الحجّة في الفقه - ج ١

مهدي الحائري اليزدي

الحجّة في الفقه - ج ١

المؤلف:

مهدي الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تحميد وإهداء

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف الأوّلين والآخرين محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين ولا سيّما بقيّة الله (عجل الله تعالى فرجه) في الارضين ولعنة الله على أعدائهم اجمعين.

وبعد فيقول العبد المقرّ بذنوبه الرّاجي عفو ربّه الكريم مهديّ بن المرحوم المبرور العلّامة الشّيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ : إنّي لمّا حضرت مجلس بحث الأستاذ الأعظم سيّد الفقهاء والمجتهدين من المتقدّمين والمتأخّرين أفضل أهل عصره معقولا ومنقولا صاحب الزّعامة الكبرى والنيابة العظمى رئيس الملّة ومحيي الشّريعة السّيد العلّامة الطّباطبائيّ البروجرديّ ـ أدام الله ظلّه على رءوس أهل العلم والدّين ـ أحببت أن أباهي الطّلاب والمشتغلين بتزيين هذه الصحائف بما استفدته من دقائق علومه وجوامع كلماته. فوفّقنا الله تعالى ـ بمنّه وجوده ـ لتحقّق هذه المنية ، فأخذت في تقرير كلامه الشّريف حسبما أدّى إليه فهمي القاصر مستعينا بالله. فها أنا أهدي هذه الصّحائف إلى مقامه الشامخ وأرجو أن يتفضّل عليّ بقبولها والله وليّ التّوفيق.

١
٢

موضوع العلم

اعلم أنّه لمّا كان دأب أرباب العلوم قبل الشّروع في العلم بيان موضوع العلم ليكون المتعلّم على بصيرة منه فنحن أيضا نحذو حذوهم ونقتفي أثرهم. فنقول تقريرا لكلام مولانا الأجلّ : إنّ علماء الميزان وأصحاب المنطق من المتقدّمين والمتأخّرين قد تسالموا على أمرين : أحدهما أنّ موضوع كلّ علم هو الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة. ثانيهما أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات. وهذان الأمران أرسلوهما إرسال المسلّمات.

وهاهنا شيء آخر قد تسالم عليه خصوص أصحاب علم الأصول من السّابقين الأوّلين وهو : أنّ موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي أدلّة وبما أنّها متّصفة بهذا الوصف العنوانيّ.

فأورد على هذا الأمر الأخير بعض أعلام الأصول بأنّ عمدة ما يبحث في الأصول من المسائل ـ مثل حجّية الخبر ومباحث التّعادل والتّراجيح وأمثال ذلك ـ لا تكاد تكون من جملة المسائل على هذا الفرض بل تكون من المبادئ لأنّ الحجّية تكون حينئذ من مقوّمات الموضوع فالبحث عن حجّية الحجّة يرجع إلى البحث عن موضوعيّة الموضوع.

ودفعا لهذا الإشكال فقد قال : إنّ الموضوع في علم الأصول ذوات الأدلّة لا بما هي متّصفة بهذا الوصف وبذلك يكون البحث عن حجّية الخبر ونظائره بحثا عن العوارض الذّاتيّة فإنّ الخبر من السّنّة وهي الموضوع حقيقة واتّصافها بالحجّيّة من العوارض الذّاتيّة لها فمباحث الحجّيّة تدخل كلّها في المسائل.

وأورد على هذا الكلام أيضا بأنّ حجيّة الخبر لا تعدّ من عوارض السّنّة بل تكون من عوارض الخبر الواحد والخبر بما هو خبر لا يكون موضوعا للعلم فيخرج مباحث الحجيّة عن جملة المسائل أيضا.

٣

هذا ، ولكنّ عمدة ما يرد على القول بأنّ ذوات الأدلّة هي الموضوع للعلم أنّ ذوات الأدلّة أمور متباينة لا جامع بينها حتّى يكون هذا الجامع الواحد هو الموضوع فلا محيص إلّا من فرض الجامع وهو ليس إلّا عنوان الحجيّة والدّليليّة فيرجع الأمر بالأخرة إلى أنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة. وقد تصدّى شيخ سيّدنا الأستاذ العلامة الخراساني (قده) لدفع هذه الإشكالات بأنّ موضوع العلم لا هذا ولا ذاك بل هو الكلّيّ المتّحد مع موضوعات المسائل خارجا على وزان اتّحاد الطّبيعيّ مع الأفراد والمغايرة من حيث المفهوم فقط كما هو الشّأن في كلّ كلّيّ طبيعيّ بالنّظر إلى افراده. والإشكال على هذا الكلام تارة بأنّه ربما لا نعرف في بعض العلوم جهة مشتركة متّحدة مع موضوعات المسائل حتّى يكون هي الموضوع في ذلك العلم ، وأخرى بأنّه مع عدم تشخيص موضوع العلم وتمييزه قد يتداخل العلوم بعضها مع بعض في المسائل ولم يكن المعلوم أنّ المسائل من أيّ علم من العلوم وذلك ينافي تسالم أهل الميزان على أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ؛ مندفع.

أمّا أوّلا فبأنّه ، لا بدّ وأن يكون بين مسائل كلّ علم من العلوم جهة مشتركه سارية في جميع موضوعات المسائل وهذه الجهة هي الموضوع لذلك العلم وأن لم نعرف اسمها. وأمّا ثانيا فبأنّه لا نسلّم هذا المتسالم عليه. بل نقول في قبالهم أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض الدّاعية إلى تدوين العلم لا بتمايز الموضوعات فكلّ مسألة تكون دخيلة في غرض المدوّن تكون من جملة مسائل العلم المدوّن كيف ولو كان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات لكان كلّ مسألة علما برأسه لاختلاف موضوعها مع سائر موضوعات المسائل هذا.

