مجمع الفرائد في الأصول

الشيخ علي فريدة الإسلام الكاشاني

مجمع الفرائد في الأصول

المؤلف:

الشيخ علي فريدة الإسلام الكاشاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٧

عدم بلوغه قدر كر وأما تنجسه بكل شيء فهو محتاج إلى دليل يثبته غير ظهور الحديث وانحلال الحكم المذكور في المنطوق إلى أحكام تفصيلية بعدد موضوعه متعلق كل واحد منها على وجود الشرط غير مسلم هنا ولو قلنا بالانحلال في موقعه فإن الاستغراق في حكم المنطوق إنما يكون بقرينة وقوع النكرة في سياق النفي من غير احتياج إلى القول بالانحلال بل ليس هنا من باب الانحلال في شيء كما يظهر بأدنى التفات فوجود الاستغراق في حكم المفهوم أيضا محتاج إلى دليل عليه من وضع أو قرينة ومن المعلوم عدمه وبالجملة فلا ينبغي الريب في أن أهل العرف لا يحكمون بكلية الحكم في طرف المفهوم ولا يستظهرون ذلك من المنطوق أصلا وهل يكون المستفاد من مثل إذا كان معك فلان فلا تخف أحدا وجود الخوف من كل شخص عند عدم وجود الفلاني لا سبيل إلى دعوى ذلك قطعا وبزعمي من تأمل في ذلك يقطع بما ذكرنا ولو قيل بالانحلال كيف وقد استشكلنا عليه في محله مشروحا

(الثالث) إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فعلى القول بظهور الجملة الشرطية في المفهوم لا بد من ارتكاب أحد أمور إما تقيد الشرط في كل من القضيتين بوجود الآخر بنحو العطف بالواو ليكون الشرط في الحقيقة مجموع الأمرين فينتفي الحكم بانتفاء أحدهما أو تخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر والالتزام بأن الشرط والمؤثر في الحقيقة هو الجامع الموجود في كل من الشرطين أو تقييد منطوق كل منهما بإثبات العدل له بنحو العطف بأو فيكون الشرط في المفهوم عدم أحدهما كما كان الشرط في المنطوق وجود أحدهما أو رفع اليد عن كلا المفهومين رأسا (ولا يخفى ما في الوجه) الثاني من الإشكال من جهة أن المفهوم يتبع ظهور المنطوق فهو في الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص يكون ملحوظا تبعا فلا يمكن التصرف في نفسه استقلالا ومع عدم التصرف

٤١

فيه يرجع إلى الوجه الرابع كما لا يخفى وكذا الوجه الخامس لما فيه من رفع اليد عن كلا الظهورين بلا وجه يوجبه (وأما الوجه الثالث) فمع عدم صحته في نفسه من عدم مساعدة نظر العرف له وبعد حمل الروايات على مثل ذلك من الدقائق الفلسفية لا يتم فيما إذا لم يكن جامع بين الشرطين وعلى ذلك فالباقي من الوجوه هو الوجه الأول والرابع ولكن يرد على الوجه الرابع بنظري القاصر إشكال وهو أن اثنينية القضية الشرطية الظاهرة في التعليق على القول بأنها ذات مفهوم لا تكون إلا مع تعدد المعلق عليه واثنينيته لوضوح أن تعدد التعليق لا يجتمع مع وحدة المعلق عليه ومن المعلوم أن الشرط إذا كان متقيدا بالتردد بينه وبين عدله بنحو العطف بأو لا يكون المعلق عليه بنظر العرف والعقل إلا أحد الأمرين لا كل منهما كما هو لازم تعدد القضية الشرطية واثنينية التعليق وبالجملة فكون المعلق عليه هو أحدهما لا يصح إلا مع وحدة القضية الشرطية لا تعددها كما هو المفروض في محل البحث وليت شعري وهل يحكم العرف فيما إذا تعدد التعليق المنكشف تعدده بتعدد الكاشف الذي هو نفس القضية الشرطية بأن المعلق عليه هو أحد الأمرين المذكورين في القضيتين فلاحظ ما إذا علق المولى إكرام زيد في قضية بمجيئه وعلقه في أخرى بشيء آخر مثل إكرامه العبد فهل يحكم العرف بوجوب الإكرام عند تحقق أحد الأمرين ولو كان المعلق عليه هو ذلك فتعدد التعليق لما ذا هل لا يشك أحد في أن الشرط إنما هو كل منهما ولذا لو كان الحكم المستفاد من قضية مختلفا مع الحكم المستفاد من أخرى يحكم بتعدد الشرط بلا إشكال نعم حيث كان كلتا القضيتين بصدد بيان حكم واحد كما هو المفروض في المقام فيما إن تعلقه على آخر ولا يمكن أن يكون الحكم الواحد معلقا على أمرين مختلفين يحكم العرف بأن المعلق عليه إنما هو مجموع الأمرين

٤٢

وملخص الكلام أن المعلق عليه إذا كان هو أحد الأمرين فلا محالة ينافيه ظهور كل من القضيتين بخلاف ما إذا كان مجموعهما فإنه لا ينافيه إلا إطلاقه وهو إنما يكون مع تمامية مقدماته التي منها عدم وجود القرينة على الخلاف وهي هنا موجودة حيث إن كلا من القضيتين قرينة على أن المعلق عليه في الآخر إنما هو الشرط المذكور فيه مقيدا باجتماعه مع صاحبه وبالجملة فلا ينبغي الريب في أن مقتضى الجمع بين القضيتين الواردتين في مقام التعليق بنظر العرف هو ذلك فلا يحكمون بوجود الجزاء إلا مع اجتماع كلا الشرطين وتحققهما نعم إذا كانت القضية واردة في مقام بيان صرف الملازمة فبتعددها يحكمون بوجود الجزاء عند تحقق كل من الشرطين من غير وجود تناف بين القضيتين كما تقدم الكلام في ذلك آنفا لكنه غير ما هو محل الكلام هنا ثم «لو أغمض عن جميع» ما ذكرنا فلا أقل من احتمال أن يكون الجمع بينهما بهذا النحو وحيث لا وجه لتقدم الجمع بينهما بنحو الوجه الرابع على هذا الوجه وليس للجملة ظهور في الوجه الرابع بنظر العرف ولا بد من الاحتياط بالحكم بترتب الجزاء عند إحراز تحقق كلا الشرطين فيكون في النتيجة مثل الوجه الأول فلا تغفل وتأمل

