جواهر القرآن ودرره

أبو حامد الغزالي

جواهر القرآن ودرره

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

١
٢

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على نبيه محمد وآله واصحابه اجمعين [وبعد] :

فصل

فى فهرست الكتاب

الذى سميناه جواهر القرآن

اعلم هداك الله انا رتبنا هذا الكتاب على ثلاثة اقسام :

١ ـ قسم فى المقدمات والسوابق.

٢ ـ وقسم فى المقاصد.

٣ ـ وقسم فى اللواحق.

٣

القسم الأول

في المقدمات والسوابق

ويشتمل هذا القسم على تسعة عشر فصلا :

الفصل الأول : في أنّ القرآن هو البحر المحيط ، وينطوي على أصناف الجواهر والنفائس.

الفصل الثاني : في حصر مقاصده ونفائسه وأنها ترجع إلى ستة أقسام : ثلاثة منها أصول مهمة ، وثلاثة توابع متمّة.

الفصل الثالث : في شرح آحاد الأقسام الستة ، وأنها تتشعب فتصير عشرة.

الفصل الرابع : في كيفية انشعاب العلوم كلها من الأقسام العشرة ، وأن علوم القرآن تنقسم إلى علم الصّدف ، وإلى علم الجواهر ، وبيان مراتب العلوم.

الفصل الخامس : في كيفية انشعاب علم الأوّلين منه والآخرين.

الفصل السادس : في معنى اشتمال القرآن على الكبريت الأحمر ، والتّرياق الأكبر ، والمسك الأذفر ، وسائر النفائس والدّرر ، وأن ذلك لا يعرفه إلا من عرف كيفية الموازنة بين عالم الشّهادة وعالم الملكوت.

الفصل السابع : في أنه لم عبّر عن معاني عالم الملكوت في القرآن بأمثلة مأخوذة من عالم الشّهادة.

الفصل الثامن : فيما يدرك به وجه العلاقة بين عالم الملكوت وعالم الشّهادة.

الفصل التاسع : في حلّ الرّموز التي تحت الكبريت الأحمر والتّرياق الأكبر ، والمسك الأذفر ، والعود واليواقيت والدّرر وغيرها.

الفصل العاشر : في الفائدة التي تحت هذه الرّموز.

٤

الفصل الحادي عشر : في أنه كيف يفضل بعض آيات القرآن على بعض وكلّه كلام الله تعالى.

الفصل الثاني عشر : في أسرار الفاتحة ، واشتمالها على ثمانية أصناف من جملة الأصناف العشرة من نفائس القرآن ، وذكر طرف من معاني الرّحمن الرّحيم بالإضافة إلى خلقة الحيوانات.

الفصل الثالث عشر : في أنّ الأبواب الثمانية للجنّة مفتوحة بالفاتحة ، وأنها مفتاح جميعها.

الفصل الرابع عشر : في آية الكرسي (١) ، وأنها لم كانت سيّدة آي القرآن ، ولم كانت أشرف من (شَهِدَ اللهُ)(٢) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٣) وأول الحديد (٤) ، وآخر الحشر (٥) ، وسائر الآيات.

الفصل الخامس عشر : في تحقيق أنّ سورة الإخلاص لم تعدل ثلث القرآن.

الفصل السادس عشر : في أن (يس)(٦) لم كانت قلب القرآن.

الفصل السابع عشر : في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم خصّص الفاتحة بأنها أفضل القرآن ، وآية الكرسي بأنها سيّدة آي القرآن ، وأن ذلك لم صار أولى من عكسه.

الفصل الثامن عشر : في حال العارفين ، وأنهم في الدنيا في جنّة عرضها أكبر من السموات والأرض ، وأن جنّتهم الحاضرة قطوفها دانية ، وليست بمقطوعة ولا ممنوعة.

__________________

(١) الآية ٢٥٥ / من سورة البقرة.

(٢) الآية ١٨ / من سورة آل عمران.

(٣) الآيات ١ ـ ٤ / من سورة الإخلاص.

(٤) الآيات ١ ـ ٦ من سورة الحديد.

(٥) الآيات ٢١ ـ ٢٤ / من سورة الحشر.

(٦) أي سورة يس.

