بدايع الأفكار في الأصول

الميرزا هاشم الآملي

بدايع الأفكار في الأصول

المؤلف:

الميرزا هاشم الآملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المطبعة العلميّة في النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٤

١

الجزء الاول

من كتاب بدائع الافكار

فى الاصول

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي لا تحصى آلاؤه عدا ولا تجزي نعماؤه شكرا وحمدا وأفضل الصلاة والسلام على أفضل الخلق والأنام خاتم الأنبياء محمد وآله الكرام واللعنة الدائمة على اعدائهم شرار الخلق واعداء الحق اما بعد فهذا هو الجزء الأول من كتابنا الموسوم «ببدائع الأفكار» الذي هو محصل ما استفدته من بحث شيخنا الاستاذ المقدم والعلامة العليم والامام الذي يقتدى به والعلم الذي يهتدى به الى محكمات المعارف الدينية اذا عمت متشابهاتها وفرقان الحقائق الروحية إذا اشتبهت آياتها وكيف لا يكون كذلك وقد أشرقت بتحقيقه حقائق علم الفقه واصوله كواكب سيارة في الآفاق أو مصابيح وهاجة في مشاكي الصحف والاوراق حتى استولى على علم الفقه وأصوله بحثا وتدريسا وتهذيبا وتأسيسا في مرات عديدة ودورات غير محدودة وكما أبدع في هذين العلمين الواسعين تحقيقا وتقريرا توسع فيهما تصنيفا وتحريرا فانتج سعيه الحميد ورأيه السديد في علم الأصول دائرة تحتوي على لبابه وفصل خطابه وبنات أفكاره الأبكار التي اشرأبت؟؟؟ اليها أعناق الفضلاء وشدوا اليها الرحال من اقاصي الامصار وفي علم الفقه دوائر استوفى فيها ابوابه تحقيقا بالأدلة الوثيقة والأنظار الدقيقة وتوسع فى بعض أبوابه فلم يقتنع فيه بمصنف واحد بل كرر النظر والتأليف فيه إلى غير ذلك من الرسائل الجمة في المسائل المهمة مقتصرا في جميعها على خلاصة الأفكار وسلالة الابحاث والأنظار وأيم الله تعالى ان تلك المصنفات السامية لا يعوزها من كمال الفن إلا البيان السهل

٢

لهذا أصبحت تلك الانظار الثمينة من الكنوز الدفينة لا يهتدي اليها إلا من ترعرع على تربية شيخنا الاستاذ أو توسع في النظر في هذه الفنون وهذا هو الذي حملني على تحرير تقريري لدروسه ومحاضراته التي تلقيتها منه شفاها في حلقة تدريسه وغيرها لأجتلى أسرار أنظاره الخفية بشيء من العبائر الجلية خدمة مني للعلم واهله وبرا بالاستاذ واظهارا لفضله وقد رتبت هذا الكتاب على مقدمة ومقاصد وخاتمة.

(أما المقدمة) ففي بيان امور (الأول) في تعريف العلم وموضوعه وفائدته ورتبته.

(وتوضيح هذه الامور الاربعة يتحقق في جهات)

(الجهة الأولى) لا يخفى أن لفظ العلم كثيرا ما يطلق ويراد به أحد معنيين (الأول) هو معناه الأولي الحقيقي أعني به انكشاف الواقع للنفس الذي يمكن انقسامه الى التصور والتصديق في نظر الفن (والثاني) هي القواعد الممهدة لتحصيل الفوائد المترتبة عليها وبالاعتبار الثاني يطلق لفظ العلم على مثل علم النحو والصرف والأصول وغيرها وبهذا الاعتبار يتعلق به العلم بالمعنى الأول والجهل فيقال فلان يعلم علم النحو مثلا أو لا يعلم علم المنطق وبهذا الاعتبار أيضا يقال الأمر الفلاني موضوع علم كذا والمسألة الفلانية من مسائل علم كذا وهكذا لو قيل مثلا فائدة علم النحو هو صون اللسان عن الخطأ في المقال فانه يراد بها الفائدة التي لا تنفك عن تلك القواعد بحسب العادة فالعلم بهذا المعنى هي القواعد أي القضايا المتشتتة ذاتا التي يجمعها تدوينا واعتبارا غرض واحد (ومما) ذكرنا ظهر اعتبار الموضوع في القضايا التي هي القواعد الممهدة وقد يظهر من كلام بعض الحكماء أن العلم بالمعنى الثاني هي المحمولات المنتسبة وهو يشعر بخروج موضوعات القضايا عن نظام العلم بالاعتبار الثاني ولا يخفى ما فيه لوضوح أن الموضوعات مقومة للقضايا كالمحمولات والقضايا بأجزائها تكون من قوام العلم بالاعتبار الثاني.

(الجهة الثانية) قد اشتهر أن فائدة الشيء هو ما يترتب على وجوده في الخارج بحسب العادة وعليه فقد يعترض الاشكال في صحة تطبيق هذه الكبرى على بعض

٣

صغرياتها بنظر اهل الفن مثل العلوم المدونة لبعض الفوائد التي زعموا ترتبها عليها مثلا علم (النحو) فائدته هو صون اللسان عن الخطأ في المقال كما هو مشهور بينهم مع أنا نرى بالوجدان أن هذه الفائدة لا تترتب على هذا العلم بلا أعمال مقدمات أخرى كتعلم ذلك العلم وارادة تطبيق قواعده في مقام الابتلاء بها (والجواب) عنه بوجهين (الأول) أن وجود هذه الفائدة في الخارج معلول لجملة من المقدمات إحداها وهو اهمها القواعد المسماة بعلم كذا فجميع هذه المقدمات تشترك في تحصيل تلك الفائدة فكل منها له نصيب في التأثير فيه وبما أن التأثير والأثر والايجاد والوجود متحد ان ذاتا وان اختلفا اعتبارا يكون لكل من تلك المقدمات ايضا نصيب من وجود الفائدة واثرها (فان قلت) لا ريب في أن وجود كل واحدة من المقدمات التي تترتب هذه الفائدة على جميعها في حال اجتماعها لا يوجب وجود تلك الفائدة في حال انفراده ولا بعض وجودها فما معنى أن يكون لكل واحدة من تلك المقدمات نصيب في وجود تلك الفائدة (قلت) نحن لا ندعى أن وجود تلك الفائدة يترتب على كل واحدة من المقدمات مطلقا ولو في حال الانفراد كما لا ندعى أن وجود الفائدة تتقسط على المقدمات كذلك بل ندعى أن كل واحدة من المقدمات المزبورة تنفي بوجودها عدم الفائدة الذي يستند الى عدمها لو انتفت وتحفظ حصة من وجود الفائدة في حين اقترانها بباقي اخواتها من المقدمات ففي هذا الحال يكون لكل من المقدمات المزبورة نصيب من التأثير والاثر في وجود الفائدة وعليه تكون قواعد كل علم فى حين اقترانها بباقي المقدمات مستلزمة للفائدة التي نسبت اليها وبهذا الملاك قلنا إنما تجب المقدمة حين انضمامها الى باقي المقدمات الاخرى التي يترتب الواجب على جميعها فى حال اجتماعها ولم نقل بوجوبها مطلقا ولا بوجوبها مقيدا بالايصال وتوضيح الكلام فيها يأتي فى محله إن شاء الله تعالى.