(الرابع) إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء وقلنا بأن كل شرط مستقل في ترتب الجزاء عليه أو ثبت من دليل خارجي ذلك فهل القاعدة تقتضي تداخل الشروط في التأثير فيكون أثرها واحدا أو تقتضي تأثير كل منها أثرا مستقلا وإن شئت عبر عن ذلك بتداخل الأسباب وعدمه ثم بعد الفراغ عن هذا النزاع والقول بعدم تداخل الشروط يبقى في البين نزاع آخر وهو أن القاعدة هل تقتضي جواز امتثال جميع التكاليف التي كل منها أثر لشرط مستقل بفعل واحد أو لا يجوز ذلك بل لا بد من امتثال كل تكليف بفعل غير ما يمتثل به تكليف شرط غيره

٤٣

وقد عبر عن ذلك بتداخل المسببات وعدمه فهنا مقامان (أما المقام) الأول فالتحقيق فيه يقتضي القول بالتداخل. (١)

«فصل في مفهوم الوصف»

وقبل الخوض في البحث فيه يذكر (أمران)

الأول : أن النزاع إنما هو في الوصف المعتمد على الموصوف وأما الوصف الغير المعتمد فلا وجه لدلالته على المفهوم نظير اللقب فإن إثبات حكم الموضوع لا يدل على نفيه عن غيره سواء كان الموضوع جامدا أو مشتقا ولا فرق بينهما إلا في جعلية المبدإ في الأول دون الثاني ومن المعلوم أن مجرد الجامدية والاشتقاق لا يوجب الفرق فيما هو المهم هنا

الثاني : لا ريب في جريان النزاع فيما إذا كان الوصف أخص من موصوفه أو كان أعم منه من وجه وكان الافتراق من جانب الموصوف وأما إذا كان الافتراق من جانب الوصف أو من جانبيهما معا فلا وجه للنزاع فيه أصلا فإن النزاع في الدلالة على المفهوم وعدمهما إنما يصح فيما إذا كان موضوع الحكم باقيا مع انعدام وصفه وقيده فيقال إن الحكم حيث إن ثبوته لموضوعه مقيدا بالوصف هل يدل على انتفائه عند انتفاء قيده أو لا وأما إذا كان الموضوع متعديا كما في هذين الموردين فلا إشكال في انعدامه بداهة انعدام الحكم بانعدام موضوعه فمثل قوله عليه‌السلام في الغنم السائمة زكاة لا يدل على عدم وجوبها في الإبل السائمة ولا عليه في الإبل المعلوفة بلا إشكال إلا إذا استفيد من الخارج عليه السوم لوجوب الزكاة مطلقا وأن الحكم يدور مداره ولكن ذلك ليس من دلالة مفهوم الوصف في شيء كما لا يخفى ومما ذكرنا انقدح جريان النزاع فيما كان الوصف أعم من الموصوف أو مساويا معه أيضا (إذا عرفت هذين الأمرين فالحق عدم دلالة) تقييد الموضوع بالوصف على المفهوم أصلا لا وضعا ولا من جهة قرينة عامة أما عدم دلالته عليه وضعا فواضح إذ لو دل عليه للزم المجازية فيما لم يكن له

__________________

(١) لا يخفى عليك أني لم أجد في جزواته تفصيل المقام الأول والثاني وسألحقه في آخر الكتاب إن شاء الله

٤٤

مفهوم ومن المعلوم ضرورة خلافه وأما عدم دلالته إطلاقا فلأجل أن الدلالة على المفهوم كذلك إنما يكون فيما إذا كان القيد راجعا إلى الحكم وكان الحكم مقيدا به فيقال لو لا انتفاء الحكم بانتفائه لما صح تقييده به فإن تقيد شيء بشيء يستدعي انعدامه بانعدامه وأما إذا لم يكن الحكم مقيدا وكان القيد راجعا إلى موضوع الحكم أو متعلقه فهو لا يقتضي أزيد من تضييق موضوع شخص الحكم مثل أن يعبر عن هذا الضيق بلفظ مفرد فكما أن المستفاد من قضية جئني بعالم ليس إلا تخصص موضوع الحكم بخصوصية العالمية من غير أن يكون في البين حكم سلبي يكون موضوعه غير العالم من الرجال فكذلك قضية جئني برجل عالم فإن ثبوت حكم لموضوع خاص مضيق لا يستلزم نفيه عن غيره فلاحظ العرف فهل يفهمون من جملة أكرم الرجل العالم أن سنخ وجوب الإكرام لم يجعل لغيره من الرجال المتصفين بصفات أخر مثل الزاهد والمتقي وغيرهما لا أظنك أن تتخيل ذلك كما لا يتخيل دلالة اللقب واللفظ المفرد عليه نعم غاية ما يستفاد من هذه الجملة اختصاص ما تتضمنه من الطلب والبعث الفعليين بالعالم وعدم شموله لغيره من الرجال وبزعمي ذلك واضح ثم إن هنا إشكالات قد ذكرها القائلون بالمفهوم ومنشأ جميعها الخلط بين شخص الحكم وسنخه المبحوث عنه في المقام فلا مجال لذكرها بعد وضوح ما فيها من الإشكال والكلام.