٥

الفصل التاسع عشر : في سرّ السّبب الدّاعي إلى نظم جواهر القرآن في سلك واحد ، ونظم درره في سلك آخر ، فهذه تسعة عشر فصلا.

القسم الثاني

في المقاصد

ويشتمل على لباب آيات القرآن ، وهي نمطان :

النّمط الأول في الجواهر : وهي التي وردت في ذات الله عزوجل ، وصفاته وأفعاله خاصّة ، وهو القسم العلميّ.

النّمط الثاني في الدّرر : وهو ما ورد فيه بيان الصّراط المستقيم ، والحثّ عليه ، وهو القسم العملي.

فصل في خاتمة النّمطين : في بيان العذر في الاقتصار في آيات القرآن على هذه الجملة.

القسم الثالث

في اللواحق

ومقصوده حصر جمل المقاصد الحاصلة من هذه الآيات ، وهو منعطف على جملة الآيات ، وهو كتاب مستقل لمن أراد أن يكتبه مفردا ، وقد سميناه «كتاب الأربعين في أصول الدنيا» فإنه ينقسم إلى علوم يرجع حاصلها إلى عشرة أصول وإلى أعمال ، وهي تنقسم إلى أعمال ظاهرة ، وإلى أعمال باطنة.

فالأعمال الظاهرة : ترجع جملتها إلى عشرة أصول أيضا.

والأعمال الباطنة : تنقسم إلى ما يجب تزكية القلب منه من الصفات المذمومة ؛

٦

وترجع مذمومات الأخلاق أيضا إلى عشرة أصول ، وإلى ما يجب تخلية القلب منه من الصفات والأخلاق ، وأن محمودات الأخلاق ترجع إلى عشرة أصول [أيضا].

فيشتمل قسم اللواحق على أربعة أقسام :

(١) المعارف

(٢) والأعمال الظاهرة

(٣) والأخلاق المذمومة

(٤) والأخلاق المحمودة

القسم الأول : في المعارف ، وهي عشرة أصول :

(١) أصل في ذات الله تعالى.

(٢) وأصل في تقديس الذّات.

(٣) وأصل في القدرة.

(٤) وأصل في العلم.

(٥) وأصل في الإرادة.

(٦) وأصل في السمع والبصر.

(٧) وأصل في الكلام.

(٨) وأصل في الأفعال.

(٩) وأصل في اليوم الآخر.

(١٠) وأصل في النبوّة.

وخاتمة : في التنبيه على الكتب التي يطلب منها حقائق هذه الأمور.

القسم الثاني : في الأعمال الظاهرة ، وهي عشرة أصول :

٧

(١) أصل في الصلاة.

(٢) وأصل في الزكاة.

(٣) وأصل في الصّوم.

(٤) وأصل في الحجّ.

(٥) وأصل في قراءة القرآن.

(٦) وأصل في الأذكار.

(٧) وأصل في طلب الحلال.

(٨) وأصل في حسن الخلق.

(٩) وأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(١٠) وأصل في اتّباع السنّة.

وخاتمة : تنعطف على الجميع في ترتيب الأوراد.

القسم الثالث : في أصول الأخلاق المذمومة ، وهي التي يجب تزكية النفس منها وهي عشرة أصول :

(١) أصل في شره الطعام.

(٢) وأصل في شره الكلام.

(٣) وأصل في الغضب.

(٤) وأصل في الحسد.

(٥) وأصل في حبّ المال.

(٦) وأصل في حبّ الجاه.

(٧) وأصل في حبّ الدنيا.

(٨) وأصل في الكبر.

٨

(٩) وأصل في العجب.

(١٠) وأصل في الرّياء.

وخاتمة : تنعطف على جملة في جوامع الأخلاق ومواقع الغرور منها.

القسم الرابع : في أصول الأخلاق المحمودة ، وهي عشرة أصول :

(١) أصل في التوبة.

(٢) وأصل في الخوف والرجا.

(٣) وأصل في الزهد.

(٤) وأصل في الصبر.

(٥) وأصل في الشكر.

(٦) وأصل في الإخلاص والصدق.

(٧) وأصل في التوكل.

(٨) وأصل في المحبة.

(٩) وأصل في الرضا بالقضاء.