(الثاني) أن الغرض من كل علم يدون هو كونه مقياسا يستكشف به حال الجزئيات التي يرجع فى مثلها اليه من حيث الصحة وعدمها بمطابقتها إياه وعدم مطابقتها فان علم النحو مثلا مقياس يرجع اليه فى مقام استكشاف صحة الكلام الجزئي وعدمها فانطباق المقياس المزبور على الكلام يكشف عن صحته وعدم انطباقه يكشف عن الخطأ فيه وكون علم النحو مثلا بهذا الشأن امر ذاتي له لا يكاد

٤

ينفك عنه ويترتب عليه بخصوصه وبهذا الاعتبار صح أن يقال فائدة علم النحو هو صون اللسان عن الخطأ فى المقال وأما ايجاد الكلام صحيحا اي مطابقا للمقياس المزبور فله مباد أخر من إرادة المتكلم وعلمه بما يوجب مطابقة الكلام له وغير ذلك وقد انقدح بما ذكرنا صحة القول بأن تمايز العلوم بتمايز الأغراض وأنه لا يرد عليه ما قيل من أن الغرض من العلم قد يترتب عليه وقد لا يترتب وما كان بهذه الصفة لا يصح جعله مميزا وفارقا بين أمر وآخر وذلك لأنا قد بينا بالتقريب السابق فى كلا الوجهين أن الغرض المزبور لا يكاد ينفك عن العلم ومعه يصح جعله مميزا ولا يرد عليه الايراد المذكور.

(الجهة الثالثة) المشهور بين أهل المعقول أن وحدة العلم مستندة الى وحدة الموضوع وقد استدل على هذه الدعوى بأنه لا ريب فى أن نتيجة كل علم يتوصل به الى غرض واحد هو ذلك الغرض كما أنه لا ريب فى أن الأمر الواحد بما هو واحد لا يعقل أن يتولد من الكثير بما هو كثير ومتعدد ولو استند واحد الى متعدد فى الظاهر لاستكشفنا بدليل الإنّ أن المؤثر فى هذا الواحد هي الجهة الجامعة بين تلك الامور المتعددة فلم يكن المتعدد بما هو متعدد علة للأثر الواحد وهكذا الأمر فى الغرض الواحد المتولد من مسائل العلم المتعددة فانه بوحدته يكشف عن أن المؤثر فيه هي الجهة الجامعة بين تلك المسائل المتعددة وبما أن المسألة مركبة من موضوع ومحمول فلا بد أن تكون الجهة الجامعة المؤثرة فى ذلك الغرض هي الجهة الجامعة بين موضوعات المسائل لا الجهة الجامعة بين محمولاتها لتقدم الموضوع على المحمول ولكون المحمول من آثار موضوعه وتوابع وجوده وعليه تكون الجهة الجامعة بين موضوعات المسائل هو موضوع العلم الذي يبحث فيه عن عوارضه.

ويرد عليه (اولا) أن الغرض من العلم ليس هو نحو أثر يتولد منه ويكون وجوده معلولا لوجوده بل هو ما اشرنا اليه سابقا بأن العلم الذي هو عبارة عن القواعد الكلية مقياس كلي تعرض عليه وتقاس به الامور الجزئية التي أعد ذلك العلم لقياسها واستكشاف صحتها وعدمها بمطابقتها اياه وعدم مطابقتها فكون العلم بهذا الشأن والاستعداد هو الغرض المترتب عليه وهو أمر اضافى لا لا توليدي ليكون معلولا لامر آخر كي تلزم رعاية شئون العلية والمعلولية فيه

٥

فالاستدلال ببرهان السنخية لو سلمنا صحته لما كان له ربط بالمقام و (ثانيا) لو سلمنا أن وزان قواعد العلم بالنسبة الى الغرض المترتب عليه وزان العلة والمعلول فلا نسلم حينئذ أن الغرض واحد حقيقة بل نلتزم بأغراض متعددة بتعدد القواعد المؤلف منها ذلك العلم وإنما عنوانها الذي يشار به اليها واحد ووحدة العنوان لا تستلزم وحدة المعنون وعليه فلا وجه لاستكشاف وحدة الموضوع من وحدة الغرض فانها وحدة عنوانية وهي لا تستلزم الوحدة الذاتية الماهوية (والحاصل) أن وحدة الغرض بالعنوان لا تستلزم وحدته بالذات فضلا عن استلزام وحدة ذاتيه لتلك الامور المترتب عليها ذلك الغرض و «ثالثا» لو سلمنا أن الغرض المترتب على العلم أمر وحداني بسيط لكان اللازم من ذلك أن نقول بجامع واحد بسيط بين الموضوعات ومحمولاتها ونسبها ليكون ذلك الجامع بين هذه الأمور المختلفة هو المؤثر فى ذلك الغرض الوحداني البسيط لأن العلم كما تقدم عبارة عن القضايا المركبة من الموضوعات والمحمولات والنسب ومن الواضح المسلم أنه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين الامور المتباينة بالذات والماهية مثل موضوعات المسائل ومحمولاتها ونسبها فانه وإن امكن فرض الجامع الماهوي بين نفس الموضوعات على حدها وبين نفس المحمولات على حدها ولكن لا يمكن صحة دعوى الجامع بين الموضوعات والمحمولات لكون المحمولات من عوارض الموضوعات ولا جامع ذاتي بين الموضوع وعارضه فضلا عن صحة دعوى الجامع بين المعاني الحرفية اعني النسب وبين المعاني الاسمية وهي الموضوعات ومحمولاتها و «رابعا» لو سلمنا كفاية الجامع الذاتى الماهوي بين موضوعات المسائل فقط فى ترتب الغرض الوحدانى؟؟؟ العلم لما أجدى ذلك فى ثبوت المدعي لأنه إما أن يكون الغرض على؟؟؟ نفس الجامع بين الموضوعات أو على نفس الموضوعات «وعلى الاول» ان يكون البحث عن عوارض موضوعات المسائل استطراديا في ذلك لأنه لا دخل له في تحصيل الغرض المطلوب وهو خلاف الضرورة لكون لا يترتب على البحث عن عوارض الجامع فقط بل عليه وعلى البحث عن عوارض؟؟؟ موضوعات المسائل ولأن البحث عن عوارض موضوعات المسائل من موضوعات؟؟؟ ذلك العلم في نظر جميع أهل العلم ولا يلتزم أحد منهم باستطراد تلك المباحث باسره؟؟؟ هو ما اشرنا اليه