(فصل) في مفهوم الغاية وفيه بحثان

الأول : في دخول الغاية في المعنى وخروجها عنه والحق في ذلك خروجها فإن الظاهر من جعل شيء غاية هو أن أول وجودها نهاية للمعنى أو حد له فينتفي المحدود ببلوغه ولو كانت داخلة فيه لما كانت غاية ونهاية له بل تكون لا محالة من أجزائه ويكون الحد والغاية ما يقع بعدها وبالجملة فجعل شيء غاية لشيء مع دخوله فيه خلاف الظاهر وبزعمي أنه يتضح ذلك بالمراجعة إلى الاستعمالات

٤٥

العرفية

الثاني : أنها هل تدل على انتفاء الحكم عما بعدها أو لا «والتحقيق» فيه أن الغاية قد تكون غاية للمطلوب أو لموضوعه فيكون المطلوب أو موضوعه ممتدا من زمان إلى زمان فالغاية حينئذ تكون مثل الوصف مشخصة لمغياه سواء كان المعنى معلقا للحكم أو موضوعا فبانتفائها ينتفي موضوع الحكم الموجب انتفاؤه لانتفاء شخص الحكم وقد عرفت أن انتفاء شخص الحكم ليس من باب المفهوم في شيء ففي مثل صم إلى الليل إذا كانت الغاية للمتعلق إنما يؤتى بالغاية لأجل تشخص الإمساك المطلوب ولبيان أن متعلق البعث الفعلي هو الإمساك الممتد إلى الليل لا طبيعة الإمساك كيف ما اتفقت وقد تكون غاية للحكم والبعث في هذا القسم يكون ممتدا إلى زمان تحقق الغاية لا محالة ففي المثال المزبور إذا كانت الغاية غاية للحكم يكون الطلب ممتدا إلى الليل ويكون المطلوب هو طبيعة الإمساك بما هي هي وحينئذ فينتفي الطلب ببلوغ غايته ويدل بالمفهوم على انتفاء الطلب عما بعدها وإلا يلزم أن لا يكون الغاية غاية كما هو واضح إلى النهاية هذا بحسب الثبوت وأما بحسب الإثبات فالإنصاف عدم وجود ضابط في البين ليتمزنه كل من القسمين بل لا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه ثم الحكم بما يقتضيه «وما يقال» من أن الطلب إن كان مستفادا من الهيئة فالغاية تكون غاية للمتعلق وإن كان مستفادا من المادة فمع ذكر المتعلق يكون كذلك وإلا فهي غاية للحكم أو الموضوع فمنقوض بمثل قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن وقوله فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض فإنه لا يصح فيهما أن يكون الغاية غاية للمتعلق إذ لا معنى لحرمة المقاربة الممتدة إلى الطهر وإباحة الأكل والشرب المنتهين إلى التبين بل لا بد فيهما من إرجاع الغاية إلى الحكم كما أن مع ذكر المتعلق أيضا قد تكون راجعا إليه لا إلى المتعلق كما يقال يجب الفعل الكذائي إلى زمان مجيء زيد مثلا وبالجملة فتعيين الضابط

٤٦

في المقام مما لا يمكننا تتمة ومما يدل على المفهوم دلالة واضحة كلمة إلا الاستثنائية فإنها موضوعة لربط المستثنى بالجملة الواقعة قبلها ولأجل ذلك يحصل للكلام خصوصية تستتبع اتصاف المستثنى بنقيض حكم المستثنى منه ووجه دلالته عليه التبادر القطعي الحاصل عند من له أدنى اطلاع بالقواعد العربية فضلا عمن هو من أهل اللسان «فانقدح» أنه لا حاجة إلى تكلف الاستدلال بأن كلمة لا إله إلا الله موضوعة للتوحيد ولو لا دلالتها على المفهوم لما كانت دالة عليه وإن كان أصل الاستدلال بذلك متينا جدا ودعوى أن دلالته عليه لعلها كان بالقرينة كدعوى كونها من باب التعبد باطلة قطعا وبعيدة لا يعتنى بها والإشكال على دلالة لفظها عليه بأن الخبر المقدر إما موجود وإما ممكن وعلى أي تقدير فلا يدل على التوحيد سخيف جدا فإن إمكان وجود الواجب يستلزم وجوده كما أن عدم إمكانه يستدعي امتناعه هذا مع أن تقدير الموجود ونفي وجود وجود الآلهة سواه تبارك وتعالى يكفي في كون الكلمة للتوحيد ونفي الشرك فافهم ثم لا يخفى أن دلالة مثل كلمة إنما على الحصر ليس من باب المفهوم كما يتراءى من بعض الكلمات بل هي بالوضع وتكون من الدلالات المنطوقية كما يظهر ذلك بأدنى تأمل

المقصد الرابع في العموم والخصوص

وقبل بيان الفصول التي لا بد من البحث فيها يقدم أمور

الأول : لا يخفى أن الدوال على العموم على أقسام فمنها ما يدل عليه بالوضع كلفظة كل وما يرادفه في سائر اللغات مثل همه وتمام وهو في اللغة الفارسية وكلفظة جميع وأجمع وأكتع وتوابعها ومهما وحيثما فإن هذه الألفاظ تدل بالوضع على عموم مدخولها واستغراقه سواء كان المدخول مطلقا أو مقيدا بقيد واحد أو بقيود كثيرة (والحق القوي في هذا القسم) عدم احتياجه إلى قرينة الحكمة في إفادته العموم فإن لفظة

