تراثنا ـ العددان [ 109 و 110 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 109 و 110 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٤٣٠

١

تراثنا

صاحب الامتیاز

مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث

المدير المسؤول :

السيّد جواد الشهرستاني

العدد الثالث والرابع [١٠٩ ـ ١١٠]

السنة الثامنة والعشرون

محتـويات العـدد

* كلمة العدد :

* التراثا.

.................................................................... هيئة التحرير ٧

* الذكر المحفوظ قراءة جديدة في تاريخ جمع القرآن وما روي في تحريفه (١).

......................................................... السيّد علي الشهرستاني ١٠

* صفحة مشرقة عن تاريخ السماع والقراءة والإجازة عند الإماميّة.

................................................ السيّد حسن الموسوي البروجردي ٧٦

* موقوفات النبيّ وأهل البيت عليهم‌السلام.

.................................................... السيّد عبد الهادي الشريفي ٢٥٥

٢

محرّم الحرام ـ جمادى الآخرة

١٤٣٣ هـ

* مع الشريف الرضي في ديوانه (١).

.............................................. المرحوم الشيخ محمّد علي اليعقوبي ٣٠٧

* من ذخائر التراث:

* تحفة الإخوان في حكم شرب الدخان.

............................ للسـيّد هبة الدين الحسيني الشهرستاني (المتوفّى سنة ١٣٨٦هـ)

............................................ تحقيق: السيّد محمود المقدّس الغريفي ٣٥١

* من أنباء التراث.

................................................................ هيـئة التحرير ٤١٤

* صورة الغلاف: نموذج من مخطوطة (تحفة الإخوان في حكم شرب الدخان) للسيّد هبة الدين الحسيني الشهرستاني (ت ١٣٨٦هـ) والمنشورة في هذا العدد.

٣
٤

٥
٦

كلمة العـدد :

تراثنا

هيئة التحرير

بسم الله الرحمن الرحيم

منذ بدايات التاريخ أخذ الإنسان على عاتقه تدوين الموروث من حضارته ، ولم تكن أمّتنا بمنئى عن ذلك ، فلو نجيل النظر في بعض المؤلّفات التي تصدّت إلى استقراء المصنّفات والكتب والمؤلّفين مثل كتاب الفهرست للشيخ الطوسي وابن النديم والفهرس للعلاّمة والشيخ منتجب الدينو كشف الظنون لحاجي خليفة وهديّة العارفين للبغدادي ورياض العلماء لعبد الله أفندي والذريعة إلى تصانيف الشيعة لآقا بزرك الطهراني والشيعة وفنون الإسلام للسيّد حسن الصدر ، وكتب الرجال لكبار علمائنا ، وفهارس المكتبات الإسلامية والعالمية نقف على ما يثير الدهشة للشمولية وسعة التأليف عند الشيعة على مدى الألفية الأولى والثانية من تاريخ الإسلام ، حيث شملت تأليفاتهم جميع العلوم ودقائق المعرفة ، وخلّفوا لنا تراثاً جمّاً يكاد يفوق الحصر ، فتلك مدرسة بغداد والنجف والحلّة وإيران وجبل عامل والبحرين وغيرها ملأت كتبها رفوف المكتبات حتّى وصلت إلى

٧

المكتبات العالمية في برلين وليدن واسطنبول وحيدر آباد ، وأمّا المكتبات الخاصّة فهي أكثر من أن تعدّ أو تحصى ، حتّى صدق قول القائل : «ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها ، وخلّدت من عجيب حكمتها ، ودوّنت من أنواع سيرها حتّى شاهدنا بها ما غاب عنّا ، وفتحنا بها كلّ مستغلق كان علينا ، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم ، وأدركنا ما لم نكن ندرك إلاّ بهم ، ولخسّ حظّنا من الحكمة ، وضعف سبيلنا إلى المعرفة».

