مجمع الفرائد في الأصول

الشيخ علي فريدة الإسلام الكاشاني

مجمع الفرائد في الأصول

المؤلف:

الشيخ علي فريدة الإسلام الكاشاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٧

١

بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول

الفصل الأول لا يخفى أن النهي مختلف مع الأمر سنخا ومتغاير معه مفهوما فإن (الأمر) هو حمل الغير على المطلوب بإنشاء البعث (والنهي) هو ردعه ومنعه عنه بإنشاء الزجر فالأول من قبيل تحريك الغير في الخارج والثاني من قبيل وقفه وحبسه عن الفعل وعلى ذلك فتفسير النهي بأنه طلب الترك كما هو المشتهر بين الأعلام قدس الله أرواحهم مما لا وجه له كما لا وجه للنزاع في أن متعلق الطلب المستفاد من النهي هل هو الترك أو الكف كما هو واضح (نعم يجري فيه) النزاعان الجاريان في الأمر (أحدهما) في دلالته على الحرمة بمادته وصيغته وعدم دلالته والحق في هذا المقام هو أن النهي بمادته يدل على الحرمة بالدلالة اللفظية وبالصيغة يدل عليها بالدلالة المقامية لا اللفظية ويظهر وجهه مما ذكرناه في الأوامر فلا حاجة إلى الإعادة (والثاني) في دلالة صيغة النهي بلفظها على الدوام أو على خلافه وعدم دلالتها وقد ظهر التحقيق في ذلك أيضا مما سطرناه في الأوامر فراجع

الفصل الثاني في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه وتحقيق الكلام فيه يستدعي رسم مقدمات تزيد بصيرة في المقصود

٢

(إحداها) أنه لا ينبغي التأمل في أن المسألة أصولية فإن نتيجتها صالحة لوقوعها في طريق استفادة الأحكام وكبرى لقياس استثنائي فإنه يترتب على القول بالجواز صحة الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة واللباس المغصوب وغيرهما لو قلنا بصحة التقرب بمجمع العنوانين وكذا يترتب عليه استفادة الوجوب الشرعي لمجمع العنوانين سواء كان من المعاملات أو العبادات ويكفي في كون المسألة أصولية ترتب ثمرة فقهية على أحد طرفيها من السلب أو الإيجاب ولو لم يترتب حكم فرعي على الطرف الآخر فلا يضر بكون هذه المسألة من الأصول عدم ترتب فساد العبادة على القول بالامتناع على تقدير القول بترجيح جانب النهي كما هو ظاهر (الثانية) أنه لا ريب في عدم جريان النزاع فيما إذا كان متعلقا الحكمين متباينين لا يجتمعان وجودا أو كانا متساويين لا يتخلف أحدهما عن الآخر كذلك أما في الأول فواضح وأما في الثاني فلأنه يلزم أن يكون شيء واحد محكوما بحكمين متضادين من دون أن يكون موجها بوجهين وفردا لعنوانين مثل أن يقال صل في الدار المغصوبة ولا تصل فيها فإن الصلاة المتخصصة بخصوصية وقوعها في الدار المغصوبة تكون حينئذ متعلقة لحكمين مختلفين من دون وجود تعدد عنوان في البين وأما إذا كان النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا فلجريان النزاع فيه وجه وإن اختار عدم الجريان جماعة من مقاربي عصرنا تبعا للمحقق القمي (قدس‌سره) وهو أن الفعل الخاص وإن كان بما هو متخصص بما له من الخصوصية مبغوضا إلا أنه لا ينافي ذلك محبوبية نفس الفعل كما أن مبغوضية شرب الماء من الإناء المتخذ من الذهب أو الفضة مثلا لا تنافي محبوبية نفس الشرب ومطلوبيته وإن كنت في ريب من ذلك فانظر إلى نفسك إذا كنت عطشان فإن شرب الماء من الإناء المكسور مثلا وإن كنت تستقبحه وتبغضه ولكن نفس شرب الماء مع ذلك يكون مطلوبا لك فالصلاة وإن كانت بما هي مضافة إلى الدار المغصوبة

٣

مبغوضة إلا أنها بذاتها محبوبة فالفعل الموجود بوجود واحد بما أنه فرد للصلاة تكون محبوبة ومصداقا للأمر بالصلاة وبما أنه فرد للصلاة الواقعة في الدار المغصوبة ومصداق لقوله لا تصل في الدار المغصوبة يكون مبغوضا فلو قيل بكفاية تعدد الوجه في رفع غائلة الاجتماع لكان يجدي هنا أيضا وإلا فلا يجدي مطلقا (فالتحقيق) أنه يجري البحث فيما كان النسبة بين متعلقي الحكمين العموم والخصوص مطلقا كما كان يجري فيما إذا كان النسبة بينهما العموم من وجه ولا فرق بينهما فيما نحن بصدده من لزوم التكليف المحال وعدمه وإن كان يفترق الأول عن الثاني من جهة لزوم التكليف بالمحال فيه فإن الأمر بالصلاة مطلقا ولو في الدار المغصوبة مع النهي عن خصوص ما يقع منها في الدار المغصوبة مما لا يمكن امتثاله فالإشكال في مقام الامتثال يكون بحاله وأما لزوم الإشكال في مقام الجعل فهو يتفرع على القول بالامتناع في المسألة (الثالثة) لا يخفى أن النزاع في جواز الاجتماع وعدمه مبني على القول بتعلق الأحكام بالطبائع وأما على القول بتعلقها بالأفراد فلا مجال للبحث أصلا بداهة أنه عليه يكون الفرد المجمع للعنوانين متعلقا للأمر بنحو التخيير بينه وبين سائر الأفراد كما يكون متعلقا للنهي أيضا تعيينا فيكون بذاتياته وتشخصاته مبعوثا إليه ومزجورا عنه في زمان واحد ويكون التكليف محالا ولا يغني في رفع الإشكال القول بأنه اثنان حقيقة وفردان موجودان بوجود واحد لبا كما في الكفاية فإن ذلك إنما يصح في مقام الامتثال حيث يكون المجمع المأتي به فردا للمأمور به من جهة وللمنهي عنه من جهة أخرى وأما في مقام الجعل الذي هو محل الكلام هنا فيكون ذاك الفرد بنفسه طرف الإضافة للبعث والزجر كليهما ومتعلقا لهما معا وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأن متعلق الأوامر والنواهي