٤٧

كل مثلا وضع لبيان استغراق مدخوله وبيان أنه مأخوذ لا بشرط من غير دخل لشيء من خصوصيات أفراده فيه فإذا قيل كل رجل كذا فلفظ كل يدل على أن موضوع الحكم هو هذه الطبيعة من دون دخل لخصوصية من خصوصيات أفراده فيه فإذا قيل كل رجل كذا فلفظ كل يدل على أن موضوع الحكم هو هذه الطبيعة من دون دخل لشيء من خصوصيات أنواعها فيه من العدالة والتقوى والفقاهة والعلم والغنى والفقر وغيرها فإذا دخل لفظة كل على طبيعة فهي تدل بالوضع على عدم اعتبار قيد في تلك الطبيعة المدخولة زائدا عما ذكر معها من القيود وعلى ذلك فهي بنفسها دليل على عدم اعتبار القيد وبيان له ودلالة قرينة الحكمة إنما هي من جهة عدم البيان وعدم وجود دليل يدل على اعتبار القيد فيها فكم من المرحلة بين دلالة المقام ودلالة قرينة الحكمة هذا وقد بينا في محله أن دليل الإطلاق إنما هو فعل المتكلم وقضيته أنه لم يبين قيدا في موضوع حكمه مع كونه في مقام البيان وهذا بخلاف ظهور مثل كل رجل فإن ظهوره في عدم اعتبار قيد في موضوع الحكم قولي ولذا يحتج العبد على مولاه هناك بظهور الفعل وعدم البيان وهنا بظهور القول وبيان العدم وبالجملة فهذه الألفاظ الموضوعة للعموم إذا دخل واحدة منها على طبيعة سواء كانت تلك الطبيعة مطلقة أو كانت مقيدة ولو بقيود كثيرة فقضية دلالتها الوضعية عدم اعتبار قيد في مدخولها سوى ما جيء به في اللفظ ولا نحتاج في إفادة ذلك إلى قرينة الحكمة أصلا و(منها) ما يدل على العموم بحكم العقل لا بدلالته اللفظية وذلك مثل النكرة الواقعة في سياق النفي والنهي بل مطلق الطبائع المتعلقة لأحدهما فإن العقل يحكم بعدم انعدام الطبيعة إلا بانعدام جميع أفرادها إذ مع وجود فرد منها لا تكون الطبيعة معدومة لا محالة بل تكون متحققة بتحقق ذاك الفرد كما هو واضح والحق احتياج هذا القسم في إفادة العموم إلى قرينة الحكمة حيث إنه لا يدل على العموم بالوضع كي لا يحتاج فيه إلى القرينة فإن دلالته

٤٨

بالوضع إنما هي على صرف النفي أو الزجر والنهي وأما انتفاء الطبيعة رأسا وعدم تحقق فرد من أفرادها في الخارج فهو بحكم العقل ومعلوم أن حكم العقل بذلك لا يكون إلا بعد إحراز موضوعية نفس الطبيعة للحكم من غير اعتبار شيء من خصوصيات أفرادها فيها وطريق إحراز ذلك ينحصر في مقدمات الإطلاق كما هو واضح (ومنها) ما لا يكون له الدلالة على العموم أصلا إلا في مقام تمت فيه مقدمات الإطلاق وذلك كالجمع والمفرد المحليين باللام بداهة أن اللام إنما يؤتى به للتزيين ولا يكون نفس الجمع والمفرد إلا موضوعا لما يدل عليه الخالي عن اللام وقد بينا في محله أنه لا وضع للمركبات زائدا على وضع المفردات وقد انقدح من ذلك الحال في سائر ما ادعي دلالته على العموم كالجمع والمصدر المضافين.

(الأمر الثاني) أنه ينقسم العام باعتبار موضوعيته للحكم إلى استغراقي ومجموعي وبدلي فإن العام قد يكون كل واحد من أفراده موضوعا مستقلا للحكم من غير دخل لموضوعيته الآخر فيه كما قد يكون مجموع أفراده أو واحدا منها منتشرا فيها كذلك (فالأول) استغراقي والثاني مجموعي والثالث بدلي وما يقال من أن القسم الثالث ليس من العام في شيء بل هو من المطلق البدلي حيث إن موضوع الحكم في هذا القسم هو الفرد الواحد المنتشر ولا عموم لها أصلا وإن كان نفس البدلية لها عموم فمندفع بأن العموم والبدلية في هذا القسم مستفاد من لفظ خاص يكون موضوعا لإفادتهما وهذا بخلاف المطلق البدلي فإن العموم فيه يحتاج إلى قرينة الحكمة فلاحظ الفرق بين مثل أكرم أي عالم شئت ومثل أكرم عالما والفرق واضح لا يكاد يخفى

(الأمر الثالث) القضية وإن كان لها أقسام كثيرة لا يهمنا التعرض لها إلا أنه لا بأس بذكر بعض ما ينفع في المقام من الأقسام (فمنها) القضية الطبيعية وهي ما يكون الموضوع فيها

٤٩

نفس الطبيعة المأخوذة بالنسبة إلى الوجود الخارجي بشرط لا مثل القضية الإنسان نوع والموضوع في هذا القسم لا يكاد يتصف بالعموم أصلا ومنها القضية الحقيقية وهي ما يكون الموضوع فيها هو الطبيعة السارية إلى الأفراد بحيث لو فرض وجود شيء في الخارج يكون مصداقا لموضوع القضية لكان يتعدى إليه الحكم ولكان محكوما بالحكم الوارد فيها وذلك لأن الطبيعة مأخوذة في هذا القسم فانية في جميع أفرادها المحققة والمقدرة ومرآة لها فلا محالة يكون الأفراد محكومة بحكمها مثل قضية الخمر حرام (ومنها) القضية الخارجية وهي ما يكون الموضوع فيها نفس الأفراد الخارجية من دون وساطة أخذ الطبيعة مشيرة إليها أصلا سواء كان هناك جامع بين الأفراد مثل قتل من في العسكر أو لم يكن مثل أكرم هؤلاء ولا يخفى أن فرض العموم إنما يتصور في هذين القسمين ولكن مصب العموم في القسم الأول منهما هو الطبيعة وفي الثاني نفس الأفراد ولذلك يكون التخصيص في الأول غالبا عنوانيا بل لم يوجد التخصيص الأفرادي فيها إلا في قضية واحدة وهي رفع الحد عن المقر عند أمير المؤمنين عليه‌السلام باللواط وهذا بخلاف الثاني فإن التخصيص فيه غالبا أفرادي.