وقد تعرّضت هذه الثروة العلمية إلى العديد من النكبات والكوارث عبر القرون أتت على الآلاف منها بين الحرق والتلف والضياع ، فهجوم المغول على بغداد حيث صنعوا جسراً من كتب مكتباتها على نهر دجلة حتّى أنّه ليقال بأنّ ماء دجلة قد اصطبغ بلون مداد الكتب ، وأمّا صلاح الدين الأيّوبي فلم يكتفي بقتل الآلاف صبراً بل حرق المكتبات وخزائن الكتب عند هجومه على الدولة الفاطمية والحمدانية وقتل علمائها ، ناهيك عن الحروب الصليبية وما ساهمت به من تلف التراث وسرقته ، وأمّا المستشرقون الأوائل فقد عبثوا بالتراث بما يحلو لهم من سطو وتحريف وتزييف ، ويكفيك اليوم إنّنا نرى الكثير من عناوين المؤلّفات والتصانيف بين أسطر كتب تراجم العلماء والأدباء وفي كثير من المعاجم إلاّ أنّنا لا نرى لها معنوناً ونفتقد أثرها على رفوف مكتباتنا ، وبالرغم من كلّ ما نال تراثنا إلاّ أنّ ما بقي منه اليوم ووصل إلينا يكشف لنا عن عظمة ذلك التراث كمّاً ونوعاً ويجدر بنا أن نقف وقفة إجلال وإكبار أمام هذا التراث وصانعيه لا كما يقول البعض في كتابه التراث والتجديد.

إنّ حركة لملمة التراث ساهم بها علماؤنا منذ قرون وتصدّى لها رجال من الرعيل الأوّل بذلوا الغالي والنفيس من أجل الوصول إلى أفضل الأساليب للحفاظ عليه ، فبذلوا جهوداً في مجال التحقيق وألّفوا في مناهجه

٨

وقواعده وأسسه حتّى فاقوا غيرهم في ذلك ، فساهموا في خدمة التراث وحقّقوا آثاره ووضعوا أسس التحقيق العلمي وعالجوا مشكلاته وذلّلوا صعابه وصحّحوا أخطاء النصوص تصحيفاً وتحريفاً وفتحوا مغاليقها وكانوا ولازالوا هم القدوة في هذا المضمار ، واعترافاً بالجميل لابدّ هنا وفي هذه العجالة من ذكر بعض المتأخّرين في هذا المجال كالشيخ آقا بزرگ الطهراني والسيّد عبد العزيز الطباطبائي والسيّد صادق بحر العلوم والسيّد حسن الصدر والأستاذ حسين علي محفوظ وغيرهم من المتقدّمين والمتأخّرين (رحمهم الله) ، وهذا لا يعني أنّنا نغمط حقّ الذين ساهموا في هذا المجال من أمثال زكي باشا وأحمد شاكر وعبد السلام هارون وصلاح المنجد والمستشرقين من أمثال نولدكه وجولدتسيهر وبرجستراسر.

إلاّ أنّ الذي يمعن النظر في واقع التحقيق اليوم يجد أنّ هذه الحركة تعرّضت إلى العديد من النكسات وأهمّها تطفّل بعض أصحاب القلم على هذا الفنّ حيث أقحموا أنفهسم في هذا المجال ، مضافاً إلى غياب النقد والناقدين لتصحيح الأخطاء وتعديل المسار ، والاجترار والتكرار في الكثير من الأعمال التحقيقية ، وعدم الالتفات إلى المناهج العلمية في تحقيق التراث من اقتناء المخطوط وأصوله وأسسه وقواعده وعدم الاطّلاع على هفوات الآخرين والتي تناولتها العديد من الكتب والمجلاّت التي تعنى بهذا المجال نقداً وتحليلا.

هيئة التحرير

٩

الذكر المحفوظ

قراءة جديدة في تاريخ جمع القرآن

وما روي في تحريفه

(١)

السيّد عليّ الشهرستاني

بسم الله الرحمن الرحیم

مرّ تاريخ الذكر الحكيم بعدّة مراحل :

الأولى : التنزيل.

الثانية : الترتيب.

الثالثة : الجمع والتأليف.

الرابعة : توحيد المصاحف.

