأي البهائي لا ينحصر بالنهي عنها ، بل لذلك ولعدم الأمر بها أيضا ، بالاضافة الى ان الأصل عدم صحة الصلاة في مثل هذه الحال.

وقال آخرون : كلا ، إن هذه الصلاة صحيحة حتى ولو كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده ، وذلك بأن مجرد النهي عن العبادة لا يستلزم أن تكون ممنوعة تحت طائلة الفساد والبطلان ، بل ينظر : إن كان النهي عنها ذاتيا لنقص فيها بالخصوص فعندئذ يكون النهي ناتجا ومسببا عن الفساد ، أما اذا كانت كاملة من كل وجه ، متوافرا فيها كل ما يريده الشارع فتكون ، وهذه هي الحال ، محبوبة له ومهمة عنده لا محالة.

فإذا صادف وزاحمها واجب أهم وأحب لدى الشارع ونهي عنها من أجل

١١٥

ذلك ـ يكون هذا النهي تابعا لا أصيلا تولد من المزاحمة في الوجود ، وهذه المزاحمة لا تبطل المحبوبية ، ولا ترفع الرجحان الذاتي ، والنهي ليس مسببا عن فساد المنهي عنه ، بل عن أمر طارئ. وإذن فلا يدل هذا النهي على الفساد من قريب أو بعيد. وعليه يسوغ للمكلف أن يقيم الصلاة بداعي كمالها النفسي ، وحبها الذاتي ، وتصح بهذا الداعي حتى ولو اقتضى الأمر النهي عن ضده.

والخلاصة ان صحة الصلاة لا تتوقف على وجود الأمر بها ، كما رأى البهائي ولا تفسد بالنهي ، كما رأى غير البهائي ، ما دام هذا النهي تابعا لا مستقلا ، أما الأصل فإنه هنا يوجب الصحة وليس الفساد حيث نعلم يقينا ان الصلاة صحيحة لو لا النهي العارض التابع ، وبعده نشك ـ على القول به ـ فنستصحب ما كان على ما كان. وبالتالي فلا ثمرة وراء بحث الضد.

النهي

ليس من شك ان النهي عن الحرام يستلزم الأمر بتركه ، أما اقتضاء النهي عن الحرام الأمر بأحد أضداده الوجودية لا على التعيين ـ فإنه يجري حوله من الكلام ما جرى حول اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الوجودي.

والنهي عن المكروه يقتضي استحباب تركه فرارا من المفسدة الكامنة في فعله.

أما الأمر بالمندوب فإنه لا يقتضي النهي عن تركه ، لأن ترك المستحب فيه فوات المصلحة وكفى ، وفوات المصلحة لا يستلزم وجود المفسدة بالحتم والجزم ، بل قد يكون مع اللامصلحة واللامفسدة. وبكلمة : فوات الربح شيء ، والخسارة شيء آخر. وبتعبير ثالث (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) لا يدخل الجنة على كل حال.

تمهيد من أجل الترتب

الواجبات الشرعية من حيث إمكان الجمع بينها في مقام الامتثال وعدمه ـ على نوعين : الأول يمكن فيه الجمع بين واجبين كالصلاة والصيام ، والصدق وردّ الأمانة. ولا كلام في هذا النوع حيث لا ضد منافر ، ولا ند مثاور. النوع الثاني لا يمكن فيه ذلك بحال ، وينقسم هذا النوع الى أقسام :

١١٦

«منها» أن يكون الواجبان موسعين كقضاء الصلاة الفائتة ، وصلاة الظهر في وقتها الموسع. وللمكلف هنا أن يختار في أن يقدم ويؤخر ما شاء وأراد. وهذا القسم أيضا لا كلام فيه لعدم التزاحم عند الطاعة والامتثال.

و «منها» أن يكون الواجبان مضيقين لا يمكن امتثالهما معا ، وعندئذ ننظر : فإن تساويا في المصلحة ، وليس أحدهما أهم من أخيه وأفضل ، إن كان ذلك فالواجب واحد لا بعينه ، وأيضا هذا خارج عن محل البحث لعدم تعدد الواجب ، ومثاله : غريقان يستطيع المكلف إنقاذ واحد منهما فقط. وإن كان أحدهما أهم وأفضل فهو المتعين كإنقاذ غريق من الهلاك في آخر وقت الصلاة بحيث اذا أجرى المكلف عملية الانقاذ فاتته الفريضة ، وإن هو أداها هلك الغريق ، فإن بادر الى الأهم فذاك ، ولا خلاف وكلام ، وإن ترك الأهم الى المهم فهو محل البحث والكلام ، كما تأتي الاشارة.