٤

هو الطبائع فإنه عليه مضافا إلى أن المجمع يكون اثنين حقيقة في مقام الامتثال يكون متعلق أحدهما في مقام الجعل أيضا غير متعلق الآخر فلا تغفل وتدبر (الرابعة) لا ينبغي الريب في أن البعث أو الزجر إنما يتعلق بالطبائع بوجودها السعي وأن التشخصات الفردية لا دخل لها في مطلوب الآمر والناهي إذا كان مراده أو مكروهه صرف وجود تلك الطبائع بل يكون دخل التشخصات في متعلق البعث أو الزجر مع عدم دخالة لها في غرضه المتقوم بإيجاد صرف الطبيعة أو إعدامه صرف الجزاف وقد تبين ذلك في موضعه مشروحا (الخامسة) أنه بعد ما تبين أن متعلق البعث والزجر إنما هو الطبيعة لوجودها السعي في قبال الوجود الخاص وأنه هو العنوان المأخوذ مشيرا إلى أفراده ووجها لجزئياته فلا ريب في أنه قد يتصادق عنوانان في موجود واحد ويكون الموجود فردا لهما معا ومصداقا لكليهما ويكون هذان العنوانان مع أنهما موضوعان لحكمين مختلفين وقد أخذ كل منهما بما أنه مشيرا إلى أفراده موضوعا لحكم مستقل صادقين على فرد خاص بحيث يكون وجوده وجوده وجودا لكلا العنوانين وتحصله تحصلا لكلتا الطبيعتين (السادسة) أنه يفترق العنوان المتكرر في ألسنتنا عن الماهية الواقعة جوابا عن السؤال بما هو في أن الماهية إنما تنتزع عن الفرد بلحاظ حقيقته ولذلك تقع جوابا عن السؤال عن الحقيقة المركبة من المادة المشتركة المعبر عنها بالجنس والمادة المفترقة المعبر عنها بالفصل بخلاف العنوان فإنه انتزع عن الأفراد بما هي أفراد لها ومصاديق من دون دخالة لحقيقتها في انتزاعه وعلى ذلك فلا تضر وحدة الماهية بصدق العنوانين المأخوذين كل منهما موضوعا لحكم على حدة مثلا يتصادق موضوع قضية أكرم العالم ولا تكرم الفاسق على رجل واحد على وحدة وجوده وماهيته وكذلك يتصادق عنوان الصلاة والغصب على فعل خاص مع وحدته وجودا وماهية

٥

فالبحث عن تعدد الماهية هنا ووحدتها كما عن المحقق النائيني (قدس‌سره) وأن القول بالجواز في المسألة مبني على التعدد والقول بالمنع مبني على وحدتها مما لا وجه له بل الموجود الواحد على وحدة ماهيته يكون مصداقا لعنوانين وفردا لموضوعين ترتب على كل منهما حكم خاص فلو قيل بتعدي أحد الحكمين في مورد التصادق عن متعلقه إلى متعلق الحكم الآخر فلا محالة لا بد معه من القول بالامتناع كما أنه لو لم نقل بذلك بل قلنا بأن اجتماع العنوانين لا يوجب سراية أحد الحكمين إلى متعلق الآخر فلا مناص عن اختيار الجواز في المسألة من دون أن نحتاج إلى تكلف إثبات اختلاف موضوع أحد الحكمين مع موضوع الآخر في المقولة بتقريب أن الغصب من مقولة الأين وهو لا تكاد تتحد مع شيء من أفعال الصلاة من القيام والركوع والسجود لكونها من مقولة الوضع الذي هو الهيئة الحاصلة للمكلف من ملاحظة بعض أعضائه مع بعض نعم الهوي إلى الركوع والسجود والنهوض منهما إلى القيام يتحدان مع الغصب وجودا ولكنهما من مقدمات الأفعال لا من نفسها وأما الأقوال والأذكار فلا إشكال في أنها ليس من الغصب والتصرف في المكان المغصوب في شيء ولا يخفى عليك عدم تمامية هذا التقريب فإنا لا نسلم أن الهوي والنهوض من مقدمات الأفعال فإن الواجب على المكلف في الركوع والسجود ليس هو الهيئة الحاصلة للأعضاء المعبر عنها بالوضع بل الواجب هو الفعل الاختياري الصادر من المكلف حين إرادة الركوع والسجود ولا إشكال في اتحاده مع الغصب وجودا وكذا الكلام في النهوض فإنه هو الواجب على المكلف لا صرف الهيئة الغير الاختيارية الحاصلة بعد النهوض عن الاختيار وبالجملة فالصلاة هيئة تركيبية توجد بوجود هو مصداق الغصب قطعا إذ الصلاة ليست إلا هذه الهيئة التركيبية المفروض تحققها

