تهذيب الأصول - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

الموضوع والمحمول بل يحصل بالعلم الارتكازي من مباديه وعلله كعلم الأطفال بمعاني الألفاظ ومفاد اللغات.

«ثم» انه لا إشكال في اشتراط كاشفية التبادر بكونه مستندا إلى حاق اللفظ ، لا إلى القرينة ، ولكنه هل لنا طريق مضبوط إلى إثباته من الاطراد وغيره بان يقال ان التبادر من اللفظ مطردا دليل على كونه مستندا إلى الوضع ـ الظاهر عدمه ، لأن كون الاطراد فقط موجبا للعلم بذلك ممنوع وخروج عن البحث ، وتوهم كونه طريقا عقلائيا مع عدم حصول العلم منه واضح الفساد ـ إذ لم يثبت لنا من العقلاء التمسك به ولو عند احتمال كون الانفهام مستندا إلى قرينة عامة بين أهل التخاطب ، كما ان أصالة عدم القرينة انما يحتج به العقلاء لإثبات المراد بعد العلم بالحقيقة والمجاز لا على تعيين واحد منهما بعد العلم بالمراد.

ومن تلك العلائم صحة الحمل والسلب ، والظاهر ان المراد بهما صحتهما عند نفسه لا عند غيره إذ الثاني يرجع إلى تنصيص أهل اللغة واللسان ، لأن العلم (ح) بصحة الحمل وكونه حملا أوليا أو شايعا بالذات ، لا يحصل إلّا بتصريح الغير فيرجع إلى تنصيصهم ـ واما صحته عند نفسه فالتحقيق ان الاستكشاف واستعلام الحال حاصل من التبادر الحاصل من تصور الموضوع ، السابق على الحمل وسلبه ، فيكون اسناده إلى الحمل أو سلبه في غير محله ، توضيح ذلك : ان الحاكم المستعلم بحمله لا بد ان يتصور الموضوع أولا بما له من المعنى الارتكازي حتى يجده متحدا مع المعنى المشكوك فيه في مفهومه ، ثم يحمل المحمول المتصور على الموضوع المعلوم حملا أوليا ولو لا ذلك لما كان لحكمه وزن ولا قيمة ، وعندئذ إذا وجده في عالم التصور متحدا معه قبل حمله فقد علم بوضع اللفظ للمعنى ، ولم يبق لتأثير صحة الحمل في رفع الستر مجال واما الحمل الشائع فلا يكون علامة إلّا إذا كان شايعا ذاتيا لكونه كاشفا عن المصداق الحقيقي كما في قولنا البياض أبيض ، لا عرضيا (وح) ان كان المستعلم مرددا في كون الحمل ذاتيا أو عرضيا لم يمكن له استكشاف الوضع من مجرد الحمل ، وان كان عالما بكونه حملا ذاتيا ، وانه من قبيل حمل الكلي على بعض مصاديقه الحقيقية ، فقد علم المعنى

٤١

قبل الحمل ، إذ للعلم بكونه مصداقا حقيقيا ذاتيا مستلزم للعلم بكونه موضوعا للطبيعة المطلقة ، والقول بان التبادر مغفول عنه غير مسموع ، كالقول بان صحة الحمل والسلب الارتكازيين موجبة للحمل التفصيلي كما مر نظيره في التبادر ، وذلك لأن الباحث المستعلم للوضع لا يتصور له الغفلة عن ضالته المنشودة ، أبدا ولو قبل الوصول إلى الحمل وسلبه ، ومما ذكرنا يعلم حال صحة السلب في جعله دليلا على المجازية لأن العلم بصحته يتوقف على العلم بتغاير الطرفين مفهوما أو مصداقا في عالم التصور ومعه لا حاجة إلى سلب الحمل.

وهناك تفصيل يتراءى من بعض الكلمات بين الحمل المتداول بين اللغويين كما في قولهم «ان الغيث هو المطر» فيصح فيه ، وبين الحمل الأولى الدائر بين أهل الفن من حمل الذاتيات على الذات كما في قولنا «الإنسان حيوان ناطق» فلا يمكن استكشاف الوضع بصحته ، لأن الحد مفهوم مركب مفصل ويمتنع ان يكون مفهوم الإنسان لأن مفهوم كل مفرد بسيط مجمل.

وفيه انا نقول بان الغرض من الحمل ليس إثبات وضع اللفظ لذلك المفصل بل لماهية بسيطة يكون هذا المفصل حدا لها ، بحيث إذا انحلت رجعت إليه ، (وبالجملة) هذا المبين حاك عن الذات البسيط المجمل والشك في وضع اللفظ لذاك المجمل دون الأول المفصل ـ وربما يعلل كاشفية صحة الحمل عن الوضع وصحة السلب عن عدمه بان الوجود اللفظي نحو وجود للمعنى ومن مراتب وجوده واللفظ لما كان فانيا فيه صار نحو تحقق له وبذلك تتنافر الطباع عن سلبه عنه ويراه بمنزلة سلب الشيء عن نفسه وبذلك أيضا خرج عن مشابهة ما تتنافر عن سلبه عنه من اللفظ الّذي لم يوضع له.

قلت الظاهر ان ما هو العلامة انما هو صحة سلب اللفظ وعدمها بماله من المعنى لا بما هو لفظ ، وإلّا فنفس اللفظ بما هو حروف تصح سلبها عن معناها ، وما ذيل به كلامه من حديث التنافر أقوى شاهد عليه ، إذ ما تتنافر الطباع عنه هو اللفظ بما هو مرآة المعنى لا بما هو صورة وعرض فعاد المحذور المتقدم.

ومنها الاطراد وعدمه ، وقد قرر بوجوه ، أمتنها انه : إذا اطرد استعمال لفظ في افراد كلي بحيثية خاصة ، كرجل باعتبار الرجولية في زيد وعمرو ، مع القطع بكونه

٤٢

غير موضوع لكل واحد على حدة ، استكشف منه وجود علاقة الوضع بينها وبين ذاك الكلي وعلم انه موضوع للطبيعي من المعنى ، واحتمال كونها مجازا بالعلاقة ، مدفوع بعدم الاطراد في علائق المجاز ـ كما ان عدم الاطراد يدل على عدم الوضع إذ معه يطرد الاستعمال.

ولكنه مخدوش بان استعمال اللفظ الموضوع للكلي في افراده بما لها من الخصوصية والعوارض يكون مجازا مع العلاقة أو حسن الاستعمال وغلطا بدونهما ، فاحتمال كون ذلك الاستعمال حقيقة منتف رأسا ، بل امره دائر بين الغلط والمجاز ، كما ان تطبيق المعنى الارتكازي عليها مطردا بلا إرادة الخصوصية يوجب التخلف في العلامة ، إذ العلامة (ح) هي صحة الحمل ، وقد عرفت إرجاعها إلى التبادر أيضا ، لما عرفت من ان التطبيق فرع العلم بكون المعنى قابلا للانطباق على الافراد ، وبذلك يتضح الجواب عن تقرير آخر له ، بان يقال ان الاستعمال في الموضوع له لا يتوقف على غير الوضع فيطرد ، ولكن المجاز يتوقف على مصحح الادعاء وحسن الاستعمال قبول الطباع على المختار في باب المجازات وهما لا يطردان.

وجه الفساد ان العلم بصحة الاستعمال مطردا يتوقف على فهم المعنى الموضوع له ، كما ان العلم بحسن الادعاء ومصححه يتوقف على تشخيص الموضوع له فتحصل مما مر ان التبادر هو العلامة وغيره مسبوق به أو راجع إليه.

