علم أصول الفقه في ثوب الجديد

محمّد جواد مغنية

علم أصول الفقه في ثوب الجديد

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التيار الجديد
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٥٦

١
٢

٣
٤

مقدمة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على محمد وآله الطاهرين.

لا قائد كالتوفيق

للتوفيق معان ، منها المصادفة ، ومنها السداد والنجاح ، ومرادي هنا من التوفيق الموافقة من الله سبحانه على ما طلبت وسألت أن يمدني بعونه لإتمام هذا الكتاب كما أعانني على غيره مما كتبت ونشرت ، فوافق ، جلت حكمته ، واستجاب ولكن بشرطه وشروطه من الاتكال عليه وحده ، وبذل غاية الجهد ، والصبر والثبات مع رعاية سائر الأسباب.

وروي أن التلاميذ سألوا يوما استاذهم : هل لديك وصف للنجاح؟ فقال : أجل ، الذكاء والطاقة ، وانصراف التلميذ بكل كيانه الى الدرس. ولك أن تطبق هذه القاعدة على كل من يريد النجاح في عمل من أعماله. وفي مكتبتي قطعة فنية ، وفيها حكمة غالية ، كتبها بوصية مني متفوق في الخط ، أقرأها في كل لحظة ، وأنا أبحث وأفكر وأكتب ، وهذه عظتها : «الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما».

٥

فقه الإمام

في أول المقدمة لكتاب فقه الإمام جعفر الصادق (ع) بينت بأوضح عبارة وأطولها أن الهدف منه هو مجرد التيسير والتسهيل على من يجهل هذا الكنز الثمين ، ويرغب في معرفته ، ولا يجد اليها سبيلا ، لأن المراجع الأصيلة في هذا العلم تفتقر الى مترجم عملاق في حل الألغاز والطلاسم ، وكتاب «فقه الإمام» حطّم هذا الطلسم ، وكشف ستره وأمره ، وأي كتاب لا يأتي بجديد مفيد ، أو يذلل الصعب القديم فمآله النسيان والهجران.

وحدثني أمين في قوله وفعله أنه حضر مجلسا أثنى فيه عبد من عباد الله على كتاب «فقه الإمام» بقصد التقرب الى الله. فقال شيخ خادش كان مع الحاضرين : وما ذا فيه غير الترديد لما قال الفقهاء؟ نطق الشيخ بهذا وهو يعلم أن السلف كصاحب الجواهر والحدائق والمسالك وغيرهم كثير قد ألفوا في الفقه وكرروا ورددوا ما مضى القول فيه من السابقين الأولين ، لأن طبيعة الموضوع تضطرهم الى ذلك.

وليس من شك اني لو جئت بما لا يعرفه أحد من الفقهاء لطار الشيخ فرحا وقال : تعالوا وانظروا يا ناس ما فعل مغنية! لقد أحيا البدع ، وأمات السنن! نظرة واحدة الى دفاتر (دار العلم للملايين) يعرف الناظر الى أين بلغ هذا الكتاب من النجاح والرواج. طلبته الجامعات في أمريكا وأوروبا ، واشتراه المستشرقون والمحامون والقضاة وغيرهم من شتى الفئات ، ولكن جناب الشيخ الخادش لا يهمه أن ينتشر فقه أهل البيت (ع) ويروج علم الإمام الصادق ، وكل همه واهتمامه أن لا يذكر بخير سواه! عافاه الله وشافاه ، وسامحني وإياه.

أجل ، لقد احتكمت في الفقه وأصوله الى ما احتكم اليه الأئمة والأقطاب من الأولين والآخرين ، الى كتاب الله وسنة نبيه الكريم وما يرجع اليهما ، فإن كان عند الشيخ ما وراء ذلك من شيء فليدلنا عليه!

وبعد ، فإن كان شيء يسوغ نسبته إليّ فهو تطوير الأسلوب وأداء الفقه في ثوب جديد يفي بكل متطلبات القارئ المعاصر ، وحتى الآن يتوحد كتابي ويتفرد في هذا الباب. والفضل لمن يخص بفضله من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم.

