تراثنا ـ العددان [ 105 و 106 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 105 و 106 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٤٧٨

١

تراثنا

صاحب الامتیاز

مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث

المدير المسؤول :

السيّد جواد الشهرستاني

العددان الأوّل والثاني [١٠٥ ـ ١٠٦]

السنة السابعة والعشرون

محتـويات العـدد

* كلمة العدد :

* الزمن الرديء.

.................................................................... هيئة التحرير ٧

نظرة سريعة في أصول مباني أبناء العامة في الجرح والتعديل

......................................................... الشيخ مرتضى فرج پور ١٠

* القصيدة البغدادية والردود عليها

.......................................................... أحمد علي مجيد الحلي ٥٦

* الملاّ علي بن فايز رائد الرثاء الحسيني الخالد ١٢٤٥ ـ ١٣٢٢هـ

........................................... السيّد هاشم بن السيّد محمّد الشخص ٧٧

* المنهج التاريخي في كتابي ابن المطهّر وابن داود في علم الرجال (٤).

....................................................... سامي حمود الحاج جاسم ٩٣

٢

محرّم الحرام ـ جمادى الآخرة

١٤٣٢ هـ

* مدرسة الحلّة وتراجم علمائها من النشوء إلى القمّة (٨).

................................................... السـيّد حيدر وتوت الحسيني ١٨٠

* مناهج الفقهاء في المدرسة الإمامية (٣)

......................................................... السـيّد زهير الأعرجي ٢٧٩

* من ذخائر التراث :

البشارة لطلاّب الاستخارة للشيخ أحمد بن صالح البحراني (المتوفّى سنة ١١٢٤هـ)

.................................................. تحقيق : مشتاق صالح المظفّر ٣٠١

رسالة في حال صاحب كتاب قرب الإسناد للشيخ الكلباسي قدس‌سره (١٢٧٨ ـ ١٣٥٦هـ)

................................................ تحقيق : الشيخ محمّد الكلباسي ٤١٣

* من أنباء التراث.

................................................................ هيـئة التحرير ٤٥٧

* صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة (البشارة لطلاّب الاستخارة) للشيخ أحمد بن صالح البحراني المتوفّى ١١٢٤هـ. والمنشورة في هذا العدد.

٣
٤

٥
٦

كلمة العـدد :

الزمن الرديء

هيئة التحرير

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد مرّت الفتن كقطع اللّيل المظْلم تدوس الناس بأخْفافها وتطأهم بأظْلافها ، وتوالت حقب من الزمان يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ، وظهرفي الأفق مسوخ يمْتطون مطيّة الانْحطاط الفكْري ، فمنْ ركبها ذلّ ومنْ صحبها ضلّ! ، هي الجهْل بعيْنه وجعْجعة لا نرى لها طحْناً ولا طحيناً ، وقدخلت لهم الساحة ، ولم يكن هناك في الأفق بصيص أمل ، وساعدهم على ذلك خضْراء الدمن عوْلمة سافرة تحرق الأخضر واليابس وتخلط الحابل بالنابل ، وتتستّر بأسماء برّاقة وزخْرف القوْل وخليط من حثالات الثقافات تحملها نفوس مريضة تزرع الريح لكنّها لا تعلم بأنّها سوف تحْصد العاصفة ، وأنّ الشوْك لا يثْمر العنب ، وأنّ المكْر السىّء لا يحيق إلاّ بأهْله ، وأنّ فاعل الخيْر خيْر منْه ، وفاعل الشرّ شرّ منْه.

وفي هذا الزمن الرديء تراهم يسْبحون في ماء آسن ويجْرعون من ماءآجن ، وهم كالباني الذي أسّس بنْيانه على الملْح ، حتّى أصْبحنا لا نعلم

٧

أيّ جرْد هم يرْقعون وفي أيّ إناء هم يغْمسون ، ولكنّها لقْمة هم أوّل الغاصّين بها وأكثرهم عرْضة للنقْد فيها.