الأمر التاسع ـ قد ذكروا في باب تعارض الأحوال مرجحات ظنية لم يقم دليل على اعتبارها والمتبع لدى أهل المحاورة هو الظهور فان تحقق فهو وإلّا فلا تعتبر نعم يقع الكلام في ان ما لدى العقلاء في أخذ المراد وصحة الانتساب هل هو أصالة الظهور : أو أصالة الحقيقة ، أو أصالة عدم القرينة ، فعند ما احتف الكلام بما يحتمل القرينية ، فالظهور متبع على الأول والثاني ، ان كان أصل الحقيقة أصلا تعبديا ، دون الثالث إذ القدر المتيقن حجيته لديهم إذا شك في أصل وجود القرينة لا في قرينية الموجود وسيأتي تحقيق الحال فيها إن شاء الله.

(ثم) ان هنا أصلا لفظيا عند دوران الأمر بين النقل وعدمه ، قد أفرط بعضهم في الاحتجاج به ، وهو أصالة عدم النقل ويقال انها أصل عقلائي حجة مع جميع مثبتاتها ـ والحق ان

٤٣

اعتمادهم عليها انما هو فيما إذا شك في أصل النقل لا مع العلم به والشك في تقدمه على الاستعمال وتأخره عنه ـ والمدرك لهذا الأصل عندهم في الأول هو حكم الفطرة الثابتة لهم من عدم رفع اليد عن الحجة بلا حجة ، وعن الظهور الثابت بمجرد الاحتمال لا الاستصحاب العقلائي إذ هو مما لا أصل له كما سيوافيك (إن شاء الله) في محله وان عملهم عليه في بعض الموارد لاطمئنانهم بالبقاء وعدم اعتدادهم باحتمال الخلاف لضعفه وهو غير مسألة الاستصحاب واما عدم حجيته في القسم الثاني ولو مع العلم بتاريخ الاستعمال ، فلعدم ثبوت ذلك منهم. لو لم نقل بثبوت عدم تعويلهم عليه.

والعجب من شيخنا العلامة حيث ذهب إلى الاحتجاج بالقسم الأخير قائلا بان الحجة لا يرفع اليد عنها إلّا بحجة مثلها. وان الوضع السابق حجة فلا يتجاوز عنه الا بعد العلم بالوضع الثاني ـ وأنت خبير بان المتبع لديهم والحجة هو الظهور لا الوضع بنفسه ، والعلم بتعاقب الوضعين مع الشك في تقدم الثاني منهما على الاستعمال وتأخره عنه يمنع عن انعقاده كما هو ظاهر ـ أضف إلى ذلك انه لا معنى للفرق بين الأقسام بعد كون الوضع الأول هو المتبع مع عدم العلم بنقض الوضع الثاني للوضع الأول حال الاستعمال.

(ثم) انه قد يتراءى من بعض المحققين تفصيل أعجب ، فانه حكم بجريان الأصل المزبور إذا علم تاريخ الاستعمال وجهل تاريخ النقل ، وأثبت به استعمال اللفظ في المعنى الأول لحجية مثبتاته ، وحكم بلزوم التوقف فيما علم تاريخ النقل وجهل تاريخ الاستعمال ، قائلا بان العقلاء ليس لهم بناء عملي في الاستعمال ، كما انه حكم بلزوم التوقف أيضا في مجهولي التاريخ لا لما قيل من تساقط الأصلين بالمعارضة بل لعدم إحراز موضوع الأثر لأنه مترتب على عدم الوضع الجديد في ظرف الاستعمال ، ومن المعلوم ان مفاد الأصل هو جر العدم في جميع اجزاء الزمان المشكوك فيه ، لا إثباته بالإضافة إلى امر آخر ، وعليه لا يمكن إحراز عدم الوضع حين الاستعمال به ، لا لعدم إحراز عنوان «المقارنة والتقييد» حتى يقال ان الأصل العقلائي حجة مع مثبتاته ، بل لأن نفس القيد أعني الاستعمال مشكوك فيه حين إجرائه كالوضع فلا يمكن إحراز موضوع الأثر بالأصل نعم لو كان مفاد الأصل جر العدم بالإضافة إلى امر آخر لا مكن إحراز الموضوع في المقام لكنه خلاف التحقيق وهذا بخلاف القسم الأول إذ الأصل والوجدان هناك يحققان موضوع الأثر. (انتهى

٤٤

ملخصا) وفيه مواقع للنظر :

(منها :) ان الظاهر منه ان أصالة عدم النقل عبارة عن الاستصحاب العقلائي (فحينئذ) يكون أركانه موجودة في جميع صور الشك ، فمع الشك في تأخر الاستعمال والعلم بتاريخ الوضع يجري الأصل ويثبت لوازمه ، مثل كون الاستعمال في حال الوضع الثاني مع العلم بهجر الأول وكذا الحال في مجهولي التاريخ ـ ودعوى عدم بناء عملي على عدم الاستعمال غير مسموعة ، كدعوى عدم إمكان إحراز موضوع الأثر ، وما قد يتوهم من ان الأصل جار في النقل لندرته دون الاستعمال واضح الفساد ، لأن النادر أصل النقل ، ولكن الكلام في تقدمه وتأخره بعد العلم بتحققه.

(ومنها) ان إجراء الأصل في عمود الزمان ان لم يثبت نفس الاستعمال ، لا يثبت استعماله في المعنى الأول أيضا فانه حادث كنفس القيد ، وما يكون محرزا هو أصل الاستعمال لا الاستعمال في المعنى الأول ، مع ان أصل الاستعمال وجداني في الصورتين كما ان المستعمل فيه مشكوك فيه في كلتيهما ـ ولو قيل ان استصحاب العدم هو جره فقط لا إلى كذا وكذا فهو مع فساده ، يستلزم عدم الإنتاج في الصورة الأولى أيضا ، فإذا أمكن جره إلى الزمان المعلوم أمكن جره إلى الزمان المعين واقعا المجهول عندنا.

(ومنها :) ان ما ذكره من إحراز موضوع الأثر بالأصل والوجدان في الصورة الأولى غير تام ، لأن عدم النقل ونفس الاستعمال ليسا موضوعين للأثر ، بل الموضوع هو ما يثبت بالاستعمال أي المعنى المراد ، ولو سلم ذلك فلا فارق بين الصورتين.

الأمر العاشر في ثبوت الحقيقة الشرعية في ألفاظ العبادات والمعاملات في لسان الشارع تعيينا أو تعينا وعدمه ـ يرى الواقف على كتب القوم حديثها وقديمها ، ان الاستدلالات الواقعة في نقضها وإثباتها جلها تخرصات على الغيب ، إذا التاريخ الموجود بين أيدينا الحافظ لسيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وحياته وأفعاله حتى العادي منها فضلا عما له ربط بالتشريع ، لم يحفظ ذكرا عن الوضع التعييني ، مع انه لو كان هناك شيء لنقل إلينا لتوفر الدواعي على نقله.

كما ان الآيات القرآنية ، مكيتها ومدنيتها ، قريبتها عن البعثة وبعيدتها ، تعطي الطمأنينة بان هذه الألفاظ من لدن نزول الذّكر الحكيم استعملت في تلك المعاني من غير احتفافها

٤٥

بالقرينة لا مقالية كما هو واضح ، ولا حالية ودعوى وجود الحالية كما ترى ـ ووجودها في حديث واحد في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلوا كما رأيتموني أصلي. لا يدل على وجودها في غيره.