والحقّ أنّ تمايز العلوم بتمايز موضوعات تلك العلوم كما أنّ الحقّ أنّ موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي متّصفة بهذا الوصف أي وصف الدّليلية فيقع الكلام في توضيح المرام في موردين :

الأوّل : في أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات. والثاني : في أنّ موضوع علم الأصول الأدلة بما هي أدلّة.

٤

أمّا الكلام في المورد الأوّل فتحقيق المقال يحتاج إلى تمهيد مقدّمات :

المقدّمة الأولى : لا شكّ إنّا اذا راجعنا وتفحّصنا المسائل المتشتّتة الّتي لكلّ علم من العلوم ـ الأدبيّة أو النقليّة أو الفقهيّة أو غيرها ـ نرى ونجد أنّ في تلك المسائل مع كثرتها وتفرّقها جهتين :

جهة مشتركة بين المسائل بها تشترك وتتّحد جميع تلك المسائل. وجهة أخرى بها تمتاز كلّ مسألة من المسألة الاخرى.

أمّا الجهة المشتركة فهي سارية وثابتة في جميع مسائل الفنّ من دون نظر أصلا إلى المدوّن والمدوّن وأغراضه الداعية إلى التدوين فكأنّها هي الجهة الذّاتية لتلك المسائل من غير دخالة أصلا لأغراض المدوّن سواء كانت الأغراض أغراضا أوّليّة كي يكون متّحدا مع أغراض العلوم أو الأغراض الثّانويّة كما ستعرف عمّا قريب إن شاء الله تعالى.

مثلا عند الإمعان في مسائل علم النّحو نرى أنّ في جميع مسائلها حيثية مشتركة ذاتيّة بحيث تشترك جميع المسائل النّحويّة في تلك الحيثيّة وتجتمع تحت لوائها مع قطع النّظر عن الأغراض الدّاعية للتّدوين وهي كيفيّة أواخر الكلمة الّتي يعبّر عنها بحيثيّة الإعراب والبناء وهكذا في المسائل الفلسفيّة حيث نجد أنّ جميع مسائلها مشتركة في الحيثيّة الموجوديّة ونرى أنّ كلّما يشترك في تلك الحيثيّة مع غيره وكان بحيث يمكن حمل الموجود عليه تعدّ من المسائل الفلسفيّة والعلوم الإلهيّة وهكذا الأمر في مسائل الصّرف وهكذا سائر العلوم والفنون.

هذا في الجهة المشتركة. أمّا الجهات المائزة بين المسائل فمعلوم أنّها خارجة بحسب المفهوم عن تلك الحيثيّة المشتركة إذ المفروض أنّها جهة افتراق المسائل بعضها عن بعض فلا يمكن أن تكون تلك الجهات المائزة بمفاهيمها عين الحيثيّة المشتركة مفهوما بل لا محيص عن المغايرة المفهوميّة إلّا أنّها مع كثرتها بكثرة المسائل المفروضة للعلم ترجع كلّها إلى واحدة الحيثيّة المشتركة وكانت بحيث أنّ كثرتها لا يضرّ بواحدة تلك الحيثيّة لأنّ هذه الحيثيّات

٥

المائزة بين المسائل تكون من تعيّنات تلك الحيثيّة الجامعة فتكون كثراتها منطوية في واحدة تلك الحيثيّة وذلك بدليل الحمل أي حمل الحيثيّة الجامعة على جميع الحيثيّات المائزة والحمل كاشف عن الاتحاد بينهما بنحو من الاتّحاد فحيث لم يكن الاتّحاد بينهما بحسب المفهوم بالحمل الأوّلي الذّاتي لفرض المغايرة المفهوميّة فيكون الاتّحاد بحسب الوجود والحمل الشّائع فيقال مثلا في المسائل الفلسفيّة : الجسم موجود ، الهيولى موجودة ، الصّورة موجودة ، النّفس موجودة ، العقل موجود ... إلى غير ذلك من المسائل فالحيثيّة الموجودة سارية في جميع تلك الحيثيّات ومتّحدة معها وجودا وإن كانت متغايرة معها مفهوما. فتحصّل من جميع ما قلناه في هذه المقدّمة أنّ المسائل المتفرّقة في كلّ علم من العلوم لها ـ مع قطع النّظر عن أغراض المدوّن ـ حيثيّتان متغايرتان في المفهوم ومتّحدتان في الوجود إحداهما الحيثيّة المشتركة الثّابتة السّارية في جميع المسائل والاخرى الحيثيّات المائزة بين المسائل فليكن هذا على ذكر منك.

المقدّمة الثّانية : المفاهيم إمّا ذاتيّ أو عرضيّ وكلّ واحد من المفاهيم الذّاتيّة أو العرضيّة له اصطلاح خاصّ في لسان أهل المنطق في باب الإيساغوجي وهو باب الكليّات الخمس واصطلاح خاصّ في باب البرهان واصطلاح ثالث في لسان أهل الحكمة ولا بدّ من بيان هذه الاصطلاحات وتوضيح الضّابط الأصليّ لكلّ من الاصطلاحات حتّى يتبيّن الفارق بينها ويتّضح المراد من العوارض الذّاتيّة في المقام.

وكثيرا ما وقع الخلط بين الاصطلاحات في أبواب العلوم ومن جملة موارد الخلط مقامنا هذا.

ولعلّ هذه المقدّمة من أهمّ المقدّمات الّتي مهّدناها لبيان موضوع العلم فنقول وعلى الله التّكلان :

ملاك الذّاتيّة والعرضيّة في كلّ باب من الأبواب الثّلاثة المذكورة متفاوت البتّة فيكون معنى الذّاتيّ والعرضيّ في باب مغايرا للذّاتيّ والعرضيّ فى باب آخر.

٦

ولا يكاد يرجع أحدهما إلى الآخر وبذلك قد يكون ذاتيّ باب عرضيّا في باب آخر وبالعكس.