١ ـ التنزيل :

اشتهر بين الأعلام أنّ القرآن الكريم نزل على مرحلتين :

المرحلة الأولى : النزول الدفعي جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور ، أو إلى بيت العزّة في سماء الدنيا ، أو على قلب النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) في شهر رمضان في ليلة القدر ، ثمّ نزوله منجَّماً على رسوله

١٠

طوال عشرين عاماً أو أكثر ـ حسب اختلاف العلماء في مدّة إقامته (صلى الله عليه وآله) بمكّة ، هل هي عشر سنوات أو ثَلاث عشرة سنة ، أمّا إقامته بالمدينة فعشر سنين بالاتفاق ـ قال سبحانه : (إِنَّاأنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) ، وقال تعالى : (وَهذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) (٢) ، وقال عزَّوجلَّ : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّامُنذِرِينَ) (٣) ، وقال تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ وَمَاأَرْسَلْنَاكَ إِلاَّمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٤) ، وقال تعالى شأنه : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) (٥) ، وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) (٦) ، ونظائرها كثير في القرآن الكريم.

ويمكننا أن نسمّي هذه المرحلة من الإنزال بمرحلة جمع الإنزال الكلّي للقرآن(٧) ، وقد يكون هذا الإنزال قد تكرّر مرّتين ، مرّة إلى البيت

__________________

(١) سورة القدر : ١.

(٢) سورة الأنعام : ٩٢.

(٣) سورة الدخان : ٣.

(٤) سورة الإسراء : ١٠٥.

(٥) سورة البقرة : ١٨٥.

(٦) سورة الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٧) الجمع يأتي عموماً على أربعة معان :

الأوّل : الحفظ ، ومنه قوله تعالى (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ويقال للحفّاظ : (جمّاع القرآن).

الثاني : الجمع في مكان واحد ، سواء كان مرتّباً أم غير مرتّب ، وذلك قبل حصره ما بين الدفّتين.

١١

المعمور واُخرى على صدر النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله).

المرحلة الثانية : النزول التدريجي على ما قضت به حكمة البارئ وفْق الحاجة والأحداث والمبرّرات؛ لأنّه جلّ وعلا نزَّله جملة واحدة ثمّ فرّق تنزيله منجَّماً على رسوله (صلى الله عليه وآله) ، سورة سورة ثمّ آية آية.

قال الطيّبي : «أُنزل القرآن أوّلا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثمّ نزل مفرّقاً على حسب المصالح ، ثمّ أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ»(١) فقال سبحانه : (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (٢) ، وقال تعالى : (وَإِن مِّن شَيْء إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَعْلُوم) (٣) ، وقال تعالى : (وَقُرْآناًفَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْث وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) (٤) ، وقال تعالى : (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيم خَبِير) (٥) ، وقال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَـةً وَاحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلاَيَأْتُونَكَ بِمَثَل إِلاَّ

__________________

الثالث : الجمع مرتّباً منظّماً محصوراً ما بين اللوحين ، وهو ما يسمّى اليوم بالمصحف.

الرابع : جمع الناس على قراءة واحدة ومصحف واحد.

(١) الاتقان للسيوطي ١ / ١٧١ / ٨١١.

(٢) سورة القيامة : ١٦ ـ ١٧.

(٣) سورة الحجر الآية : ٢١.

(٤) سورة الإسراء : ١٠٦.

(٥) سورة هود : ١.

١٢

جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (١) ، وقال تعالى : (وَلاَتَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٢) ، وقال عزّ من قائل : (إِنَّانَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلا) (٣) ، ونظائرها كثير في القرآن المجيد.

٢ ـ الترتيب :

اختلف الباحثون في أنّ ترتيب السور هل كان بإرشاد وتوجيه من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أَو أنّه فِعْلٌ فَعَلَهُ الصحابة باجتهاد منهم؟

أمّا ترتيب الآيات فقد أطبق علماء الجمهور على توقيفيّتها من قبل الباري بلا منازع يذكر على القول المشهور ، مستدلّين بأحاديث ، منها : حديث زيد بن ثابت : «كنّا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) نؤلّف القرآن من الرقاع»(٤).

وما أخرجه الترمذي وأحمد وأبي داود والنسائي عن ابن عبّاس ، قال : «قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ...»(٥).

__________________

(١) سورة الفرقان : ٣٢.

(٢) سورة طه : ١١٤.

(٣) سورة الإنسان : ٢٣.

(٤) سنن الترمذي ٥ / ٧٣٤ / ٣٩٥٤ ، مسند أحمد٥ / ١٨٤ / ٢١٦٤٧.