الست إذا نظرت إلى قوله تعالى في سورة المزمل المكية النازلة في أوائل البعثة «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» وما في المدثر المكية «قالوا لم نك من المصلين» وما في سورة القيامة والأعلى والعلق المكيات. تعلم ان كلها شواهد بينة على ان ألفاظ العبادات كانت معلوم المفهوم لدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ومعاصريه من الكفار. وكانوا يفهمون معانيها بلا معونة قرينة.

فعند ذلك لا بد لك من أحد امرين : اما القول بمعهودية هذه العبادات والمعاملات لدى العرب المتشرعة في تلك الأعصار وكان ألفاظها مستعملة في تلك الماهيات ولو مع اختلاف في بعض الخصوصيات ، سيما مع ملاحظة معهودية تلك العبادات قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأمم السالفة. وانه لم يظهر من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اختراع عبادة جديدة ، سوى شيء لا يذكر ، كما انه لم يظهر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله اختراع معاملة محدثة حتى في مثل الخلع والمباراة سوى المتعة لاحتمال كونها مخترعة ولكنها أيضا ليست ماهية برأسها. بل هي قسم من النكاح.

أو القول بثبوت الوضع منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفس الاستعمال وما قد يتوهم من لزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي. مدفوع مضافا إلى منع لزوم الغفلة عن اللفظ حين الاستعمال دائما ، بأنه يمكن ان يكون من باب جعل ملزوم بجعل لازمه ويكون الاستعمال كناية عن الوضع من غير توجه إلى الجعل حين الاستعمال وان التفت إليه سابقا أو سيلتفت بنظرة ثانية. وهذا المقدار كاف في الوضع.

أو يقال ان المستعمل شخص اللفظ والموضوع له طبيعته وكلا الوجهين لا يخلو من تأمل ، مع ان الأول مخالف لما هو المألوف في الاستعمالات الكنائية ـ وكيف كان إثبات الوضع ولو بهذا النحو موقوف على ثبوت كون العبادات أو هي مع المعاملات من مخترعات شرعنا وانها لم تكن عند العرب المتشرعة في تلك الأزمنة بمعهودة وانى لنا بإثباته.

وعلى كل حال الثمرة المعروفة أو الفرضية النادرة الفائدة مما لا طائل تحتها عند التأمل حيث انا نقطع بان الاستعمالات الواردة في مدارك فقهنا انما يراد منها هذه المعاني التي عندنا فراجع وتدبر.

الأمر الحادي عشر «في الصحيح والأعم» ولنذكر قبل الشروع

٤٦

في البحث أمورا :

(الأول :) الظاهر ان التعبير الدائر بين القوم في عنوان هذا البحث. من ان ألفاظ العبادات أو المعاملات هل هي موضوعة للصحيح أو الأعم أو هي أسام للصحيح أو الأعم انما هو لأجل سهولة التعبير ، وإلا فلا يخلو من قصور لكونه غير جامع للآراء لأن استعمال ألفاظ العبادات والمعاملات في المعاني المصطلحة كما يحتمل ان يكون من باب الوضع التعييني يحتمل ان يكون من باب الوضع التعيني بل يحتمل كونه من باب المجاز ـ وقد مر ان الوضع التعيني ليس بوضع حقيقة فعلى التعبير الأول يخرج كلا الرأيين أعني كونه من باب الوضع التعيني أو من باب المجاز عن محل البحث وعلى التعبير الثاني يخرج المجاز فقط كما لا يخفى والأولى ان يعنون البحث هكذا : «ان الأصل في استعمالات الشارع لألفاظ العبادات والمعاملات ما ذا» فيدخل فيه الجميع حتى المجاز سيما على ما قويناه من كونه عبارة عن الاستعمال فيما وضع له مع ادعاء انطباقه على المصداق المجازي فيقال ان الأصل هو الادعاء بالنسبة إلى المصداق الصحيح أو الأعم ـ فما قد يقال من لغوية البحث بناء عليه ليس بشيء بل يمكن القول بجريان البحث المثمر حتى على مذهب الباقلاني من دون ورود ما أورده عليه بعض أعاظم العصر ، حيث قال : ان القرينة ان دلت على جميع ما يعتبر في المأمور به فلا شك ليتمسك بالإطلاق (ح) وان دلت على اعتبارها بنحو الإجمال فليس هناك إطلاق لفظي ، واما الإطلاق المقامي فهو جار على كلا القولين.

وجه الإشكال انه يمكن ان يقال بناء على هذا القول : هل الأصل في القرينة الدالة على الاجزاء والشرائط هو إقامة القرينة المجملة على ما ينطبق على الصحيحة لكي لا يجوز التمسك بالإطلاق أو على ما ينطبق على الأعم حتى يجوز وبالجملة لا فرق بين هذا القول وبين القول بالمجاز والأمر سهل.

(الثاني :) ان العناوين المعروفة في عقد الباب كلها لا تخلو من تكلف والأولى عنوانه هكذا : «بحث» في تعيين الموضوع له في الألفاظ المتداولة في الشريعة. أو في تعيين المسمى لها. أو في تعيين الأصل في الاستعمال «فيها» على اختلاف في الآراء والمشارب ـ إذ ما أفاده القوم غير خال عن النّظر والظاهر ان الّذي أوقعهم فيه انما هو سهولة عبارته فعبروا عن الشيء بلازم وجوده مع انه غير تام.

٤٧

توضيح المقام : انه لا وقع للقول بان المراد من لفظي الصحيح والأعم هو الصحيح بالحمل الأولى حتى تقيد الصلاة بمفهوم الصحة وضدها كما انه لا وقع لإرجاعه إلى ان المراد به ما هو صحيح بالحمل الشائع. إذ الصحيح من الصلاة الخارجية ان كان موضوعا له بنحو الوجود السعي فهو يستلزم وجود الجامع في الخارج بنحو الوحدة الحقيقية وقد عرفت استحالته وان كان بنحو الفردية والمصداقية فهو مستلزم لكون الوضع عاما والموضوع له خاصا ـ إذا الفرد الواقعي قد يتصادق عليه العنوانان وإلا فكل عنوان يباين الآخر مفهوما (أضف إليه) ان الصحيح تحقيقا هو ما حاز جميع ما يعتبر فيه حتى ما يتأتى من قبل الأمر مع خروج مثلها عن حريم النزاع ـ والتشبث بكون الصحة امرا إضافيا فتكون صحيحة مع قطع النّظر عن الشرائط التي تأتي من قبل الأمر ، مما لا يساعده العرف واللغة.

وتوهم اصطلاح خاص للأصولي كما ترى. ولا يقصر عنه التمحل بان المراد من الصحة هو الصحة التعليقية. أعني ما إذا انضم إليه جميع ما يعتبر فيها صار صحيحا (والحاصل) ان أخذ الصحيح في عنوان البحث والقول بأنه الموضوع له لا يصح بأي معنى فرض.

والأولى ان يجعل الموضوع له هو الماهية الاعتبارية لا عنواني الصحيح والأعم ويقال : ان لفظة الصحيح وضده عنوانان مشيران إلى تلك المرتبة ويقال هل الموضوع له هو الماهية التي إذا وجدت في الخارج ينطبق عليها عنوان الصحيح أو الأعم.