(فصل) الحق حجية العام المخصص فيما بقي في تحته من الأفراد وذلك لأن العام لا يخرج بالتخصيص عن كونه مستقلا في معناه الموضوع له كي يقال بصيرورته مجملا ووجه ذلك في التخصيص بالمتصل ظاهر فإن دائرة العام يكون فيه من أول الأمر ضيقا إذ لم يستعمل لفظ العموم فيه ابتداء إلا في شمول ما بقي تحته من المقدار بعد التخصيص ولم يكن مستعملا في شمول جميع الأفراد كي يصير استعماله في المقدار الباقي بعد التخصيص مجازا فلفظة كل في مثل كل عالم عادل كذا لم تستعمل إلا فيما استعملت فيه في مثل كل عالم بدون التقيد ضرورة أنها موضوعة لشمول أفراد مدخولها سواء كان المدخول مطلقا

٥٠

أو مقيدا ومن المعلوم أنها في المثال الأول أيضا تكون مستعملة في هذا المعنى ومجرد كون المدخول ضيقا أو وسيعا لا يوجب الفرق فيما يستعمل فيه هذه اللفظة فالمستعمل فيه لها في كل من المثالين يكون هو الموضوع له أولا بلا تفاوت وأما نفس المدخول فلا ينبغي الريب في عدم لزوم المجازية فيه أصلا فإن لفظ العالم في المثال الأول لم يستعمل إلا فيما يستعمل فيه في المثال الثاني والتقييد بالعدالة إنما يفهم من لفظ آخر يكون موضوعا لإفادته كما لا يخفى وقد تبين في محله أنه لا وضع للمركبات زائدا على وضع المفردات (هذا كله فيما إذا كان المخصص) من قبيل الأوصاف والقيود (وأما إذا كان) من قبيل الاستثناء فبيان ذلك فيه يظهر بالبيان في المخصص المنفصل (وملخصه أن الألفاظ) كلها وضعت بداعي تفهيم معانيها التي وضعت تلك الألفاظ لإفادتها ولا ريب في أن تقوم الاستعمال إنما هو بالإرادة الصورية الإنشائية التي يتحقق بمطابقة المراد بتلك الإرادة مع الموضوع له وعدم مطابقته معه الحقيقة والمجاز فاللفظ إن كان استعماله بداعي تفهيم معناها الموضوع له للمخاطب وكان إلقاء اللفظ إلى المخاطب بذاك الغرض فلا محالة يكون استعماله بنحو الحقيقة سواء كان المعنى مرادا بالإرادة الجدية أو لم يكن نعم بناء العقلاء يكون على مطابقة الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية فيما إذا كان المتكلم بصدد البيان على نحو طريق أهل المحاورة ولم يكن خارجا عن طريقهم وبالجملة فالحقيقة والمجاز إنما يدوران على تطابق المراد بالإرادة الاستعمالية مع الموضوع له وعدم تطابقه لا على تطابق المراد بالإرادة الجدية معه كما هو ظاهر (ثم إذا اتضح ذلك فنقول لا يخفى على من راجع) وجدانه أنه لا يستعمل العام في العمومات المخصصة بالمخصص المنفصل إلا في معناه الموضوع له الذي هو بيان عموم جميع أفراد مدخوله ولا يراد منه بالإرادة الاستعمالية إلا هذا المعنى و

٥١

ذكر الخاص بعده إنما هو لتخصيص المراد الجدي ولبيان أن العموم لم يكن مرادا فيه إلا بالإرادة الصورية التفهيمية ولا ريب في أن هذا طريق جميع أبناء المحاورة في استعمالاتهم سيما من كان منهم بصدد جعل القاعدة والقانون فإن واضع قانون الاستخدام مثلا إنما يحكم أولا بنحو الكلية والعموم وإن كان بعض أفراد العام خارجا عن تحت مراده الجدي فالذي يستعمل فيه لفظ العام أولا إنما هو العموم الكلية ولو سئل عنه بأن هذا اللفظ هل جيء به لتفهيم العموم والشمول ليجيبن بأنه وهل يجاء به إلا لتفهيم ذلك المعنى وبيانه بل يمكن أن يقال إنه لا مناص للمتكلم في بعض الموارد عن اختيار هذا الطريق لإفادة مطلوبه مثل ما لو فرض ترتب مفسدة على ذكر الخاص حين التكلم بالعام أو ترتب مصلحة على بيان مراده بنحو العموم فإنه لا بد للمتكلم حينئذ من ذكر مطلوبه بصيغة العموم بمراد جدي وبالجملة فلفظ كل وأخواتها مما هو موضوع للعموم إنما يؤتى به لتفهيم معناه الموضوع له ويكون هذا المعنى مرادا منه بالإرادة التفهيمية الإنشائية ولو لم يكن مرادا بالإرادة الجدية ولا يكون ذكر الخاص منفصلا إلا لبيان ما هو مراد بالإرادة الجدية من غير أن يوجب ذلك تجوزا في لفظ العام أصلا كما لا يخفى وقد انقدح بذلك حال ما إذا كان المخصص المتصل من قبيل الاستثناء فتدبر جيدا (ومن جميع ما ذكرنا ظهر الوجه) فيما اخترناه من حجية العام في ما بقي تحته من الأفراد فإنه بعد ما اتضح من عدم استلزام تخصيصه لمجازيته يكون ظاهرا في معناه الحقيقي الذي هو العموم وشمول جميع الأفراد ولا ريب في أن بناء العقلاء على الأخذ بظهور الكلام لكاشفيته عندهم عن المراد الواقعي ما لم تقم على خلافه حجة أقوى منه والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي فيكون الظهور حجة بالنسبة إليه ومتبعا عندهم هذا في المنفصل (وأما في المتصل فالأمر) واضح

