جواهر القرآن ودرره

أبو حامد الغزالي

جواهر القرآن ودرره

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(١) ؛ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لا يعلم».

واعلم يقينا : أن أسرار الملكوت محجوبة عن القلوب الدّنسة بحبّ الدنيا ، التي استغرق أكثر هممها طلب العاجلة ، وإنما ذكرنا هذا القدر تشويقا وترغيبا ، ولننبّه به على سرّ من أسرار القرآن ، من غفل عنه لم تفتح له أصداف القرآن عن جواهره البتّة ، ثم إن صدقت رغبتك شمّرت للطّلب ، واستعنت فيه بأهل البصيرة ، واستمددت منهم ، فما أراك تفلح لو استبددت فيه برأيك وعقلك ، وكيف تفهم هذا وأنت لا تفهم لسان الأحوال ، بل تظنّ أنه لا نطق في العالم إلا بالمقال ، فلم تفهم معنى قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(٢) ولا قوله تعالى (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(٣) ما لم تقدّر للأرض لسانا وحياة ؛ ولا تفهم أنّ قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تنقبني؟ قال : «سل من يدقّني فلم يتركني ، ورأى الحجر الذي يدقّني» ولا تدري أن هذا القول صدق وأصحّ من نطق المقال. فكيف تفهم ما وراء هذا من الأسرار؟

__________________

(١) الآية ٦٩ / من سورة العنكبوت.

(٢) الآية ٤٤ / من سورة الإسراء.

(٣) الآية ١١ / من سورة فصّلت.

٤١

الفصل التاسع

في التّنبيه على الرّموز والإشارات

التي يشتمل عليها القرآن

لعلك تطمع في أن تنبّه على الرّموز والإشارات المودعة تحت الجواهر الذي ذكرنا اشتمال القرآن عليها. فاعلم أن الكبريت الأحمر عند الخلق في عالم الشهادة ، عبارة عن الكيمياء التي يتوصّل بها إلى قلب الأعيان من الصفات الخسيسة إلى الصفات النفيسة ، حتى ينقلب به الحجر ياقوتا ، والنحاس ذهبا إبريزا ، ليتوصّل به إلى اللّذات في الدنيا مكدّرة منغّصة في الحال ، منصرمة على قرب الاستقبال ، أفترى أن ما يقلب جواهر القلب من رزالة البهيمة وضلالة الجهل إلى صفاء الملائكة وروحانيّتها ، ليترقى [القلب] من أسفل السّافلين إلى أعلى علّيّين ، وينال به القرب من ربّ العالمين والنظر إلى وجهه الكريم أبدا دائما سرمدا ، هل هو أولى باسم الكبريت الأحمر أم لا؟ فلهذا سميناه الكبريت الأحمر.

فتأمّل وراجع نفسك وأنصف : لتعلم أن هذا الاسم بهذا المعنى أحق ، وعليه أصدق ، ثم أنفس النفائس التي تستفاد من الكيمياء اليواقيت ، وأعلاها الياقوت الأحمر ، فلذلك سميناه معرفة الذات.

وأما التّرياق الأكبر : فهو عند الخلق عبارة عما يشفى به من

٤٢

السموم المهلكة ، الواقعة في المعدة ، مع أن الهلاك الحاصل بها ليس إلا هلاكا في حق الدنيا الفانية. فانظر إن كانت سموم البدع والأهواء والضّلالات الواقعة في القلب ، مهلكة هلاكا يحول بين السموم وبين عالم القدس ومعدن الروح والراحة حيلولة دائمة أبديّة سرمديّة ، وكانت المحاجّة البرهانية تشفى عن تلك السموم وتدفع ضررها ، هل هي أولى بأن تسمى التّرياق الأكبر أم لا؟

وأما المسك الأذفر : فهو عبارة في عالم الشهادة عن شيء يستصحبه الإنسان ، فيثور منه رائحة طيبة تشهره وتظهره ، حتى لو أراد خفاءه لم يختف ، لكن يستطير وينتشر ، فانظر إن كان في المقتنيات العلمية ما ينشر منه الاسم الطيب في العالم ، ويشتهر صاحبه به اشتهارا [حتى] لو أراد الاختفاء وإيثار الخمول ، بل تشهره وتظهره ، فاسم المسك الأذفر عليه أحقّ وأصدق أم لا؟ وأنت تعلم أن علم الفقه ومعرفة أحكام الشريعة يطيّب الاسم وينشر الذّكر ويعظّم الجاه وما ينال القلب من روح طيب الاسم وانتشار الجاه أعظم كثيرا مما ينال المشامّ من روح طيب رائحة من المسك.