أقْلام مأجورة وآراء مبْهورة ، يحمل يراعهم كلمة تمجّها الأنْفس ، ويلْفظها كلّ عقْل سليم ، ويرْغب عنها كلّ ذي فكر ، ويكْشح عنها كلّ ذي عقْل ، مزوّقة ألْفاظهم ، منمّقة كلماتهم ، يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ويدسّون السّمّ في العسل ، ويأمرون بالمنْكر وينْهوْن عن المعْروف ، وإذا سألهم السائل فإنّهم يحْسبون أنّهم يحْسنون صنْعاً ، يدورون في حلقة مفْرغة من الكلمات والمصْطلحات المبْتدعة ، يناصرهم همج رعاع ينْعقون مع كلّ ناعق.

وبلغ بهم الانْحطاط مبْلغاً ، وساعدهم على ذلك قدْسية ما يعْرف اليوم بحرّية التعْبير عن الرأي في هذا الزمن الرديء ، وهم يخاطبون اللاشعور الجمْعي والوجْدان العاطفي للبؤساء المنْضوين تحت ظاهرة التمرّد الفكْري والثقافي التي أخذت تسود مجْتمعاتنا الإسلامية متطفّلة على قيمنا والموروث الثقافي لمجْتمعاتنا ، وأصبحوا يسمّون كلّ موروث بـ : «الثقافة العتيقة» ، و «أساطير الأوّلين» ، وينْعتون أصْحاب الكلمة الطيّبةوالعقول المفكّرة بـ : ذوي «العقْل الرجوعي» و «الذهْنيّة الرجوعيّة»! وأتْعس منْهم وبالاًأولئك المتطفّلين على الفكْر الإسلامي الذين يدّعون أنّها تجلّيات للثقافة الإسلامية المنْفتحة.

وممّا زاد في الطين بلّة أدْلجة الخطاب الديني تمرّداً على الواقع المريرالذي يعيشه المسْلمون ، فكلّ يوم نسمع عن مسْرحية جديدة لشخصية هزليّة وهزيلة فكريّاً تسمّي نفسها : داعية إسلامية ، تفتح لها الأبواب على مصْراعيْها وفي جميع وسائل الإعلام ليتكلّم في المسموح والممنوع وينال من الموْروث والمقدّس ، ويدّعي أنّه حامل يراعه للدفاع

٨

عن الفكر والفكرة والمفكّرين بحجّة تأسيس ثقافة إسلاميّة تلبّي حاجات العصْروالعصْريّين ، وأنّهم أصْحاب المشْروع الديني الحضاري ، وأنّها والله لقدْ هزلتْ حتّى بدا من هزالها كلاها وحتّى استامها كلّ مفْلس.

لكنّنا يجب أنْ نعي أنّ الأرْض الواطئة تشْرب ماءها وماء غيْرها ، وهذاأوّل الغيْث حتّى يبْلغ السيْل الزبى ويجْرف معه الغثّ والسمين ولا يبْقي ولا يذرْ.

إنّ انْهيار الكلمة وأثرها ، وتردّي الفكْرة وثمرها ، وانْحطاط القيم والمفاهيم ، وتدهور الوعْي وانْحساره ، وتردّي الزمان وانْحداره ، وسقْم الرؤى ، واسْتئجار أصْحاب الكلمة والقلم ، وفقدان المعايير والموازين ، يعود عائده علينا ، لكنّهم سفهوا وسفّوا وأسْهبوا ، يتخبّطون خبْط عشْواء ، ويتصوّرون أنّ الجوّ قدْ خلا لهم فبيضي واصْفري ، إلاّ أنّهم لايعلمون بأنّ هناك رجالاً يدافعون عن موْروثات ورثوها جاءت بهاالصفْوة والنخْبة من المفكرين ، وأقْلام زاكية دفعتْ ثمن مدادها دماءً ، وأنّ جوْلة الباطل ساعة وجوْلة الحقّ إلى قيام يوْم الساعة ، وأنّ الحكْمة ضالّة المؤْمن.