٦

بتحقق الغصب وهذه الهيئة واحدة وجودا وماهية بلا إشكال ولكنها بنفسها غير متعلقة للبعث أو الزجر أصلا فإن الطبائع ليست متعلقة للأمر والنهي بما هي موجودة وإلا لكان طلبها طلبا للحاصل وإنما تكون موجودة بعد ما تعلق البعث بها لتوجد والحاصل أن البحث عن وحدة الوجود وتعدده أو وحدة الماهية وتعددها مما لا يفيد بنظري القاصر أصلا فإنه لا إشكال في وحدة الوجود ومعه لا مجال لتعدد الجنس والفصل في المقام أصلا لكن قد ذكرنا إن الأمر غير متعلق للوجود وإلا لكان طلبا للحاصل ولا للماهية المركبة من جنسه وفصله كما هو واضح بل الأمر هو متعلق بالعنوان المأخوذ مرآة لصرف الوجود والوجود السعي كما سيتضح إن شاء الله تعالى وقد انقدح مما ذكرنا ما في كثير من كلمات المحقق النائيني (قدس‌سره) هنا من الإشكال بنظري القاصر وفكري الفاتر فراجع إليها وتأمل فيها حق التأمل (السابعة) أنه بعد ما عرفت أن ما يوجده المكلف في الخارج ويصدر منه هو وجود واحد لا تعدد فيه أصلا عرفت أنه لا يصح الإتيان بالمجمع إذا كان عباديا ولا يجري في مقام الامتثال مطلقا ولو قلنا بالجواز في المسألة وذلك لأن العبادات مجعولة لتقرب العبد بها إلى الله تعالى وتذللهم في مقابله وخضوعهم لديه والمفروض أن الفعل صدر من المكلف طغيانا على الله تعالى وعصيانا وتجريا عليه فلا يمكن أن يتقرب المكلف إليه بهذا الوجود وكيف يمكن أن يقصد امتثاله وإطاعته بما هو عصيان له وهتك لحرمة مولويته وقضية تعدد الجهة والعنوان لا تكاد تجدي هنا فإن التقرب إنما يقع بالوجود الخاص الخارجي الذي يصدر من المكلف ويوجده لا بالوجود السعي الذي هو متعلق للأمر حقيقتا ولا بعنوانه المتعلق له مرآة وآلة للحاظ نعم إذا كان العبد جاهلا بالموضوع أو الحكم قصورا وقلنا بجواز الاجتماع فلا إشكال في صحته ووقوعه عبادة

٧

إذ المفروض تعلق الأمر بالطبيعة مطلقا وليس في البين ما يمنع عن قصد التقرب به بعد فرض جهله بالحكم أو الموضوع قصورا فإن الفعل يصدر منه حينئذ إطاعة وامتثالا لا طغيانا وتجريا كيف وهو معذور عقلا ونقلا ويحكم العقل بقبح مؤاخذته استقلالا فالتفصيل بين الملتفت والجاهل تقصيرا وبين القاصر على القول بالجواز في كمال الوضوح وأما على القول بالامتناع في المسألة فإن قيل بترجيح جانب الأمر وتقديمه فلا إشكال في صحة العبادة مطلقا ولو مع الالتفات وأما إن قيل بتقديم جانب النهي فقد يقال بالصحة بالنسبة إلى القاصر وعليه ينزل فتاوى القدماء من أصحابنا رضوان الله تعالى عليهم الظاهرة أو الصريحة في التفصيل بين الملتفت ومن بحكمه وبين القاصر نظرا إلى كفاية مطلق المصلحة والمحبوبية في الإتيان بالفعل العبادي ولو لم يكن مأمورا به تارة وإلى كفاية الأمر بالطبيعة في الإتيان بفرد لا يشمله الطبيعة بما هي مأمور بها أخرى وفي كلتا الدعويين من الإشكال ما لا يخفى أما في الأولى فلأن مجرد اشتمال الفعل على مصلحة لا يوجب تعلق الإرادة المولوية به لجواز اشتماله على مفسدة مساوية أو أرجح منها بحيث لا يتعلق به إرادة ولا كراهة أو يتعلق به الكراهة فقط دون الإرادة وحينئذ فلا يبقى مجال للإتيان به متقربا إلى المولى ثم لو فرضنا عدم اشتماله على مفسدة فلا وجه لعدم تعلق الإرادة المولوية به بل ويكون الفعل حينئذ مأمورا به حقيقة ومطلوبا واقعا ولو لم يتمكن المولى من إبراز إرادته وطلبه إن شاء كما إذا كان أصم ولا يقدر على التكلم ومن المعلوم أن القول بترجيح جانب النهي هنا ليس إلا من جهة اشتمال الفعل على مفسدة أقوى ومعه لا يمكن التقرب به كما لا يخفى وأما في الثانية فلأن العقل إنما يحكم بكفاية إتيان كل ما يشمله الطبيعة المأمور بها بوجودها السعي من الأفراد في مقام الامتثال إذا لم تكن تلك الأفراد مشتملة على مفسدة أقوى توجب صرف نظر المولى عن المصلحة الموجودة فيها وأما مع وجود تلك