وأما العود : فهو عبارة عند الخلق عن جسم في الأجسام لا ينتفع به ولكن إذا ألقي على النار حتى احترق في نفسه تصاعد منه دخان منتشر ، فينتهي إلى المشامّ فيعظم نفعه وجدواه ، ويطيب مورده وملقاه ، فإن كان في المنافقين وأعداء الله أظلال كالخشب المسنّدة لا منفعة لها ، ولكن إذا نزل بها عقاب الله ونكاله من صاعقة وخسف وزلزلة حتى يحترق ويتصاعد منه دخان ، فينتهي إلى مشامّ القلوب ،

٤٣

فيعظم نفعه في الحثّ على طلب الفردوس الأعلى ، وجوار الحقّ سبحانه وتعالى ، والصّرف عن الضّلالة والغفلة واتّباع الهوى ، فاسم العود به أحقّ وأصدق أم لا؟ فاكتف من شرح هذه الرموز بهذا القدر ، واستنبط الباقي من نفسك ، وحلّ الرّمز فيه إن أطقت وكنت من أهله.

فقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن أنادي

٤٤

الفصل العاشر

في فائدة هذه الرّموز

وبيان سبب جحود الملحدين بالأصول الدينية

لعلك تقول : قد ظهر لي أن هذه الرموز صحيحة صادقة ، فهل فيها فائدة أخرى تعرف سواها؟ فاعلم أن الفائدة كلّها وراءها ، فإن هذه أنموذج لتعرف بها تعريف طريق المعاني الرّوحانية الملكوتيّة بالألفاظ المألوفة الرسمية ، لينفتح لك باب الكشف في معاني القرآن. والغوص في بحارها ، فكثيرا ما رأينا من طوائف من المتكابسين تشوّشت عليهم الظواهر ، وانقدحت عندهم اعتراضات عليها ، وتخايل لهم ما يناقضها ، فبطل أصل اعتقادهم في الدين ، وأورثهم ذلك جحودا باطنا في الحشر والنّشر ، والجنّة والنار ، والرجوع إلى الله تعالى بعد الموت ، وأظهروها في سرائرهم ، وانحلّ عنهم لجام التّقوى ورابطة الورع ، واسترسلوا في طلب الحطام وأكل الحرام واتّباع الشهوات ، وقصروا الهمم على طلب الجاه والمال ، والحظوظ العاجلة ، ونظروا إلى أهل الورع بعين الاستخفاف والاستجهال ، وإن شاهدوا الورع ممن لا يقدرون على الإنكار عليه لغزارة علمه وكمال عقله وثقابة ذهنه ، حملوه على أنّ غرضه التّلبيس والتّلبّس واستماله القلوب ، وصرف الوجوه إلى نفسه ، فما زادهم مشاهدة الورع من أهله إلا تماديا وضلالا ، مع أن مشاهدة ورع أهل الدين من أعظم