٦

هذا الكتاب

أما الغاية من كتابي هذا فهي نفس الغاية من كتاب فقه الإمام : البساطة والتيسير وتمهيد الطريق الواضح أمام الطالب والراغب ، لا الظهور أو الإظهار بالتبحر والتعمق ، على انه يبرز أعمق الأفكار وأشدها صعوبة ، بل ويناقشها أيضا بأسهل عبارة وأيسرها على الأفهام.

إن أكثر من ألّف في علم الأصول كتب وألّف للأستاذ والعالم لا للطالب والمثقف والمتعلم ، وفوق ذلك فإن الكثير منهم كانوا يتصورون ويسجلون على الورق كل ما يمر بخيالهم حتى اللمعة البارقة واللحظة الخاطفة ، وحتى لو كان بينها وبين الفقه واستنباطه بعد المشرقين ... ولا شيء أوسع من الخيال ، وأيضا لا شيء أكثر من أخطائه.

وحاولت ما أمكن أن أقتصر على ما يصدق عليه اسم أصول الفقه وكفى ، ولا أتجاوز هذا الحد إلا بقصد تفهيم الطالب لأهم ما تعرض له الأصوليون ، ولا يعذر في جهله ، وجعلت نصب عيني قوله تعالى : («وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ـ ١٩٠ البقرة» وان انحرفت لغير ذلك فعن غير قصد ، بل بحكم الجو والتربية المدرسية والمشاركة في المهنة .. وأيضا من جملة ما حاولت أن يكون أسلوب هذه الصفحات مثالا يحتذيه أستاذ الأصول على مثال الأستاذ المعاصر كما يفتح مضمونها أمام التلميذ باب الفهم لآراء الأقطاب وعباراتهم المطلسمة.

الاستاذ المعاصر

ولست أعني بالأستاذ المعاصر من يحمل شهادة عليا في التربية والتعليم ، كلا وانما أردت من يحكي للطالب ـ قبل أن يفتح الكتاب ـ ويروي له قصة ما سيلقيه عليه ، ويبين موضوعه وحدوده وما يهدف اليه ، ويحاول جاهدا أن يدخل الطالب في جو الدرس وما يدور حوله من نقاط ومحتويات قبل أن يأخذ بالفروع والتفاصيل.

أما أن يفتتح البيان «بأن قلت قلت» ويفرغ كل ما لديه من كلمات وتصورات

٧

قيل أن يطرح الفكرة بوضوح ، أو قبل أن يعرف الطالب ما ذا قيل ويقال ـ أما هذا الأسلوب الخانق فتتلاشى معه رغبة التلميذ وتتبخر مع الريح ، ويرى الدرس جحيما ، وييأس منه ومن فهمه.

يقرأ الطالب النجفي أو القمي من علم الأصول كتاب : المعالم ، والكفاية ، والكتاب المعروف (بالرسائل) ، ويمضي في ذلك سنوات خمسا أو أكثر أو أدنى من ذلك ، وتنعكس في مخيلته بعض الصور عن أصول الفقه. وقد يترك الدرس لسبب أو لآخر ، فتذهب تلك الصور مع الأيام اذا لم يتابع المطالعة والمراجعة. ولو كان قد أتيح له أستاذ معاصر بالمعنى المراد طوال المدة التي قضاها مع الكتب الثلاثة لاختزن عقله الكثير مما استمع اليه وانتفع به من قبل. (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

اقرأ على مهل

وأكثر ما في هذه الصفحات من وحي ما قرأته في الكتب الصعبة وهوامشها ، لا من وحي ما سمعت وكفى .. قرأت الكثير الكثير ، وأنا مدين بكل ما كتبت ونشرت لكل من قرأت حتى لأهل الطلاسم والألغاز ، وكنت وما زلت اذا صادفتني كلمة مطلسمة وعبارة مظلمة أصبر عليها صبر العاشق الولهان .. ولا أفر منها ، ولا استسلم لوصيدها وتعقيدها ، وإذا لم أبلغ منها ما أريد تركتها يوما أو بعض يوم ، ثم أسرع الكرّة عليها المرة تلو المرة حتى أفهم ، ومتى فهمت سخرت من نفسي كيف تبلدت مع أن العبارة لم تكن صعبة كما كنت أتصور!