وأولى منه إسقاط لفظي الصحيح والأعم من عنوان البحث إذ لا ملزم لإبقاء العنوان على حاله والتزام تكلفات باردة لتسديده فيقال في عنوانه بحث (في تعيين الموضوع له في الألفاظ المتداولة في الشريعة أو في تعيين المسمى لها أو في تعيين الأصل في الاستعمال فيها) على اختلاف التعبيرات كما مر.

وما يقال من ان الصلاة مثلا موضوعة للماهية المتصورة في الذهن مرآة إلى الخارج وهي بما انها فرد موجود ذهني صحيحة بالحمل الشائع. لا ينبغي الإصغاء إليه. إذا الصحة والفساد من لوازم الوجود الخارجي دون الماهية الذهنية وعليه فالفرد الذهني لا يمكن ان يكون مصداقا لواحد منهما ـ هذا وقد ذكر بعضهم للصحيح معنى آخر وهو كونه بمعنى التمامية عرفا ولغة واستراح به عن بعض الإشكالات. وهو لم يذكر له مصدرا ومرجعا مع ان العرف واللغة اللذين تشبث بذيلهما يناديان بخلاف ما ادعاه.

كيف وبين الصحة والفساد تقابل التضاد كما ان بين النقص والتمام تقابل العدم

٤٨

والملكة (وتوضيح : ذلك) ان الصحة والفساد كيفيتان وجوديتان عارضتان للشيء في الوجود الخارجي باعتبار اتصافه بكيفية ملائمة لطبيعته النوعية ، فيقال بطيخ صحيح بالملاك المذكور كما انه إذا اتصف بكيفية منافرة أو بأثر لا يترقب من نوعه يقال انه فاسد كمرارته أو فساده وهذا بخلاف النقص والتمام فان ملاك الإطلاق فيهما انما هو جامعيته للاجزاء والشرائط وعدمها ، مثلا الإنسان الّذي له عين أو يد واحدة يقال انه ناقص لا فاسد وفي مقابله التمام ، نعم يطلق عليه الصحة باعتبار كيفيته المزاجية لا من جهة الأعضاء.

(فان قلت :) فعليه لا بد ان لا يصح توصيف الكيفيات والحقائق البسيطة بالتمام وضده لفقدان التركيب فيهما (قلت :) الظاهر ان الإطلاق في أشباه ذلك انما هو باعتبار لحاظ الدرجات ، فيقال للوجود الشديد انه وجود تام وللضعيف انه ناقص وقس عليه النور وشبهه ، كما ان إطلاق الصحة والفساد بالمعنى المذكور على الماهيات الاعتبارية كالصلاة والصوم ، من باب التوسع في الإطلاق ، لأن اجزاء تلك الماهيات لها وحدة في وعاء الاعتبار وهيئة اتصالية ولذا يقال انه قد قطع صلاته أو أفطر صومه إذا أتى بما ينافيه ، فعروض الفساد لها انما هو من جهة فقدانها بعض ما هو معتبر فيها كما في الموجودات الخارجية الحقيقية ، لكن باعتبار تخلف الأثر وادعاء ترتب كيفية منافرة عليها.

هذا والطريق الوحيد للتخلص عما تقدم من الإشكال لمن اشتهى إبقاء البحث على حاله ليس إلّا بالقول باستعمال الصحة والفساد في التمام والنقص أعني استعمال ذاك المفهوم في هذا المفهوم ولكنه بعد غير صحيح لعدم وجود العلاقة بينهما واتحادهما بحسب المصداق لا يصحح العلاقة.

(الثالث) يجد المتتبع في خلال كلمات القوم ان عباراتهم في تحرير محل البحث مشوشة جدا فبعضهم خصه بالاجزاء واخرج الشرائط عنه مطلقا ، سواء كانت مما أخذت في متعلق الأمر كالطهور والستر أم لم تؤخذ فيه ، وسواء أمكن أخذها وان لم تؤخذ فعلا كالشروط العقلية المحضة مثل اشتراط كون المأمور به غير مزاحم بضده الأهم أو كونه غير منهي عنه بالفعل ، أو كان مما وقع الخلاف في إمكان أخذه فيه كالشرط الّذي يأتي من قبل الأمر ، كقصده وقصد الوجه ـ وبالجملة قد قصر هذا القائل البحث على الاجزاء واخرج الشرائط بأجمعها عن حريمه.

٤٩

واستدل عليه بان رتبة الاجزاء رتبة المقتضى ورتبة الشرائط متأخرة عن رتبة المقتضى فلا يسوغ إدخالها في المسمى لتستوي مع الاجزاء في المرتبة (انتهى).

ولحن الاستدلال يتضمن جوابه ، لأن مجرد وقوع الشيء في مرتبة علل شيء بحسب التكوين أو الاعتبار لا يمنع من جعل اسم واحد للمجموع ، لوقوعها في أفق النّفس دفعة واحدة.

وربما يجاب عنه بالتمسك بذيل الحصة ، بيان ذلك ان الموضوع له هو الاجزاء المقترنة بالشرائط ، أعني تلك الحصة الخاصة من الاجزاء دون مطلقها ، و «ح» لا يصدق مع فقد بعض الشرائط بناء على القول بالصحيح ـ واما على الأعم فالموضوع له هو مطلق الطبيعة لا الحصة الخاصة منها «انتهى».

هذا ولكن يعود السؤال عليه بان المقارنة والتحصص ان أخذت على نحو القيدية فقد عاد الإشكال ودخلت الشرائط تحت المسمى ، وان أخذت على سبيل الحينية فما وجه الامتياز بين هذه الحصة وغيرها في عالم التصور وما الدليل على انحصار صدقها على المقترنة فقط دون الفاقدة ، بعد الاعتراف بوضع اللفظ للطبيعة المطلقة من دون أخذ قيد فيها.

(ثم) ان بعضهم لما رأى التفريط في الرّأي المتقدم عدل عنه وأخذ برأي متوسط وادخل من الشرائط ما كان مأخوذا بالفعل في المأمور به ، دون ما يأتي من قبل الأمر ودون الشرائط العقلية التي يمكن أخذها ـ ولكنه جوز إدخال ذلك كله في محل النزاع وان لم يكن داخلا بالفعل. خلافا لمن ادعى عدم إمكانه رأسا نظرا إلى ان تعيين المسمى مقدم على الأمر المتقدم على قصده وقصد وجهه وكذلك مقدم على ابتلائه بالضد أو تعلق النهي به فلا يمكن أخذ ما يأتي من قبله في الموضوع له (انتهى).

ولكن الحق إمكان دخول الجميع في النزاع ، اما على القول بإمكان أخذ ما لا يأتي الا من قبل الأمر في المتعلق فواضح واما على الامتناع فلجواز دعوى كون المسمى غير ما يتعلق به الطلب ، ولزوم تقدم المسمى على الطلب لا دليل عليه.

(ان قلت :) يلزم (ح) اللغوية في التسمية لأنها مقدمة للبعث إليها. «قلت» الكلام انما هو في الإمكان العقلي لا في الوقوع.

هذا بحسب الثبوت واما بحسب الإثبات فالشواهد على ما ادعيناه لائحة متى

٥٠

تفحصت استدلالات القوم ، حيث ترى ان الأعمي يسوق برهانه بأنه يلزم على قول الخصم تكرار معنى الطلب في الأوامر المتعلقة بها ، لأن الأمر (ح) يرجع إلى الأمر بالمطلوب فيكون المعنى طلب مطلوبه ويلزم الدور لتوقف الصحة على الطلب وهو عليها ، فراجع الفصول. وتجد ان المطلوب منها هو التام جزءا وشرطا وترى الصحيحي لم يستشكل عليه بكون النزاع في غير هذه الشرائط ويشهد له أيضا قول المحقق الخراسانيّ في استدلاله بان وحدة الأثر كاشفة عن وحدة المؤثر فان الأثر مترتب على تام الاجزاء والشرائط مطلقا. وحمله على المؤثر الاقتضائي أو التعليقي أو بعض المؤثر تعسف ظاهر.