هيئة التحرير

٩

نظرة سريعة في أصول مباني أبناء العامة

في الجرح والتعديل

الشيخ مرتضى فرج پور

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة :

هذه المقالة هي عبارة عن نظرة سريعة ومختصرة في مباني الجرح والتعديل لرواة الأحاديث عند أبناء العامّة ـ وفي وسع الباحث أن يصل إلى أضعاف ذلك ـ وذلك أنّهم هل اعتمدوا البحث العلمي في هذا المجال أم أنّهم اتّخذوا التعصّبات الطّائفية أساساً لهم في البحث؟

فعلى سبيل المثال : قد جاء في ترجمة إبراهيم بن عبد العزيز الضحّاك أنّه : «كان يقال له : شاه بن عبد كوية ، روى عن ابن عليّة وغيره ، روى عنه يونس بن حبيب ، ذكره أبو الشيخ ثمّ أبو نعيم أنه قعد للتحديث فأخرج الفضائل ، فأملى فضائل أبي بكر ثمّ عمر ، ثمّ قال : نبدأ بعثمان أو بعلي؟ فقالوا : هذا رافضيّ ، فتركوا حديثه (١)».

وسوف نرى في سياق البحث أنّه فيما إذا روى شخصٌ حديثاً من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) لسان الميزان : ١ / ٧٨ رقم ٢١٦.

١٠

الأحاديث الواردة في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام أو صحّحها فإنّ أقلّ ما يمكن أن يذكروا في جرحه هو أن يقولوا : «فيه تشيّع» ، وذلك معناه أنّ الشخص لديه ميول لأهل البيت عليهم‌السلام ، فإنّ أقلّ مراتب الجرح كهذه تسقطه حتّى من أعلى درجات الاعتبار ، علماً بأنّ هذا النوع من الجرح يأتي في حقّ من اتّضح أنّه من أبناء العامّة ، وأما إذا كان الراوي شيعيّاً ونقل مثل هذه الفضائل فانّهم يجرحونه باصطلاحات مثل : «رافضي خبيث» وأمثالها مهما كان مشهوراً بالصدق والأمانة.

وسنوضّح هذا الأمر في عرض شواهد ونماذج أخرى من نفس كتبهم.

لقد ذكر علماء الرجال من أبناء العامّة في ترجمة تليد بن سليمان : «كلّ من شتم عثمان أو طلحة أو واحداً من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) دجّال لايكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (١).

لكنّ تليداً وأمثاله إذا نقلوا حديثاً فيه الثناء والإطراء على أسلافهم فإنّ نقل الحديث عنهم ليس ممنوعاً ولا حراماً بل يعدّ أمراً حسناً وممدوحاً. كما أنّ الترمذي ـ وهو مؤلّف أحد الكتب الستّة المعتبرة عند أبناء العامة ـ ينقل في شأن الشيخين عن تليد حديثاً ، ومع وجود تليد في سند الحديث

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) تهذيب الكمال: ٤/٣٢٢، تهذيب التهذيب: ١/٥٠٩، الكامل لابن عدي: ٢/٥١٦.

كذلك راجع كتاب الأسامي والكنى: ٣ / ١٠٩. وقد أضاف محقّق كتاب الأسامي والكنى ـ واسمه يوسف بن محمّد الدخيل ـ في ذيل ترجمة يونس بن خباب أنّه كذّب لشتمه عثمان. الأمر المهمّ هو أنّ الشتم عند بعض العلماء يُعدّ علّة العلل في ترك حديث وتكذيب أمثال هذه الشخصيّات، وإنّنا لو دقّقنا النظر في هذا الأمر لتبيّن لناأنّ عدداً كبيراً من الرواة الذين رموا بالكذب كان السبب الوحيد في رميهم بذلك هو شتمهم لمثل عثمان لا لكونهم كذّابين.