٨

المفسدة فيها فلا يحكم بكفاية إتيانها في حصول الامتثال وكيف يمكن حصول الامتثال بالإتيان بفرد ينهى عنه المولى ويزجره بنهي أكيد وزجر شديد ولا فرق في ذلك بين الملتفت ومن بحكمه وبين القاصر إلا في استحقاق العقاب وعدمه فانقدح أن التفصيل المشتهر بين أصحابنا قدس أسرارهم مما لا وجه له إلا على القول بالجواز في المسألة بتقريب قدمناه (الثامنة) لا يخفى أن المرجع بعد القول بعدم جواز الاجتماع في المسألة هو المرجحات في باب التزاحم ولا مجال للرجوع إلى باب التعارض وذلك لأن البحث في هذه المسألة إنما هو فيما إذا أحرز وجود المناطين كليهما في مورد الاجتماع وعلم بأنه مورد لكلا الحكمين لا ما إذا علم بعدم وجود أحد المناطين في مورد الاجتماع وعدم شمول أحد الحكمين له كما هو مورد التعارض والرجوع إلى القواعد المذكورة فيه فإن تلك القواعد إنما تعمل لتشخيص الوظيفة وإن أيا من الطريقين مشتمل على ما هو مراد المولى بحيث نعلم بعدم تعلق الإرادة المولوية بما يتضمنه أحد الطريقين ويدل عليه ولو بدلالة الظهور والبحث هنا إنما هو بعد العلم بتعلق الإرادة بما يتضمنه كل من الطريقين بحيث لو أمكن اجتماعهما في مورد الاجتماع ولم يكن مانع عقلي له كما يقول به المجوز لقلنا بأن كلا منهما متعلق للإرادة مطلقا حتى في مورد الاجتماع فلا بد للقائل بالامتناع من البحث بأن المناط في أيهما يكون أقوى في نظر المولى وأن امتثال أي من الحكمين أهم في نظره وأن المكلف المتصرف في الدار المغصوبة مثلا الذي لا يتمكن من الجمع بين امتثال كل من التكليفين هل عليه أن يصلي ويمتثل أمر المولى بالصلاة ولو وقع بالتصرف في الدار المغصوبة أم عليه ترك التصرف فيها ولو كان بترك الصلاة ومن المعلوم أنه لا يجدي لبيان ذلك البحث في باب التعارض أصلا

٩

ولا ارتباط له بما نحن فيه كما لا يخفى وقد انقدح بذلك ضعف ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من أن المرجع للقائل بالامتناع في المسألة هو باب التعارض فتأمل جيدا إذا عرفت هذه المقدمات فالتحقيق هو جواز الاجتماع وعدم وجود مانع عنه عقلا وبيانه يحتاج إلى ذكر مقدمة وهي أن الوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام لا تكون أوصافا لفعل المكلف وعوارض له كما تخيله بعض المانعين حتى يحتاج القائل بالجواز إلى إثبات تعدد الموضوع في مورد الاجتماع واثنينية معروض الحكم كما تصدى لإثباته بعض الأعلام قدس‌سره بل تكون تلك الأحكام منتزعة عن تعلق الطلب بشيء أو تعلق الزجر به وعلى ذلك فالإيجاب والتحريم مثل البعث والزجر من أفعال المكلف ويكون لهما الإضافة إلى متعلق التكليف إذا كان طرف الإضافة لكل منهما غير الآخر ولا مضادة بينهما في ذاتهما فإن المتضاد بين الأحكام إنما هو فيما إذا كان طرف الإضافة ومتعلق الجميع واحدا لا مطلقا ولو مع اختلاف المتعلق ولذا ينقدح لشخص واحد في زمان واحد إرادات وكراهات متعددة تعلق كل منهما بفعل غير ما تعلق به الآخر فانظر إلى نفسك تريد في زمان واحد أمورا وتكره أمورا آخر وتبغضها فالإيجاب وو التحريم صادران من المكلف وقائمان به قياما صدوريا ولكل منهما إضافة إلى فعل المكلف ولا إشكال في اجتماعهما إذا كان متعلقاهما متغايرين غير مرتبط أحدهما بالآخر (إذا عرفت ذلك) تعلم أنه لا إشكال في تعلق الأمر لطبيعة بوجودها السعي والنهي بطبيعة أخرى كذلك فإن تضاد الواقع بين الأحكام لا يمنع عن ذلك بعد تغاير المتعلقين فإن المتعلق في أحدهما الصلاة وفي الآخر الغصب وهو أمران متغايران يختلفان وجودا تارة ويتحدان بسوء اختيار المكلف أخرى (فإن قلت) نعم ولكن مورد اجتماع العنوانين

١٠

يكون مبعوثا إليه من جهة ومزجورا عنه من جهة أخرى فالبعث والزجر وإن كانا مختلفين من حيث المتعلق في مورد الافتراق إلا أنهما يتحدان من هذا الحيث بالنسبة إلى المجمع وتكون غائلة استحالة اجتماع الحكمين موجودة فيه (قلت) لا يكاد يكون المجمع مبعوثا إليه ومزجورا عنه بوجه فإن البعث إنما يتعلق بالعنوان المنتزع من الحقيقة الخارجية الجامعة لجميع الوجودات الصادقة على كل من الوجودات الخاصة فإن العقل بعد ملاحظة تلك الوجودات يرى جامعا لها في الخارج وحقيقة موجودة في جميعها وتكون تلك الحقيقة متعلقة للبعث والزجر ولا يكون الوجود الخاص بمتعلق للبعث والزجر بحال وتحقق الامتثال به إنما هو بملاحظة وجود الحقيقة الجامعة الخارجية فيه لا بملاحظة كونه متعلقا للأمر (وإن كنت) في ريب من ذلك فلاحظ نفسك إذا كنت عطشان هل يكون شرب الماء الخاص المتحقق من زيد مثلا محبوبا لك أم يكون المحبوب مطلق شرب الماء الصادق على جميع الوجودات لا مجال لإنكار أن المحبوب لك لا يكون وجودا خاصا لا يصدق على وجود خاص آخر وكيف يمكن الأمر بالإتيان بالماء الذي شربه الشخص الفلاني مثلا بل المحبوب والمأمور به هو حقيقة الفعل الصادقة على جميع الوجودات والعنوان المأمور به في ظاهر الخطاب يكون منتزعا عن تلك الحقيقة فتكون هي متعلقة للبعث أو الزجر لبا وعلى ذلك فعنوان الصلاة المنتزع عن الحقيقة الجامعة الخارجة الصادقة على الوجودات المخصوصة يكون مأمورا به أولا ويسري الأمر منه إلى نفس الحقيقة ثانيا لا إلى وجود خاص وفرد مخصوص منها وكذا عنوان الغصب المنتزع عن حقيقة التصرف في مال الغير منهي عنه أولا وتكون الحقيقة الجامعة منهيا عنها ثانيا من غير تعلق للبعث والزجر بالمجمع أصلا والحقيقة وإن كانت عين الوجود الخاص إذا