٦

من كون الغرض الذي يراد تحصيله فى ذلك العلم لا يحصل إلا بالبحث عن عوارض موضوعات جميع المسائل المدرجة فيه (وعلى الثاني) يلزم أحد محذورين اما صدور الواحد البسيط بما هو واحد عن الكثير المتعدد بما هو متعدد أو دعوى جامع ذاتي بين الامور المتباينة بما هي متباينة وذلك لأن الغرض الواحد إن كان يدعى ترتبه على موضوعات المسائل بما هي امور متباينة لزم المحذور الأول وإن كان يدعى وجود جامع بين موضوعات المسائل بما هي امور متباينة والغرض مترتب على ذلك الجامع لزم المحذور الثاني (وخامسا) أن كثيرا من العلوم قد لا يكون جامع ذاتي ما هوي بين موضوعات مسائلها كالفقه واصوله فان من بعض ابواب الفقه باب الصوم ولا شك فى أن الصوم أمر عدمي وباقي الواجبات كالصلاة والزكاة ونحوهما أمور وجودية ولا جامع ذاتي بين الأمور العدمية والامور الوجودية او بين الترك والفعل (فان قلت) موضوع علم الفقه هو طبيعي فعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير لا وجوده وعدمه بل فعله الخاص بما هو ذو مصلحة واجب وفعله الخاص الآخر بما هو ذو مفسدة محرم وهذه الافعال الخاصة بينها جامع ذاتي ماهوي وهو كونها فعل المكلف (قلت) هذا التقريب يصح في جملة الواجبات والمحرمات وباقي الاحكام عدا الصوم لان ترك المفطرات واجب لا ان فعلها حرام واذا كان متعلق الحكم فيه هو الترك ومتعلق باقي الاحكام في ابواب الفقه هو طبيعي فعل المكلف امتنع أن يكون هناك جامع ذاتي بين الترك وطبيعي الفعل فانضح انه لا يعقل أن يكون جامع ذاتي بين موضوعات مسائل علم الفقه على النحو المقرر (وكذلك) اصول الفقه فان بعض مسائله لفظية وبعضها عقلية واي جامع ذاتي بين اللفظية والامور العقلية (ولو تنزلنا) وقلنا بوجود جامع ذاتي بين موضوعات مسائل علم الفقه لما كان ذلك مجديا في كون ذلك الجامع هو موضوع علم الفقه لأن العوارض المبحوث عنها في مباحث علم الفقه ليست ذاتية لهذا الجامع فان كل نوع من الاحكام الخمسة ليس عارضا على فعل المكلف بما هو فعله مطلقا إذ من الواضح أن الوجوب مثلا لا يعرض على فعل المكلف بما هو فعله المطلق بل بما هو صلاة مثلا فالخصوصية الصلاتية حيثية تقييدية مقومة لمتعلق الوجوب وهكذا بقية العبادات ولهذا لو اتى بالصلاة غير قاصد لعنوانها لما صح فعله هذا صلاة

٧

لانخرام الحيثية التقيدية فيه (وكذا) علم النحو فانه ايضا لا جامع ذاتي بين موضوعات مسائله بحيث يكون ذلك الجامع هو موضوع علم النحو وتكون المحمولات المبحوث عنها في العلم عوارض ذاتية لذلك الجامع فان ما فرض موضوعا لعلم النحو إما أن لا يكون جامعا بين جميع موضوعات المسائل مع كون العوارض المبحوث عنها في العلم ليست ذاتية له وإما أن لا تكون العوارض المبحوث عنها ذاتية له وذلك لأن موضوع علم النحو إما أن تكون الكلمة والكلام وإما أن يكون هو القول من حيث الاعراب والبناء فان كان موضوعه هو الأول فلا يعقل أن تكون الكلمة والكلام معا جامعا وحدانيا بين موضوعات مسائل علم النحو بل تكون الكلمة جامعة بين موضوعات بعض المسائل والكلام جامعا آخرا بين موضوعات بعض المسائل الأخر فيلزم من كون موضوع علم النحو الكلمة والكلام محذوران أحدهما أن يكون علم النحو علمين لتعدد موضوعه اعني الكلمة والكلام لانتفاء جامع ذاتي بينهما يكون هو موضوع العلم غير القول وفرض كونه هو موضوع العلم خلاف الفرض وثانيهما أن تكون العوارض المبحوث عنها في العلم غير ذاتية لما فرض موضوعا فان تلك العوارض لا تعرض على الكلمة أو الكلام بما هي كلمة أو كلام بل بما هو فاعل أو بما هي جملة اسمية وإن كان موضوعه هو الثاني اعني به القول فهو وإن كان جامعا ذاتيا بين جميع موضوعات مسائل العلم إلا أنه يلزم من فرض كونه موضوعا أن تكون العوارض المبحوث عنها في العلم غريبة بالنسبة الى ذلك الموضوع كما اشرنا اليه في المحذور الثاني فتحصل مما تقدم أن وحدة الغرض بالعنوان لا تستلزم وحدة الموضوع بالحقيقة وانما تقتضي وحدته عنوانا واعتبارا إذ لا يعقل أن تكون المسائل المتباينة موضوعا ومحمولا شيئا واحدا حقيقة وبما أن حقيقة كل علم مسائله فلا يعقل أن يكون العلم واحدا حقيقة بل لا محالة يكون واحدا عنوانا واعتبارا لداع يدعو المدون لتلك الامور المتعددة الى اعتبارها شيئا واحدا وتسميتها باسم واحد ولو لوحدة الغرض عنوانا واعتبارا فاتضح أن ما فرض موضوعا لجملة من العلوم لا يمكن أن يكون موضوعا لتلك العلوم إذ لا يبحث في شيء منها عن عوارضه الذاتية وقد قيل في تعريف موضوع العلم انه ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية وكذلك قد اتضح أن ما

٨

فرض غرضا واحدا للعلم ليس بواحد حقيقة بل هناك أغراض متعددة بعدد المسائل المبحوث عنها في ذلك العلم وإنما انتزع من مجموع تلك الأغراض عنوان واحد يشار به اليها واذا لم يمكن أن يكون لتلك العلوم موضوع فكيف يمكن أن تستند وحدة العلم الى وحدة موضوعه وكذلك اذا استحال أن يكون الغرض المترتب على العلم واحدا حقيقة امتنع أن يستكشف وحدة العلم حقيقة من وحدة الغرض عنوانا فلا محالة تكون وحدة العلم بوحدة الاعتبار التي يدعو المعتبر اليها وحدة الغرض عنوانا في الغالب ووحدة العنوان المشار به الى الأغراض الكثيرة المترتبة على مسائل العلم قد تنشأ من خصوصية عرضية وقد تنشأ من خصوصية ذاتية تشترك فيها تلك الاغراض الكثيرة المترتبة على مسائل العلم كما هو الغالب مثل صون اللسان عن الخطأ في المقال بالنسبة الى الغرض المترتب على علم النحو.