(١٠) وأصل في الموت وحقيقته ، وأصناف العقاب الروحانية ، وبيان نار الله الموقدة ، التي تطّلع على الأفئدة.

وخاتمة : تنعطف على الجميع في التفكر والمحاسبة.

ثم أبتدئ وأقول :

٩

بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الأول

في أن القرآن هو البحر المحيط

وينطوي على أصناف الجواهر والنفائس

أما بعد حمد الله الذي هو فاتحة كلّ كتاب ، والصلاة على رسله التي هي خاتمة كل خطاب. فإني أنبّهك على رقدتك ، أيّها المسترسل في تلاوتك ، المتّخذ دراسة القرآن عملا ، المتلقّف من معانيه ظواهر وجملا ، إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمّضا عينيك عن غرائبها؟ أو ما كان لك أن تركب متن لجّتها لتبصر عجائبها؟ وتافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها؟ وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها؟ أو ما تعيّر نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها؟ أو ما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعّب علم الأوّلين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها؟ أو ما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها فظفروا بالكبريت الأحمر؟ وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر ، والدرّ الأزهر ، والزّبرجد الأخضر؟ وساحوا في سواحلها ، فالتقطوا العنبر الأشهب ، والعود الرّطب الأنضر؟ وتعلقوا إلى جزائرها واستدرّوا من حيواناتها التّرياق الأكبر ، والمسك الأذفر؟ وها أنا أرشدك قاضيا حقّ إخائك ، ومرتجيا بركة دعائك إلى كيفية سياحتهم وغوصهم وسباحتهم.

١٠

الفصل الثاني

في حصر مقاصد القرآن ونفائسه

سرّ القرآن ، ولبابه الأصفى ، ومقصده الأقصى ، دعوة العباد إلى الجبّار الأعلى ، ربّ الآخرة والأولى ، خالق السماوات العلى ، والأرضين السفلى ، وما بينهما وما تحت الثّرى ، فلذلك انحصرت سور القرآن وآياته في ستة أنواع :

ـ ثلاثة منها : هي السوابق والأصول المهمّة.

ـ وثلاثة : هي الرّوادف والتوابع المغنية المتمّة.

أما الثلاثة المهمّة فهي :

(١) تعريف المدعو إليه.

(٢) وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه.

(٣) وتعريف الحال عند الوصول إليه.

وأما الثلاثة المغنية المتمّة :

فأحدها : تعريف أحوال المجيبين للدعوة ولطائف صنع الله فيهم ؛ وسرّه ومقصوده التشويق والترغيب ، وتعريف أحوال النّاكبين والنّاكلين عن الإجابة وكيفية قمع الله لهم وتنكيله لهم ، وسرّه ومقصوده الاعتبار والترهيب.

وثانيها : حكاية أحوال الجاحدين ، وكشف فضائحهم وجهلهم

١١

بالمجادلة والمحاجّة على الحق ، وسرّه ومقصوده في جنب الباطل الإفضاح والتّنفير ، وفي جنب الحق الإيضاح والتّثبيت والتّقهير.

وثالثها : تعريف عمارة منازل الطريق ، وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد.

فهذه ستة أقسام.

١٢

الفصل الثالث

في شرح مقاصد القرآن

القسم الأول

في تعريف المدعو إليه

وهو شرح معرفة الله تعالى ، وذلك هو الكبريت الأحمر. وتشتمل هذه المعرفة على :

(١) معرفة ذات الحق تبارك وتعالى.

(٢) ومعرفة الصفات.

(٣) ومعرفة الأفعال.

وهذه الثلاثة : هي الياقوت الأحمر ، فإنها أخصّ فوائد الكبريت الأحمر ، وكما أن لليواقيت درجات ، فمنها الأحمر والأكهب والأصفر ، وبعضها أنفس من بعض ، فكذلك هذه المعارف الثلاثة ليست على رتبة واحدة ، بل أنفسها :

(١) معرفة الذات : فهو الياقوت الأحمر ؛ ثم يليه معرفة الصفات وهو الياقوت الأكهب ؛ ويليه معرفة الأفعال ، وهو الياقوت الأصفر. وكما أن أنفس هذه اليواقيت أجلّ وأعزّ وجودا ، ولا تظفر منه الملوك لعزّته إلا باليسير ، وقد تظفر مما دونه بالكثير ، فكذلك معرفة الذّات أضيقها مجالا وأعسرها منالا وأعصاها على الفكر ، وأبعدها عن قبول الذّكر ؛ ولذلك لا يشتمل القرآن منها إلا على تلويحات

١٣

وإشارات ، ويرجع ذكرها إلى ذكر التّقديس المطلق كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(١) وسورة الإخلاص وإلى التعظيم المطلق كقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٢).