١١

كانا ملحوظين بالنظر الإجمالي إلا أنهما متغايران إذا لوحظا تفصيلا ومعلوم أن جعل الحقيقة موضوعا للحكم يقع باللحاظ الثاني كما أن الإنسان يقع موضوعا لحمل الجنس والفصل عليه هناك للحاظ مع أنه عين الفرد باللحاظ الإجمالي وبالجملة فاتحاد الحقيقة الخارجية مع الفرد الخاص باللحاظ الإجمالي لا يوجب سراية الحكم منها إليه بعد وضوح أنها موضوع للحكم باللحاظ التفصيلي الذي هي في ذاك اللحاظ تكون متغاير الفرد كما هو واضح فلا يكاد يكون المجمع طرف الإضافة للبعث والزجر أصلا وكيف يكون كذلك وقد بينا في بعض المقدمات أن الطبائع لا تكون متعلقة للخطاب بما هي موجودة بل المتعلق له هو الطبيعة المنتزعة عن صرف الوجود الجامع لجميع الموجودات لا بمعنى أخذ وصف الجامع فيه كي يقال بأن الحقيقة الجامعة بما هي كذلك لا موطن لها إلا في الذهن والحاصل أن المأمور به حقيقة هو صرف الوجود في الخارج والعنوان قد أخذ مشيرا إليه وكذا المنهي عنه هو حقيقة التصرف في مال الغير وقد انتزع عنها عنوان الغصب كما ينتزع عنوان الإنسان عن الحقيقة الخارجية المشتملة على الهيولى والصورة ولا ينتزع عن فرد خاص بخصوصية كما ينتزع عنوان الضارب عن حقيقة الإنسان المتصف بحقيقة الضرب لا عن مصداق خاص منها فلا يكاد يسري النهي عن متعلقه إلى متعلق الأمر بحال بل المتعلقان حقيقتان خاصتان خارجيتان ويصدق كل منهما على فرد خاص بحسن اختيار المكلف تارة ولصدق كلاهما على فرد واحد بسوء اختياره أخرى فاجتماعهما بحسب الوجود إنما هو في مقام الامتثال وذلك لا يوجب إشكالا في مقام الجعل أصلا فانقدح من جميع ما حققنا أنه لا إشكال في الأمر بحقيقة مطلقا والنهي عن حقيقة أخرى كذلك حتى في مورد تصادقهما على وجود خاص بل ولا يعقل تعلق الأمر بها مشروطا بعدم كون مورده مورد النهي وذلك لأن دخالة شيء لا يكون له دخالة في مطلوبية المأمورية في التكليف والمأمور به جزاف

١٢

صرف فإن ترك الغصب إن كان مما له دخالة في مطلوبية الصلاة فلا بد من الأمر بها مشروطا ويكون خارجا عن محل البحث هنا وإلا فلا بد من الأمر بها مطلقا ولا إشكال فيه أصلا كما بينا والتصادق في الوجود لا يوجب تحقق غائلة اجتماع الضدين في محل واحد بعد ما اتضح من تعدد المتعلق وإن كنت تطلب مثالا خارجيا يوضح ذلك فافرض أنك تعلم بوجود فرد في الدار مثلا وتجهل خصوصياته وتشخصاته فإن العلم والجهل متضادان ومتعلقاهما موجودان بوجود واحد ولا إشكال فيه أصلا والأمثلة لذلك كثيرة لا نحتاج إلى ذكرها بعد وضوح الحال وبيان الاستدلال بحيث يظهر منه الجواب عن جميع ما ذكره المانعون من الإشكال والعمدة منه هي ما أفاده (المحقق الخراساني) قدس‌سره وهو مركب من أربع مقدمات (أولاها) تضاد الأحكام وأنها لا تجتمع في محل واحد في مقام فعليتها وإن كانت تجتمع قبل الوصول إلى تلك المرتبة (ثانيتها) أن متعلق التكليف هو فعل المكلف وما هو موجوده وفاعله للعنوان المنتزع عنه الذي لا تحقق له خارجا (ثالثتها) أن تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد ذي الوجه والمعنون الذي هو متعلق الحكم في الحقيقة (رابعتها) أن وحدة الوجود مستلزم لوحدة الماهية ولا يمكن تعدد الماهية مع وحدته فينتج من جميع هذه المقدمات أن الفعل الواحد والموجود الفارد لا يمكن أن يكون محكوما بحكمين مختلفين بمجرد تعدد عنوانه ووجهه لما عرفت من أن تعدد الوجه لا يستلزم تعدد ذيه (وأنت) خبير بأنه لا يجدي هذه المقدمات لإثبات المنع بعد ما عرفت من أن متعلق كل من الحكمين حقيقة خارجية جامعة لوجوداته الخاصة وصادقة عليها ولا يكون الموجود بمتعلق للحكم أصلا كما أن نفس العنوان والوجه يكون كذلك فتأمل في المقدمات حق التأمل تعرف ما فيها إن شاء الله تعالى ولا يهمنا ذكره

١٣

بعد ما أشرنا إليه في طي الاستدلال على ما اخترناه.