أمّا ملاك الذّاتيّة في باب الطّبيعيّات ـ أي في اصطلاح الحكيم الطّبيعيّ ـ فهو بمعنى الجوهريّة وإنّ الجوهر هو الموجود في نفسه أو في ذاته بمعنى نفي الحيثيّة التّقييديّة لا التّعليليّة أي إنّ كلّما هو موجود لا في الموضوع وإنّه إذا وجد وجد لا في المحلّ المستغني يكون جوهرا مندرجا تحت مقولة الجوهر الّذي هو من الأجناس العالية وفي مقابل ذلك معنى الأعراض وهو في اصطلاح الحكيم هو الّذي إذا وجد وجد لا في ذاته بل في الموضوع والمحلّ المستغني والمقولات التّسع العرضيّة كلّها مشتركة في هذه الجهة وكلّها من الأجناس العالية الّتى ليس فوقها جنس على ما قرّر في محلّه هذا هو الملاك للعرضيّة والذّاتيّة أو النّفسيّة في اصطلاح الحكيم الطّبيعيّ.

وأمّا ملاك الذّاتيّ والعرضيّ في باب البرهان فهو كلّما يعلّل وكلّما لا يعلّل حتّى أنّه عرف الذّاتيّ بما لا يعلّل والعرضيّ بما يعلّل. والسرّ هو أنّ الذّاتيّ في هذا الباب هو المفهوم المنتزع من مقام ذات الشّيء بحيث يكفي ذات هذا الشّيء في انتزاع هذا المفهوم فلا يقبل التّعليل البتّة نظير الإمكان الذاتيّ الثّابت للماهيّات الإمكانيّة حيث إنّه ينتزع عن نفس ذات الماهيّة وتكون الماهيّة كافية في انتزاعه عنها ، فالإمكان ولو كان خارجا عن ذات الماهيّات إذ ليس جزء جنسيّا ولا فصليّا لها ولا عينها الّا أنّه ذاتيّ لها أى ذاتها كافية في انتزاعه عنها.

ومقابله العرضيّ وهو ما ليس كذلك فلا ينتزع عن مقام الذّات ولا يكفي نفس ذات الشّيء في انتزاعه فيعلّل ويقال عليه لم وبم.

وأمّا ملاك الذّاتيّ والعرضيّ في باب الكليّات الخمس. فالذّاتيّ هو كون المفهوم داخلا في الشّيء ومقوّما له فيقال له الذّاتيّ بمعنى المنسوب إلى الذّات ويكون جزء تحليليا للذّات.

والذّات في هذا المقام إنّما هو الصورة النوعيّة. كما أنّ العرضيّ المقابل للذّاتيّ بمعنى ما هو الخارج عن الشّيء ويكون متّحدا معه فيكون معنى الذّاتيّ والعرضيّ في اصطلاح أهل

٧

المنطق نسبيّا إذ يمكن أن يكون مفهوم بالقياس إلى شيء ذاتيّا بأن يكون داخلة في مقام ذاته وبالقياس إلى شيء آخر عرضيا خارجا عنه ولو كان متّحدا معه كما في الحيوان والنّاطق فإنّ كلّا منهما بالإضافة إلى الآخر عرضيّ.

إذ الحيوان مفهوم خارج عن مفهوم النّاطق كما أنّ النّاطق خارج عن مفهوم الحيوان وإلّا يلزم أن يكون الفصل المقسّم للجنس مقوّما له لكنّهما بالقياس إلى الماهيّة النّوعيّة ذاتيّا ويكون داخلا في ذاتها وليس بخارج عنها ولذلك ليس لأحد أن يقول يلزم تقوّم الجوهر بالعرض لأنّ الإنسان جوهر وتقوّمه بشيئين عرضين تقوّم الجوهر بالعرض. لأنّ عرضيّة الحيوان والنّاطق كلّ بالقياس إلى الآخر ليس كعرضية السواد والبياض بالنسبة إلى الجسم فإنّهما موجودان في المحلّ المستغنى ويكونان عرضا باصطلاح الحكمة الطبيعي. وأمّا عرضية الحيوان والناطق كلّ بالقياس إلى الآخر لا ينافي جوهريّتهما وأنّهما من مقولة الجوهر إذا لوحظا جزءين من النوع الواحد. فتقوّم الماهيّة النّوعيّة بهما ليس تقوّم الجوهر بالعرض.

وبذلك كلّه يتّضح أنّ العرضيّة المعنونة في المقام أي في بيان موضوع العلم إنّما هو بالمعنى المصطلح في كتاب المنطق في باب الكليّات الخمس وتكون الحيثيّة المشتركة عرضا بالقياس إلى الحيثيّات المائزة وبالعكس لأنّها خارجة بمفهومها عن مفاهيم تلك الحيثيّات كما أنّ الحيثيّات المائزة تكون عرضا بالإضافة إلى الجامعة وكون كل واحدة من الحيثيّتين عرض بالإضافة الى الاخرى لا ينافي كون إحدى الحيثيّتين متعيّنة للموضوعيّة والاخرى للمحموليّة.

أمّا كون كلّ واحدة منهما عرضا بالقياس إلى الاخرى بمعنى العرض المصطلح عليه في باب المنطق.

فلما ذكرناه في المقدّمة الأولى من أنّ الحيثيّات المائزة خارجة بحسب المفهوم عن حدّ

٨

الحيثيّة المشتركة ومتّحدة معها بحسب الوجود ، (١) وأمّا أنّه مع كونهما عرضا لا ينافي تعيّن إحداهما للموضوعيّة وأخراهما للمحموليّة ، وأنّها من عوارضه الذّاتيّة المبحوث عنها في كلّ علم من العلوم ، فلأنّ الموضوع في مقامنا هذا ليس الموضوع بمعنى الجوهر المعروض للأعراض المقوليّة في اصطلاح الجواهر والأعراض بل المراد بالموضوع موضوع العلم الّذي يحمل عليه محمولات المسائل ، وأمّا أنّ موضوع العلم قد يكون محمولا في مسائل هذا العلم كما في علم الأصول وكما في الفلسفة الإلهيّة فسيجيء ذكره في المقدّمة التّالية.