(٢) وأما الصفات : فالمجال فيها أفسح ، ونطاق النّطق فيها أوسع ، ولذلك كثرت الآيات المشتملة على ذكر العلم والقدرة والحياة ، والكلام والحكمة ، والسمع والبصر وغيرها.

(٣) وأما الأفعال : فبحر متّسعة أكنافه ، ولا تنال بالاستقصاء أطرافه ، بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله ، وكل ما سواه فعله ، لكن القرآن يشتمل على الجليّ منها الواقع في عالم الشهادة ، كذكر السموات والكواكب ، والأرض والجبال ، والشجر والحيوان ، والبحار والنبات ، وإنزال الماء الفرات ، وسائر أسباب النبات والحياة ، وهي التي ظهرت للحسّ. وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلّها على جلالة صانعها ما لم يظهر للحسّ ، بل هو من عالم الملكوت ، وهي الملائكة والرّوحانيّات ، والروح والقلب أعني العارف بالله تعالى من جملة أجزاء الآدميّ ، فإنهما أيضا من جملة عالم الغيب والملكوت وخارج عن عالم الملك والشهادة ، ومنها الملائكة الأرضية الموكّلة بجنس الإنس ، وهي التي سجدت لآدم عليه‌السلام ، ومنها الشياطين المسلّطة على جنس الإنس ، وهي التي امتنعت عن السجود له ، ومنها الملائكة السماويّة ، وأعلاهم الكروبيّون ، وهم العاكفون في حظيرة القدس ، لا

__________________

(١) الآية ١١ / من سورة الشّورى.

(٢) الآيتان ٩٩ ، ١٠٠ / من سورة الأنعام.

١٤

التفات لهم إلى الآدميين ، بل لا التفات لهم إلى غير الله تعالى ، لاستغراقهم بجمال الحضرة الرّبوبيّة وجلالها ، فهم قاصرون عليه لحاظهم ، يسبّحون الليل والنهار لا يفترون. ولا تستبعد أن يكون في عباد الله من يشغله جلال الله عن الالتفات إلى آدم وذريّته ، ولا يستعظم الآدميّ إلى هذا الحد ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله أرضا بيضاء ، مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوما ، مثل أيام الدنيا ثلاثين مرة ، مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله تعالى يعصى في الأرض ، ولا يعلمون أن الله تعالى خلق آدم وإبليس». رواه ابن عباس رضي الله عنه واستوسع مملكة الله تعالى.

واعلم أن أكثر أفعال الله وأشرفها لا يعرفها أكثر الخلق ، بل إدراكهم مقصور على عالم الحسّ والتّخييل ، وأنهما النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت وهو القشر الأقصى عن اللّب الأصفى ، ومن لم يجاوز هذه الدرجة فكأنه لم يشاهد من الرّمان إلا قشرته ، ومن عجائب الإنسان إلا بشرته ، فهذه جملة القسم الأول ، وفيها أصناف اليواقيت ، وسنتلو عليك الآيات الواردة فيها على الخصوص جملة واحدة ، فإنها زبدة القرآن وقلبه ولبابه وسرّه.

القسم الثاني

في تعريف طريق السلوك إلى الله تعالى

وذلك بالتّبتّل كما قال الله تعالى (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)(١) أي

__________________

(١) الآية ٨ / من سورة المزّمّل.

١٥

انقطع إليه ، والانقطاع إليه يكون بالإقبال عليه ، والاعراض عن غيره ، وترجمته قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)(١). والإقبال عليه إنما يكون بملازمة الذّكر ، والإعراض عن غيره يكون بمخالفة الهوى والتّنقّي عن كدورات الدنيا وتزكية القلب عنها ، والفلاح نتيجتها كما قال الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)(٢).