٤٥

المؤكّدات لعقائد المؤمنين ، وهذا كله لأنّ نظر عقلهم مقصور على صور الأشياء وقوالبها الخياليّة ، ولم يمتدّ نظرهم إلى أرواحها وحقائقها ، ولم يدركوا الموازنة بين عالم الشهادة وعالم الملكوت ، فلمّا لم يدركوا ذلك وتناقضت عندهم ظواهر الأسئلة ضلّوا وأضلّوا ، فلا هم أدركوا شيئا من عالم الأرواح بالذّوق إدراك الخواصّ ، ولا هم آمنوا بالغيب إيمان العوامّ فأهلكتهم كياستهم ، والجهل أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء ، وكياسة ناقصة. ولسنا نستبعد ذلك ، فلقد تعثّرنا في أذيال هذه الضّلالات مدة لشؤم أقران السّوء وصحبتهم ، حتى أبعدنا الله عن هفواتها ، ووقانا من ورطاتها ، فله الحمد والمنّة والفضل على ما أرشد وهدى ، وأنعم وأسدى ، وعصم من ورطات الرّدى ، فليس ذلك مما يمكن أن ينال بالجهد والمنى (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١).

__________________

(١) الآية ٢ / من سورة فاطر.

٤٦

الفصل الحادي عشر

في كيف يفضل بعض آيات القرآن على بعض

مع أن الكلّ كلام الله تعالى

لعلّك تقول : قد توجه قصدك في هذه التنبيهات إلى تفضيل بعض القرآن على بعض ، والكلّ قول الله تعالى ، فكيف يفارق بعضها بعضا؟ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟

فاعلم : أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسيّ (١) وآية المداينات (٢) وبين سورة الإخلاص (٣) وسورة تبّت (٤) ، وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الجوّارة ، المستغرقة بالتقليد ، فقلّد صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه ، فهو الذي أنزل عليه

__________________

(١) الآية ٢٥٥ / من سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٨٢ / من سورة البقرة.

(٣) الآيات ١ ـ ٤ / من سورة الإخلاص.

(٤) الآيات ١ ـ ٥ / من سورة المسد.

٤٧

القرآن ، وقد دلّت الأخبار على شرف بعض الآيات ، وعلى تضعيف الأجر في بعض السّور المنزلة ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاتحة الكتاب أفضل القرآن». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آية الكرسيّ سيدة آي القرآن» ؛ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يس قلب القرآن ، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن». والأخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن ، بتخصيص بعض الآيات والسّور بالفضل وكثرة الثّواب في تلاوتها لا تحصى ، فاطلبه من كتب الحديث إن أردته ، وننبّهك الآن على معنى هذه الأخبار الأربعة في تفضيل هذه السّور ، وإن كان ما مهّدناه من ترتيب أقسام القرآن وشعبه ومراتبه يرشدك الله إن راجعته وفكّرت فيه ، فإنّا حصرنا أقسام القرآن وشعبه في عشرة أنواع.

٤٨

الفصل الثاني عشر

في أسرار الفاتحة

وبيان جملة من حكم الله في خلقه

وإذا تفكرت وجدت الفاتحة على إيجازها مشتملة على ثمانية مناهج :

(١) فقوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(١) : نبأ عن الذّات.

(٢) وقوله (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : نبأ عن صفة من صفات خاصة ، وخاصيّتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما ، ثم تتعلق بالخلق ، وهم المرحومون ، تعلّقا يؤنسهم به ، ويشوّقهم إليه ، ويرغّبهم في طاعته ، لا كوصف الغضب ، لو ذكره بدلا عن الرحمة فإن ذلك يحزن ويخوّف ، ويقبض القلب ولا يشرحه.

(٣) وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٢) : يشتمل على شيئين :

أحدهما : أصل الحمد وهو الشكر ، وذلك أول الصراط المستقيم ، وكأنه. شطره ، فإن الإيمان العملي نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر ، كما تعرف حقيقة ذلك إن أردت معرفة ذلك باليقين من كتاب «إحياء علوم الدين» لا سيما في كتاب الشكر والصّبر منه ، وفضل

__________________

(١) الآية ١ / من سورة الفاتحة.

(٢) الآية ٢ / من سورة الفاتحة.

٤٩

الشكر على الصبر كفضل الرحمة على الغضب ، فإن هذا يصدر عن الارتياح وهزّة الشّوق وروح المحبة ، وأما الصبر على قضاء الله فيصدر عن الخوف والرّهبة ، ولا يخلو عن الكرب والضيق ، وسلوك الصّراط المستقيم إلى الله تعالى بطريق المحبّة ، وأعمالها أفضل كثيرا من سلوك طريق الخوف ، وإنما يعرف سرّ ذلك من كتاب المحبة والشّوق من جملة كتاب «الإحياء» ؛ ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول ما يدعى إلى الجنة الحمّادون لله على كل حال».