وأخيرا تعلمت من تجربتي أن ما من أحد يتعمد الفهم والعلم إلا ويأخذ منه بطرف. قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : من طلب شيئا ناله أو بعضه. ونصيحتي لكل قارئ وطالب أن يقرأ على مهل ، ولا يتعجل النهاية ، وأن يصبر ولا ييأس وان طال به الأمد. وهذا أول درس في طريق النجاح.

العبرة بالكيف لا بالكم

ربما يقول قائل بنية صالحة أو طالحة : لو كان الكتاب أضخم لكان أعز وأكرم.

٨

وجوابي أن العبرة بالكيف لا بالكم ، وبعدد القراء المنتفعين لا بتكثير الصفحات وأرقامها ، وكل كتاب غير مقروء فهو والمدفون بمنزلة سواء حتى ولو كانت كلماته آيات تهدي للتي هي أقوم. وفي طاقتي أن ألخص وأوضح كل ما في القوانين والفصول وتقريرات الانصاري والنائيني وحاشية التقي ، وكل ما جاء في المستصفى وفواتح الرحموت وجامع الجوامع وشروحه والتحرير وكشف الأسرار الذي يشبه في طوله وعرضه الغدير والبحار ... الى غير ذلك من المجلدات والأسفار.

ولكن من يقرأ؟ وإذا وجد قارئ فأية جدوى من قراءة ما لا رابط بينه وبين الفقه والعلم ولو بمقدار حبة خردل.

ثم أنا بدوري أسأل هذا القائل : هل تعرف الآن لهذه الكتب الضخام من قراء؟ وكم هو عددهم؟ وهل أنت أحدهم؟ ان كتابي هذا يتشوق كثيرا إلى القراء من كل صنف ، وبالخصوص أولادنا وشبابنا الذين ستكون لهم الكلمة الأولى في الدين غدا أو بعد غد ، وأتمنى أن يشتاقوا لكتابي كما يشتاق اليهم ، وهل من سبيل الى التشويق والترغيب سوى التركيز والوضوح والاختصار؟

أنا أعرف الشباب ومقدار رغبتهم في المطالعة والمراجعة ، وأعرف أن الكثير منهم يكتفي من الكتاب بتقليب صفحاته دون أن يقرأ ويتأمل ، ثم يلقيه جانبا ، أنا أعرف ذلك ، وتعلمت من معرفتي كيف أحتال لتشويقهم الى قراءة ما أكتب ... انهم يريدون فكرة صافية ، ولغة واضحة ، وسرعة نافعة ، لأنهم يضنّون بالجهد والوقت ، فألقيت الحجة عليهم بمنطقهم ، بهذا المختصر الواضح النافع ان شاء الله.

أجل ، انه لواضح ـ كما هو في ظني وتصوري ـ ولكني تعلمت من تجربتي الطويلة الدائبة أن طريق العلم ، أي علم ، صعب بطبيعته تماما كالجهاد في ميدان القتال ، وان صعوبته لا تهون أو تتحطم إلا على صخرة الصبر والجلد ، وانه لا فرق في ذلك بين علم وعلم سوى أن هذا صعب وذاك أصعب ، ولكن يبقى للأسلوب أثره البالغ في التقريب والتمهيد ، وقد تدعو الحاجة وتلح على التيسير والتسهيل ، وعندئذ يتحول الشكل والأسلوب من الوسيلة الى هذه الغاية ، وهي القصد الأول من كل ما كتبت وألّفت في الفقه وأصوله.

وله الحمد والشكر على ما أنعم ، وهو سبحانه المسئول أن يزيدني مما هو أهله. والصلاة على محمد وأهل بيته الطاهرين.

٩
١٠

مباحث الألفاظ

١١
١٢

أصول الفقه

بين الفقه وأصوله

إذا قلنا : الصلاة واجبة ، فهذه قضية فقهية ، موضوعها الصلاة المعروفة ، ومحمولها حكم شرعي هو الوجوب ، ودليله قول الشارع : أقيموا الصلاة. وإذا قلنا : الأمر يدل على الوجوب ، فهذه قضية أصولية ، موضوعها الأمر المقابل للنهي ، ومحمولها الدلالة على الوجوب ، وطريق العلم بهذه الدلالة تبادر أهل العرف ، ومعنى التبادر سبق المعنى من اللفظ الى الفهم تلقائيا وبلا قرينة. وتفترق القضية الفقهية عن القضية الاصولية من وجوه :

١ ـ ان القضية الأصولية متقدمة على القضية الفقهية تقدم الدالّ على المدلول ، والأصل على الفرع حيث نقول : الشارع أمر بالصلاة ، والأمر يقتضي الوجوب ، فالصلاة واجبة.