ثم إن بعض العلوم قد يكون لموضوعات مسائله جامع ذاتي بحيث تكون العوارض المبحوث عنها فيه أعراضا ذاتية له فيكون هو موضوع ذلك العلم كعلم الحساب والهندسة فان العوارض المبحوث عنها في كل منهما إنما تعرض على نفس موضوع العلم كالعدد أو الجسم التعليمى بسبب الحيثية التي توجب اختلاف العوارض العارضة على ذات الموضوع لكون الحيثية المزبورة حيثية تعليلية لا تقييدية ويتحصص الموضوع الجامع بين موضوعات المسائل بنفس عروض العوارض عليه فتتعدد موضوعات المسائل وتختلف بعروض العوارض نفسها حين عروضها لا في رتبة سابقة عليها كتحصص الموضوع بالحيثيات المنوعة له فيما لو كانت الحيثية المزبورة حيثية تقييدية وعليه فتكون جميع العوارض المبحوث عنها في كل من هذين العلمين عوارض ذاتية لموضوع العلم.

فى بيانه موضوع العلوم والعوارض الذاتية

(الجهة الرابعة) قد اشتهر بين أهل الفن أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية مع أنهم صرحوا بأن العارض للشيء بواسطة أمر أخص أو أعم داخليا كان أم خارجيا عرض غريب وحينئذ يشكل الأمر من حيث إن أغلب محمولات العلوم عارضة لأنواع موضوعاتها فيلزم أن تكون أعراضا غريبة بالنسبة

٩

الى موضوع العلم وتحقيق هذه المسألة يتوقف على تمهيد مقدمتين (الأولى) أن العناوين المنتزعة عن الشيء (تارة) تنتزع من نفس ذات الشيء كعنواني الأبيض والموجود المنتزعين من نفس البياض والوجود (وأخرى) تكون منتزعة عن جهة خارجة عن ذات الموصوف (وعلى الثاني) فاما أن يكون اتصاف الذات بها باقتضاء نفس الذات لذلك بلا توسط أمر آخر كاتصاف بعض الأنواع والفصول ببعض خواصها مثل المدركية بالنسبة الى العقل وإما أن يكون اتصاف الذات بها يتوسط أمر آخر وعليه فاما أن تكون الواسطة مع ايجابها اتصاف الذات بالعنوان المزبور غير متصفة به أو تكون متصفة به فالاول كالشروط مثل مماسة النار للجسم والثاني كالمقتضيات مثل نفس النار الموجبة لسخونة الجسم المقارب لها (ثم إن) العناوين المنتزعة عن الشيء قد تنسب الى ما اتحد مع ما انتزعت منه وتحمل عليه إما حقيقة أو بالعناية مع عدم عروضها عليه بالدقة (فالأول) كعوارض الفصل بالنسبة الى النوع والجنس فانها بالدقة عارضة للفصل فقط ومع ذلك يصح حملها على النوع والجنس حقيقة (فان قلت) الفصل متحد مع الجنس وجودا فما يكون من خواص الفصل في العروض لا محالة يعرض على الجنس لوحدة وجودهما وبهذا الملاك صح حمل تلك الخواص على الجنس حقيقة كما هو المفروض (قلت) لا ريب في أن هذا الوجود الواحد مشتمل على جهتين اعني بهما الجنس والفصل فما يعرض عليه من عوارض الفصل إنما يعرض جهة الفصل الموجودة فيه وما يعرض عليه من عوارض الجنس إنما يعرض جهة الجنس الموجودة فيه وكون هذا الوجود مجمعا لهذه العوارض الشتى لاجل اشتماله على معروضاتها لا تصحح نسبة كل من هذه العوارض الى كل من الجهتين المجتمعين فيه وإن صح حمل كل من هذه العوارض على نفس الوجود المجتمعة فيه تلك العوارض لوجود ملاك الحمل (والثاني) اعني ما يحمل عليه بالعناية كالسرعة والبطوء العارضين اولا وبالذات لنفس الحركة وللجسم ثانيا وبالعرض اذ في الدقة لا يكون شيء منهما عارضا على الجسم ولا يحملان عليه إلا بالتجوز والعناية لعروض موضوعهما اعني الحركة للجسم فيصح بنحو الحقيقة أن تقول هذا الجسم متحرك ولا يصح كذلك أن تقول هذا الجسم سريع أو بطيء نعم يصح ذلك بنحو التجوز كما لا يخفى ثم إنه قد ينقسم العارض

١٠

بملاحظة أخرى الى ما يعرض الشيء استقلالا كعوارض النوع بالنسبة اليه وما يعرض الشيء بالتبع كعوارض النوع بالنسبة الى جنسه ومن هذا القبيل ما يعرض الشيء لأجل جهة تقييدية فيه كعروض الوجوب للصلاة مثلا استقلالا وعروضه لفعل المكلف تبعا بما انه جزء من الصلاة لكونه جنسا لها.