المقدّمة الثّالثة : الموضوع الّذي يصلح للموضوعيّة في جميع القضايا هو ما يكون معلوما عند المتكلّم والمخاطب ، كما أنّ المحمول الّذي يصلح للمحموليّة هو ما يكون مجهولا عند المخاطب ويكون المطلوب العلم بما هو المجهول عنده ؛ مثلا إذا قيل زيد عالم كان المجهول ثبوته لزيد هو جهة العالميّة وهي المطلوب في تلك القضيّة فلذا لا يقال ذلك إلّا اذا كان المعلوم المتبادر أوّلا هو زيد فيقع موضوعا والمجهول ثبوته له هو علمه فيقع محمولا لا محالة.

وأمّا لو كان الأمر على عكس ذلك بأن يكون المعلوم وجود العالم والمجهول ثبوته هو أنّ هذا العالم الموجود هل هو زيد أو عمرو أو غيرهما فالمناسب بحسب الطّبع واللّغة هو انعكاس القضيّة فليقال العالم زيد وهكذا في مثال الرّجل في الدّار أو في الدّار رجل والميزان هو جعل المعلوم موضوعا وجعل المجهول ثبوته للموضوع محمولا.

قال بعض أعلام الأدب في كتابه : المجهول ثبوته لشيء عند السّامع في اعتقاد المتكلّم يجعل خبرا ويؤخّر وذلك الشّيء المعلوم يجعل مبتدأ ويقدّم ولا يعدل من تلك القاعدة

__________________

(١) (١) ـ وأمّا كون تلك الحيثيّات المائزة عرضا ذاتيّا لتلك الجهة المشتركة فلأنّ الحيثيّات المائزة تعدّ من تعيّنات الجهة المشتركة وخصوصيّاتها الوجوديّة فالذّاتيّ هاهنا ليس من الذّاتيّ في باب البرهان حتّى لا يحتاج إلى التّعليل والبحث بل الذّاتيّ هاهنا بمعنى أنّ تلك الأعراض يحمل على الجهة المشتركة بالحمل الشّائع كما في حمل الوجود على الماهيّة ففي علم الأصول كلّ واحدة من الجهات المائزة إنّما تعدّ فصلا للجهة المشتركة والجهة المشتركة هو موضوع علم الأصول الّذي قلنا أنّه الحجّة في الفقه. وهي بمنزلة الجنس للجهات المائزة. (المقرّر)

٩

في الغالب فيقال لمن عرف زيدا باسمه وشخصه ولم يعرف أنّه أخوه : «زيد اخوك؟» ولمن عرف أنّ له أخا ولم يعرف اسمه : «أخوك زيد؟» انتهى كلامه (قده) والمقصود من هذا كلّه أنّ اوّل ما يتبادر في الذّهن هو المتعيّن للموضوعيّة. وفي قضايا الأصول أيضا اوّل ما يتبادر فى الذّهن هو الحيثيّة المشتركة بين محمولات المسائل وهي «الحجّة في الفقه» كما أنّ في سائر العلوم أيضا اوّل ما يتبادر في الذّهن هو الحيثيّة المشتركة الثّابتة بين محمولات مسائل هذا العلم الّا انّ هاهنا قاعدة اخرى ذكرها علماء المنطق في بعض أبحاثهم (١).

وهي أنّ كلّ كلّيّ إذا قيس إلى ما يحمل عليه من الأفراد فهو محمول بالطّبع فإنّ شأن الكليّة هو الصّدق على كثيرين ممّا يقع تحته من الأنواع أو الأفراد والصّدق على الأفراد عبارة أخرى عن الحمل عليها وعلى هذا كلّ واحد من المفهومين أعمّ من الآخر يقع الأعمّ محمولا والأخصّ موضوعا للقضيّة بالطّبع فلو كان المفهوم الأخصّ هو المتبادر أوّلا يتعيّن ذلك للموضوعيّة بالملاكين وبحسب القاعدتين ويقع الأعمّ محمولا عليه لأنّه الأعمّ ولأنّه المجهول المطلوب علمه عند المخاطب. وأمّا لو كان المتبادر أوّلا هو الأعمّ فهو وإن كان موضوعا واقعا لأنّه المعلوم الحاضر عند ذهن المتكلّم والسّامع والأخصّ يكون محمولا واقعا لأنّه المجهول ثبوته للموضوع الّا أنّه مع كونه كذلك يكون هذا المفهوم الأعمّ محمولا على الأخصّ ويقع الأخصّ موضوعا لمكان أعميّة المحمول بالإضافة إلى الأمر الأخصّ لما عرفت أنّ شأن الكليّة هو الصّدق على الكثرات الواقعة تحتها فالكلّي يصدق على فرده لا أنّ الفرد يصدق على الكلّيّ.

ومن تلك الموارد الّتي يكون المحمول مع كونه معلوما صالحا للموضوعيّة أعمّ من الموضوع هي موضوعات العلوم بالقياس إلى عوارضها الذّاتيّة لأنّ الحيثية السّارية في تمام

__________________

(١) (١) ـ قال العلّامة الطّوسي قدس‌سره القدّوسي في شرحه لمنطق الإشارات : «كلّ محمول فهو كليّ حقيقيّ لأنّ الجزئيّ الحقيقيّ من حيث هو جزئيّ لا يحمل على غيره وكلّ كليّ فهو محمول بالطّبع على ما هو تحته وربما يخالف الوضع الطّبع كقولنا : الجسم حيوان أو جماد.» (المقرّر)