و «منها» أن يكون أحد الواجبين موسعا والآخر مضيقا كالمثال السابق مع الفرق في ان وقت الصلاة هنا موسع بحيث يستطيع أن ينقذ الغريق ، ثم يؤدي الصلاة في وقتها ، فإذا أهمل الغريق ، وانصرف الى الصلاة ـ فقد عصى وخالف. وهذا يدخل في محل البحث والكلام.

مهّدنا بذلك لنحدد موضوع الترتب ومعناه والهدف منه.

موضوع الترتب

هو أن يبتلى المكلف بامتثال واجبين ، وفي كل واحد منهما مصلحة كافية وافية للأمر به أمرا يشمل مورد تزاحمه مع واجب آخر عند الامتثال بحيث لو لا هذه المزاحمة لوجب الإتيان به على كل حال ، ولكن أحد الواجبين ـ في فرضنا ـ أهم من الآخر في نظر الشارع ، على أن يكون الضد المهم من نوع العبادة سواء أكان الأهم منها أيضا كما لو دعت الحال الى تقديم صلاة الميت على الصلاة اليومية ، أم كان الأهم من غير العبادات كإنقاذ الغريق.

وليس من شك ان واجب المكلف أن يبدأ بالأهم قبل كل شيء سواء اتسع الوقت للمهم أم لم يتسع. ولكن المكلف خالف وأتى بالمهم. قال النائيني بقلم الشيخ الخراساني : «إن عقد الكلام في مسألة الترتب وإن كان في المتزاحمين

١١٧

المضيقين إلا انه يجري في مزاحمة المضيق للموسع كمزاحمة إزالة النجاسة عن المسجد للصلاة».

وأيضا قال بقلم السيد الخوئي : «وقع الكلام في الترتب ان التكليف بالأهم هل يكون رافعا للتكليف بالمهم مطلقا ، أو يكون رافعا له بشرط عدم عصيان الأمر بالأهم .. وبالجملة الساقط عند الأمر بالأهم هل هو أصل الأمر بالمهم أو اطلاقه؟». وتوضيح هذا الكلام وغيره من أقوال النائيني ، في مقدماته الخمس الآتية.

«ملحوظة» نطلق كلمة الأهم هنا على ما يجب تقديمه والبدء به. وأيضا اشترطنا أن يكون الضد من العبادة لأن النهي عن غيرها لا يقتضي الفساد.

معنى الترتب

ومعنى الترتب أن نبقي وجوب الأهم على إطلاقه ، ونقيد وجوب المهم بعصيان الأهم بحيث يكون المعنى هكذا : انقذ الغريق ، وان عصيت فصل. ولا مانع من ذلك عقلا وشرعا ، وبه يرتفع محذور التكليف بالمحال.

الغاية من الترتب

أما الغاية من عملية الترتب فهي صحة العبادة ، على البناء بأنها لا تصح إلا مع الاتيان بها بداعي أمرها الخاص ، لأن الصحة في العبادة عبارة عن موافقة الأمر المتعلق بها ، وعملية الترتب تتكفل بهذا الأمر إذا زاحم العبادة ما هو أهم وأفضل ولا غبار على الترتب حيث لا مانع يردع عنه من العقل ولا زاجر من الشرع ، ولكن لا حاجة لنا فيه كعلاج لصحة العبادة وحل مشكلتها ، لأنها راجحة بنفسها ، وان كانت مرجوحة بالقياس الى الأهم والأفضل. فمن الواضح ان أفضلية زيد على عمرو ـ مثلا ـ لا تنفي الفضيلة عن أهلها ، وفوق ذلك أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده ، كما سبقت الاشارة ، وعلى فرض الاقتضاء فلا يدل هذا النهي على الفساد. ومن أصر وأبى الا الأمر لتصحيح العبادة أحلناه على الترتب.

١١٨

وقد تحدث النائيني حول الترتب ، وأولاه المزيد من الاهتمام والعناية ، وقال فيه الكثير كمدافع عنه في خمس مقدمات بلغت ثلاثين صفحة أو أكثر ، وأمضيت مع طلاسمها أمدا غير قصير ، ثم اخترت من كل مقدمة ما هو ألصق بالترتب وأنفع ، وذكرت ما اخترت أيضا في مقدمات خمس تماما على نهج النائيني وترتيبه لدرجاتها.