(المقدمة الثانية) أنه قد صرح في شرح الاشارات في باب تناسب العلوم بما ملخصه أن كثيرا من العلوم التي لموضوعاتها عنوان وحداني مشترك بين موضوعات مسائلها ربما تختلف موضوعاتها بالعموم والخصوص فقد يكون موضوع بعضها أعم مطلقا من موضوع العلم الآخر وكونه كذلك يتحقق باحد امور ثلاثة إما بكونه جنسا للاخص كموضوع علم الهندسة الذي هو المقدار وهو جنس بالنسبة الى موضوع علم المجسمات أعني الجسم التعليمي وإما بكونه عرضا عاما للأخص كموضوع علم الفلسفة بالنسبة الى المقدار أو لكونه مطلقا بالنسبة الى الأخص لكونه مقيدا كاكر مطلقة تكون موضوع علم ومقيدة بالحركة تكون موضوع علم آخر انتهى : والذي يستفاد من هذا الكلام هو أن عوارض الموضوع الأخص غريبة بالنسبة الى الموضوع الأعم وإلا لاندرجت مباحث الأخص في الأعم ولما صح تدوين مباحث الأخص علما مستقلا عن الأعم والى ذلك اشار (صدر المتالهين) قدس‌سره في اسفاره في مقام تمييز الأعراض الذاتية عن الغريبة بما حاصله أن كل عرض يعرض الشيء بعد تخصصه بخصوصية ما توجب استعداده لعروضه فهو غريب بالنسبة اليه وذاتي بالنسبة الى المتخصص بما هو متخصص بتلك الخصوصية وكل عرض يعرض الشيء فيكون بعروضه عليه أمرا خاصا فهو عرض ذاتي لذلك الشيء كالبحث عن استقامة الخط وانحنائه انتهى : ولا يخفى أنه يكون من قبيل القسم الثاني ما لو كان العرض عارضا للشيء العام بسبب تخصصه بخصوصية ما على نحو تكون تلك الخصوصية علة لعروضه لا قيدا لمعروضه ليكون المعروض هو المقيد فيكون العرض غريبا بالنسبة الى العام كما اشرنا الى ذلك في كون مباحث علم النحو اعراضا ذاتية بالنسبة الى موضوعه اعني الكلمة بتقريب أن الرفع العارض على الفاعل والنصب العارض على المفعول مثلا ونحوهما إنما عرض كل منهما على ذات الكلمة بسبب اتصافها بعنوان الفاعل أو المفعول لا أن معروض

١١

الرفع هي الكلمة المتخصصة بخصوصية الفاعلية أو خصوصية المفعولية و (بالجملة) المستفاد من كلمات هذين العلمين وسائر الأعلام من أهل الفلسفة أن أعراض النوع والمقيد أعراض غريبة بالنسبة الى الجنس والمطلق ولازم ذلك امور (منها) أن عروض العرض على الشيء فى ضمن عروضه على معروضه لا يجعله عرضا ذاتيا بالنسبة الى ذلك الشيء بل لا بد من كونه عارضا عليه استقلالا (ومنها) أن صحة حمل العرض على الشيء لا تستلزم كونه عرضا ذاتيا له (ومنها) أن اتحاد الواسطة مع ذي الواسطة وجودا لا يكفي فى كون عرض الواسطة عرضا ذاتيا لذيها وذلك لما عرفت من أن عوارض النوع أعراض غريبة بالنسبة الى الجنس مع أنها تعرض على الجنس حقيقة في ضمن عروضها على النوع ويصح حملها عليه بلا عناية مع اتحاد الواسطة أعني النوع مع ذيها أعني الجنس (ومن هنا) ظهر أن عوارض الفصل أعراض غريبة بالنسبة الى الجنس بطريق اولى لأن عوارض النوع تعرض الجنس حقيقة في ضمن عروضها على النوع ومع هذا هي غريبة بالنسبة اليه وأما عوارض الفصل فلا تعرض الجنس اصلا بالدقة كما عرفت فيما سبق (وقد تحصل) مما ذكرنا أن العرض الذاتي عند المشهور من أهل الفن هو ما يعرض الشيء استقلالا اي لا بتبع عروضه على شيء آخر وليس ملاكه مطلق العروض على الشيء ولو بالتبع ولا صحة حمل العرض على الشيء حقيقة وبلا عناية ولا اتحاد الواسطة مع ذي الواسطة كما ذهب بعض من غير المشهور الى كون ملاك العرض الذاتي بعض هذه الامور الثلاثة فالعارض على الشيء بواسطة امر غير تعليلي سواء كانت الواسطة أعم أم أخص وسواء كانت داخلية أم خارجية يكون عرضا غريبا بالنسبة الى ذلك الشيء (وقد يعبر) عن العرض الذاتي بعبارة أخرى تحتمل موافقة المشهور كما أنها تحتمل موافقة غيره وهي أن العرض الذاتي هو ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض وقد فسر الواسطة في العروض بانها عبارة عما يصح معها سلب العارض عن المعروض ذي الواسطة ولا يصح حمله عليه إلا بالعناية والمجاز فان كان مراده بذلك أن العرض الذاتي هو ما يصح حمله على الشيء حقيقة وبلا عناية فهو قول بغير رأي المشهور كما اشرنا اليه وان كان مراده بصحة سلب العرض عن ذي الواسطة عدم كون العرض عارضا على الشيء

١٢

استقلالا سواء كان عارضا عليه بتبع عروض الواسطة كعوارض النوع بالنسبة الى الجنس أم لم يكن عارضا عليه حقيقة بل كان عارضا على ما يعرض عليه اعني الواسطة كالحركة العارضة على السفينة بالنسبة الى الجالس فيها فانها تنسب اليه بالعناية ويصح سلبها عنه فهو موافق للمشهور.

ثم إن بعض الأعاظم قدس‌سره عرف العرض الذاتي بما يقرب من التعريف الأول فقال : (العرض الذاتي هو ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض وان كان بواسطة في الثبوت والعرض الغريب هو ما يعرض الشيء بواسطة فى العروض وفسر الواسطة في العروض والثبوت بأن العرض إن احتاج في عروضه على الشيء الى واسطة ليست محتاجة فى عروضها عليه الى غيرها فالواسطة المزبورة واسطة في الثبوت والعرض العارض بتوسطها على الشيء عرض ذاتي له كالتعجب العارض على الانسان بواسطة إدراكه الكليات وإن احتاجت الواسطة الى غيرها في عروضها على الشيء فالواسطة المحتاجة واسطة فى العروض والعرض العارض على الشيء بتوسطها عرض غريب بالنسبة الى ذلك الشيء كالضحك العارض على الانسان بتوسط التعجب المحتاج في عروضه على الانسان الى أمر آخر وهو إدراك الكليات كما ذكرنا) انتهى : ولا يخفي ما فيه من مواقع النظر (أما اولا) فلأن الواسطة في الثبوت هو ما يقع في صراط ثبوت الشيء فى الخارج سواء كان مقتضيا أم شرطا وهو امر ذاتي لا يتغير عما هو عليه بالتعدد فقد يكون للشيء الواحد واسطتان في الثبوت أو اكثر فكما أن الواسطة الاولى التي يترتب عليها الشيء في الخارج تكون واسطة في الثبوت كذلك واسطة الواسطة الاولى تكون واسطة في الثبوت بالنسبة اليها والى ذلك الشيء (واما ثانيا) فلأنه إذا اصطلح على الواسطة الثانية من وسائط الثبوت وسماها واسطة فى العروض فلا يلزم من ذلك أن يكون العرض العارض على الشيء بتوسطها عرضا غريبا بل هو عرض ذاتي له فى نظر أهل الفن اتفاقا (فاتضح) بما ذكرنا أن الميزان فى كون العرض ذاتيا للشيء أو غريبا عنه هو أن العرض إن كان عارضا على الشيء استقلالا سواء كان بواسطة فى الثبوت أم لم يكن بواسطة اصلا فهو عرض ذاتي لذلك الشيء وإن كان عارضا على الشيء بتبع عروض أمر آخر عليه أو لم يكن عارضا عليه حقيقة

١٣

فهو عرض غريب وعليه فلا وجه لجعل الميزان فى كون العرض ذاتيا أو غريبا هو كون العرض عارضا بواسطة أمر أخص أو أعم أو مساوي داخليا كان أم خارجيا.