١٠

المسائل هي المتبادر المعلوم أوّلا في الذّهن فهي المتعيّن للموضوعيّة إلّا أنّها تقع محمولا في القضايا لمكان كليّتها وأعميّتها من الحيثيّات المائزة فيحمل على تلك الحيثيّات ويتشكّل منها المسائل الّتي يقال لها المطالب. مثلا الحيثيّة الموجوديّة هي المشتركة في جميع مسائل العلم الالهيّ بالمعنى الأعمّ وهي المتبادر المعلوم اوّلا الحاضر عند المتعلّم والمعلّم فهي المتعيّن للموضوعيّة الّا أنّها لما كانت أعمّ من الحيثيّات المائزة بين مسائلها من قبيل الجسميّة والنّفسيّة والعقليّة والهيولويّة والصّورة وأمثالها تقع محمولا عليها لمكان أعميّتها ويقال : الجسم موجود والنّفس موجود والعقل موجود والهيولى موجودة والصّورة موجودة ولا يقال الموجود جسم إلى آخر ومع ذلك كلّه لا ينسلخ تلك الحيثيّة الجامعة عن حدّ الموضوعيّة فهو الموضوع للعلم واقعا وإن وقع محمولا في القضايا. وهكذا الأمر في موضوع علم الأصول فإنّ الجهة الجامعة في مسائلها هي عنوان «الحجّة في الفقه» وهي المتبادر المعلوم أوّلا فهي المتعيّن للموضوعيّة لكنّها تقع محمولا في القضايا لمكان أعمّيّتها ويقال : خبر الواحد حجة ، والاستصحاب حجة ، إلى آخر المسائل الأصولية ، فظهر أنّ وقوع الحيثية المشتركة في عقد المحمول لا ينافي ولا يضرّ بكونها موضوعا للعلم واقعا وإن يقع محمولا أحيانا.

المقدمة الرابعة : الحيثية المشتركة الّتي قلنا إنّها تقع محمولا في القضايا والمسائل لمكان أعميتها تارة تقع بنفس مفهوما محمولا على الحيثيّات المائزة. واخرى لا بنفس مفهومها بل بأفرادها وأقسامها تقع محمولا. (١)

والأوّل كما عرفت في المقدّمة السّابقة في مسائل الفلسفة الكليّة ومسائل الأصول ، و

__________________

(١) (١) ـ قال المحقّق الطوسي في شرحه للإشارات : «والشيء الواحد قد يكون موضوعا لعلم إمّا على جهة الاطلاق كالعدد للحساب وإمّا لا على الاطلاق بل من جهة ما يعرض له عارض إمّا ذاتيّ له كالجسم الطبيعي من حيث يتغيّر للعلم الطبيعي او غريب كالكرة المتحركة لعلمها.» (شرح الإشارات ـ المنطق ـ الإشارة الثالثة ، منهج ٩)

١١

الثّاني كحيثيّة الإعراب والبناء في علم النّحو أو كحيثيّة الصّحة والاعتلال في علم الصّرف فإنّ حيثيّة الإعراب والبناء وإن كانت هي الحيثيّة المشتركة السّارية في جميع مسائل النّحو إلّا أنّها لا تقع بنفسها وبمفهومها محمولا غالبا بل تقع أقسامها وأنواعها محمولا في القضايا فيقال الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمضاف إليه مجرور ومعلوم أنّ الرّفع والنّصب والجرّ من أنواع تلك الحيثيّة المشتركة وعلى كلّ حال لا فرق بين المقامين في كون الحيثيّة المشتركة هي الموضوع للعلم إمّا بنفسها أو بأنواعها وأقسامها والحيثيّات المائزة بين المسائل من عوارضه الذّاتيّة بالمعنى الّذي عرفت.

المقدّمة الخامسة : قلنا إنّ الجهة المشتركة والجهات المائزة كلتيهما ذاتيّة للمسائل بمعنى أنّهما ثابتة لذات المسائل خارجا إذ كلّ مسألة تنحلّ بالانحلال العقليّ إلى ما به الاشتراك بينها وبين سائر مسائل العلم وإلى ما به الامتياز بينها وبين سائر المسائل فالذّاتيّة هاهنا بمعنى ارتباطها مع ذات الموضوع خارجا مع قطع النّظر عن الأغراض والمقاصد.

والأغراض الدّاعية إلى التّدوين خارجة من الجهتين إذ ليس لها دخل لا في الجهة المشتركة ولا في الجهة المائزة.

أمّا الأغراض الأوّليّة الدّاعية إلى التّدوين فلا تخلو إمّا أن تكون هي نفس العلم بالمسائل بمناط أنّ نفس العلم يكون مطلوبا ذاتيّا فهذا الغرض موجود في نفس كلّ طالب لكلّ علم من العلوم ولا يمكن أن يكون هذا الغرض العامّ مائزا بين العلوم ويكون تمايز العلوم بتمايز هذا الغرض. مثلا المدوّن للفلسفة إن كان غرضه هو العلم بموجوديّة الأشياء على ما هي عليها فالعلم بما هو علم الّذى هو معلوم في الذهن وهو حقائق الأشياء هو التّصديق وهذا التّصديق هو الغرض الأصليّ في جميع العلوم ولا يمكن أن يكون ذلك وجه التّمايز بين علم الفلسفة وغيرها من العلوم.

وإمّا أن تكون الأغراض الأوّليّة غير العلم بالمسائل بما هو علم بل بما هو معلوم مثلا صيانة المقال عن الألحان في علم النّحو وصيانة الفكر عن الخطإ في علم المنطق واستنباط

١٢

أحكام الشّرعيّة في علم الأصول فهي إنّما تكون متفرّعة على تلك الحيثيّات الثّابتة لذات المسائل وما لم تكن لذوات المسائل خصوصيّة ذاتيّة لا يترتّب عليها تلك الأغراض إذ الأغراض معلولات في الوجود الخارجيّ والحيثيّات الذّاتيّة هي الملزومة لتلك الأغراض وقد قلنا إنّ الحيثيّات الذّاتيّة ترجع إلى الحيثيّة المشتركة والحيثيّات المائزة.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه ما أفاده المحقّق الحكيم الطّوسيّ قدس‌سره القدوسيّ في أوّل طبيعيّات شرح الإشارات من أنّ مباحث الهيولى والصّورة الّتي يبتني عليها علم الطّبيعيّ مصادرات فيه ومسائل من الفلسفة الأولى إذ موضوع علم الفلسفة الأولى هو الموجود بما هو موجود وإثبات وجود المادّة والصّورة من فروع علم الفلسفة لا من فروع علم الطّبيعي بل من مباديه إذ الموضوع في العلم الطّبيعيّ الجسم الطّبيعيّ المتألّف من المادّة والصّورة مع أنّ الغرض في العلم الطّبيعيّ يشمل البحث عن وجود الهيولى والصّورة.