 

١١

فإنّه يقول : «إنّه حديث حسن غريب» (١) ومثل هذا الأمر مصداق واضح لمن يكيل بمكيالين.

وكذلك مسلم (٢) فإنّه يذكر في صحيحه : «وقال محمّد : سمعت علي ابن شقيق يقول : سمعت عبدالله بن المبارك يقول على رؤوس الناس : دعوا حديث عمر بن ثابت فإنّه كان يسبّ السلف»(٣) ، وهو يصرّح في مقدّمة كتابه بأنّ المعيار في توثيق الراوي وقبول حديثه هو كونه مطابقاً مع رواية أهل الحفظ والرضا وعلامة المنكر عدم موافقته مع روايات هؤلاء(٤)!!

وهذا الأمر ـ أي عدم جواز نقل الرواية ممّن يسبُّ الصحابة ـ يُعدّ قانوناً كلّياً عند أبناء العامّة.

ولكن ويا للعجب يرى أنّ هذا القانون لا مجرى له لمن سبّ مولى الموحّدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، بل أصبحت هذه الشخصيّات محلّ توثيقهم واطمينانهم!

وعلى سبيل المثال انظر ترجمة حريز بن عثمان ، فإنّ العسقلاني الحافظ المشهور عند أبناء العامّة يذكر في تهذيب التهذيب نقلا عن علي ابن المديني ـ حيث يعدّ هذا الآخر أيضاً من أهمّ علماء رجال العامّة ـ ما نصّه : «لم يزل من أدركناه من أصحابنا يوثّقونه»(٥).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) سنن الترمذي: ٥ / ٦١٦ رقم ٣٦٨٠.

(٢) هو مسلم بن الحجّاج القشيري النيشابوري صاحب كتاب الصحيح أو الجامع الصحيح وهو من الصحاح الستّة لأهل السنّة.

(٣) صحيح مسلم ١٢.

(٤) نقل بالمعنى صحيح مسلم ٥.

(٥) تهذيب الكمال: ٥ / ٥٧٣، تهذيب التهذيب: ٢ / ٢٣٧ ـ ٢٤٠ ترجمة حديث الثقلين٥١٣ ـ ٥١٥، كتاب سؤالات أبو عبيدة الآجري: ٢ / ٢٣٤ رقم ١٧٠٠.

١٢

فإنّ هذا الشخص وثّقه جميع علماء العامة ـ نقلا عن أحمد إمام الحنابلة الذي وثّقه مرّتين ـ فقالوا عنه : «ثقةٌ ثقة». وكذلك المزّي في تهذيبه (١) والخطيب البغدادي في تاريخه (٢) فقد كرّرا هذا اللفظ فيه ثلاث مرّات بلفظ : «ثقةٌ ثقةٌ ثقةٌ». نأتي هنا فنقول : ما الذي امتاز به هذا الشخص حيث أصبح محلّ تقدير وتبجيل علماء العامّة؟

فقد اتّفق جميع علماء العامّة على أنّ حريز كان ملازماً على سبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام حتّى قال الحسن بن علي الخلاّل : «سمعت عمران بن أياس يقول : سمعت حريز بن عثمان يقول : لا أحبّه قتل آبائي ، يعني عليّاً. وقال أحمدبن سعيد الدارمي عن أحمد بن سليمان المروزي : سمعت إسماعيل ابن عيّاش قال : عادلت حريز بن عثمان من مصر إلى مكّة فجعل يسبّ عليّاً ويلعنه». هذا ما ذكره العسقلاني في تهذيب التهذيب (٣) والمزّي في تهذيب الكمال (٤) في ترجمة حريز ، وكذلك ابن حجر نقلا عن قول يحيى بن صالح (٥).