(وأما ما استدل) به المجوزون من متأخري أصحابنا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين (فأمور منها) أنه لو لم يجز الاجتماع لما وقع في الشرع وقد وقع كثيرا وذلك كما في العبادات المكروهة وبعض من المستحبات فإن الأحكام متضادة بأسرها وقد اجتمع في الشرع الوجوب أو الاستحباب مع الكراهة كما في الصلاة في الحمام وفي مواضع التهمة فريضة ونافلة وكما في بعض النوافل المبتدئة وفي الصوم يوم عاشوراء وكذلك اجتمع الوجوب أو الاستحباب مع الاستحباب أو الإباحة كالصلاة في المسجد أو الدار فريضة أو نافلة ولازم ذلك جواز اجتماع الوجوب مع الحرمة أيضا إذ لا فرق بين الأحكام في ذلك بعد عموم دليل المنع الذي هو تضاد الأحكام وتنافيها ولكن التحقيق أنه لا ارتباط لهذه الموارد بمسألة الاجتماع أصلا وبيان ذلك يحتاج إلى تحقيق الحال في العبادات المكروهة فنقول وبه تعالى التكلان.

إن العبادات المكروهة (على ثلاثة أقسام)

القسم الأول ما تعلق المنع التنزيهي بما تعلق به الأمر والبعث الغير الإلزامي كما في بعض النوافل وفي الصوم يوم عاشوراء (الثاني) ما تعلق النهي فيه بفرد مما تعلق به الأمر كالصلاة في الحمام (الثالث) ما تعلق النهي فيه بعنوان قد يتحد وجودا مع العنوان المأمور به ويكون النسبة بينهما عموما من وجه كما في الصلاة في مواضع التهمة بناء على أن يكون متعلق النهي هو مطلق الكون في مواضع التهمة.

أما القسم الأول

فقد أجيب عنه تارة بأن الترك فيه من جهة انطباق عنوان راجح عليه مستحب أقوى وأهم ولكن مع ذلك يكون الفعل باقيا على ما كان عليه من الرجحان والمطلوبية من دون تحقق حزازة فيه ومفسدة فلا مانع من الإتيان به بقصد التقرب كما يجوز الإتيان بمستحب زاحمه مستحب أهم منه وعلى ذلك فمتعلق أحد الأمرين هو الفعل ومتعلق الآخر هو العنوان

١٤

المتحقق في ضمن الترك ويكون النهي إرشادا إلى أهمية الترك لذلك فليس هنا من اجتماع الحكمين في محل واحد في شيء ولا تكون مفسدة في الفعل كي تمنع عن قصد التقرب به وقد اختار هذا الجواب العلامة الأنصاري والسيد المحقق الأصفهاني (قدس‌سرهما) وتبعهما في ذلك بعض أعاظم عصرنا دام ظله (وأخرى) بأن العنوان المطلوب ملزوم للترك فلا يتحقق إلا بتحقق الترك ففي مثال الصوم في يوم عاشوراء يكون الترك أهم من جهة تحقق عنوان ذي مصلحة راجحة بتحققه كعنوان مخالفة بني أمية لعنهم الله وعذبهم عذابا أليما والنهي عن الفعل إنما هو للإرشاد إلى ما في تركه من هذه المصلحة الراجحة كما في التقريب الأول وقد أجاب (بهذا العنوان) المحقق الحائري قدس‌سره وذكر كليهما المحقق صاحب الكفاية ولكن لا يخفى ما في كل منهما من الإشكال (أما في الأول) فلأن انطباق عنوان وجودي على الترك الذي هو في الحقيقة أمر عدمي ويكون في كمال المنافاة مع الأمر الوجودي مما لا يمكننا تعقله هذا مضافا إلى ما في إرادة الطلب والبعث إلى عنوان من النهي عن الفعل الظاهر في المنع والزجر عنه من البعد الواضح وقد عرفت من هنا ما في الجواب الثاني أيضا بل الأمر فيه أشنع إذ عليه يكون المراد من النهي هو البعث إلى ملزوم الترك وما يتحقق بتحققه وهو كما ترى وفي كلا التقريبين إشكال آخر مشترك الورود وهو أن الفعل إن كان مأمورا به ومتعلقا للبعث أيضا فيلزم البعث إلى النقيضين وهو محال فلا بد للآمر حينئذ أن يأمر بما هو أتم مصلحة من الفعل والترك وأهم في نظره إن كان وإلا فالتخيير ولا مجال للأمر والبعث إلى كل من الفعل والترك بخصوصه وإن كان المراد كفاية صرف وجود المصلحة في عباديته وإمكان قصد التقرب به من دون الاحتياج إلى تعلق الأمر به فهو مما لا نعقله بعد وضوح أنه لا مجال لاستنباط وجود