إذا عرفت هاتين المقدمتين نقول : قد عرفت فيما سبق أن وحدة العلم غير منوطة بالجامع بين موضوعات مسائله الذي يفرض كونه موضوعا له وأنه يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كما أنها غير منوطة بوحدة الغرض بل تدور وحدة العلم مع وحدة الاعتبار كما تقدم (وإن ابيت) ذلك فلا إشكال فى أن وحدة الغرض تستلزم وحدة العلم المترتب ذلك الغرض عليه وإن لم تستلزم جامعا وحدانيا بين موضوعات مسائله وعليه لا تتوقف حقيقة العلم وصيرورته علما على تحقق جامع وحداني بين موضوعات مسائله ليكون ذلك الجامع هو موضوع العلم فيعرف بالتعريف المزبور ويورد عليه بالاشكال المذكور (نعم) قد يتفق لبعض العلوم جامع وحداني بين موضوعات مسائله بنحو يكون البحث فيها بحثا عن عوارضه الذاتية فلا محالة يكون ذلك الجامع هو موضوع ذلك العلم كعلم الفلسفة والرياضيات وحينئذ يتوجه عليه الاشكال المتقدم.

فنقول في الجواب عنه مع تسليم كون موضوع كل علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية وتسليم كون عوارض النوع غريبة بالنسبة الى جنسه وكذا عوارض كل أخص بالنسبة الى الأعم منه وذلك أنا قد بينا فيما سبق أن عوارض الأخص لا تكون مطلقا اعراضا غريبة بالنسبة الى الأعم بل فيما اذا كانت الخصوصية حيثية تقييدية وأما اذا كانت حيثية تعليلية فلا يلزم منها أن تكون أعراض الأخص أعراضا غريبة بالنسبة الى الأعم بل تكون أعراضا ذاتية لأنها قد عرضت عليه في الحقيقة استقلالا بسبب هذه الحيثية الخاصة التي صارت علة لعروض هذه العوارض عليه وحينئذ يتضح لك صحة دعوى أن الجامع بين موضوعات مسائل كل علم من تلك العلوم هو موضوعه الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية وإن كانت تلك العوارض تعرض عليه بتوسط الخصوصيات إلا أنها لما كانت حيثيات تعليلية كانت تلك العوارض تعرض استقلالا على ما فرض كونه موضوعا للعلم بعلية تلك الحيثيات المخصصة له التي باعتبارها صح تقسيمه الى

١٤

موضوعات مسائل العلم ومن هنا يتضح لك أن لا تغاير بين موضوع العلم وموضوعات مسائله في نفس الماهية مغايرة المطلق مع المقيد والجنس مع أنواعه بل أن موضوع العلم نفس موضوعات مسائله وإنما صح تقسيمه الى هذه الموضوعات المتعددة باعتبار هذه الحيثيات التعليلية التي لم تكن مقومة لهذه الحصص بل صارت كل حيثية علة لعروض عرض خاص على موضوع العلم العام وباعتبار عروض هذا العرض الخاص بسبب الحيثية الخاصة تحصص ذلك الأمر الكلي فصارت كل حصة منه موضوعا لمسألة من مسائله (فان قلت) اذا كان الجامع الكلي يتحصص بعروض الأعراض المتغايرة عليه فتكون اضافته الى كل عرض يعرض عليه حصة خاصة هي موضوع مسألة من مسائل العلم لزم أخذ عقد الحمل في عقد الوضع ومعه لا يبقى مجال للبحث في تلك المسألة عن عروض العرض المزبور على موضوع المسألة فانه حينئذ ضروري الثبوت له (قلت) لا نعني بتخصص الجامع الكلي بعروض الأعراض المتغايرة عليه أخذ تلك الأعراض العارضة عليه قيودا فيه ليدخل عقد الحمل في عقد الوضع ويلغو البحث في المسألة عن عروض هذا العرض على موضوع المسألة لكونه ضروري الثبوت له وإنما قصدنا بذلك ان الجامع الكلي الذي هو موضوع العلم باضافته الى كل حيثية من تلك الحيثيات التي اوجبت عروض لأعراض المتغايرة عليه يكون حصة خاصة هي موضوع مسألة من مسائله يبحث في تلك المسألة عن عروض العرض الخاص على الجامع الكلي بسبب تلك الحيثية مثلا اذا قلنا أن موضوع علم النحو هي الكلمة كان البحث عن رفع الفاعل بحثا عن عروض الرفع على الكلمة بسبب كونها فاعلا فموضوع مسألة الفاعل مرفوع هي الكلمة باضافتها الى عنوان الفاعل ـ هذا اصلح ما يمكن أن يتفصى به عن الاشكال المزبور فيما تعهد وإن كان (صدر المتالهين) قد أجاب بما يمكن أن يكون ناظرا الى ما اجبنا به عن اشكال كون العوارض غريبة بالنسبة الى موضوع العلم وعن اشكال تداخل العلوم (وحاصل جوابه) أن عوارض النوع قد تكون اعراضا ذاتية للجنس وقد لا تكون كذلك مع أنه قدس‌سره قد عرف العرض الغريب والذاتي بما تقدم من أن كل عرض يعرض الشيء بعد تخصصه بخصوصية ما توجب استعداده لعروضه فهو غريب بالنسبة اليه ويمكن قريبا أن يكون محصل مراده

١٥

من هاتين العبارتين أعني قوله قد تكون وقد لا تكون هو أن عوارض النوع بما هو نوع غريبة بالنسبة الى الجنس وبهذا يمتنع التداخل لأن عوارض موضوع العلم الاخص تكون غريبة بالنسبة الى موضوع العلم الأعم لأن الموضوع الأخص نوع من الاعم كما انه يمكن أن يكون مراده من قوله أن عوارض النوع قد تكون ذاتية للجنس هو أن عوارض الجنس التي تعرض عليه بسبب اقترانه بحيثية من الحيثيات التعليلية تكون ذاتية له وإن كانت الحيثيات الموجبة لعروض تلك الأعراض عليه متباينة وإنما أطلق لفظ النوع على الحصة من الجنس التي تحصصت باضافة الجنس الى الحيثية التعليلية التي اوجبت عروض العرض الخاص عليه لمشابهتها النوع الحقيقي إذ هو نفس تلك الحصة باعتبار انضمام تلك الحيثية اليها حيث تكون تقييدية ولذا قال قدس‌سره (ان عوارض النوع قد تكون ذاتية للجنس وقد لا تكون كذلك) ومع قطع النظر عن هذا التوجيه لا يتصور وجه لكون عوارض النوع ذاتية للجنس في بعض الاحوال خصوصا بالنسبة الى صاحب هذا الجواب بعد جزمه بأن عوارض النوع غريبة بالنسبة الى الجنس.