وقال ابن حبّان : «كان يلعن عليّاً بالغداة سبعين مرّة وسبعين مرّة بالعشي ، فقيل له في ذلك ، فقال : هو القاطع رؤوس آبائي وأجدادي» (٦) ، والجوزجاني المعروف بالسعدي وهو أحد شيوخ الترمذي وأبي داود والنسائي وكان من غلاة النواصب بل قالوا : إنّه حريزي المذهب على رأي حريزبن عثمان وطريقته في النّصب ... وزاد عليه بالتعصّب في الجرح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) تهذيب الكمال: ٥ / ٥٧٣.

(٢) تاريخ بغداد: ٨ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

(٣) تهذيب التهذيب: ٢ / ٢٠٩.

(٤) تهذيب الكمال: ٥ / ٥٧٦.

(٥) تهذيب التهذيب: ٢ / ٢١٠.

(٦) كتاب المجروحين لابن حبّان: ١ / ٢٦٨.

١٣

والتعديل فكان لا يمرّ به رجل ممّن فيه تشيّع إلاّ جرحه وطعن في دينه وعبّرعنه بأنّه زائغ عن الحق متنكّب عن الطريق مائل عن السبيل(١) [وهو أيضاً من أركان الجرح والتعديل].

في حين أنّ ابن معين عندما نقل الحديث عن عبيدالله بن موسى قال : «بعث إليه أحمد بن حنبل رسولا وقال له : قل له : أخوك أبو عبدالله أحمد بن حنبل يقرأ عليك السلام ويقول لك : هو ذا تكثر الحديث عن عبيدالله وأنا وأنت سمعناه يتناول معاوية بن أبي سفيان وقد تركت الحديث عنه»(٢).

كما أنّ أحد الملاكات الأخرى في توثيق الرجال هو عدم تحريف الراوي في نقل الحديث ـ أو بعبارة أخرى الأمانة في نقل الحديث ـ في الوقت الذي نرى فيه حريزاً من أكبر المحرّفين في نقل الحديث بحيث حرّف حديث المنزلة وهو الحديث الموثّق والصحيح ، فقد حرّفه بما يناقض معناه تماماً ، حيث يقول فيه : «ولكن أخطأ السامع ، قلت فما هو؟ قال : إنّما هو : أنت مني بمنزلة قارون من موسى»(٣).

هكذا استطاع حريز أن يقلب الأحاديث ويخون الأمانة ، فإنّ حديث المنزلة قد ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وقد عدّه صاحب الاستيعاب في كتابه في ترجمة أمير المؤمنين عليه‌السلام من أصحّ الأحاديث وأوثقها ، ولكن لم يكن لتحريفه وخيانته ولا لسبّه ولعنه أمير المؤمنين عليه‌السلامأيّ أثر في توثيقه عند أبناء العامّة!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) فتح الملك العلي : ١٠٩ ـ ١١٠.

(٢) انظر : الغدير : ٥ / ٢٩٥.

(٣) تهذيب التهذيب : ٢ / ٢٣٩. تهذيب الكمال : ٥ / ٥٧٦ ترجمة حريز.

١٤

فإنّ أمثال حريز ممّن نالوا من أهل البيت عليهم‌السلام ليسوا بالقليل ولكن مع هذا فقد وثّقوا من قبل أبناء العامّة وكانوا من الرواة المعتبرين من الكتب الخمسة المعتبرة لدى الصحاح الستّة.

فمع مراجعة كتاب تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني نستطيع أن نتوصّل بسهولة إلى موارد عديدة من هذا القبيل ، حيث ذكروا في تراجم رجالهم عبارات مثل : (ينال من عليّ ، يقع في عليٍّ ، ينتقص عليّاً ، يشتم عليّاً ، يسبّ عليّاً ، يلعن و ...) وكلّ هذه تدلّ على بغضهم لآل الرسول(صلى الله عليه وآله) ، ولكن الحافظ الكبير والشخصية المتميّزة وصدر علماء العامّة يذكر في حقّ أمثال هؤلاء الرواة من الرجال عبارة : «فلان ناصبي ثقةٌ ، وفلان ناصبي ثقة ...»!