هذا ولكن بعد ما عرفت من ان الموضوع له ليس عنواني الصحيح والأعم يمكن ان يقال ان الشرائط ليست على سنخ واحد ، بل بعضها من قيود المسمى بحيث ينحل المسمى إلى اجزاء وتقيدات ، وبعضها الآخر من شروط تحقق المسمى خارجا ولا دخالة له في الماهية. أو من موانع تحققه في الخارج من دون ان يكون عدمه دخيلا في الماهية أيضا ولا يبعد ان يكون ما يأتي من قبل الأمر من شروط التحقق كما ان الشرائط العقلية ، مثل عدم ابتلائه بالضد وعدم كونه منهيا عنه من قبيل نفى موانع التحقق ـ فهما غير داخلين في الماهية وخارجان عن محل البحث والنزاع ـ ففي الحقيقة النزاع يرجع إلى ان الشروط أيها من شرائط المسمى بحيث لا يصدق على الفاقد ، وأيها من شروط الصحة والتحقق حتى يصدق على فاقدها ، هذا بالنسبة إلى الشرائط.

واما الاجزاء فيقع النزاع فيها في ان جميعها من مقومات ماهية المسمى أو بعضها خارج عنها ويكون من اجزائه إذا فرض تحققه في الخارج ، كالأجزاء المستحبة بناء على كونها توابع الموجود من غير أخذها في مقومات الماهية فتدبر ، وسيجيء للكلام تتميم والمسألة بعد لا تخلو من غموض وإشكال.

الرابع انه لا بد من تصوير جامع على كلا الرأيين ـ فان الثمرة المعروفة أعني جواز التمسك بالإطلاق وعدمه تتوقف عليه لا محاله ، مضافا إلى اتفاقهم على عموم الوضع والموضوع له وعدم تعدد الأوضاع بالاشتراك اللفظي ـ فنقول ان هناك بيانات في تصوير الجامع :

منها ما عن المحقق الخراسانيّ من انه لا إشكال في إمكان تصويره على القول

٥١

بالصحيح وإمكان الإشارة إليه بخواصه وآثاره فان الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذلك الجامع ، فيصح تصوير المسمى بالصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن (انتهى).

وما أظنك إذا تأملت في عبائر كتابه ان تنسب إليه انه قائل بان الصلاة موضوعة لنفس الأثر أو للمقيد به أو للمقيد بالملاكات سيما بعد تصريحه بان الأثر انما يشار به إليه ، لا انه الموضوع له. وبذلك يظهر الخلل فيما أورده عليه بعض الأعاظم من ان الملاكات انما تكون من باب الدواعي لا المسببات التوليدية وليست الصلاة بنفسها علة تامة لمعراج المؤمن ، بل تحتاج إلى مقدمات آخر ، من تصفية الملائكة وغيرها ، (فحينئذ) لا يصح التكليف بها لا بنفسها ولا بأخذها قيدا لمتعلق التكليف إذ يعتبر في المكلف به كونه مقدورا عليه بتمام قيوده وعليه لا يصح ان تكون هي الجامع بين الافراد أو كاشفا عنه إذ الكاشف والمعروف يعتبر فيه ان يكون ملازما للمعرف بوجه (انتهى).

(وأنت خبير) بان الشيء إذا كان علة لحصول أثر وحداني أو كان الأثر الوحداني قائما به لا بأس بوضع اللفظ لذات ذاك المؤثر ، أو ما قام به الأثر ، ويمكن الإشارة إليهما بالأثر والملاك ويتعلق التكليف بذاته من دون تقييده بالملاك والأثر ـ هذا مضافا إلى انه لو فرضناه قيدا للمأمور به يمكن تحصيله ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور لما نعلم من تعقب هذه الأركان بتصفية الملائكة وشبهها فلا مانع لنا من تحصيل هذا القيد أيضا.

«نعم» الّذي يرد على ما ذكر من تصوير الجامع بالبيان المذكور ، انه لو صح فانما يصح في الواحد البحت البسيط الّذي ليس فيه رائحة التركيب (تبعا لبرهانها الّذي يعرفه أهل الفن كما تقدم) لا في الواحد الاعتباري على ان أثر الصلاة بناء على ما ذكره كثير إذ كونها ناهية عن الفحشاء غير كونها عمود الدين وهكذا ، فلو كان الكل صادرا عنها لزم ان يكون فيه حيثيات متكثرة حسب تكثر تلك الآثار مع بعد التزامهم بجامع هذا حاله ـ بل يمكن ان يقال انه لا معنى لنهيها عن الفحشاء الا كونها مانعة ودافعة عنها ومن المعلوم ان الفحشاء له أقسام وأنواع ، فاذن لا بد ان تكون فيها حيثيات تكون بكل حيثية ناهية عن بعضها.

ودعوى ان ذكر هذه الآثار في كلام الشارع من قبيل التفنن في العبارة وإلّا فالجميع

٥٢

يرجع إلى معنى واحد ويشير إلى شيء فارد وهو الكمال الحاصل للمصلي بسبب عمله القربي ، تخرص على الغيب.

ومنها ما عن بعض محققي العصر وهو ان الجامع لا ينحصر في العنواني حتى لا يلتزم به أحد ولا في المقولي حتى يقال بان الصلاة مركبة من مقولات مختلفة وهي متباينات ولا جامع فوق الأجناس العالية ، بل هناك جامع آخر وهو مرتبة خاصة من الوجود الجامع بين تلك المقولات المتباينة الماهية فتكون الصلاة امرا بسيطا خاصا يصدق على القليل والكثير لكون ما به الاشتراك عين ما به الامتياز ، فان الوجود أخذ لا بشرط ـ إلى ان قال ـ (ان قلت) : بناء على هذا يكون مفهوم الصلاة مثلا هو تلك الحصة من الوجود الساري في المقولات المزبورة وهو فاسد ـ (قلت) : مفهوم الصلاة كسائر مفاهيم الألفاظ منتزع من مطابق خارجي ولكن عند التحليل نقول انه هو الحصة الخاصة المقترنة بالمقولات الخاصة نحو مفهوم المشتق فانه بسيط ولكنه عند التحليل يقال انه مركب من ذات وحدث.

فاتضح ان هناك جامعا لا ماهويا ولا عنوانيا وهو مرتبة خاصة من الوجود الساري في جملة من المقولات (انتهى كلامه قده) ـ وفيه غرائب من الكلام ويرد عليه أمور (منها :) ان الحصة الخارجية لا يمكن ان تنطبق على الافراد انطباق الكلي على افراده ومنها ان الوجود الخارجي كيف صار وجود المقولات المختلفة بالذات وما معنى هذا لسريان المذكور في كلامه ثم ان الوجود الخارجي إذا كان جامعا ومسمى بالصلاة فلازمه تعلق الأمر اما به أو بغيره وفسادهما لا يحتاج إلى البيان (ومنها) ان ما ذكره أخيرا من ان مفهومها كسائر المفاهيم منتزع عن مطابقه الخارجي ، يناقض ما جعله جامعا من الحصة الخارجية أو الوجود السعي وان أراد من الحصة الخارجية الكلي المقيد ، على وجه التسامح ، يصير أسوأ حالا من سابقه لأن الكلي المقيد يكون من سنخ المفاهيم ، فيكون مفهوم الصلاة مساوقا لمفهوم الوجود المقيد الّذي لا ينطبق إلّا على تلك المقولات الخاصة ، وهو لا يلتزم بذلك ـ أضف إليه ان الجامع يصير عنوانيا مع انه بصدد الفرار عنه.