ثم إنه قد اجيب عن الاشكال المزبور بجوابين مختلفين بالعنوان متحدين فى الملاك (أحدهما) أن العرض الذاتي هو ما يصح حمله على الشيء بلا عناية وتجوز في نظر العرف وعليه لا محالة تكون أعراض النوع من أعراض الجنس وهذا يرجع الى توسعة ملاك العرض الذاتي بجعله عبارة عن الحقيقة في الأسناد فى المحمول (ثانيهما) هو أنا لا نسلم أن موضوع كل علم هو خصوص ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية بل هو ما يبحث في العلم عن عوارضه التي يصح حملها عليه وإسنادها اليه بلا عناية وتجوز ومن المعلوم أن عوارض النوع يصح حملها على الجنس حقيقة وبلا عناية مثلا البحث فى النحو عن رفع الفاعل ونصب المفعول وإن كان بحثا عن أعراض بعض أنواع الكلمة التي هي موضوع علم النحو إلا أنه بالملاك المزبور يكون بحثا عن عوارض الكلمة لأنه يصح حمل الرفع والنصب على الكلمة وإسنادهما اليها حقيقة وبلا عناية وهذا الجواب يرجع الى توسعه ملاك الموضوع (ويرد) على كلا الجوابين (اولا) أن القول بكل منهما ليس جوابا عن الاشكال بل هو التزام به على تقدير تفسير العرض الذاتي بالتفسير المشهور

١٦

(وثانيا) أنه يلزم على القول بكل منهما تداخل العلوم والغاء النسبة بينها التي اسسها علماء الفن فجعلوا موضوعات العلوم بعضها أعم من بعض وبعضها أخص إما مطلقا أو من وجه كما هو محرر في كتبهم اذ لو كانت عوارض النوع من أعراض الجنس حقيقة لما كان وجه لاستقلال البحث عن عوارض النوع بخصوصه بعد البحث عن عوارض الجنس لفرض ان عوارض النوع من أعراض الجنس حقيقة فتكون تجزئة البحث عن عوارض بعض أنواع الجنس عن البحث عن عوارض الجنس من قبيل تجزئة الأمر الواحد وجعله أمرين بلا ملاك يقتضي التجزئة والاثنينية بل بمحض الاقتراح.

واما توهم دفع اشكال تداخل العلوم بتقييد موضوعاتها بالحيثيات المنتزعة من محمولات كل علم بخصوصه فيقال : ان موضوع علم النحو مثلا الكلمة من حيث الاعراب والبناء وموضوع علم الصرف الكلمة من حيث الصحة والاعلال وموضوع علم الفقه هي أفعال المكلفين من حيث الاقتضاء والتخيير (فهو توهم) قاصر عن دفع الاشكال المذكور لأن الحيثية المزبورة إن اريد بها العنوان المنتزع من جميع محمولات العلم التي يبحث فيه عن ثبوتها لموضوعه فهي حيثية لا حقة ولا يعقل اخذها قيدا في موضوع العلم لأن تقييد الموضوع بالمحمولات يوجب انقلاب القضية الممكنة الى قضية ضرورية ومعه لا يبقى مجال للبحث في العلم عن ثبوت تلك المحمولات لموضوعه لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري مع أنه يلزم ايضا تقدم ما هو متاخر بالطبع لأن الحكم متأخر بالطبع عن موضوعه فاذا قيد به صار في رتبته فيلزم كونه متقدما بالطبع مع فرض أنه متأخر بالطبع لكونه حكما وهذا خلف وإن اريد بها الحيثية الذاتية اعني استعداد ذات الموضوع لعروض ذلك المحمول عليه وإنما يقيد الموضوع بالعنوان المنتزع عن محمولاته لاجل الاشارة الى ذلك الاستعداد فهو وان كان نظرا سديدا في نفسه إلا أنه ليس مفيدا في دفع الاشكال المذكور لأن الحيثية المزبورة ليست بحيثية خاصة بتلك المحمولات الخاصة بل هي حيثية عامة لجميع ما يصح حمله على ذلك الموضوع وإسناده اليه ومن بعض ما يصح حمله عليه هذه المحمولات الخاصة التي أفردت بالبحث عنها في علم خاص لغرض ما مثلا الكلمة طبيعة عامة مستعدة استعدادا عاما يناسبها لعروض امور

١٧

مختلفة كالرفع والنصب وباقي أنواع الاعراب وبذلك الاستعداد نفسه مستعدة لعروض البناء على الضم والفتح واخويهما وبذلك الاستعداد العام ايضا مستعدة لعروض الصحة والاعلال فليس فى ذات الكلمة استعدادات عديدة كل واحد منها يوجب عروض جملة من المحمولات الخاصة عليها بل الكلمة مستعدة لعروض جميع هذه المحمولات عليها باستعداد واحد ومعه لا يبقى مجال المبحث مستقلا عن عوارض بعض انواع الجنس مع البحث عن عوارض نفس الجنس لدخول الاخص فى الاعم ولو سلمنا أن الجنس العام مستعد باستعدادات متعددة كل منها يصحح عروض جملة خاصة من الأعراض عليه ويكون الجنس بلحوق تلك الاستعدادات المختلفة له حصصا بل أنواعا متباينة لما كان ذلك يجدي فى دفع اشكال التداخل لفرض أن عوارض النوع ذاتية بالنسبة الى الجنس فيتداخل العلمان اللذان موضوع احدهما اخص من موضوع الآخر نعم ذلك يجدي فى عدم تداخل العلوم التى موضوعاتها انواع متباينة فى بعض المسائل ولكن هذا اجنبي عن الاشكال.