والثاني : قوله تعالى (رَبِّ الْعالَمِينَ) إشارة إلى الأفعال كلها ، وإضافتها إليه بأوجز لفظ وأتمّه إحاطة بأصناف الأفعال لفظ ربّ العالمين ، وأفضل النسبة [من] الفعل إليه نسبة الرّبوبيّة ، فإن ذلك أتمّ وأكمل في التعظيم من قولك أعلى العالمين وخالق العالمين.

(٤) وقوله ثانيا : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إشارة إلى الصفة مرة أخرى ، ولا تظنّ أنه مكرر ، فلا تكرّر في القرآن ، إذ حدّ المكرّر ما لا ينطوي على مزيد فائدة ؛ وذكر «الرحمة» بعد ذكر العالمين وقبل ذكر «مالك يوم الدين» ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفضيل مجاري الرحمة :

إحداهما : تلتفت إلى خلق ربّ العالمين : فإنه خلق كلّ واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها ، وآتاه كلّ ما يحتاج إليه ، فأحد العوالم التي خلقها عالم البهائم ، وأصغرها البعوض والذباب

٥٠

والعنكبوت والنحل.

فانظر إلى البعوض : كيف خلق أعضاءها ، فقد خلق عليها كل عضو خلقه على الفيل ، حتى خلق له خرطوما مستطيلا حادّ الرأس ، ثم هداه إلى غذائه إلى أن يمصّ دم الآدميّ ، فتراه يغرز فيه خرطومه ويمصّ من ذلك التجويف غذاء. وخلق له جناحين ليكونا له آلة الهرب إذا قصد دفعه.

وانظر إلى الذباب : كيف خلق أعضاءه ، وخلق حدقتيه مكشوفتين بلا أجفان ، إذ لا يحتمل رأسه الصغير الأجفان ، والأجفان يحتاج إليها لتصقيل الحدقة مما يلحقها من الأقذاء والغبار ؛ وانظر كيف خلق له بدلا عن الأجفان يدين زائدتين ، فله سوى الأرجل الأربع يدان زائدتان ، تراه إذا وقع على الأرض لا يزال يمسح حدقتيه بيديه يصقلهما عن الغبار. وانظر إلى العنكبوت : كيف خلق أطرافها وعلّمها حيلة النسج ، وكيف علّمها حيلة الصيد بغير جناحين ، إذ خلق لها لعابا لزجا تعلّق نفسها به في زاوية ، وتترصّد طيران الذباب بالقرب منها ، فترمي إليه نفسها فتأخذه وتقيّده بخيطها المدود من لعابها ، فتعجزه عن الإفلات حتى تأكله أو تدّخره ، وانظر إلى نسج العنكبوت لبيتها ، كيف هداها الله نسجه على التّناسب الهندسي في ترتيب السدى واللّحمة.

وانظر إلى النّحل وعجائبها التي لا تحصى : في جمع الشّهد والشّمع ، وننبهك على هندستها في بناء بيتها ، فإنها تبني على شكل