١٥

المصلحة فيه إلا من قبل الأمر به (والتحقيق الذي يقتضيه) النظر الدقيق في العبادات المكروهة هو أن النهي تعلق بها مولويا بعد كونها فعلا عباديا ومأمورا به فإن متعلق الأمر هو ذات العمل ومتعلق النهي هو العمل العبادي والمأمور به ولا إشكال في ذلك أصلا وتوضيح ذلك بالمثال أن الأمر تعلق أولا بالإتيان بركعتين من النافلة مثلا في كل وقت يسع لذلك وبالإمساك بقصد الصوم في كل يوم من أيام السنة ولازم ذلك أن يكون الإتيان بالنافلة عند طلوع الشمس وعند غروبها مأمورا به ومبعوثا إليه ببعث غير إلزامي من جهة الأمر الأول وأن يكون الصوم في يوم عاشوراء كذلك بالأمر الثاني فيصح الإتيان بكل منهما بسبب الأمر المتعلق به وبقصد امتثاله ويكون كل منهما عباديا يؤتى به متقربا به إلى المولى ولكن المولى حيث رأى في كل منهما حزازة وجهة يكون الترك بها أولى عنده من إتيانه نهى عن كل منهما بوصف عباديته وتعلق الأمر به فمتعلق النهي في الحقيقة هو التعبد به والإتيان به بقصد امتثال أمره وحيث إن النهي يكون تنزيهيا يرخص المكلف في التعبد به يكون المعنى أن الأولى عدم التعبد به وعدم الإتيان متقربا به وإن كان يصح ذلك ويقع على ما هو عليه من امتثال الأمر الاستحبابي به وإطاعته وعلى ذلك فالمأمور به هو ذات العمل وفيه مصلحة خالصة بلا حزازة والمنهي عنه هو التعبد به ولا إشكال في ذلك أصلا

ومن هنا انقدح الجواب عن القسم الثاني أيضا

فإن متعلق النهي في الصلاة في الحمام هو الطبيعة الواجبة المأمور بها المتخصصة بخصوصية وقوعها في الحمام ومتعلق الأمر هو نفس الطبيعة من دون لحاظ تشخصاتها وإطلاق الطبيعة المأمور بها يقتضي جواز الإتيان بها في ضمن أي خصوصية كانت ولو بوقوعها في الحمام والنهي يقتضي المنع عن إيجاد الطبيعة المأمور بها بوصف كونها مأمورا بها في خصوص هذا الفرد

١٦

وهذا الوجود ولكن حيث إن النهي تنزيهي يشتمل على ترخيص العبد في ذلك يكون الإتيان في خصوص هذا الفرد المنهي عنه صحيحا ويقع على ما هو عليه من تحقق الامتثال الإلزامي به ومن جميع ذلك عرفت الحال في بعض العبادات المستحبة وأن متعلق الاستحباب والبعث الغير الإلزامي هو الإتيان بالعبادة المأمور بها بوصف عباديتها في المسجد كما أن متعلق الحكم الإباحي هو الإتيان بالعبادة بذاك الوصف في الدار ومجمل الجواب أن الأمر الثاني ناظر إلى مقام الامتثال وكيفية الإطاعة وتحصيل الفراغ كما أن النهي في العبادات المكروهة يكون كذلك بخلاف الأمر الأول فإنه ناظر إلى ذات العمل ونفس الفعل.

(وأما القسم الثالث)

أعني ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهي عنه بالنهي التنزيهي عموما من وجه مثل النسبة بين صل وبين لا تكن في مواضع التهمة فقد يتخيل أن اللازم عدم صحة الصلاة في مواضع التهمة إلا على القول بالجواز في المسألة وإلا فلا بد من القول ببطلانها فيها لسراية النهي على القول بالامتناع من متعلقه إلى متعلق الأمر مع أن الإجماع قائم على صحتها ولكن التحقيق أن صحة الصلاة في هذا القسم من العبادات المكروهة أيضا لا تنافي القول بالامتناع فإن غاية ما يلزم من القول بالامتناع تعلق النهي التنزيهي ببعض الأفراد من طبيعة الصلاة المأمور بها وهو خصوص الواقعة منها في مواضع التهمة وذلك لا ينافي صحة العبادة المأتي بها في ضمن هذا الفرد المنهي عنه فإن العقل بعد ملاحظة إطلاق الطبيعة المأمور بها وعدم تقيدها بقيد يحكم جزما بجواز تطبيق الطبيعة على أي فرد أراد المكلف وإمكان امتثال الأمر بها في ضمن أي فرد أتى به ولا يمنع عن هذا الحكم العقلي النهي التنزيهي أصلا فإنه حيث يشتمل على ترخيص الإتيان بما تعلق به يكون مما

١٧

يلائم حكم العقل ويقويه لا مما يعانده وينافيه فالنهي بنفسه يجوز امتثال الأمر المتعلق بصرف الوجود بالفرد المنهي عنه وقد ذكرنا أن متعلق النهي في العبادات المكروهة هو الفعل العبادي بعد ثبوت عباديته وإنه لكان كونا تنزيهيا يرخص في التعبد به فالنهي عن الكون في مواضع التهمة يشتمل بإطلاقه الكون الحاصل في ضمن الصلاة فيها ولمكان اشتماله على الترخيص يجوز الإتيان بالصلاة فيها ويقع به امتثال الأمر المتعلق بها وبالجملة فالأمر متعلق بصرف الوجود وبالطبيعة بوجودها السعي والنهي يتعلق بخصوص وجود من وجوداتها وفرد من أفرادها على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه العام إلى كل فرد من أفراده ولكن ذلك لا ينافي صحة العبادة المأتي بها في ضمن هذا الفرد الخاص كما ذكرنا فانقدح من جميع ذلك عدم صحة الاستشهاد على الجواز في المسألة بصحة العبادات المكروهة وأن صحتها يتم على القول بالامتناع أيضا واعلم أن للمجوزين أدلة أخر مذكورة في تقريرات بعض الأعلام ولما لم يكن فيها كثير فائدة يهمنا ذكرها بما فيها من الكلام والنقض والإبرام كان الأولى لنا الإعراض عن نقلها في المقام ومن شاء فليطلبها منها