فعمدة الطريق أمران : الملازمة ، والمخالفة ؛ الملازمة لذكر الله تعالى ، والمخالفة لما يشغل عن الله ، وهذا هو السفر إلى الله ، وليس في هذا السفر حركة ، لا من جانب المسافر ، ولا من جانب المسافر إليه ، فإنهما معا ، أو ما سمعت قوله تعالى وهو أصدق القائلين (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(٣)؟

بل مثل الطالب والمطلوب مثل صورة حاضرة مع مرآة ، ولكن ليست تتجلّى في المرآة لصدأ في وجه المرآة ، فمتى صقلتها تجلّت فيه الصورة ، لا بارتحال الصورة إلى المرآة ، ولا بحركة المرآة إلى الصورة ، ولكن بزوال الحجاب ، فإن الله تعالى متجلّ بذاته لا يختفي ، إذ يستحيل اختفاء النور ، وبالنور يظهر كلّ خفاء ، الله نور السموات والأرض ، وإنما خفاء النور عن الحدقة لأحد أمرين : إما لكدورة في الحدقة ، وإما لضعف فيها ، إذ لا تطيق احتمال النور العظيم الباهر ، كما لا يطيق نور الشمس أبصار الخفافيش ، فما عليك إلا أن تنقّي عن عين القلب كدورته ، وتقوّي حدقته ، فإذا هو فيه

__________________

(١) الآية ٩ / من سورة المزّمّل.

(٢) الآيتان ١٤ ، ١٥ / من سورة الأعلى

(٣) الآية ١٦ / من سورة ق.

١٦

كالصورة في المرآة ، حتى إذا غافصك في تجلّيه فيها بادرت وقلت إنه فيه ، وقد تدرّع باللّاهوت ناسوتي ، إلى أن يثبّتك الله بالقول الثابت ، فتعرف أن الصورة ليست في المرآة بل تجلّت لها ، ولو حلّت فيها لما تصوّر أن تتجلى صورة واحدة بمرايا كثيرة في حالة واحدة ، بل كانت إذا حلّت في مرآة ارتحلت عن غيرها ، وهيهات فإنه يتجلّى لجملة من العارفين دفعة واحدة ، نعم يتجلى في بعض المرايا أصحّ وأظهر وأقوم وأوضح ، وفي بعضها أخفى وأميل إلى الاعوجاج عن الاستقامة ، وذلك بحسب صفاء المرآة وصقالتها وصحة استدارتها ، واستقامة بسط وجهها ، فلذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يتجلّى للناس عامة ولأبي بكر خاصة».

ومعرفة السلوك والوصول أيضا بحر عميق من بحار القرآن ، وسنجمع لك الآيات المرشدة إلى طريق السلوك ، لتتفكّر فيها جملة ، فعساك ينفتح لك ما ينبغي أن ينفتح ، فهذا القسم هو الدرّ الأزهر.

القسم الثالث

في تعريف الحال عند ميعاد الوصال

وهو يشتمل على ذكر الرّوح والنعيم الذي يلقاه الواصلون ، والعبارة الجامعة لأنواع روحها الجنة ، وأعلاها لذة النظر إلى الله تعالى ، ويشتمل [أيضا] على ذكر الخزي والعذاب الذي يلقاه المحجوبون عنه بإهمال السلوك ، والعبارة الجامعة لأصناف آلامها

١٧

الجحيم ، وأشدّها ألما ألم الحجاب والإبعاد ، أعاذنا الله منه ، ولذلك قدّمه في قوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ)(١). ويشتمل أيضا على ذكر مقدمات أحوال الفريقين وعنها يعبر بالحشر والنّشر والحساب والميزان والصّراط ، ولها ظواهر جليّة تجري مجرى الغذاء لعموم الخلق ، ولها أسرار غامضة تجري مجرى الحياة لخصوص الخلق ، وثلث آيات القرآن وسوره يرجع إلى تفصيل ذلك ، ولسنا نهمّ بجمعها فهي أكثر من أن تلتقط وتحصى ، ولكن للفكر فيه مجال وبحث ، وهذا القسم هو الزّمرّد الأخضر.