٥١

المسدس ، كيلا يضيق المكان على رفقائها ، لأنها تزدحم في موضع واحد على كثرتها ، ولو بنت البيوت مستديرة لبقي خارج المستديرات فرج ضائعة ، فإن الدوائر لا تراصّ ، وكذلك سائر الأشكال ، وأما المربعات فتراصّ ، ولكن شكل النحل يميل إلى الاستدارة فيبقى داخل البيت زوايا ضائعة ، كما يبقى في المستدير خارج البيت فرج ضائعة ، فلا شكل من الأشكال يقرب من المستدير في التّراصّ غير المسدس ، وذلك يعرف بالبرهان الهندسي. فانظر كيف هداه الله خاصيّة هذا الشكل ، وهذا أنموذج من عجائب صنع الله ولطفه ورحمته بخلقه ، فإن الأدنى بيّنة على الأعلى ؛ وهذه الغرائب لا يمكن أن تستقصى في أعمار طويلة ، أعني ما انكشف للآدميّين منها ، وأنه ليسير بالاضافة إلى ما لا ينكشف واستأثر هو والملائكة بعلمه ، وربما تجد تلويحات من هذا الجنس في كتاب «الشكر» وكتاب «المحبة» ؛ فاطلبه إن كنت له أهلا ، وإلا فغضّ بصرك عن آثار رحمة الله ، ولا تنظر إليها ، ولا تسرح في ميدان معرفة الصنع ولا تتفرّج فيه ، واشتغل بأشعار المتنبي ، وغرائب النّحو لسيبويه ، وفروع ابن الحداد في نوادر الطلاق ، وحيل المجادلة في الكلام ، فذلك أليق بك ، فإن قيمتك على قدر همّتك (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)(١) و (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ)(٢) ولنرجع إلى الغرض ، والمقصود التنبيه على أنموذج من رحمة في خلق العالمين.

__________________

(١) الآية ٣٤ / من سورة هود.

(٢) الآية ٢ / من سورة فاطر.

٥٢

وثانيها : تعلّقها بقوله (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(١) : فيشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبّد في مقابلة كلمة وعبادة ، وشرح ذلك يطول.

والمقصود أنه لا مكرّر في القرآن ، فإن رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر ، فانظر في سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته.

(٥) وأما قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : فإشارة إلى الآخرة في المعاد ، وهو أحد الأقسام من الاصول ، مع الإشارة إلى معنى الملك والملك ، وذلك من صفات الجلال.

(٦) وقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٢) : يشتمل على ركنين عظيمين :

أحدهما : العبادة مع الإخلاص بالاضافة إليه خاصة ، وذلك هو روح الصراط المستقيم كما تعرفة من كتاب الصدق والإخلاص ، وكتاب ذمّ الجاه والرّياء من كتاب «الإحياء».

والثاني : اعتقاد أنه لا يستحق العبادة سواه ، وهو لباب عقيدة التوحيد ، وذلك بالتّبرّي عن الحول والقوة ، ومعرفة أنّ الله منفرد بالأفعال كلها ، وأن العبد لا يستقلّ بنفسه دون معونته ؛ فقوله (إِيَّاكَ

__________________

(١) الآية ٤ / من سورة الفاتحة

(٢) الآية ٥ / من سورة الفاتحة.

٥٣

نَعْبُدُ) إشارة إلى تحلية النفس بالعبادة والإخلاص ، وقوله (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إشارة إلى تزكيتها عن الشّرك والالتفات إلى الحول والقوة.

وقد ذكرنا أن مدار سلوك الصراط المستقيم على قسمين : أحدهما : التّزكية بنفي ما لا ينبغي ، والثاني : التحلية بتحصيل ما ينبغي ؛ وقد اشتمل عليهما كلمتان من جملة الفاتحة.

(٧) وقوله (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(١) سؤال ودعاء ، وهو مخّ العبادة ، كما تعرفه من الأذكار والدعوات من كتب «الإحياء» وهو تنبيه على حاجة الإنسان إلى التّضرّع والابتهال إلى الله تعالى ، وهو روح العبوديّة ، وتنبيه على أن أهمّ حاجاته الهداية إلى الصراط المستقيم ، إذ به السلوك إلى الله تعالى كما سبق ذكره.

(٨) وأما قوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(٢) إلى آخر السورة :

فهو تذكير بنعمته على أوليائه ، ونقمته وغضبه على أعدائه ، لتستثير الرغبة والرهبة من صميم الفؤاد. وقد ذكرنا أن ذكر قصص الأنبياء والأعداء قسمان من أقسام القرآن عظيمان.