فيما به تمايز العلوم

(الجهة الخامسة) قد اشتهر أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ولكن بعض المتأخرين عدل عن القول به وذهب الى أن تمايز العلوم بتمايز الاغراض التي دونت العلوم لاجلها كصون اللسان عن الخطأ في علم النحو وصون الفكر عن الخطأ فى في الاستنتاج فى علم المنطق وامثال ذلك.

وقد يتوهم أن وجه العدول هو ورود الاشكال على مذهب المشهور في تمايز العلوم وذلك لأن عوارض النوع أو المقيد إن كانت غريبة بالنسبة الى الجنس أو المطلق كما هو المشهور لزم أن لا يكون لجل العلوم بل كلها تقريبا موضوع يبحث في العلم عن عوارضه كما زعموا ومعه لا وجه للقول بكون تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها وإن كانت ذاتية كما ذهب اليه بعضهم وبينا وجهه لزم تداخل العلوم التي يكون موضوع بعضها أخص من موضوع الآخر ولا يندفع إشكال التداخل بقيد الحيثية كما توهم وقد سبق الكلام فيه قريبا فراجع كما أنه لا يندفع الاشكال المزبور بفرض أن تمايز العلوم بتمايز اغراضها لأن مع فرض تداخل العلوم تتداخل

١٨

أغراضها ايضا لدخول الخاص في العام كما لا يخفى (وقد تبين) مما ذكرنا أنه لا يجدي إلا ما ذهبنا اليه في دفع الاشكالين المزبورين أعني إشكال كون المحمولات المبحوث عنها فى العلوم أعراضا غريبة بالنسبة الى موضوعات العلوم بناء على ما ذهب اليه المشهور فى تفسير العرض الذاتي والغريب وأن أعراض النوع غريبة بالنسبة الى الجنس وإشكال تداخل العلوم بناء على مذهب بعضهم في تفسير العرض الذاتي وذلك بموافقتنا للمشهور فى تفسير العرض الذاتي والغريب وأن أعراض النوع غريبة بالنسبة الى الجنس وبذلك يندفع إشكال التداخل لأنه اذا كانت عوارض النوع غريبة بالنسبة الى الجنس فلا وجه للبحث عنها في العلم الذي يكون موضوعه الجنس وبمصيرنا الى كون عناوين موضوعات المسائل حيثيات تعليلية في عروض محمولاتها على الجهة الجامعة فتكون تلك المحمولات أعراضا ذاتية بالنسبة الى الجهة الجامعة أعني موضوع العلم المبحوث عنها فيه (واما ما اشتهر) من كون تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها فبما أنه يدل بالمطابقة على حصر امتياز بعض العلوم عن بعض بامتياز موضوعه عن موضوع الآخر ويدل بالالتزام على أن لكل علم موضوعا كانت هذه القضية غير صادقة في كلتا دلالتيها أما الاولى فلصحة تمايز العلوم بتمايز أغراضها فيما لو كان البحث فيها لاجل أغراض تترتب عليها وأما اذا لم يكن للبحث في العلم غرض يترتب عليه غير الاحاطة به مثل علم الفلسفة فامتيازه عن غيره يكون إما بذاته وهو المميز الذاتي أو بموضوعه فيما لو كان له موضوع مثل علم الحساب والهندسة ومعه فلا وجه لحصر تمايز العلوم في تمايز موضوعاتها وأما الثانية فلصحة تدوين العلم بلا موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتية وانما يكون الباعث على تدوين العلم هو تحصيل غرض خاص وإن كان متعددا حيث لا يحصل ذلك الغرض أو الاغراض إلا بتدوين ذلك العلم والبحث فيه كما هو الشأن في اكثر العلوم التي بين ايدينا فصيرورة العلم علما خاصا لا تتوقف على كونه ذا موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كما أنه لا تتوقف وحدة العلم على وحدة الغرض المترتب عليه بل تكون وحدة العلم بوحدة الاعتبار إذ وحدة كل شيء مركب من اجزاء متمايزة كالعلم والكتاب ونحوهما وحدة اعتبارية لا حقيقية فتدوين جملة من المسائل واعتبارها علما واحدا يصيرها علما واحدا وان

١٩

كانت الأغراض المترتبة عليه عديدة.

فى موضوع علم الاصول

(الجهة السادسة) هل لعلم الاصول موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كجملة من العلوم الاخرى قيل (نعم) وأنه هي الادلة الاربعة بما هي ادلة كما هو مذهب المحقق القمي قدس‌سره ولكن لا يخفي ما يرد عليه ذلك لأن مسائل علم الاصول تنقسم الى اربعة أقسام قسم يبحث فيه عن كون الامر الفلاني حجة أو ليس بحجة أو عن تشخيص الحجة عن غيرها مثل مباحث الامارات ومبحث التعادل والترجيح وقسم يبحث فيه عما ينتهي اليه أمر الفقيه بعد الفحص واليأس عن الدليل على الحكم الشرعي كمباحث الاصول العملية (وقسم) يبحث فيه عن احوال الأحكام الخمسة كاستلزام وجوب الشيء لوجوب مقدمته (وقسم) يبحث فيه عن احوال الالفاظ من حيث ظهورها فيما يذكر لها من المعاني كمباحث الالفاظ ولا شيء من هذه الاقسام الاربعة يبحث فيه عن أحوال واحد من الأدلة الاربعة (أما القسم الأول) فلأن البحث فيه إنما هو عن كون الشيء دليلا وحجة لا عن احوال الدليل الفلاني بما هو دليل نعم مبحث التعادل والترجيح فقط من هذا القبيل وعليه يلزم أن تكون هذه المباحث من المبادئ التصورية فتكون خارجة عن مباحث نفس العلم وكذا الأمر فى القسم الثاني بل هو اوضح لعدم ارتباطه بالادلة الاربعة لا بما هي ادلة ولا بما هي هي (واما القسم الثالث) فلأن البحث فيه عن أحوال الأحكام بما هي أحكام مع قطع النظر عن كونها مستفادة من أحد الأدلة الأربعة كما هو واضح وعليه يكون هذا القسم من المبادي الاحكامية في علم الاصول كما قيل (واما القسم الرابع) فعدم كونه مبحوثا فيه عن احوال أحد الأدلة الاربعة مبني على عدم كون عوارض الجنس من العوارض الذاتية للنوع كما هو الحق وذلك لأن مباحث الفاظ إنما يبحث فيها عن احوال الالفاظ من حيث هي هي لا من حيث هي الفاظ الكتاب أو السنة ولو قيد موضوع المسألة في هذه المباحث بعنوان الورود في الكتاب أو السنة لزم كون الاعراض المبحوث عنها فى هذه المسائل اعراضا غريبة بالنسبة الى موضوع المسألة وهو مما

٢٠