(٥) سنن الترمذي٥ / ٢٧٢ / ٣٠٨٦ ، مسند أحمد١ / ٥٧ / ٣٩٩ ، ٦٩ / ٤٩٩ ، من مسند عثمان بن عفّان ، سنن النسائي الكبرى٥ / ١٠ / ٨٠٠٧ ، الباب ٣٠ السورة التي يذكر فيها كذا.

١٣

وما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعاً : «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عصم من الدجّال»(١) وغيرها من عشرات الروايات الآتية بعد قليل.

لكن في مطاوي كلمات بعض الأعلام في علوم القرآن إشارة إلى مواضيع اُخرى ، كاختلاف ترتيب النزول عن ترتيب التلاوة مع القول بأنّ كلاهما قرآن.

كما أنّا سنوضّح الهدف من أحاديث العرض ، وأنّها تعني ترتيب القرآن الكريم وفق ما نزل من اللوح المحفوظ ، بمعنى أنّ القرآن بعد نزوله دفعة واحدة قد ينزّل سورة سورة ، لقوله تعالى : (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) وقوله تعالى : (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً).

وأنّ الناس كانوا يعرفون انتهاء السورة وابتداء سورة اُخرى بنزول (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وهذا دليل على النزول سورة سورة بعد نزولها الدفعيّ على صدر النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله).

وقد تنزّل السورة ثمّ تبدأ الأحداث الواقعة فيها ، فيأتي جبريل مرّة اُخرى بالآيات المرتبطة بتلك الوقائع فيقرأها النبيّ (صلى الله عليه وآله) على الناس ، فيظهر لهم أنّهم كانوا قد سمعوها قبل ذلك ، لأنّ الناس عموماً لا يدركون عمق حقائق القرآن ودقائقه ، فكان لابدّ من بيان إعجاز القرآن لهم بصورة يفهمه

__________________

(١) صحيح مسلم١ / ٥٥٥ / ٨٠٩ ، الباب ٤٤ في فضل سورة الكهف وآية الكرسي.

١٤

الجميع ؛ لأنّ الإخبار بالمغيّبات دليل على صدوره من عند علاّم الغيوب ، لأنّ الله وحده هو الذي يعلم بما سيكون. فلمّا جاءهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالآيات قبل وقوع الأحداث فهموا بأنّه منزل من قبل الله.

وقد تنزّل آية آية ثمّ يؤلّف منها سورة طبقاً لما نزل من اللوح المحفوظ وذلك بالتنسيق بين جبريل عليه‌السلام ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ، لقوله تعالى (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَاْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ). وقد التبس الأمر على عمر بأنّ له أن يؤلّف من ثلاث آيات سورة حسبما سيأتي.

وعليه فمن معاني الجمع هو ما يأتي بعد التفريق ، أي أنّ الله سيجمع ما أنزله مفرّقاً ومنجّماً على رسوله ويجعله قرآناً للناس ، فإذا قضى الوحي بقرآنيّته فعلى الرسول اتّباع قرآنه : (فَإِذَا قَرَاْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أو قوله تعالى : (وَلاَتَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) ؛ لأنّه قد ينزّل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آيتان لسورتين مختلفتين في آن واحد فيطلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) تدوينها منفصلتين حتّى يأتي جبريل في كلّ عام فيعيّن مكانها في السور.

وقد تقدّم حادثة ويؤخّر مكانها في السورة ، وقد تؤخّر آية وهي مقدّمة زماناً على سابقتها مثل تأخير آية البلاغ على آية الإكمال في سورة المائدة وهي المتقدّمة زماناً على آية الإكمال وغيرها كثيرٌ في القرآن.

وقد يأتي الناسخ قبل المنسوخ ، والآية المكّية في السورة المدنية و ... كلّها لمصالح ، منها عدم امتداد يد التحريف إلى الكتاب العزيز.