هذا إذا كان المراد بالتّمايز التمايز بالأغراض الأوّليّة.

وأمّا لو كان المراد بالأغراض الأغراض الثّانويّة من قبيل تحصيل النّفع أو الاشتهار بالعلم أو التّقرّب إلى الله تعالى او التّقرّب إلى السّلطان أو غير ذلك من الأغراض فهي يختلف باختلاف الأشخاص فكيف يحصل بها ميز كلّيّ للعلوم بعضها عن بعض.

إذا عرفت ذلك كلّه فاعلم أنّ تلك الحيثيّات الجامعة والجهات المشتركة الّتي قد عرفت سريانها في جميع مسائل كلّ علم من العلوم مع قطع النّظر عن المدوّن وأغراضه هي الموضوعات للعلوم وبها يحصل التّمايز بين العلوم كما هو شأن كلّ حيثيّة مشتركة فإنّ الجهات المشتركة تكون جامعة مشتركة بالنّسبة إلى أفرادها ومانعة ومائزة بالقياس بنفسها إلى أغيارها كما أنّ الحيثيّات المائزة بين المسائل بكثرتها ترجع إلى تلك الحيثيّة الواحدة في مقام الحمل بحيث لا تنثلم بها واحدتها وقد عرفت ذلك كلّه في المقدّمة الأولى.

وتلك الحيثيّات المتكثرة لأنّها تنتزع من تعيّنات الحيثيّة المشتركة وتكون خارجة عنها مغايرة معها بحسب المفهوم تعدّ من العوارض الذّاتيّة للجهة الجامعة كما أنّ الجهة

١٣

الجامعة أيضا تكون من العوارض بالقياس إلى تلك الجهات إلّا أنّ عروض كلّ واحد منهما بالنّسبة إلى الآخر لا ينافي تعيّن إحداهما للموضوعيّة لأنّها المعلومة المتبادرة أوّلا والاخرى للمحموليّة لأنّها المجهولة ثبوتها لها كما عرفت في المقدّمة الثّانية.

فتلك الجهة المشتركة تكون موضوعا للعلم لسريانها في جميع المسائل ومع فرض كونها المتبادرة أوّلا تقع محمولا في قضايا المسائل لفرض أعمّيّتها بالنّظر إلى الحيثيّات المائزة والأعمّ هو المحمول بالطبع كما عرفت تفصيله في المقدمة الثالثة. فتحصّل وثبت أنّ تمايز العلوم إنّما هو بتمايز الحيثيات المشتركة بين المسائل وتلك الحيثيّات هي الموضوعات للعلوم وإن وقعت محمولات في المسائل.

وأمّا الأغراض فكلّها خارجة عن حدود ذوات المسائل ولا تكون مأخوذة لا في عقد وضعها ولا في عقد حملها فكيف يحصل بها التمايز بين العلوم كما عرفت في المقدّمة الخامسة؟ كما ثبت أنّ موضوع كلّ علم هو الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة والعوارض الذّاتيّة بالمعنى الّذي ذكرناه هي الّتي تكون خارجة عن ذات الشّيء مفهوما ومتّحدة معه مصداقا من دون احتياج إلى واسطة وتقدير في هذا الحمل.

فمسائلها عبارة عن القضايا الّتي يحكم فيها بثبوت الجهات المائزة للجهة المشتركة الّتي هي الموضوع واقعا وتلك الجهات المائزة هي المطلوبة ثبوتها للموضوع أولا ثبوتها وهي العوارض الذّاتيّة لموضوع العلم.

وبما ذكرناه يظهر أنّ ما هو المعروف في الأفواه عن بعض أعلام فنّ الحكمة من أنّه قد يكون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات المقيّدة بالحيثيّات كالكلمة والكلام المقيّدة بحيثيّة الإعراب والبناء ، لا يخلو عن تسامح واضح ، فإنّ الموضوع للعلم نفس تلك الحيثيّات المشتركة وبها يحصل التّمايز الذّاتيّ بين العلوم لا أنّ تلك الحيثيّات قيود لشىء ومجموع القيد والمقيّد موضوع للعلم. وذكر الكلمة والكلام في موضوع علم النّحو ربما يكون من باب التقريب إلى أذهان المتعلّمين كما أنّ ما ذكره صاحب الفصول من أنّ العرض الذّاتيّ ما

١٤

كان عارضا للمعروض بلا واسطة عارض آخر واضح الفساد.

لأنّ المراد بالعرض في المقام ليس ما هو المصطلح عند الحكيم الطّبيعي بل المراد هو العرض في باب الكليّات الخمس والأعراض في هذا الباب كلّها منتزع من ذات الحيثيّة المشتركة ولا ينقسم إلى ما بواسطة أو غيرها. ويكفي لذلك التّوجه الى الجنس العالي بالنّسبة إلى فصل الفصول فإنّ كلّها أعراض ذاتيّه لفصولها الأخيرة بلا واسطة وجوديّة وهذا من الخلط بين الاصطلاحين. كما أنّه بما ذكرناه يظهر وجه الإشكال فيما أفاده المحقّق الخراساني (قده) من أنّ موضوع العلم هو نفس موضوعات المسائل وما يتّحد معها خارجا كالطّبيعى وأفراده. لما عرفت في المقدّمة الرّابعة أنّ موضوع العلم هو الحيثيّة المشتركة وتلك الحيثيّة إمّا بنفس مفهومها تقع محمولا في القضايا وإمّا بأقسامها وأنواعها. فموضوع العلم إمّا هو نفس المحمولات كما في مسائل الفلسفة والأصول وإمّا جامع تلك المحمولات فحينئذ تكون نسبة موضوع العلم إلى تلك المحمولات نسبة الطّبيعيّ إلى أفراده.