٢ ـ ان القضية الفقهية الفرعية يشترك في العمل بها المجتهد والمقلد ، لأن فعل الواجب وترك المحرم لا يختص بفئة دون فئة أو فرد دون فرد ، أما القضية الأصولية فهي من اختصاص المجتهد وحده ، لأنه أهل وكفؤ لمعرفة الدليل ووجه دلالته على الحكم الشرعي.

٣ ـ ان القضية الاصولية تعم وتشمل كلّ أو جلّ أبواب الفقه. أما القضية الفقهية فتختص بباب واحد منه ـ مثلا ـ أكل لحم الميتة حرام قضية فقهية تختص بباب الأطعمة. والنهي يدل على الحرمة قضية أصولية تجري في كل أبواب الفقه. وبكلام آخر ان الاصولي ينظر الى دلالة النهي أو الأمر بصرف النظر عما

١٣

يتعدى اليه الأمر ويتعلق به تماما كالمهندس حين يتكلم عن المربع من حيث هو ذهبا كان أم خشبا. أما الفقيه فإنه ينظر الى ما تعدى اليه الأمر وتعلق به ، ويفتي بموجبه تماما كعالم الطبيعة ، ومن هنا قيل : ان نتيجة القضية الاصولية كلية ، ونتيجة القاعدة الفقهية جزئية.

الموضوع

تكلم المولعون بنقل الخلاف ، وأطالوا الكلام حول موضوع علم الأصول : هل هو الأدلة الأربعة : الكتاب والسنة والإجماع والعقل بما هي أدلة ، أو بما هي هي بصرف النظر عن وصف الدلالة ، أو «لا موضوع لعلم الأصول واقعا» على حد تعبير الشيخ الفياض المقرر لدرس السيد الخوئي ، أو «لا لزوم للموضوع ولا دليل عليه» كما في أصول المظفر. وقام جدال حام حول هذه الأقوال ولم يقعد! وليس هذا الأسلوب من مذهبي في شيء.

والذي أفهمه ببساطة ان موضوع كل علم هو عين المسائل التي يبحثها ذلك العلم كباب المبتدأ أو الخبر ونحوه في علم النحو ، ومبحث التصورات والتصديقات والقياس في علم المنطق. وعليه فكل بحث يتصل بمبدإ من مبادئ الاستنباط لحكم من أحكام الشريعة فهو من مسائل علم الأصول وموضوعه في الصميم.

وقد يقع البحث في علم الأصول في شكل الاستنباط من الأصل وعمليته ، لا في اعتباره وكونه حجة لازمة ، لأن اعتباره وحجته ثبتت بضرورة الدين. ومن البديهي ان الضرورات لا يبحث العلم عنها ، ومن هذا النوع الذي ثبتت حجته بضرورة الدين ، الأصول الأربعة : الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

وقد يقع البحث في ان هذا الشيء : هل هو أصل من أصول الفقه يتوصل به الى معرفة الحلال والحرام ، أو ليس بأصل؟ كالبحث عن حجية خبر الواحد والقياس والشهرة والإجماع المنقول والاستصحاب والبراءة وغير ذلك. والحق ان البحث في هذا النوع يرجع أيضا الى البحث عن شئون الأصول الأربعة وما يستفاد منها ، لأن قولنا : هل خبر الواحد أو القياس حجة ـ مثلا ـ معناه هل يوجد دليل من الكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع أو العقل ، على ان القياس أو خبر الواحد أصل من أصول الفقه حيث لا دليل هنا إطلاقا وراء هذه الأصول الأربعة؟

١٤

وتسأل : لقد رأينا العلماء يطيلون الكلام عن عوارض الموضوع وتقسيمها ، وعن الواسطات وأنواعها ، فهل من ضرورة لذلك في القدرة على الاستنباط؟

الجواب :

أما بالنسبة إليّ فقد مارست الفقه وأصوله أمدا غير قصير درسا وتدريسا ومذاكرة وكتابة ، وما تصورت على الاطلاق الواسطة في العروض وغيرها. أما بالنسبة الى غيري فهو أدرى.