(ثم انه) قدس‌سره قاس الجامع في الصلاة بالكلمة والكلام حيث قال : ان الجامع بين أفرادهما عبارة عن المركب من جزءين على نحو يكون ذلك المعنى المركب بشرط شيء من طرف القلة ولا بشرط من طرف الزيادة كذلك حال الجامع بين افراد الصلاة (انتهى)

٥٣

وأنت خبير بأنه أيضا لا يغنى شيئا إذ صدق الكلمة على المختلفات ليس إلّا لكونها عبارة عن لفظ موضوع لمعنى مفرد وهو صادق على الجميع حتى البسائط من الكلمات ، لا لما ذكره (قدس‌سره) من أخذها لا بشرط من جانب الكثرة وبشرط لا من جانب القلة ـ وبالجملة لا أرى لكلامه وجها صحيحا ولعل غموض المسألة وصعوبة تصوير الجامع دعاه إلى هذه التكلفات أو قرع سمعه اصطلاح بعض في الوجود الساري فاشتهى إيراده في المقام مع كونه أجنبيا منه

ومنها ما أفاده بعض الأعيان من المحققين ومحصله ان سنخ المعاني والماهيات على عكس الوجود كلما كان الإبهام فيها أكثر كان الشمول والإطلاق فيها أوفر ، فان كانت الماهيات من الحقائق كان الإبهام فيها بلحاظ الطواري والعوارض مع حفظ نفسها وان كانت من الأمور المؤتلفة من عدة أمور بحيث تزيد وتنقص كما وكيفا فمقتضى الوضع لها بحيث يعمها ان تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرفية بعض العناوين غير المنفكة عنها كالخمر فهي مبهمة من حيث اتخاذها من المواد المختلفة من العنب والتمر ومن حيث اللون والطعم ومرتبة الإسكار فلا يمكن وضعها للمائع الخاصّ الا بمعرفية المسكرية من دون لحاظ الخصوصية تفصيلا

وفي مثل الصلاة مع اختلاف الشديد بين مراتبها لا بد ان يوضع لفظها لسنخ عمل معرفه النهي عن الفحشاء والمنكر ، بل العرف لا ينتقلون من سماعها الا إلى سنخ عمل مبهم من جميع الجهات الا من حيث كونه مطلوبا في الأوقات المعلومة وهذا غير النكرة فانه لم يؤخذ فيها خصوصية البدلية (انتهى)

وفيه بعد تسليم تعاكس المعاني والوجودات في الإطلاق والشمول مع غمض النّظر عما يتوجه إليه ، انه على أي حال لا بد للصلاة من جامع متواط يصدق على افراده ويكون امرا متعينا متحصلا في مقام تجوهر ذاتها ، يعرضه الإبهام بلحاظ الطواري والعوارض ، وإلّا لزم ان يكون من قبيل الفرد المردد مما دخل الإبهام في حد ذاته ومرتبة تحصله ، وقد فر منه «قدس‌سره» ـ (فحينئذ) هذا الأمر الّذي يسمى جامعا اما يكون من العناوين الخارجية أو من المقولات ، وكلاهما فاسدان كما لا يخفى ، مع انه لم تنحل العقدة بما ذكره ، بل أو كل الأمر إلى معنى مبهم وامر مجهول ، بل الظاهر ان كلامه لا يخلو عن مصادرة فتدبر

٥٤

وبالجملة ان ماهية الصلاة تقال علي افرادها بالتواطي فلا بد لها من جامع صادق عليها بحيث يكون امرا متعينا في حد ذاته ولو بالاعتبار ويكون عروض الإبهام له بلحاظ الطواري والعوارض ، لوضوح ان الإبهام في نفس الذات لا يتصور إلّا في الفرد المردد وقد عرفت انه (قدس‌سره) ـ قد فر منه ، (فحينئذ) اما يقول بأنه جامع عنواني خارجي أو مقولي وقد علمت فسادهما واما المختار فيتوقف بيانه على تقديم مقدمة وهي :

ان محيط البحث للاعلام انما هو تصوير جامع كلي قابل الانطباق على الافراد المختلفة كيفا وكما (فحينئذ) مرتبة فرض الجامع متقدمة على مرتبة عروض الصحة والفساد عليه ، لما عرفت سابقا من انهما من عوارض وجود العبادات خارجا

وتوهم كونهما من الأمور الإضافية بحيث يجوز ان تكون ماهية صحيحة من حيثية وفاسدة من أخرى كما ترى ، بل هما من الأمور المتضادة وبينهما تقابل التضاد كما مر نعم ربما يكون ماهية موجودة من الطبائع الحقيقية بعضها فاسد بقول مطلق وبعضها صحيح كذلك ، وذلك مثل البطيخ الّذي فسد نصفه وبقي الآخر صحيحا ، ولكن الصلاة إذا فقد بعض اجزائها أو شرائطها لا تتصف بالصحّة والفساد لا بهذا المعنى ولا بالمعنى الإضافي ـ بل هذه الصلاة الموجودة مع فقدان بعض شروطها أو وجود بعض موانعها فرد من الصلاة عرضها الفساد فقط في الخارج وليست بصحيحة كما انها لا تكون صحيحة من جهة وفاسدة من أخرى ، ولا صحيحة في النصف وفاسدة في النصف الآخر.

ومن ذلك يظهر لك ان بعض ما هو من الشرائط ويكون دخيلا في اتصافها بالصحّة خارجا ، غير داخل في محط البحث لما عرفت من ان البحث في المرتبة المتقدمة على الوجود الخارجي ، وما يعرضه من الصحة ومقابلها ـ وعلى هذا لا مناص عن الاعتراف بكون الموضوع له امرا ينطبق على مقالة الأعمي لما علمت من ان الماهية التي وضعت لها لفظة «الصلاة» إذا وجدت في الخارج مجردة عن تلك الشرائط التي عرفت خروجها عن الموضوع له ، تتصف لا محالة بالفساد ولا يمكن اتصافها بالصحّة في هذا الحال ، فلا تكون الماهية الموضوع لها الصلاة متصفة في الخارج بالصحّة دائما ، وهذا بعينه مقالة الأعمي وان كان لفظه قاصرا عن افادته ـ وقد تقدم ان النزاع ليس في وضع هذه الألفاظ لمفهومي الصحيح والأعم ولا للماهية المتقيدة بمفهوم الصحة ، بل لا يمكن الوضع لماهية ملازمة لها ، لأن مفهوم الصحة

٥٥

وحقيقتها غير لازمين للماهية لأنها من عوارض الوجود ، كما انه لا يمكن وضعها لماهية إذا وجدت في الخارج كانت صحيحة ، لما عرفت آنفا من خروج بعض شروط الصحة من حريم النزاع ، فظهر من ذلك كله ان الماهية الموضوع لها الصلاة لا تكون ملازمة للصحة وكذلك ساير ما أشبهها فلا مجال (ح) للنزاع الا مع إلغاء عنواني الصحيح والأعم ويقال هل الألفاظ موضوعة لماهية تامة للاجزاء والشرائط الكذائية أو ما هو ملازم لها أو لا ولعل نظر القوم ذلك لكن تخلل الصحيح والأعم لسهولة التعبير ، فتدبر