ويبدو من ذلك أنّه لا يقدح عنده شيء في عدالة ووثاقة من نصب العداءلأهل البيت عليهم‌السلام وعلى رأسهم أمير المؤمنين عليه‌السلام.

والعكس من ذلك فيما إذا نال أحدٌ من أمثال (عكرمة)(١) و (حمّاد بن سلمة)(٢) بكلمة فإنّه يطعن في إسلامه.

وللاطلاع على مزيد من هذا القبيل من الرواة الثقاة والمعتمدين لديهم يمكن مراجعة مقدّمة كتاب دلائل الصدق وكتاب الإفصاح للشيخ المظفّر رحمه‌الله وكتاب أمان الأمّة لآية الله العظمى الصافي الگلبايگاني وكتاب العتب الجميل للعثور على موارد عديدة في هذا المجال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) انظر مجلّة تراثنا العدد الثالث عشر في شأن هذا الراوي ، فاطمة الزهراء عليهما‌السلام للعلاّمة الأميني التعليقة الثالثة.

(٢) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب : ٧ / ٢٧٠.

١٥

الذهبي(١) وعدم عدالته في انتقاء وتقييم الأحاديث :

من بين علماء العامّة الذين اتّخذوا التعصّبات الطائفية في تقييمهم للأحاديث هو الذهبي الرجالي والمؤرّخ الشهير ، فإنّ ملاكه في تقييم الروايات هو أن لا يصحّح الروايات التي فيها فضيلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ما استطاع ، بل يضعّف الراوي لتلك الرواية ويعدّه كاذباً حتّى وإن عدّ هذا الراوي صادقاً وثقة في غير روايات فضائل أهل البيت عليهم‌السلام.

وكان آخر أسلوب قد لجأ إليه في تضعيف الروايات هو في محلٍّ لم يُرفيه أيّ ثغرة ، فيأتي بعبارته المعروفة «حديث منكر» حتّى إذا كانت هذه الرواية موثّقة من قبل أجلاّء علمائهم ، وإليك النماذج التالية :

روى مساور الحميري حديثين في موضعين مختلفين : الأوّل حديث «أيّما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنّة» الذي صحّحه الحاكم في المستدرك وقبل الذهبي تصحيحه(٢).

ولكن نفس مساور هذا عند ما يروي حديث «لا يحبّ عليّاً منافق ولا يبغضه مؤمن» الذي رواه أكابر علماء العامّة(٣) وحتّى الترمذي فإنّه يقول فيه : «حديث حسن غريب»(٤) فإنّ الذهبي يقول فيه : «فيه جهالةٌ والخبر منكر»(٥)!!وهناك عدد كثير أيضاً أوردوا ذلك من غير تضعيف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) هو الحافظ شمس الدين الذهبي المتوفى سنة ٧٤٨ هـ من أهمّ الرجاليّين والمحدّثين من أبناء العامّة.

(٢) المستدرك للحاكم النيشابوري مع تلخيص الذهبي : ٤ / ١٧٣.

(٣) صحيح مسلم ح١٣١ (٧٨) ، سنن النسائي : ٨ / ١٢٢ ح٥٠٣٢ ، مسند أحمد : ١ / ٨٤ ،٩٥ ، ١٢٨ و٦ / ٢٩٢ ، الاستيعاب في حاشية الإصابة ٢ / ٣٧.

(٤) سنن الترمذي : ٥ / ٦٣٥ ح٣٧١٧.

(٥) ميزان الاعتدال : ٤ / ٩٥ رقم ٨٤٤٧.

١٦

نموذج آخر :

نقل الذهبي حديثاً مشتملا على فضيلة الخليفة الأوّل وأحد رواته هو ضرار بن صرد ، وقد صحّح الحاكم هذا الحديث وقد قبله الذهبي(١).