٥٢

إذ الظهور فيه منعقد بالنسبة إلى الباقي من أول الأمر ويكون حجة في جميع أفراد موضوعه بلا كلام ثم (لا يخفى أنه لو أغمضنا) عن هذا الوجه وقلنا بلزوم المجازية في تخصيص العام بالمنفصل فلا محالة يخرج العام عن الحجية في الباقي لصيرورته بالتخصيص مجازا فيكون مجملا بين الباقي وبين سائر المراتب مما جاز انتهاء التخصيص إليه ويمكن استعمال العام فيه مجازا ولا قرينة في البين تعين الباقي منها والمخصص ليس إلا قرينة صارفة جيء بها للدلالة على خروج بعض أفراده منه حكما لا للدلالة على تعيين الباقي من بين المراتب (كما لا يخفى ولا يجدي في دفع) هذا الإشكال ما أفاده الشيخ العلامة الأنصاري (قدس‌سره) من أن المجاز اللازم هنا على القول به غير المجاز في مثل رأيت أسدا إذا أريد منه الرجل الشجاع فإن المجازية هنا إنما هي من جهة خروج بعض أفراد العام من تحته لا من جهة استعماله في معنى يباين ما وضع له أولا كما هي كذلك في المثال فاحتياج الاستعمال المجازي في المثال إلى قرينة معينة للمعنى المستعمل فيه لا يوجب احتياجه هنا أيضا إليها بل يكفي هنا في استعمال العام مجازا في الباقي بعد التخصيص عدم إناطة دلالته على شمول الحكم لبعض الأفراد بدلالته على شمول الحكم لفرد غير منوطة بدلالته على شموله لفرد آخر فبخروج بعض الأفراد من تحته لا يخرج الباقي عنه ولا يحتاج استعماله فيه إلى قرينة أخرى لعدم كونه مباينا مع ما وضع له أولا بل يكون فيه قيام القرينة على خروج ما عداه عن تحته (وذلك) لأن آلات الضمنية التي لا يكون بعضها منوطا ببعض آخر إنما تحصل بعد استعمال لفظ العموم فيما وضع له أولا الذي هو استغراق جميع أفراد مدخوله فتنحل حينئذ الدلالة الواحدة الأصلية إلى دلالات كثيرة ضمنية وأما بدونه فلا شمول في البين كي يكون هو لبعض الأفراد غير منوط به لبعض آخر والمفروض

٥٣

هنا عدم استعمال اللفظ في معناه الموضوع له وعدم دلالته عليه بدلالة واحدة كي تنحل هذه الدلالة إلى دلالات متكثرة وأن اللفظ مستعمل في مفهوم آخر فهذا المفهوم المستعمل فيه اللفظ إن كان هو البعض فلا ريب في أنه متباين مع الموضوع له مع أن مفهوم البعض مشترك في جميع المراتب فتعين الباقي من بينها ترجيح بلا مرجح وإن كان هو العموم والشمول بشرط خروج البعض وقد كان الموضوع له هو الشمول بشرط عدم الخروج فمن الواضح مباينة المعنيين نحو مباينة المقيدين بقيدين مختلفين هذا مضافا إلى انحفاظ مفهوم الشمول في جميع المراتب كما قلنا في مفهوم البعض هذا إذا كان قيد الشرطية مأخوذا في الموضوع له لا في نفس الوضع وإلا فهو خلاف المفروض لعدم صيرورة الاستعمال حينئذ مجازا أصلا كما لا يخفى (وقد اتضح) بذلك ما في كلمات المحقق النائيني (قدس‌سره) هنا في مقام تأييد ما أفاده الشيخ الأنصاري فراجع.

فصل إذا كان المخصص مجملا بحسب المفهوم فهل يسري إجماله إلى العام أم لا والحق أن يقال نعم من غير فرق بين أن يكون المخصص متصلا أو منفصلا وسواء كان الإجمال من جهة تردده بين المتباينين أو من جهة تردده بين الأقل والأكثر خلافا لكثير من الأعلام قدس أسرارهم في الأخير مما إذا كان المخصص منفصلا ووجه ما اخترناه في غير هذا القسم واضح فإن المخصص المتصل إذا كان مجملا فهو وإن كان لا يضر بالدلالة التصورية للعام الحاصلة قهرا عند سماع اللفظ لمن كان عالما بالاصطلاح إلا أن الدلالة التصديقية على ما أراده المتكلم في نفسه الحاصلة من مجموع الكلام بعد ضم بعض أجزائه إلى بعض لا تحصل مع فرض إجمال ما هو قرينة في الكلام ولا ينعقد للكلام ظهور حينئذ من أول الأمر (وكذا إذا كان المخصص المنفصل دائرا)

٥٤

بين المتباينين فإن موضوع حكم العام وإن كان في مرتبة ظهوره التي هي مرتبة ملاحظة العام في نفسه ظاهرا في العموم بلا إشكال إلا أنه في مرتبة حجية العام حيث يكون معنونا بعنوان غيريته لموضوع الخاص المفروض إجماله يكون في مقام الدلالة التصديقية مجملا من جهة إجمال عنوانه الحاصل إجماله من جهة إجمال موضوع الخاص على ما هو المفروض وأما القسم الأخير الذي هو فرض تردد موضوع المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر فوجه ما اخترناه من إجمال العام فيه أيضا هو أن المتكلم إذا كان ممن من عادته الاعتماد على القرينة المنفصلة مثل المقننين والجاعلين للأحكام على طبق مقتضياتها فلا محالة لا يكون موضوع العام في مرتبة الظهور عند العقلاء مأخوذا به وحجة إلا بعد مجيء القرينة المنفصلة وملاحظة ما يقتضيه جمعها مع العام وضمها إليه مثل القرينة المتصلة وقد بينا أن موضوع العام بعد جمعه مع موضوع حكم الخاص وما هو محكوم في نظر المولى بخلاف حكم العام يكون معنونا بعنوان الغيرية مع موضوع حكم الخاص فبما أن موضوع حكم الخاص يكون مجملا في نظر العقلاء يكون عنوان موضوع حكم العام عندهم كذلك وما يقال من أن حجية الخاص إنما هو بالنسبة إلى الأقل فلا يعارض مع حجية العام فيما هو ظاهر فيه من العموم بالنسبة إلى الزائد على مقدار الأقل فهو جملة يقال بها في مقام الجمع بين الحجتين المختلفتين لا في مثل العام وقرينتيه اللذين هما بنظر أهل العرف حجة واحدة فإنهم إذا سئلوا عن موضوع حكم العام وما يكون محمولا عليه بخطاب أكرم مثلا في نظر المولى بعد عرض القرينة المجملة عليهم ليحكمن جدا بإجماله وعدم وضوح المراد منه وليس للعام في لحاظ ذاته حجية ثابتة لا ترفع اليد عنها إلا بحجة فعلية أقوى منها كي يكون مجال بهذا المقال بل تنقلب حجيته بعد مجيء الخاص عما كانت

٥٥

عليه من العموم فانظر إلى العقلاء هل يحكمون في مقدار الأكثر المردد بين أن يكون مقطوع الدخول في موضوع حكم العام وبين أن يكون مقطوع الدخول في موضوع حكم الخاص بأنه داخل في حكم الخاص ومشمول له ويحتجون على المولى بذلك أم يكون للمولى حجة على عبده بعد جعل الفرد المشكوك مثل متيقن الدخول في الحكم ولعمري ما ذكرناه واضح إلى الغاية ويكون للمتأمل غنى وكفاية.