التعريف

الأصول جمع أصل ، وأصل الشيء في اللغة أساسه القائم عليه ، وهذا المعنى بالذات هو المراد بأصول الفقه ، وإذن فلا نقل ولا مجاز في كلمة الأصول هنا. وقالوا في تعريف علم الأصول : إنه علم بالقواعد التي يتوصل بها الى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها ، فالأمر يدل على الوجوب قاعدة أصولية ، فإذا تعلق بالصلاة مثلا جعلناه قاعدة صغرى في الدليل ، والقاعدة الأصولية كبرى وقلنا : أقيموا الصلاة أمر ، وكل أمر يقتضي الوجوب ، ينتج ان الصلاة واجبة.

الغاية

وبالتالي نستخلص من هذا التعريف ان كل مسألة لا ينبني عليها حكم شرعي فرعي مباشرة وبلا واسطة فهي دخيلة على علم الأصول وغريبة عنه. وقد وضح مما قدمناه في فقرة «الموضوع والتعريف» أن الغاية من علم الأصول استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها. والأحكام الشرعية نوعان : منها تكليفية ، وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة ، ومنها وضعية مثل الصحة والفساد ، ويأتي التفصيل.

وليس من شك أن من تمكن من علم الأصول فهو كامل العدة والآلة لاستخراج الحكم الشرعي من دليله ، ويستطيع الدفاع عن رأيه بمنطق الحق والعلم. وهذا هو عين الاجتهاد. وبذلك يتبين معنا انه لا مجتهد بلا علم بأصول الفقه ، ولا

١٥

عالم بأصول الفقه بلا ملكة الاستنباط. وأيضا يتبين معنا ان معرفة الفروع دون الأصول ليست من علم الفقه في شيء حيث اتفق العلماء قولا واحدا على أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية ، ومعنى هذا أن كل فقيه مجتهد ، وكل مجتهد فقيه ولو بالملكة ، وان غير المجتهد ليس بفقيه.

متمم الجعل

لكل شريعة نصوص حيث لا شرع بلا نص ، بل الشرع بيان في معناه ومحتواه.

فإذا عرضت للفقيه واقعة يجهل حكمها وجب عليه عقلا وشرعا أن يستفرغ كل وسعه طلبا للنص على حكمها ، ويبذل كل جهده بحثا عنه في مظان وجوده ، ومتى اهتدى اليه حكم بموجبه. وهنا سؤال يطرح نفسه ، وهو إذا بحث الفقيه عن النص حتى شعر بالعجز واليأس من العثور عليه فما ذا يصنع؟.

الجواب :

هناك أصول عقلية وشرعية يلجأ اليها الفقيه ويعمل بموجبها حين يعوزه النص على الواقعة المبتلى بها بحيث يأتي العمل بهذه الأصول في مرتبة متأخرة عن النص على الواقعة.

وإليك التوضيح :

بعد أن يضع الشارع النصوص لأحكام الحوادث الواقعة والمتوقعة في حسبانه ، بعد هذا ينص على وظيفة الفقيه الذي لا يجد نصا على الواقعة التي بين يديه مثل قول الشارع : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي (١). وهذا أصل شرعي لوجود النص عليه من الشارع.

ومن الأصول العقلية التي يلجأ اليها الفقيه عند عدم النص ـ أصل الاحتياط ، وذلك فيما لو علم بوجود التكليف الملزم ، وشك في امتثاله والخروج عن عهدته. والتفصيل في القسم الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) وعلى هذا المبدأ الشرائع الوضعية. قال السنهوري في شرح القانون المدني : «نصت المادة الأولى على أنه إذا لم يوجد نص شرعي حكم القاضي بمقتضى العرف ، فاذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية ، فاذا لم توجد فبمقتضى مبدأ القانون الطبيعي وقواعد العدالة».