وينبغي التنبيه على أمرين

الأول إذا توسط المكلف أرضا مغصوبة

فهل الخروج منها يقع مأمورا ومنهيا عنه أو مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه أو بدون ذلك أو منهيا عنه أو محرما بالنهي السابق الساقط فيه أقوال (فالأول) منسوب إلى أبي هاشم واختاره المحقق القمي (قدس‌سره) ناسبا له إلى أكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء القائلين بوجوب الحج على المستطيع ولو فات استطاعته (والثاني) مختار المحقق صاحب الفصول (قدس‌سره) (والثالث) مختار العلامة الأنصاري (قدس‌سره) وإليه ذهب المحقق النائيني على ما قرره بعض أفاضل مجلس درسه واختار القول الرابع (المحقق) صاحب الكفاية وتبعه بعض

١٨

الأعاظم من علماء عصرنا (دام ظله) وهو الحق في نظري القاصر وقبل بيان الاستدلال عليه تقدم الكلام في سائر الأقوال فنقول أما القول الأول فهو مبتن على مقدمتين (أولاهما) جواز الاجتماع في الفعل الموجه بوجهين (ثانيتهما) أن التكليف بما لا يطاق جائز إذا كان عن سوء اختيار المكلف وأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا والمقدمة الأولى وإن كانت مختارة لنا كما تقدم إلا أن المقدمة الثانية غير صحيحة فإن الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار خطابا ولا يصح من المولى التكليف بما لا يطاق الذي هو قبيح نفسه بسوء اختيار العبد كما هو واضح (وأما) ثاني الأقوال ففيه أولا أنه لا وجه لكون الحركات الغصبية مأمورا بها وغاية ما يقال وجها لذلك (وجهان) الأول أنه مقدمة سببية للتخلص عن الحرام ولا ريب في وجوبها وفيه أن التخلص عن الحرام وتركه غير واجب شرعا فالغصب منهي عنه ومزجور عنه شرعا وتركه واجب بحكم العقل إرشادا إلى ما في فعله من الحرمة والمبغوضية وليس بمبعوث إليه شرعا إلا على القول بأن الزجر عن شيء يقتضي البعث إلى تركه وهو باطل فإن البعث والزجر فعلان من الأمر يحصل الأول منه تارة والآخر أخرى باختياره وإرادته ولا معنى لتعلق أحدهما قهرا بتعلق الآخر اختيارا وقد ذكر ذلك في مبحث الضد (الثاني) أن الخروج محقق للتخلية الواجبة شرعا من باب وجوب رد المال إلى مالكه فإن الرد في غير المنقولات يكون بالتخلية ولا يتحقق هي إلا بالخروج (وأنت خبير) بأن الحركات الواقعة في سبيل الخروج إشغال في الأرض وتصرف فيها وكيف يمكن أن يكون الإشغال مصداقا للتخلية الذي هو عنوان مقابل له ومضاد معه إلا إذا أريد من الخروج الكون في خارج الدار لا الحركات المحققة له وحينئذ وإن كانت الحركات تجب من باب مقدميتها للكون في الخارج على فرض وجوبه إلا أن الكون

١٩

في الخارج يلازمه التخلية وليس بمصداق لها (وبالجملة) فالتخلية هي بمعنى جعل المكان خاليا من التصرف وتصيره ذا خلاء منه ومن الواضح الجلي أن ذلك غير الكون في الخارج وإن كان يلازمه فبالكون في الخارج يوجد التخلية ويصير المكان خاليا من التصرف وليس هذا الكون عين التخلية ومصداقا لها فالحركات الخروجية التي يتحقق بها الغصب والإشغال لا تجب بوجه نعم تجب بحكم العقل إذ بها يتحقق التخلص عن غضب المولى وسخطه وبها يحصل الفرار من مزيد عقوبته ومن هنا ظهر الجواب عما يقال من أن الخروج فرار من الظلم ونجاة من التجري والتعدي على الغير فيكون واجبا فإن هذه العناوين وإن كانت واجبة بحكم العقل إلا أنها لا توجب الوجوب الشرعي لنفس الحركات المبحوث عنها في المقام كما هو ظاهر وثانيا أن الأمر بما هو يكون مبغوضا للأمر ويعاقب عليه قبيح بحكم العقل فإن المفروض أن الحركات الخروجية مبغوضة للمولى ويعاقب عليها وهي بحيث لو لم يكن الزجر الفعلي عنها قبيحا لكان منهيا عنها فكيف يصح منه الأمر بها وهل هو إلا كالأمر بما هو منهي عنه فعلا (فانقدح ما فيما أفاده المحقق) الحائري (قدس‌سره) في وجه ذلك عن عدم المنافاة بين مكروهية شيء في حد ذاته وبين الأمر به لما فيها من مصلحة أقوى كما أنك تحب إنقاذ الأجنبي ابنتك الغريقة إذا لم تتمكن من إنقاذها مع أن مس الأجنبي إياها مكروه لك ومبغوض (وذلك) لأن المفروض حرمة الحركات في ما نحن فيه وأنها معاقب عليها وهذا كما ترى غير مرتبط بالمثال كما هو واضح الحال ومن جميع ما ذكرنا ظهر الكلام في ثالث الأقوال وما ذكر له من الاستدلال فإن الأمر بهذه الحركات الواقعة في سبيل الخروج بعد ما نرى بالعيان من صحة العقاب عليها وأنها مبغوض للمولى بمكان واضح من القبح (فبقي القول) بالوجه الرابع من

٢٠