وإلّا فنسبة موضوع العلم إلى موضوعات المسائل ليس كنسبة الطّبيعيّ إلى أفراده لأنّ موضوعات المسائل هي الحيثيّات المائزة الخاصّة الّتي قلنا أنّها منتزعة من تلك الحيثيّة المشتركة وتكون من تعيّنات تلك الحيثيّة ومن شئونها لا من أفرادها.

وأمّا الطّبيعي فهو تمام حقيقة كلّ فرد من أفراده والفرد ليس من المفاهيم الانتزاعيّة من بعض أحوال الطّبيعيّ كي يكون من شئونه وتعيّناته.

كما يظهر وجه النّظر فيما أفاده أخيرا من أنّه لو كان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات لكان كلّ مسألة من كلّ علم علما برأسه.

وذلك لما عرفت في المقدّمات أنّ موضوعات المسائل والأبواب هي الحيثيّات المائزة بين المسائل والعوارض الذّاتيّة للجهة المشتركة وهي لا تكاد تكون من أفراد الحيثيّة الجامعة المشتركة بل من عوارضها الذاتية وتلك الحيثيّات مع كثرتها لا تكاد تنثلم بها واحدة الجهة المشتركة الجامعة لها لأنّ كثراتها منطوية في واحدة الحيثيّة المشتركة وواحدتها

١٥

محفوظة بين المراتب.

فالموضوع الّذي هو الجهة المشتركة يكون كخيط يحفظ به شتات موضوعات المسائل وقد يقع بمفهومها الوسيع محمولا لكلّ واحدة من المسائل كما في علم الأصول والفلسفة. وقد يقع بأقسامها وأنواعها محمولات المسائل.

المورد الثّاني : في موضوع علم الأصول.

قال مدوّنه الأوّل في رسالة له تسمّى بالرّسالة الشّافعيّة : إنّ موضوع الأصول هو عنوان الحجّة في الفقه.

فنقول نحن إذا راجعنا وتفحّصنا مسائل الأصول نرى أنّ الحيثيّة المشتركة السّارية بين جميع المسائل الأصوليّة هي هذا العنوان ـ أي الحجّة في الفقه ـ وتكون الحيثيّات المائزة المجهولة الثّبوت لتلك الحيثيّة وتكون من عوارضها الذّاتيّة بالمعنى الّذي قلناه هي المحمولات لتلك المسائل.

ففي علم الأصول يبحث عن عوارض الحجّة بما هي حجّة وكلّما يرجع إلى ذلك ويحمل عليه هذا العنوان يكون من المسائل الأصوليّة لا محالة فيقال : القياس حجّة او لا؟ خبر الواحد حجّة أو لا؟ الاستصحاب حجّة او لا؟

ولكن فليعلم أنّ عنوان الحجّة الّتي هي الحيثيّة المشتركة إنّما هو بمعنى ما يصحّ الاحتجاج به عند العقلاء وذلك إمّا احتجاج المولى على العبد أو احتجاج العبد على المولى وعلى كلّ حال كلّ ما يصحّ الاحتجاج به ، إمّا احتجاج العبد على المولى أو احتجاج المولى على العبد ، يكون من المسائل الأصولية ويحمل عليه عنوان الحجّة في الفقه.

وبهذا البيان تكون مباحث حجّية الأمارات داخلا في مسائل الأصول كما أنّ مباحث الأصول العمليّة من الأصول المثبتة أو النّافية كلّها ترجع إلى تلك الحيثيّة وتكون داخلا في المسائل وهكذا أكثر مباحث الألفاظ وعمدتها.

أمّا مباحث حجّية الظّنون خاصّة كانت تلك الظّنون أو الظّنون المطلقة فكلّها واضحة

١٦

الاندراج تحت موضوع العلم فتكون كلّها من المسائل إلّا أنّ الظّنون المثبتة للتكاليف تكون من قبيل ما يصحّ به احتجاج المولى على العبد والظّنون النّافية للتّكاليف تكون من قبيل ما يصحّ به احتجاج العبد على المولى. وأمّا مباحث الأصول العمليّة فمسألة الاشتغال يبحث فيها عن حجّيّة العلم الإجماليّ وهل هو كالعلم التّفصيلي في الحجّية والتّنجّز أولا. ومسألة البراءة يبحث فيها عن حجّية احتمال التّكليف أولا.

ومسألة الاستصحاب يبحث فيه من حجّية الشّكّ المسبوق باليقين أولا. وأمّا أصالة التّخيير فهي في صورة الدّوران بين المحذورين ترجع إلى مسألة البراءة فإنّها عين مسألة البراءة عن التكليف مع تفاوت يسير وهو أنّ في صورة الدوران بين المحذورين كان اقتضاء التّنجّز والحجّية موجودا وهو العلم بالتّكليف إلّا أنّه لا يمكن تأثيره لمانع عقليّ وأمّا في موارد البراءة فليس للتّنجز اقتضاء أصلا.

وأمّا مسألة حجّية القطع فالحجّية للقطع وإن كانت بمثابة من الوضوح بحيث لا مجال للبحث عن حجّيّته وكانت حجّية من الأمور الّتي لا يحتاج إلى البيان.

ولهذه الجهة أيضا لا نرى ذكرها في عداد المسائل الأصوليّة في كتب القدماء (١) إلّا أنّ بعض الأخباريّين لما أنكروا حجّية القطع في بعض الموارد وتقيّدوا حجّية القطع ببعض الأسباب دون بعض ذكره المتأخّرون لدفع توهّمهم. فلا إشكال في أنّه بما ذكرناه يكون من المسائل الأصوليّة فإنّه أيضا ممّا يوجب تنجّز التّكليف ويصحّ للمولى الاحتجاج به على العبد ويحمل عليه عنوان الحجّة في الفقه إلّا أنّه قال شيخ سيّدنا الأستاذ في الكفاية في مبحث القطع : أنّ هذا البحث خارج عن مسائل الأصول وكان أشبه بمسائل الكلام.