وإذ قد عرفت ذلك : فاعلم ان المركبات الاعتبارية إذا اشتملت على هيئة ومادة يمكن ان يؤخذ كل منهما في مقام الوضع لا بشرط ، لا بمعنى لحاظه كذلك فانه ينافى اللابشرطية بل بمعنى عدم اللحاظ في مقام التسمية الا للمادة والهيئة بعرضهما العريض ، وذلك كالمخترعات من الصنائع المستحدثة ، فان مخترعها بعد ان أحكمها من مواد مختلفة وألفها على هيئة خاصة وضع لها اسم الطيارة أو السيارة أو ما أشبههما ولكن أخذ كلا من موادها وهيئاتها لا بشرط ، ولذا ترى ان تكامل الصنعة كثيرا ما يوجب تغييرا في موادها أو تبديلا في شأن من شئون هيئتها ومع ذلك يطلق عليها اسمها كما في السابق ، وليس ذلك إلّا لأخذ الهيئة والمادة لا بشرط أي عدم لحاظ مادة وهيئة خاصة فيها.

توضيح الكلام ان المركبات الاعتبارية على قسمين ، قسم يكون الملحوظ فيه كثيرة معينة ، كالعشرة ، فانها واحدة في قبال العشرين والثلاثين لكن لوحظ فيها كثرة معينة ، بحيث تنعدم بفقدان واحد منها ، فلا يقال للتسعة عشرة ـ وقسم آخر يكون فيه قوام الوجود الاعتباري بهيئته وصورته العرضية ولم يلحظ فيه كثرة معينة في ناحية المادة بحيث ما دام هيئتها وصورتها العرضية موجودة يطلق عليها اللفظ الموضوع وان تقلل موادها أو تكثرت أو تبدلت ـ وان شئت قلت : ان الهيئة قد ابتلعت هذه المواد والاجزاء وصارت مقصودة في اللحاظ كما في مثال السيارة بالنسبة إلى هيئتها القائمة باجزائها ـ هذا حال المادة.

واما الهيئة فقد تلاحظ بنحو التعين وأخرى بنحو اللابشرط مثل مادتها بعرضها العريض كما مر ـ والحاصل ان المركبات غير الحقيقية قد تؤخذ موادها فانية في هيئاتها ويقصر النّظر إلى الهيئات ومع ذلك تؤخذ الهيئة أيضا لا بشرط ، وذلك مثل الدار والسيارة

٥٦

والبيت ونحوها التي يشار إليها بلفظ واحد إلى جامع عرضي بين افرادها بعد فقدان الجامع الحقيقي المؤلف من الجنس والفصل فيها ، وبالجملة لا يمكن الإشارة إلى الجامع بينها الا بعناوين عرضية كالعبادة الخاصة في الصلاة والمركوب الخاصّ أو المسكن الخاصّ في مثل السيارة والدار والبيت ـ فاذن البيت بيت ، سواء أخذ مواده من الحجر والطين أو من الجص والخزف ، بنى على هيئة المربع أو المثلث أو غيرهما ، إذا الواضع وضع هذا اللفظ لهيئة مخصوصة تكون المواد فانية فيها ومع ذلك لم يلحظ الهيئة أيضا معينة من جميع الجهات إذا عرفت هذا ، فنقول انه لا منع عن القول بكون الصلاة وأضرابها موضوعة لنفس الهيئة اللابشرطية الموجودة في الفرائض والنوافل قصرها وتمامها وما وجب على الصحيح والمريض بأقسامها ، الا بعض المراتب التي لا تكون صلاة كصلاة الغرقى.

والحاصل انها وضعت لهيئة خاصة مأخوذة على النحو اللابشرط فانية فيها موادها الخاصة ، من ذكر وقرآن وركوع وسجود ، تصدق على الميسور من كل واحد منها ، وهيئتها صورة اتصالية خاصة حافظة لمادتها أخذت لا بشرط في بعض الجهات ـ نعم فرق بينها وبين ما تقدم من الأمثلة كالدار والسيارة ، حيث انه في المقام نحو تضييق في المواد من التكبير إلى التسليم ، إلّا انه مع ذلك التحديد لها عرض عريض إذ كل واحد من اجزاء موادها مثل الركوع والسجود جزء بعرضه العريض ولكن الغرض متوجه إلى الهيئة الخضوعيّة التي تصدق على فاقد الحمد والتشهد وغيرها من الاجزاء مع بقاء ما يحفظ به صورتها.

ثم بعد ما أسمعناك حقيقة الوضع في المركبات الاعتبارية تعرف ان الشرائط كلها خارجة عن الماهية وانها عبارة عن الهيئة الخاصة الحالة في اجزاء خاصة تتحد معها اتحاد الصورة مع المادة ، كما ان عنواني الصحيح والأعم خارجان عن الموضوع له رأسا.

الخامسة لعلك تتوهم من هذا البيان انه يلزم عليه عدم إمكان التمسك بالبراءة عند الشك في جزئية شيء للمأمور به ، إذ نسبة الاجزاء إلى الهيئة نسبة المحصل إلى المحصل ، والشك في دخالة شيء في المادة يرجع إلى الشك في محقق الهيئة البسيطة المعلومة من حيث المفهوم ولكنك إذا نظرت إليه بعين الدقة ترى سقوط التوهم المذكور ، إذ فرق بين القول بان الصلاة مثلا موضوعة للناهية عن الفحشاء والمنكر أو ما يكون ملزوم ذلك ،

٥٧

وبين ما ذكرنا ، إذ الهيئة الخضوعيّة والصلاتية مشاهدة معلومة لافراد المسلمين ومرتكزة لأهل القبلة لا يشك فيها العاكف والبادي ، والمسمى محقق ولو عند فقدان ما يشك في وجوبه ، بل وعند فقدان بعض ما يعلم وجوبه أيضا ، (فحينئذ) الشك لا يرجع إلى الشك في تحقق المسمى بل إلى شرطية شيء أو جزئيته للمأمور به زائدا على ما يتحقق به المسمى

وان شئت قلت : ان المأمور به هو الهيئة الوحدانية الحاصلة من تلك المواد من دون ان يتعلق النّظر إلى الكثرات والمواد ، وهي متحدة معها اتحاد الصورة مع المادة ، وليس هنا من المحصل والمحصل عين ولا أثر ـ فعند ذلك إذا تعلق الأمر بتلك الهيئة التي اتخذت لنفسها حقيقة وحدانية يكون ذلك بعثا إلى الاجزاء والمواد التي تنحل الماهية إليها ، إذ الأمر بإيجاد صورة البيت أو بناء المسجد عند التحليل امر وبعث إلى تهيئة اجزائها بهيئة معلومة ، من دون تعلق الأمر مستقلا بتلك المواد ولا الأمر الضمني والمقدمي على القول بهما فالامر بالواحد امر بالكثرات عند التحليل فإذا شك في نظر الانحلال إلى جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به يرجع ذلك إلى أصل تعلق الأمر به في لحاظ الكثرة بعد العلم بتعلقه بسائرها (وان أبيت) الا عن القول بكون المواد من المحصلات للهيئات فيجاب بإمكان إجراء البراءة في نفس الهيئة البسيطة الموجودة في الخارج بوجود اجزائه القابلة للزيادة والنقيصة كما في مثل الخطّ إذا شك في كون الواجب منه مطلق وجوده الّذي يصدق على الطويل والقصير والقليل والكثير أو مقدارا خاصا منه فتجري البراءة بالنسبة إلى الخصوصية المشكوكة «والحاصل» ان الشيء المشكوك فيه بما له دخل في زيادة الهيئة كمية وكيفية يكون مرجع الشك فيه إلى الشك في خصوصية زائدة على أصل المسمى لما هو المفروض من صدقه بدونه.