ولكن نفس هذا الراوي عندما يروي عن النبي(صلى الله عليه وآله) خطابه لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث قال : «أنت تبيّن لأمّتي ما اختلفوا فيه ...» فإنّ الحاكم يصحّح الحديث ولكن الذهبي يقول : «إنّه من تدليس ضرار ، وقال ابن معين : إنّه كذّاب»(٢).

نموذج آخر :

في حديث خاطب به رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليّاً عليه‌السلام قائلا : «حبيبك حبيبي».

فقد حكم الحاكم(٣) النيشابوري بصحّة السند ، ولكنّ الذهبي لم ير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) ذيل مستدرك للحاكم للذهبي : ٣ / ٧٣.

(٢) ذيل مستدرك الحاكم للذهبي : ٣ / ١٢٢.

(٣) (الحافظ) في اصطلاح رجال أبناء العامّة ينصرف اطلاقه على من حفظ مئة ألف حديث ولكن أرفع مقام عند محدّثي أبناء العامّة هو مقام (الحاكم) فإنّ (الحاكم) بناءً على قول يقال لمن حفظ ثلاثمائة ألف حديث وبناءً على قول آخر يقال لمن حفظ الأحاديث كلّها ونادراً ما يكون ذلك. ويعدّ الشيخ أبو عبدالله الحاكم النيشاروي من النوادرالذين بلغوا هذا المقام وحازوا على لقب (الحاكم) ، وحين يطلق لفظ (الحاكم) في لغة مدرسة الخلفاء فالمراد به الحاكم النيشابوري.

فالأمر المهمّ في هذا المجال وممّا يثير الدهشة هو أنّ عالماً قديراً من بين أبناء العامّة له سلطة تامّة على علوم الحديث من ناحية السند جرحاً وتعديلا ومن ناحية الدلالة ينزّل من مقامه في مدرسة الخلفاء ويتّهم بالتساهل في تصحيح الأحاديث ذلك لأنّه صحّح الكثير من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وألّف كتاباً مستقلاًّ في فضائل

١٧

في رواته ما يدعو للجرح والتضعيف وقد اعترف هو أيضاً بكونهم ثقاة ومعتبرين ، وبما أنّه حاو لفضيلة من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لذا يقول : «هذاحديث منكر ولا يبعد أن يكون مدلّساً وموضوعاً»(١).

نموذج آخر :

كذلك في خطاب آخر من النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين عليه‌السلام جاء فيه : «من فارقك فارقني» حيث صحّح الحاكم سنده ، ولكن بما أنّ الذهبي لم يعثر على ما يقدح في السند قال : «بل منكر»(٢).

نموذج آخر :

وعندما نقل الذهبي في ميزان الاعتدال حديث : «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها» قال : «هذا موضوع»(٣). في حين أنّ هذا الحديث الشريف من حيث السند من الأحاديث الموثّقة والمعتمدة وقد بلغ حدّ التواتر ، حتّى عدّ تواتره من المسلّمات.

وقد خصّص المرحوم مير حامد حسين مجلّدين من كتابه القيّم عبقات الأنوار لهذا الحديث الشريف ، حيث اشتمل أحدهما على إثبات صحّة سنده والآخر على دلالته ومحتواه ، وفي تلخيص العبقات أيضاً فقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليهما‌السلام. ولمزيد من الاطّلاع في شأن لقب (الحاكم) راجع : معجم مصطلحات الحديث ولطائف الاسناد للدكتور محمّد ضياء الرحمن الأعظمي أستاذ الجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة : ١٢٩ ـ ١٣٠.

(١) ذيل مستدرك الحاكم للذهبي : ٣ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) ذيل المستدرك ٣ / ١٢٤.

(٣) ميزان الاعتدال : ١ / ٤١٥ رقم ١٥٢٥.