__________________

(١) (١) فيمكن أن يقال إنّ مسألة حجّية القطع في علم الأصول يشابه مسألة «الجسم موجود» في علم ما بعد الطّبيعة فكما أنّ موجوديّة الأجسام من أوضح الواضحات ومع هذا الوضوح لا يخرج عن كونها من مسائل ما بعد الطّبيعة كذلك مسألة حجّية القطع فإنّها مع فرط وضوحها لا تخرج عن عداد مسائل الأصول وإلّا يلزم خروج كلّ مسألة من مسائل كلّ علم من العلوم بعد إثباتها ثبوتا أو نفيا. (المقرّر)

١٧

لكنّ الحقّ أنّه ليس فيه وجه شباهة بمسائل الكلام. لأنّه إن كان وجه المشابهة هو كون العقوبة على من خالف قطعه ليس قبيحا على الله تعالى ففيه أنّ شأن علم الكلام ليس هو تعيين ما يقبح صدوره عن الله تعالى أو ما يصحّ صدوره عنه من المصاديق بل علم الكلام يبحث فيه عن عدم إمكان صدور القبح عنه تعالى على الوجه الكلّى خلافا للأشاعرة حيث زعموا إمكان صدور القبح. وأمّا ما هو قبيح أو يصحّ فعله فهو أجنبيّ عن المسائل الكلاميّة. وإن كان وجه المشابهة هو استحقاق عقوبة العبد في المعاد إن خالف قطعه. ففيه أنّ شأن الكلام هو إثبات المعاد وإثبات استحقاق المثوبة والعقوبة في المعاد في الجملة. وأمّا ترتّب العقوبة على شيء مخصوص وعدم ترتّبها عليه فليس ذلك في عهدة علم الكلام أصلا بل الكلام إنّما يبحث عن إثبات الصّانع الحكيم وتوحيده وصفاته وإثبات النّبوة والولاية بمعنى الإمامة وكلّ ما يرجع إلى العقائد الإسلاميّة وليست حجّية القطع من جملة هذه الأمور.

فالبحث عن حجّية القطع بكلا قسميه من التّفصيليّ والإجماليّ أجنبيّ من الكلام وإنّما هو من المسائل الأصوليّة.

وأمّا مسألة حجّية الظّهور فهي وإن كانت حجّيّتها ممّا لا ريب فيها إلّا أنّ المطرح عند القدماء هو خصوص الموارد الّتي يعرض للكلام اعتلال ما من التّقييد أو التّخصيص ممّا يوجب اضطراب الظّهور فكانوا يبحثون عن حجّية هذه الظّواهر ومباحث حجّية الظّواهر مخصوص عندهم بتلك الظّواهر الّا أنّ المتأخّرين قد جعلوا البحث عن حجّية الظّواهر بحثا على حدة وقرّروا لمباحث العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد أبوابا أخرى ويبحثون في كلّ واحد من تلك المسائل على الوجه الأبسط.

وأمّا مسألة التّعادل والتّرجيح فترجع إلى البحث عن حجّية أيّ الخبرين في صورة وجود المرجّحات أو الحجّية التّخييريّة في صورة التّساوي.

وأمّا مباحث الألفاظ فعمدة مسائلها راجعة إلى عنوان الحجّة في الفقه ويبحث فيها عن

١٨

العوارض الذّاتيّة لذلك العنوان بالمعنى الّذي قلناه.

أمّا مباحث العامّ والخاصّ فبعض مسائلها تعدّ من المسائل الأصوليّة كمسألة إنّ العامّ المخصّص هل هو حجّة بعد التّخصيص في الباقي أو لا؟

وبعض مسائلها الاخرى يرجع إلى المبادي اللّغويّة كمسألة إنّ للعامّ لفظا يخصّه او لا بل يكون الألفاظ مشتركة بين العامّ والخاصّ او الألفاظ موضوعة بإزاء المعنى الخاصّ واستعمالها في العامّ على سبيل التّجوّز؟

وأمّا مسألة الإطلاق والتّقييد أيضا كمسألة العامّ والخاصّ في أنّ بعض المباحث فيها راجعة إلى المسائل وبعضها إلى المبادي.

وأمّا مسألة المفاهيم فالبحث فيها أيضا يرجع إلى مباحث الحجّة فيبحث في أنّ الظّهور الضّعيف المستفاد من أخذ القيد كالشّرط والوصف في الحكم في المنطوق ، كما هو مسلكنا في باب المفاهيم تبعا للقدماء من الأصحاب ، هو حجّة في الفقه أو لا. وأنّه يظهر أيضا أنّ البحث عن حجّية المفاهيم ليس بحثا صغرويّا كما هو المعروف المسلم بين الأعلام بل هو بحث كبرويّ كسائر المسائل الأصوليّة.

فتلخّص أنّ كلّما يتشكّل منه قضيّة يكون محمولها عنوان الحجّة في الفقه وموضوعها الجهات المائزة بين المسائل يكون من المسائل الأصوليّة حتما وما لم يكن كذلك من المباحث المذكورة في أبواب الأصول فلا يخلو إمّا ان يكون من المبادي اللّغويّة كمباحث الوضع والحقيقة والمجاز والمشتقّ ونظائرها وإمّا أن يكون من المبادي الأحكاميّة كمباحث مقدّمة الواجب واجتماع الأمر والنّهي ونظائرهما.

هذا هو الحقّ الّذي محتوم عندنا. وقد ذكرنا أنّ موضوع علم الأصول بهذا الوجه الّذي حقّقناه هو عنوان الحجّة في الفقه وهو الّذي وجدناه في أوّل كتاب دوّن في علم الأصول وهو الرّسالة الشّافعيّة المدوّنة في أواخر القرن الثّاني وقد عرفت أنّ ذلك مقتضى التّحقيق والحقّ.

١٩

والحقّ أحقّ أن يتّبع ولو كان في الرّسالة الشّافعيّة فتأمّل في المقام فإنّه حقيق بالتّأمّل والله وليّ التّوفيق.

٢٠