القسم الرابع

في أحوال السّالكين والنّاكبين

أما أحوال السّالكين : فهي قصص الأنبياء والأولياء ، كقصة آدم ونوح ، وإبراهيم وموسى وهارون ، وزكريا ويحيى ، وعيسى ومريم ، وداود وسليمان ، ويونس ولوط ، وإدريس والخضر ، وشعيب وإلياس ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجبريل وميكائيل والملائكة وغيرهم.

وأما أحوال الجاحدين والنّاكبين : فهي كقصص نمرود وفرعون ، وعاد وقوم لوط ، وقوم تبّع ، وأصحاب الأيكة ، وكفار مكّة ، وعبدة الأوثان ، وإبليس والشياطين وغيرهم ؛ وفائدة هذا القسم التّرهيب والتنبيه والاعتبار ، ويشتمل أيضا على أسرار ورموز وإشارات محوجة إلى التفكّر الطويل ، وفيهما يوجد العنبر الأشهب ، والعود

__________________

(١) الآية ١٥ / من سورة المطفّفين.

١٨

الرّطب الأنضر ، والآيات الواردة فيهما كثيرة لا يحتاج إلى طلبها وجمعها.

القسم الخامس

في محاجّة الكفار ومجادلتهم وإيضاح مخازيهم بالبرهان الواضح

وكشف تخاييلهم وأباطيلهم

[وذلك] ثلاثة أنواع :

أحدها : ذكر الله تعالى بما لا يليق به ، من أنّ الملائكة بناته وأنّ له ولدا وشريكا ، وأنه ثالث ثلاثة.

والثاني : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ساحر وكاهن وكذّاب ، وإنكار نبوّته ، وأنه بشر كسائر الخلق فلا يستحق أن يتّبع.

وثالثها : إنكار اليوم الآخر ، وجحد البعث والنّشور ، والجنة والنار ، وإنكار عاقبة الطاعة والمعصية. وفي محاجّة الله تعالى إياهم بالحجج لطائف وحقائق ، ويوجد فيها التّرياق الأكبر ، وآياته أيضا كثيرة ظاهرة.

القسم السادس

في تعريف عمارة منازل الطريق

وكيفية التّاهّب للزّاد ، والاستعداد بإعداد السلاح

الذي يدفع سرّاق المنازل وقطّاعها

وبيانه : أن الدنيا منزل من منازل السائرين إلى الله تعالى ، والبدن مركب ، فمن ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتمّ سفره ، وما لم

١٩

ينتظم أمر المعاش في الدنيا لا يتمّ أمر التّبتّل والانقطاع إلى الله تعالى الذي هو السلوك ، ولا يتمّ ذلك حتى يبقى بدنه سالما ونسله دائما ، ويتمّ كلاهما بأسباب الحفظ لوجودهما وأسباب الدفع لمفسداتهما ومهلكاتهما.

وأما أسباب الحفظ لوجودهما : فالأكل والشرب وذلك لبقاء البدن ، والمناكحة. وذلك لبقاء النسل ، فقد خلق الغذاء سببا للحياة ، وخلق الإناث محلا للحراثة ، إلا أنه ليس يختص المأكول والمنكوح ببعض الآكلين بحكم الفطرة ، ولو ترك الأمر فيه مهملا من غير تعريف قانون في الاختصاصات لتهاونوا وتقاتلوا ، وشغلهم ذلك عن سلوك الطريق ، بل أفضى بهم إلى الهلاك. فشرح القرآن قانون الاختصاص بالأموال في آيات المبايعات والرّبويّات ، والمداينات ، وقسم المواريث ، ومواجب النفقات ، وقسمة الغنائم والصدقات ، والمناكحات ، والعتق والكتابة والاسترقاق والسّبي. وعرّف كيفية ذلك التخصيص عند الاتّهام بالإقراريّات وبالأيمان والشهادات. وأما الاختصاص بالإناث فقد بيّنته آيات النكاح والطلاق والرجعة والعدة ، والخلع والصداق والإيلاء والظهار واللّعان ، وآيات محرّمات النّسب والرّضاع والمصاهرات.

وأما أسباب الدفع لمفسداتهما : فهي العقوبات الزاجرة عنها ، كقتال الكفار وأهل البغي والحثّ عليه ، والحدود والغرامات والتّعزيرات ، والكفارات والدّيات والقصاص.

أما القصاص والدّيات فدفعا للسّعي في إهلاك الأنفس

٢٠