١٥

قال الإمام البغوي في شرح السنّة عند كلامه عن جمع القرآن : « ... فإنّ القرآن مكتوب في اللّوح المحفوظ على التّرتيب الّذي هو في مصاحفنا ، أنزله الله تعالى جُملةً واحدة ً في شهر رمضان ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا ، ثمّ كان ينزّله مفرّقاً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مدّة حياته عند الحاجة وحدوث مايشاء الله عزَّوجلَّ ، وترتيب النّزول غير ترتيب التّلاوة ، وكان هذا الاتّفاق من الصّحابة سبباً لبقاء القرآن في الأُمّة رحمة من الله عزَّوجلَّ لعباده وتحقيقاً لوعده في حفظه على ما قال جَلَّ ذكره : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (١)»(٢).

وكلام البغوي صريح بأنّ ترتيب النزول غير ترتيب التلاوة ، وأنّ المنزَل من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور غير الذي نُزِّلَ منجَّماً لما قضت به حكمة الله فيما فيه صالح العباد ويسر الدين.

ونقل أبو شامة عن أبي بكر ابن الطَّيِّب ما يشير إلى أنّ ترتيب السور والآيات كانت باجتهاد من الصحابة ، فقال : « ... وأنّه قد يمكن أن يكون الرّسول قد رتّب سُوَره على ما انطوى عليه مُصْحَف عُثمان ، كما رتّب آيات سُوَره ، ويمكن أن يكون قد وكّل ذلك إلى الأُمّة بعده ولم يتولّ ذلك بنفسه ، وأنّ هذا القول الثّاني أقرب وأشبه بأن يكون حقّاً على ما سنبيّنه فيما بعد إن شاء الله تعالى ، وأنّ القرآن لم يثبت آية على تاريخ نزوله ، بل

__________________

(١) سورة الحجر : ٩.

(٢) شرح السنّة للبغوي ٤/٥٢٢ ، ٥٢٣ ، وانظر البرهان للزركشي أيضاً.

١٦

قدّم ما تأخّر إنزاله ، وأخّر بعض ما تقدّم نزوله على ما قد وقف عليه الرّسول من ذلك»(١).

وقد يكون في كلام ابن حجر الآتي إشارة إلى عدم توقيفية الآيات ، وأنّ ترتيب الآيات والسور كانت باجتهاد من الصحابة ، إذ قال : «وإنّ قول عمر : (لو كانت ثلاث آيات) ، فظاهره أنّهم كانوا يؤلّفون آيات السور باجتهادهم ، وسائر الأخبار تدلّ على أنّهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك إلاّ بتوقيف.

نعم ، ترتيب السور بعض إثر بعض كان يقع بعضه منهم اجتهاداً كما سيأتي في تأليف القرآن»(٢).

وعليه ، فالذي يذهب إلى توقيفية ترتيب السور والآيات(٣) يستدلّ بأمثال الرواية الآتية :

«روي عن ابن عبّاس ، قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أَنْ عَمِدْتُمْ إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المِئِين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟

__________________

(١) المرشد الوجيز إلى علوم القرآن لأبي شامة : ٥٧.

(٢) فتح الباري ٩/١٢ (جمع القرآن).

(٣) قال ابن حجر في فتح الباري بعد أن أتى بالخبر الآتي : فهذا يدلّ على أنّ ترتيب الآيات في كلّ سورة كان توقيفيّاً ، ولمّا لم يفصح النبيّ بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهاداً منه.

١٧

فقال عثمان : إنّ رسول الله كان ممّا يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، ولمّا نزلت عليه الآية فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها فظننت أنّها منها ، فقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يبيّن لناأنّها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ووضعتها في السبع الطوال»(١).

وهذه الرواية ليس لها ظهور في توقيفية ترتيب السور إلاّ من خلال كلمة(كان) التي جاءت في صدر الرواية والدالّة على الاستمرارية من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكذا قوله (صلى الله عليه وآله) : «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»(٢).

بل قد ترشدنا جملة : «ما حملكم ... فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» وجملة : «وقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يبيّن لنا أمرها» إلى عدم توقيفيّتها ؛ (٣) لأنّها لو كانت توقيفية لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بها ،

__________________

(١) سنن الترمذي ٥/٢٧٢ / ح ٣٠٨٦ ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، مسند أحمد١ /٥٧ / ح ٣٩٩ ، كنز العمّال ٢/٢٤٥ / ح٤٧٧٠ ، وقال الحاكم في مستدركه ٢/٣٦٠/ ح ٣٢٧٢ : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه.