 

١٨

اختصّ الجزء العاشر إلى الثاني عشر بهذا الحديث.

وكذا فإنّ العلاّمة الأميني في الغدير ذكر زيادة على حديث مدينة العلم أحاديث بهذا المضمون(١) ، وقد أشار في الجزء السادس من كتابه المذكورإلى مائة وثلاث وأربعين نفراً من أكابر القوم ممّن رووا هذا الحديث في تأليفاتهم حيث صحّح عدد منهم سند الحديث وقد ذكر العلاّمة عشرين نفراً منهم تقريباً في الصفحات ٧٨ ـ ٧٩.

وما يلفت النظر هو أنّ عدداً كبيراً من علماء القوم ومن جملتهم ابن حجر في الصواعق وابن الأثير في جامع الأصول(٢) نقلوا هذا الحديث عن الترمذي ، ولكن منهم من عدّ سنده حسناً ومعتبراً ومنهم من ضعّفه ، أما اليوم فلم يُرَ لهذا الحديث أثر في مصنّفات الترمذي علماً بأنّ ما حذفته يد الخيانة من أمثال هذه الأحاديث كثير جدّاً(٣).

وقد نقل مؤلّف الكتاب القيّم دراسات في منهاج السنّة تصحيح سند هذاالحديث الشريف عن يحيى بن معين وابن جرير الطبري والحاكم وصلاح الدين العلائي وابن الجزري والسخاوي والسيوطي وابن روزبهان والمتّقي الهندي ، وقد نقل من آخر غيرهم من علمائهم حسن السند ، وأضاف قائلا : «إنّ تصحيح يحيى بن معين لحديث «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»أصبح هو الأساس لتصحيح جماعة من الأئمّة وذلك لكون ابن معين عندهم إمام الجرح والتعديل»(٤).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) الغدير : ٣ / ٩٥ ـ ٩٨.

(٢) الصواعق المحرقة : ١٢٢ ، جامع الأصول : ٨ / ٦٥٧.

(٣) انظر نفحات الأزهار : ١١ / ١١٢ ـ ١١٧.

(٤) دراسات في منهاج السنّة : ١١٩ ـ ٢٢٠.

١٩

وقد نقل العسقلاني أيضاً في تهذيبه عن صاحب الاستيعاب عدداً من الأحاديث الواردة في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام والتي من جملتها حديث «مدينة العلم» بحيث إنّ صاحب الاستيعاب تلقّاها بالقبول وحتّى العسقلاني أيضاً.

هذا ، وقد نقل صاحب الدراسات عن أحمد بن حنبل معنى قوله : «إنّه لم يرد في حقّ أحد من الصحابة من الأحاديث المعتبرة ما ورد في حقّ علي ...»(١).

وقد نقل ابن حجر الهيتمي أيضاً في كتابه عن أئمّة الحفّاظ نفس ما ذكره العسقلاني(٢).

وفيما نقل عن الذهبي من تضعيف نتذكّر كلام العلاّمة المنصف أحمد بن محمّد بن صدّيق المغربي (ت ١٣٨٠هـ) حيث نقل تضعيف الذهبي لسند حديث «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها» وقال بعد ذلك : «وقد عرفت أنّ النكارة عند الذهبي هي فضل علي بن أبي طالب»(٣).

نموذج آخر :

كذلك أيضاً فإنّ الذهبي في مكان آخر كذّب الحسن بن محمّد بن يحيى لمجرّد روايته حديث «عليٌّ خير البشر» و «عليّ وذريّته يختمون الأوصياء» لا لأمر آخر ، وقال : «روى بقلّة حياء بإسناد كالشمس عليٌّ خير البشر وعليٌّ وذريّته يختمون الأوصياء ، فهذان دالاّن على كذبه وعلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) دراسات في منهاج السنّة : ٢٥٧.

(٢) تطهير الجنان : ٣٥.

(٣) فتح الملك العلي : ٧٠.

٢٠