ثم إن هنا أمورا يجب التنبه إليها

(الأمر الأول) إذا شك في فرد أنه هل هو من أفراد المخصص فيكون خارجا عن تحت العام أو ليس منها فيكون داخلا فيه ومحكوما بحكمه فهل يمكن التمسك بأصالة العموم في الحكم بأنه بحكم العام محكوم أو لا يمكن لا خلاف في عدم جوازه إذا كان المخصص متصلا فإن ظهور العام فيه من أول الأمر منعقد بالنسبة إلى المعنون بعنوان خاص غير ما هو عنوان المخصص ومن الواضح أنه لا يمكن إجراء الحكم على فرد لم يحرز انطباق موضوعه عليه (وأما إذا كان) منفصلا ففي الجواز وعدمه خلاف وربما نسب القول بالجواز إلى المشهور وسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى والتحقيق عدم جوازه فإن ظهور العام وإن كان منعقدا بالنسبة إلى العموم وجميع الأفراد لتمامية دلالته التصديقية وكشفه عن المراد في حد ذاته إلا أن مجيء الخاص بعده يوجب تقيد موضوع العام بعنوان غير عنوان الخاص فيكون في مرتبة حجيته وأخذ العقلاء به وكاشفيته عما أراده المتكلم واقعا مخصصا بهذا العنوان ويكون غير المعنون به خارجا تحت العام مثلا إذا قال المولى لا تكرم فساق العلماء فذلك يوجب أن يكون موضوع قضية أكرم العلماء هو العلماء غير الفساق ويكون مثل ما إذا كان الموضوع من أول الأمر وفي مرتبة نفس الظهور مقيدا بغير الفساق وحينئذ فإذا شك في فسق فرد بعد إحراز علمه لا يمكن التمسك بالحجة التي لم يعلم بتحقق

٥٦

موضوعها فيه فإن عموم كل دليل يتبع عموم موضوعه ومع فرض الشك في تحقق موضوعه يكون لا محالة سريان الحكم إليه وجريانه فيه مشكوكا وكما لا يمكن التمسك بالعام الظاهر في وجوب إكرام كل عالم لإثبات وجوب إكرام من شك في علمه فكذلك لا يمكن التمسك بالعام في المقام لإثبات وجوب إكرام العالم المحتمل فسقه بعد فرض تقيد المراد الواقعي بغير الفساق لعدم العلم بانطباق تمام الموضوع عليه وليس من شأن العام إحراز تحقق موضوعه في الخارج بل هو متكفل لإجراء الحكم على مصداق انطبق الموضوع عليه ومع الشك في ذلك يكون محكوميته بحكم العام مشكوكة كما هو ظاهر (وقد انقدح) مما ذكرنا من أن موضوع العام يصير بعد ورود التخصيص عليه مقيدا بعنوان غير ما هو موضوع الخاص الجواب عما قيل من أن ظهور العام حجة في جميع الأفراد والخاص ليس حجة إلا فيما أحرز تحقق عنوانه فيه وأما الفرد المشكوك فالعام حجة فيه بلا معارض (كما انقدح) ما في التمسك بقاعدة المقتضي والمانع هنا من الإشكال فإن العام بعد صيرورته مقيدا بعنوان غير عنوان الخاص لا يكون ظهوره في العموم مقتضيا لوجود الحكم في جميع أفراده إذ لا إرادة على طبقه إلا في أفراده المقيد فليس المقتضي للحكم فيما عداها موجودا كي يصح التمسك بهذه القاعدة بعد ما لو أغمضنا عما في نفس القاعدة من عدم تماميتها على ما بيناه في محلها (فالإنصاف) أن القول بصحة التمسك بعموم العام في إجراء حكمه على الفرد المشتبه مما لا دليل عليه ولا يمكن مساعدته (وأما) نسبته إلى المشهور بين الأصحاب قدس الله تعالى أسرارهم فلا تخلو عن إشكال فإن المسألة هذه ليست معنونة في كلماتهم ولا محررة في كتبهم كي يعلم بها ما اختاروه فيها وساعده أنظارهم وإنما تخيل ذلك من جهة فتواهم بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها يد

٥٧

عادية أو غيرها فزعم أن ذلك من جهة تمسكهم فيه بعمومات الضمان مثل على اليد ما أخذت حتى تؤدي مع أن ذلك ليس إلا تخرص بالغيب وتظنن به وإلا فمن الواضح أن هذه الرواية ونظائرها ظاهرة في اليد العادية من جهة ظهور الأخذ في الاستيلاء على نحو الغصب والعدوان فلا تعم غير العادية من أول الأمر كي يتمسك بها في المشتبه خروجه وعدمه كما لا يخفى وأما مستند هذا الفتوى فبيانه موكول إلى محله الموضوع له في الفقه رزقني الله تعالى استنباط جميع مسائله إن شاء الله والعمل به بحق محمد وآله الطاهرين صلواته الدائمة عليهم أجمعين واللعنة المتواترة على أعدائهم أعداء الدين.