(٢) سنن أبي داود١ / ٢٠٨ / ٧٨٦ ، الباب ٢٦ ، من جهر بها.

(٣) ذهب الباقلاّني (ت ٤٠٣ هـ) في (الانتصار لنقل القرآن) باب ترتيب الآيات

١٨

وإنّ عدم بيانها لعثمان ولا لغيره من الصحابة وسكوته (صلى الله عليه وآله) عن البيان جعل الأمر يلتبس على عثمان ، ولو كان توقيفيّاً لوجب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيانه؛ لأنّ التوقيفية معناها التعبّد والتقيّد بالنصّ ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يترك واجباً ومنزلاًمن قبل الله ؛ إذ لو صحّت دعوى توقيفية جميع السور فكيف يسمح عثمان لنفسه أن يفرّق بين الأنفال وبراءة؟

هذا مع الإشارة إلى أنّ عثمان وإن كان قد اجتهد في عدم الفصل بالبسملة بين الأنفال وبراءة اجتهاداً من عند نفسه كما هو واضح من كلامه ، إذقد ظنّ أنّهما سورة واحدة ، إلاّ أنّه قد ثبت أنّ عدم الفصل بالبسملة هو من الأمر التوقيفي ولم يأت في الإنزال الدفعي ، بل لكون البسملة أمان ورحمة وأنّ سورة براءة نزلت بالسيف.

قال الآلوسي في روح المعاني : «والحقّ أنّهما سورتان إلاّ أنّهم لم يكتبوا البسملة بينهما لِما رواه أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس عن عليٍّ من أنّ البسملة أمان ، وبراءة نزلت بالسيف.

ومثله عن محمّد بن الحنفية وسفيان بن عيينة ، ومرجع ذلك إلى أنّها لم تنزل في هذه السورة كأخواتها لما ذكر»(١).

__________________

والسور ، إلى عدم توقيفية السور واستدلّ بالخبر الآنف فقال : ... وفي العلم بعدم ذلك دليل على أنّه لم يكن منه توقيف ، ويدلّ على ذلك قول عثمان : «وكانت الأنفال من أوّل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصّتها تشبه قصّتها فظننتها منها» وهذا منه تصريح بعدم التوقيف وقد تضمّن ذلك أنّهما سورتان لأنّه سمّى كلّ واحدة باسمها.

(١) روح المعاني ١٠/٤١.

١٩

وقال القشيري : «والصحيح أنَّ التسمية لم تكتب؛ لأنّ جبريل ما نزل بها في هذه السورة»(١).

وقد روي عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : «الأنفال والبراءة واحدة»(٢).

وعليه فلا يصحّ ظنّ عثمان بأنّها من الأنفال لتشابه قصّتيهما وقوله : «فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»(٣) لأنّ الأمر لا يعود إليه بل يعود إلى الله وإلى رسوله وإلى عدم قراءة المسلمين به في سورة براءة خاصّة ، وفق ما علّمهم رسول الله في القراءة.

وإليك الآن بعض الروايات الدالّة على دور رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجبريل عليه‌السلام في ترتيب الآيات :

ففي فضائل القرآن لأبي عبيدة وغيره ، عن ابن عبّاس ، عن عثمان ابن عفّان ، قال : «كان رسول الله إذا نزلت عليه آية دعا بعض من يكتب ، فقال : ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا»(٤).

كما ورد أنّ جبريل عليه‌السلام كان يقول : «ضعوا كذا في موضع كذا»(٥).

__________________

(١) تفسير القرطبي ٨/٦١.

(٢) تفسير نور الثقلين ٢/١٧٦ ، تفسير جوامع الجامع ٢/٤٣ ، الأصفى ١/٤٥١.

(٣) سنن أبي داود ١ / ٢٠٨ / ٧٨٦ الباب ٢٦ من جهر بها ، سنن الترمذي ٥ / ٢٧٢ باب ومن سورة التوبة.

(٤) انظر فضائل القرآن : ٢٨٦ / باب تأليف القرآن وجمعه.

(٥) مناهل العرفان ١/١٧٢ ، الإتقان ١/١٦٩ عن القاضي أبي بكر في الانتصار ، وكذا في البرهان ١/٢٥٦.

٢٠