وقد اشتملت الفاتحة من الأقسام العشرة على ثمانية أقسام :

(١) الذات (٢) والصفات (٣) والأفعال (٤) وذكر المعاد (٥) والصراط المستقيم بجميع طرفيه أعني التزكية والتحلية (٦) وذكر نعمة الأولياء (٧) وغضب الأعداء (٨) وذكر المعاد. ولم يخرج منه

__________________

(١) الآية ٦ / من سورة الفاتحة.

(٢) الآية ٧ / من سورة الفاتحة.

٥٤

إلا قسمان : (أ) محاجّة الكفار ، (ب) وأحكام الفقهاء ، وهما الفنّان اللذان يتشعّب منهما علم الكلام وعلم الفقه. وبهذا يتبين أنهما واقعان في الصّنف الأخير من مراتب علوم الدين ، وإنما قدّمهما حبّ المال والجاه فقط.

٥٥

الفصل الثالث عشر

في كون الفاتحة

مفتاحا لأبواب الجنّة الثمانية

وعند هذا ننبّهك على دقيقة فنقول : إن هذه السورة فاتحة الكتاب ومفتاح الجنّة ، وإنما كانت مفتاحا لأن أبواب الجنة ثمانية ومعاني الفاتحة ترجع إلى ثمانية. فاعلم قطعا أن كل قسم منها مفتاح باب من أبواب الجنة تشهد به الأخبار ، فإن كنت لا تصادف من قلبك الإيمان والتصديق به ، وطلبت فيه المناسبة ، فدع عنك ما فهمته من ظاهر الجنة ، فلا يخفى عليك أن كل قسم يفتح باب بستان من بساتين المعرفة ، كما أشرنا إليها في آثار رحمة الله تعالى وعجائب صنعه وغيرها.

ولا تظنّ أن روح العارف من الانشراح في رياض المعرفة وبساتينها أقلّ من روح من يدخل الجنّة التي يعرفها ويقضي فيها شهوة البطن والفرج ، وأنّى يتساويان؟ بل لا ينكر أن يكون في العارفين من رغبته في فتح أبواب المعارف ، لينظر إلى ملكوت السماء والأرض ، وجلال خالقها ومدبرها ، أكثر من رغبته في المنكوح والمأكول والملبوس ، وكيف لا تكون هذه الرغبة أكثر وأغلب على العارف البصير وهي مشاركة للملائكة في الفردوس الأعلى ، إذ لا حظّ للملائكة في المطعم والمشرب والمنكح والملبس. ولعل تمتّع

٥٦

البهائم بالمطعم والمشرب والمنكح يزيد على تمتّع الإنسان ، فإن كنت ترى مشاركة البهائم ولذّاتهم أحقّ بالطلب من مساهمة الملائكة في فرحهم وسرورهم بمطالعة جمال حضرة الرّبوبيّة ، فما أشدّ غيّك وجهلك وغباوتك! وما أخسّ همّتك! وقيمتك على قدر همّتك. وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنّة المعارف ، واعتكف فيها ، ولم يلتفت أصلا إلى جنة البله فإن أكثر أهل الجنة البله ، وعلّيّون لذوي الألباب كما ورد في الخبر.

وأنت أيضا أيها القاصر همّتك على اللّذات قبقبة وذبذبة كالبهيمة ، ولا تنكر أن درجات الجنان إنما تنال بفنون المعارف ، فإن كانت رياض المعارف لا تستحق في أن تسمّى نفسها جنة ، فتستحقّ أن يستحقّ بها الجنة ، فتكون مفاتيح الجنّة ، فلا تنكر في الفاتحة مفاتيح جميع أبواب الجنة.

٥٧

الفصل الرابع عشر

في كون آية الكرسيّ سيّدة آي القرآن

وبيان الاسم الأعظم

فأقول : هل لك أن تتفكر في آية الكرسي أنها لم تسمّى سيدة الآيات ، فإن كنت تعجز عن استنباطه بتفكّرك فارجع إلى الأقسام التي ذكرناها والمراتب التي رتّبناها. وقد ذكرنا لك أنّ معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته هي المقصد الأقصى من علوم القرآن ، وأن سائر الأقسام مرادة له وهو مراد لنفسه لا لغيره ، فهو المتبوع وما عداه التّابع ، وهي سيدة الاسم المقدّم الذي يتوجه إليه وجوه الأتباع وقلوبهم فيحذون حذوه وينحون نحوه ومقصده ، وآية الكرسي تشتمل على ذكر الذّات والصفات والأفعال فقط ليس فيها غيرها :

فقوله : (اللهِ) : إشارة إلى الذات.

وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : إشارة إلى توحيد الذات.

وقوله : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) : إشارة إلى صفة الذات وجلاله ، فإن معنى القيّوم هو الذي يقوم بنفسه ويقوم به غيره ، فلا يتعلق قوامه بشيء ويتعلق به قوام كل شيء ، وذلك غاية الجلال والعظمة.

وقوله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) : تنزيه وتقديس له عما يستحيل

٥٨

عليه من أوصاف الحوادث ، والتّقديس عما يستحيل أحد أقسام المعرفة ، بل هو أوضح أقسامها.

وقوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : إشارة إلى كلّها ، وأنّ جميعها منه مصدرها وإليه مرجعها.

وقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) : إشارة إلى انفراده بالملك والحكم والأمر ، وأنّ من يملك الشفاعة فإنما يملك بتشريفه إياه والإذن فيه ، وهذا نفي للشّركة عنه في الملك والأمر.

وقوله (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) إشارة إلى صفة العلم وتفضيل بعض المعلومات ، والانفراد بالعلم ، حتى لا علم لغيره من ذاته ، وإن كان لغيره علم فهو من عطائه وهبته ، وعلى قدر إرادته ومشيئته.

وقوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(١) : إشارة إلى عظمة ملكه وكمال قدرته ، وفيه سرّ لا يحتمل الحال كشفه ، فإن معرفة الكرسي ومعرفة صفاته ، واتّساع السموات والأرض معرفة شريفة غامضة ، ويرتبط بها علوم كثيرة.

وقوله (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما)(٢) : إشارة إلى صفات القدرة وكمالها ، وتنزيهها عن الضعف والنقصان.

__________________

(١) الآية ٢٥٥ / من سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٥٥ / من سورة البقرة.

٥٩

وقوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(١) : إشارة إلى أصلين عظيمين في الصفات ، وشرح هذين الوصفين يطول ، وقد شرحنا منهما ما يحتمل الشرح في كتاب «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى» فاطلبه منه.

والآن إذا تأملت جملة هذه المعاني ، ثم تلوت جميع آيات القرآن لم تجد جملة هذه المعاني من التوحيد والتّقديس وشرح الصفات العلى مجموعة في آية واحدة منها ، فلذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيدة آي القرآن» ؛ فإنّ (شَهِدَ اللهُ)(٢) ليس فيه إلا التوحيد ؛ و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٣) ليس فيه إلا التوحيد والتقديس ؛ و (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ)(٤) ليس فيه إلا الأفعال وكمال القدرة ؛ و «الفاتحة» فيها رموز إلى هذه الصفات من غير شرح ، وهي مشروحة في آية الكرسي ، والذي يقرب منها في جميع المعاني آخر الحشر ، وأوّل الحديد ، إذ اشتملا على أسماء وصفات كثيرة ، ولكنها آيات لا آية واحدة ، وهذه [آية الكرسي] آية واحدة ، إذا قابلتها بإحدى تلك الآيات وجدتها أجمع المقاصد ، فلذلك تستحق السّيادة على الآي. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي سيّدة الآيات» ؛ كيف لا وفيها الحيّ القيّوم ، وهو الاسم الأعظم ، وتحته سرّ ، ويشهد له ورود الخبر بأنّ الاسم الأعظم في آية الكرسيّ ، وأوّل آل عمران ، وقوله (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)(٥).

__________________

(١) الآية ٢٥٥ / من سورة البقرة.

(٢) الآية ١٨ / من سورة آل عمران.

(٣) الآية ١ / من سورة الإخلاص.

(٤) الآية ٢٦ / من سورة آل عمران.

(٥) الآية ١١ / من سورة طه.

٦٠