(واما) على ما ذكره المحقق الخراسانيّ في مقام تصوير الجامع فالظاهر عدم إمكان إجراء البراءة وان قلنا باتحاد الأمر الانتزاعي مع الاجزاء خارجا بل لا فرق بين اختيار كون المأمور به هو عنوان معراج المؤمن والقول بأنه الأمر البسيط الّذي يكون مبدأ لهذا الأثر ، وسواء قيل بتقييد المأمور به ، به أم لا

توضيح ذلك : ان حديث الانحلال إلى معلوم ومشكوك انما يصح إذا لم يتعلق الأمر بعنوان معلوم ، وان كانت معلوميته مستندة إلى انه مبدأ لأثر خاص ، أو كان ذلك الأثر عنوانا مشيرا إليه لا قيدا لأن الكل مشترك في تعلق الأمر بشيء بسيط معلوم بوجه ، فلا بد

٥٨

من تحصيل اليقين بالفراغ منه ، والشك في جزء منه يكون راجعا إلى الشك في تحقق ذلك المعلوم وجوبه ، فلا بد من الإتيان به لاحتمال ان لا يكون المأتي بدونه عين ما قامت عليه الحجة وتعلق به العلم تفصيلا.

والعجب مما صدر عن بعض القائلين بالصحيح من جريان الأصل هنا على مبناه أيضا ، وأنكر بذلك جعل القول بجريان البراءة والاشتغال ثمرة لهذا النزاع ، وملخص ما أفاده : ان المأمور به إذا كان بسيطا ذا مراتب يتحقق بعض مراتبه بتحقق بعض الأمور المحصلة له ، فان شك في دخالة شيء آخر في تحقق مرتبته العليا ، لكان موردا للبراءة.

توضيح خلله : انك قد عرفت ان أحسن ما يمكن ان يوجه به مقالة القائل بالصحيح ان يقال : ان الألفاظ وضعت لماهية إذا وجدت في الخارج انطبق عليها عنوان الصحيح بالحمل الشائع ، (فحينئذ) لا بد ان يكون الموضوع له عنوانا يلازم الصحة خارجا ، وعند ذلك إذا وقع العنوان الملازم للصحة موردا للأمر يكون الشك في جزئية شيء له أو شرطيته راجعا إلى الشك في تحقق ذلك العنوان الملازم للصحة ويكون المرجع هو الاشتغال بعد معلومية المأمور به ، ولا يتفاوت في ذلك كون العنوان البسيط قابلا للنقص والكمال أو الزيادة والنقصان وعدمه ، لأن الشك في جميع الحالات راجع إلى تحقق المتعلق المعلوم كونه ملازما للصحة خارجا ومع ذلك لا يمكن إحراز حال الفرد.

وما ذكره من ان الشك انما هو في دخل شيء في مرتبته العليا مع تحقق المسمى المأمور به بدونه ، عدول عن المبنى لأن الشك انما هو في دخالة شيء في تحقق أصل العنوان المأمور به لا فيما إذا علم به وشك فيما يوجب الزيادة والفضيلة فيه ـ والحاصل ان مراده من العلم بتحقق بعض المراتب ان كان ما يلازم الصحة في الخارج فلا معنى للشك في دخالة شيء فيه بعد ذلك ، للعلم بأنه غير واجب. وان كان الغرض تحقق بعض مراتبه مع الشك في صحته فهذا عين القول بالأعم ـ نعم لو فسرنا مقالة الصحيحي بأنها موضوعة بإزاء الماهية الجامعة للشرائط والاجزاء. وان إطلاقها على غيرها مجاز. أو فسرناها بالصحّة الشأنية كان لجريان البراءة وجه ـ إلّا ان الأول بعيد مع كثرة الاستعمالات في الاخبار في غيرها مضافا إلى ان التبادر يدفعه والثاني عين القول بالأعم

والحاصل ان القائل بالصحيح لو جعل الجامع عنوانا بسيطا معلوما بأحد العناوين

٥٩

والإشارات. لما كان له مناص عن القول بالاشتغال.

هذا وقد يترتب على هذا النزاع ثمرة أخرى وهي صحة التمسك بالإطلاق على الأعم دون الصحيح ـ وضعفها بعضهم بفقدان الصغرى. وانه ليس في الكتاب والسنة إطلاق يحتج به ـ وزيفها بعض آخر بأنه تكفي الثمرة الفرضية في هذا البحث الطويل الذيل ـ ونقده ثالث من جانب آخر بان المسمى وان كان أعم على الفرض إلّا ان المأمور به هو الصحيح على القولين والأخذ بالإطلاق بعد التقييد أخذ بالشبهة المصداقية.

ولكن لا يخفى ما في جميع ذلك. إذ كيف ينكر الفقيه المتتبع في الأبواب وجود الإطلاق فيها ، أم كيف يرتضي المجيب رمى الأكابر بصرف العمر فيما لا طائل تحته وان الثالث كيف اشتبه عليه الأمر إذ البعث لم يتعلق بعنوان الصحيح أو ما يلازمه بل تعلق بنفس العناوين على الأعم ، فإذا ثبت كونها في مقام البيان أخذنا بإطلاقها ما لم يرد لها مقيد ، ووجود قيد منفصل لا يكشف عن بطلان الإطلاق الدائر بين الأدلة كما لا يخفى.

واما ما قد يجاب به عن هذا الإشكال من ان المخصص لبي غير ارتكازي وفي مثله يصح التمسك بالإطلاق والعموم في الشبهة المصداقية ، أضعف من أصل الإشكال ، لما ستعرف من انه بعد سقوط أصالة الجد لدى العقلاء في افراد المخصص لا يحتج بالعامّ لديهم في الافراد المشكوكة ولا فرق عندهم في ذلك بين اللفظي وغيره فانتظر حتى حين.

في أدلة القولين

وإذ قد عرفت ما تقدم فاعلم : انه قد ادعى غير واحد من القوم التبادر للمعنى الّذي اختاره وارتضاه المحقق الخراسانيّ لما استقربه من القول بالصحيح ولكن يرد على ما ادعاء إشكال ، حاصله : ان للماهية في وعاء تقررها تقدما على لوازمها وعلى الوجود الّذي هو مظهر لها ، كما انها متقدمة على لوازم الوجود بمرتبتين ، لتوسط الوجود بينها وبين لوازم الوجود ، وإذا أضفت ذلك إلى ما قد علمت سابقا من ان النهي عن الفحشاء وكونها معراج المؤمن وما أشبههما من لوازم الوجود لا من آثار الماهية لعدم كونها منشأ لتلك الآثار في حد نفسها ، تعرف انه لا وجه لهذا التبادر أصلا لأن تلك العناوين كلها في مرتبة متأخرة عن نفس المعنى الماهوي الموضوع له ، بل لو قلنا انها من عوارض الماهية أو لوازمها كانت أيضا متأخرة عنه فمع ذلك كيف يمكن دعوى تبادرها من لفظ الصلاة مثلا.

٦٠