١٦

وتجدر الاشارة الى ان بعض العلماء يسمي النص على الواقعة الجعل الأولي ، أما النص على وظيفة الفقيه في مواطن حيرته فيسميه الجعل الثانوي ، وأيضا يسميه بمتمم الجعل ، لأن السكوت عن مثل هذا النص نقص في الشريعة.

وأيضا من متمم الجعل ، النص على نية التقرب الى الله في العبادة بعد النص على العبادة بالذات ، حيث لا يمكن بحال نية الطاعة لأمر الله تعالى إلا مع وجود الأمر ، ومعنى هذا انه لا بد في العبادة من أمرين : أمر بها ، وأمر بنية التقرب.

وأيضا من متمم الجعل ، السير للحج قبل أوان شعائره ، ووجوب الغسل على المستحاضة قبل الفجر من أجل الصوم. (انظر قول النائيني في تقريرات الخراساني ج ٣ ص ٤٠ و ١٢٣ طبعة سنة ١٣٥١ ه‍).

والقصد من الاشارة الى متمم الجعل هنا هو أولا : لاحظت ان أكثر طلاب الأصول أو الكثير منهم يجهلون الفرق بين الجعل الأولي والثانوي المتمم له حتى بعد فراغهم من دراسة الكفاية والرسائل مع ان مكان هذا الفرق في أول درس من دروس الأصول. ثانيا : ان معرفة الفرق بين الجعلين تلقي بعض الأضواء على الفقرة التالية ، وهي :

تقسيم الأصول الى لفظية وعملية

دأب علماء الشيعة على تقسيم أصول الفقه الى نوعين ، وأطلقوا على النوع الأول اسم (الأصول اللفظية) ، لأن أكثر مباحثه في تحديد دلالة الظاهر من اللفظ على معناه كصيغة الأمر والنهي ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمنطوق والمفهوم ، لأن لدلالة الألفاظ وظواهرها أثرا ملحوظا في تفسير النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها. وأيضا يبحث علماء الشيعة في الأصول اللفظية دلالة وجوب الشيء على وجوب مقدمته ، وعلى تحريم ضده ، وجواز اجتماع الأمر والنهي عقلا باعتبار ان الوجوب والتحريم يستنبطان في الغالب من الخطابات الشرعية. ويأتي التفصيل.

وأطلقوا على النوع الثاني اسم الأصول العملية ، لأن أهم مباحثه هي الأصول التي يطبق الفقيه عمله على مقتضاها عند عدم النص ، وقسموا هذه الأصول إلى قسمين : شرعية كأصل الإباحة ، والاستصحاب على قول ، وعقلية كأصل الاحتياط والتخيير.

١٧

طرق المعرفة الى الحقائق الأصولية

إذا كان علم الأصول هو طريق المعرفة بالمسائل الفقهية ، فما هو الطريق الى معرفة الحقائق الأصولية؟.

ويعرف الجواب عن هذا السؤال بالرجوع الى كتب أصول الفقه والنظر الى الأدلة والوسائل التي اعتمد عليها علماء هذا الفن لإثبات حقائقه ، كدلالة صيغة الأمر على الوجوب ، والنهي على التحريم ، وعدم الركون الى الظن إلا ما خرج بالدليل ، والأخذ بالاستصحاب والخبر الواحد ، والعمل بأصل الإباحة ، وأصل الاحتياط .. إلى غير ذلك.

وقد رأيناهم يعتمدون في إثبات الحقائق الأصولية على الكتاب والسنّة المتواترة والخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعية ، والعقل القاطع والإجماع الكامل ، وعلى تبادر أهل العرف إذا لم تغلبه الحقيقة الشرعية ، وعلى قول اللغوي عند كثيرين إذا لم يغلبه التبادر ، وعلى بناء العقلاء ، وسيرة المسلمين الملتزمين بأحكام الإسلام وشريعته. وعليه تكون هذه الوسائل التسع هي طرق المعرفة الى الحقائق الأصولية.

١٨

البيان

معناه

القرآن أصل الشريعة وأصولها ، وتليه السنة لقول المعصوم : «كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف». والى هذين الأصلين يرد غيرهما من الأصول. والقرآن بيان قال سبحانه : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً) ـ ١٣٨ آل عمران». والسنة بيان أيضا : («وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) ـ ٤٤ النحل».