(الأمر الثاني) أنه إذا اتضح عدم صحة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية فهل يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في حكم العام بإجراء الأصل في العدم الأزلي ليحرز به عدم دخول ذاك الفرد في عنوان الخاص أو لا فيه خلاف بين محققي مقاربي عصرنا فذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس‌سره) إلى الأول وتبعه بعض أعلام عصرنا (دام ظله) واختار القول الثاني شيخ المحققين العلامة الأنصاري (قدس‌سره) وتبعه المحقق النائيني ومنشأ الخلاف بينهم هو الخلاف في أن العدم المأخوذ في العام بعد إخراج عنوان الخاص عن تحته بالتخصيص هل هو مأخوذ فيه على نحو العدم المحمولي والسالبة المحصلة ليكون القيد المأخوذ في موضوع العام بعد التخصيص هو عدم اتصافه بعنوان الخاص على نحو ليس التامة أو مأخوذ فيه على نحو العدم النعتي والموجبة المعدولة في طرف المحمول ليكون القيد المعتبر فيه هو اتصافه بعدم كونه معنونا بعنوان الخاص وكونه معنونا بأنه غيره ومنعوتا بنعت الغيرية مع عنوان الخاص على نحو كان الناقصة فمن ذهب إلى الأول اختار الأول من القولين إذ القيد عليه يكون هو عدم اتصاف موضوع حكم العام بعنوان الخاص فإذا شك في حكم فرد من

٥٨

جهة الشك في اتصافه بعنوان الخاص كي يكون خارجا عن العام وعدم اتصافه به كي يكون داخلا فيه فبما أن اتصاف الموضوع به كان معدوما في الأزل ولو من جهة عدم موضوعه يمكن إحراز بقاء عدمه بعد وجود موضوعه بالأصل فإذا شك في فرد من العلماء أنه فاسق أو ليس به وكذا في امرأة أنها قرشية أو غيرها فبما أن الباقي تحت العام في أكرم العلماء مثلا لم يكن معنونا بعنوان خاص ولو كان ذاك العنوان هو غيريته مع عنوان الخاص وفي مثل المرأة تحيض إلى خمسين إلا القرشية لا يكون معنونا بعنوان غير القرشية بل الباقي في المثال الأول هو العلماء بشرط اتصافهم بالفسق وفي المثال الثاني هو المرأة الغير المتصفة بكونها قرشية يكون إحراز دخول كل من الفردين في المثالين في تحت العام بمكان من الإمكان ولا ملزم لإثبات اتصافه بالغيرية مع عنوان الخاص كي يقال بأن الأصل في نفس ذاك الاتصاف لا يجري لعدم كونه مسبوقا بالحالة السابقة وفي عدم اتصافه بعنوان الخاص وإن كان يجري إلا أنه لا يمكن إحراز اتصافه بعنوان أنه غيره به إلا على القول بالأصل المثبت وقد اتضح أن القائل بالقول الثاني ناظر إلى الوجه الثاني وتقريبه أن موضوع حكم العام حيث إنه ينقسم في الخارج بالنسبة إلى كل عنوان خاص يكون في تحته فينقسم العالم مثلا إلى العادل وغيره والمرأة إلى القرشية وغيرها فلا محالة إما يؤخذ العام مطلقا بالنسبة إلى عنوانه الخاص أو مقيدا بوجوده أو مقيدا بكونه غيره والأولان مستلزمان للتهافت والتناقض والثالث هو المطلوب وحينئذ فيكون الباقي تحت العام مقيدا بكونه غير عنوان الخاص فلا يكون فرد محكوما بحكمه إلا بعد إثبات تعنونه واتصافه بذاك القيد ولا يكفي في ذلك إحراز عدم اتصافه بعنوان الخاص فقط ما لم يحرز اتصافه بأنه غيره ولا يحرز ذلك بالأصل كما ذكرنا (ولكنك خبير بأن) العقلاء بعد إحراز عدم

٥٩

اتصاف العام بنفس عنوانه الخاص ولو كان ذلك بالتعبد من جانب الشرع لا يتوقفون في إجراء حكم العام عليه إلى أن يحرز واتصافه بغيره بل يرون الالتزام بذلك بلا ملزم ففي المثالين المتقدمين إذا قيل لهم إن الشرع جعلنا متعبدين بعدم كون هذا الفرد من العلماء فاسقا وبعدم كون هذه المرأة قرشية لا يتأملون في إجراء حكم العام عليه أصلا ويحكمون بعدم كونه محكوما بحكم الخاص ومن الظاهر الواضح أن حكم المتصف بوصف أو المقيد بقيد ينتفي بمجرد انتفاء اتصافه به من دون لزوم اتصافه بأنه غيره وبالجملة فالإنصاف كله أن الوجه الأول متين جدا و(لكن الأقوى مع ذلك) هو القول الثاني مع عدم صحة وجهه الذي تمسك به القائلون به وذلك لأن استصحاب العدم الأزلي فاسد من أصله فإنه (يمكن الإشكال) أولا في قضية السالبة لسلب الموضوع بأن سلب شيء عن شيء إنما يكون إذا كان المسلوب عنه موجودا وإلا لما كان من باب سلب شيء عنه في شيء إذ هو بنفسه معدوم ولا يصح سلب شيء عن المعدوم إلا بعد فرض وجوده (وثانيا) بعدم صحته في خصوص ما نحن فيه لبداهة أنه لا معنى لأن يقال هذا العالم لم يكن فاسقا من قبل وجوده أو أن هذه المرأة لم يكن منتسبة إلى قريش فإن الشيء قبل وجوده لا عنوان له كي يشار إليه بعنوان هذا أو غيره من العناوين (وثالثا) بأن العقل ولو ساعد هذا الاستصحاب بالنظر الدقي إلا أن نظر العرف المعتبر في باب الاستصحاب لا يساعده وليس هذا الموردين مصاديق أخبار الاستصحاب بنظر العرف أصلا لعدم كون القضية المشكوكة فيه عين المتيقنة بل يكون اثنينيتهما عندهم في كمال الوضوح كما لا يخفى على المتأمل وقد تعرضنا لذلك في رسالتنا المتعلقة بلباس المشكوك مشروحا.

(الأمر الثالث) أنه قد يظهر الفرق عن بعض المحققين قدس أسرارهم بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي وأنه

٦٠