المقدمة الأولى

إذا ورد في الشرع خطابان يؤديان في النهاية إلى إيجاب الجمع بين الضدين ، وتكليف الانسان بما لا يطاق ، إذا كان الأمر كذلك نظرنا الى السبب الموجب لهذه النهاية المستحيلة ، فإن كان السبب فعلية الخطابين لا إطلاقهما وظهورهما ـ فالواجب واحد لا بعينه إلا أن تكون مصلحة أحدهما أقوى وأهم فيتعين.

وقيل : إذا كانت مصلحة الاثنين بمنزلة سواء يسقطان معا! وليس هذا بسديد بعد أن كان في كل من الخطابين مصلحة كافية لوجوبه ولو لا المزاحمة الطارئة العارضة لوجبت طاعته وامتثاله كما هو الفرض ، وليس من شك ان محذور التكليف بالمحال يرتفع بالتخيير والعمل بأحدهما ، وهو خير من طرحهما معا ، لأن الضرورة تقدر بقدرها ، ولا يجوز الاسترسال في طرح الخطابات الشرعية أكثر مما تدعو اليه الحاجة والضرورة.

وتسأل : ما معنى فعلية الخطاب؟ الجواب : معناه أن التكليف جامع لكل الشروط التي توجب العمل به ، وانه لا مبرر لتأويل ظاهر الدليل الدال عليه وصرفه عنه الى غيره.

هذا إذا كان السبب للتكليف بالمحال هو تنجيز التكليف بالفعل ، أما إذا كان السبب مجرد ظهور الخطابين وشموله لمورد كل من الضدين فيجب عندئذ التصرف بظاهر أحدهما وتقييده بترك الآخر على سبيل التخيير ان استوى الاثنان في المصلحة والأهمية ، وان كانت مصلحة أحدهما أقوى وأهم وجب تقييد المهم وحده بترك الأهم وعصيانه. هذا هو بالذات معنى الترتب الذي لا يستلزم إيجاب الجمع بين الضدين ، والتكليف بالمحال. وفيما سبق قدمنا أكثر من مثال على الترتب ، ويأتي أيضا في المقدمة التالية وغيرها.

١١٩

المقدمة الثانية

تختص هذه المقدمة بالرد على صاحب الكفاية الذي أبطل الترتب وقال : ان السبب الموجب لفساد الترتب وبطلانه هو إطلاق الأمر بالأهم كإنقاذ الغريق الشامل لوقت الصلاة ، وإطلاق الأمر بالمهم كإقامة الصلاة الشاملة لوقت إنقاذ الغريق ، ومن هذين الاطلاقين يلزم إيجاب الجمع بين الضدين حين يبتلى المكلف بالصلاة والانقاذ في آن واحد ، أما تقييد المهم ، وهو في المثال الصلاة ، بترك الأهم وعصيانه ، وهو الانقاذ ، أما هذه العملية فلا تجدي نفعا ، بل تبقي محذور اصطدام الخطابين كما كان ، لأن الواجب المشروط يصبح بعد وجود شرطه مطلقا يشمل جميع الحالات حتى الوقت الخاص بالأهم ، والمفروض ان ترك الأهم لا يسقط وجوبه من الأساس ولا يحوله من الإطلاق الى التقييد ، ومعنى هذا ان كلا من إطلاق الأهم والمهم ما زال قائما ، وان عملية الترتب لم تحل الأشكال ، وهو التكليف بالمحال الناشئ من إيجاب الجمع بين الضدين.

الجواب :

ان الواجب المشروط لا يصير مطلقا بعد وجود شرطه ، بل يبقى على هويته وحقيقته ، لأن كل ما هو شرط للتكليف فهو في حكم الموضوع وقيوده وأجزائه ، وإذا وجد الموضوع في الخارج فلا يتغير عما كان عليه في عالم الإمكان والثبوت ، ومعنى هذا أن الواجب المشروط في عالم الجعل والتقنين يبقى على هويته الأولى بعد وجود شرطه. وقد كان وجوب المهم مقيدا بعصيان الأهم ومتأخرا عنه في الرتبة قبل أن يترك المكلف ويعرض عن الأهم ، فأيضا يبقى المهم كما كان بعد ترك الأهم وعصيانه.

المقدمة الثالثة

الحجر الأساسي في هذه المقدمة ان زمن التكليف لا يجب أن يكون متقدما على زمن الامتثال والإتيان بالمأمور به ، بل يجوز أن يكون زمن الاثنين واحدا كالصوم ووجوبه عند مطلع الفجر. أجل ، لا بد من سبق العلم بالتكليف على طاعته بحكم البديهة ، وأيضا التكليف متقدم في الرتبة على الفعل المكلف به.

وبهذا ينحل إشكال من أشكل على الترتب بأن المكلف ، وهو يؤدي الواجب

١٢٠