ومعنى البيان واضح لا يحتاج الى بيان ، وان كان ولا بد فهو الفصاحة والدلالة الواضحة ، ويستعمل البيان في مجرد الظهور مثل بان الهلال أي ظهر وانكشف ، وأيضا يستعمل في الإظهار ، ومنه قوله تعالى : («ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ـ ١٩ القيامة» أي إظهاره على لسان محمد (ص). والبيان بمعنى إظهار المقصود هو المراد من نصوص الكتاب والسنة. وللبيان والتعبير ضروب وألوان كثيرة نذكر منها ما يلي :

البيان بالكلام

الكلام والفكر من خصائص الانسان ، أو من أبرز مظاهره ، وهما عنصران متفاعلان متكاملان ، بل قيل : التفكير مرادف للكلام. وقال آخر : إن الكلام لفي الفؤاد ، واللسان أداته. وأيا كان فإن الكلام يجري فيه التقسيم الى الحقيقة والمجاز ، والصحيح والأعم ، والجامد والمشتق ، والاسم والفعل والحرف ، والمترادف والمتباين ، والمتواطئ والمشترك ، وصيغة النهي والأمر ، ودلالة هذا على المرة أو التكرار ، والتراخي أو الفور ، أو لا ذا ولا ذاك إلا مع القرينة ،

١٩

وأيضا يجري في الكلام التقسيم الى العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمنطوق والمفهوم ، والمفصّل والمجمل ... الى غير ذلك من مباحث الألفاظ. وبيان القرآن مختص بالكلام فقط.

ولمناسبة ذكر المفصل نشير الى أن له قسمين : نصا ، وهو لا يقبل احتمال الخلاف ، وظاهرا ، وهو يقبل احتمال الخلاف ، أما المحكم والمبين فهما مرادفان للمفصل. وسنعود الى الموضوع ثانية إن شاء الله.

البيان بالفعل

ويكون البيان بالفعل كالركوب في سيارة الأجرة ، والجلوس على كرسي المزين ، والى مائدة المطعم ، وأخذ السلعة المكتوب عليها ثمنها ودفعه كاملا للبائع.

واتفق المسلمون قولا واحدا على أن السنّة النبوية هي قول النبي وفعله وتقريره أي أن الثاني والثالث كالأول في إفادة الأحكام على التفصيل الآتي. وهنا سؤال لا بد وأن يطرح ، وهو هل فعل النبي بيان للواجب أو للمندوب أو للمباح وعدم الحظر؟ والجواب ليس للفعل صيغة تدل على الوجوب أو على غيره من الأحكام سواء أصدر عن المعصوم أم عن غير المعصوم ، وإنما يختلف نوع الفعل تبعا للوجوه والاعتبارات ، أجل إن فعل المعصوم قد يكون بيانا للحكم الشرعي ، وقد لا يكون. وإليك التفصيل :

١ ـ أن يفعل النبي كإنسان لا كمبلغ للوحي كالأكل والمشي في الأسواق. وهذا النوع ليس من السنّة وبيان الشريعة في شيء.

٢ ـ أن يفعل ما نعلم أنه من خصائصه دون أمته كالزواج الدائم بأكثر من أربع. وهذا ليس شرعا لنا كي نستن به.

٣ ـ أن يفعل ونحن نعلم أنه يهدف من جملة ما يهدف من فعله هذا الى بيان واجب مجمل نجهل كيفيته وشروطه وأجزاءه كالصلاة ، والحج ، فيصلي الفريضة ، ويؤدي المناسك ويقول : «صلّوا كما رأيتموني أصلي. خذوا عني مناسككم». وليس من شك ان هذا النوع شرع وسنّة على الوجوب في حق الجميع. وكذلك لو علمنا بوجه الندب كالدعاء عند رؤية الهلال ، وجلسة الاستراحة بعد السجدة الثانية وقبل القيام للركعة التالية. وبكلمة ان فعل النبي يدل على الوجوب إن كان تفسيرا لواجب ، وعلى الندب ان كان تفسير لمندوب.

٢٠