تهذيب الأصول - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

مراتب الحكم في الإنشائية والفعلية فلا بد من توضيحهما فنقول.

الناموس المطرد في قوانين العالم هو ان الحاكم بعد ما تصور صلاح شيء وفساده وجزم ان في جعل حكم ، له صلاحا لحال اتباعه يتعلق الإرادة على إنشائه بصورة قانون كلي لعامة البشر أو لجماعة ، منهم فينشئه حكما عموميا جاعلا له في مظانه التي يطلبه فيها المراجعون ويرجع إليها في استعلام الوظيفة ، المكلفون ، ولا يتفاوت فيما ذكرنا كون الحاكم شخصا واحد أو أشخاصا متعددين غير ان الحكم في الثاني يدور مدار غالبية الآراء وكثرتها (ثم) ان للمحيط وحال المكلفين دخلا تاما في إجراء الحكم وإعلانه فان ساعدت الأحوال ووجدت شرائط الأجراء ، يأمر الحاكم بإعلانه وإيصاله إلى المكلفين ، وإلا فيترقب تناسب المحيط واستعداد الناس بقبوله ويترك هو في سنبله الإنشائي

والّذي نسميه حكما إنشائيا أو شأنيا ، هو ما حاز مرتبة الإنشاء والجعل سواء لم يعلن بينهم أصلا حتى يأخذه الناس ويتم عليهم الحجة ، لمصالح في إخفائها كالاحكام التي بقيت مخزونة لدى ولى العصر عجل الله تعالى فرجه ويكون وقت إجرائها زمان ظهوره لمصالح تقتضي العناية الإلهية كنجاسة بعض الطوائف المنتحلة بالإسلام وكفرهم ، فهو حكم إنشائي في زماننا وإذا بلغ وقت إجرائه يصير فعليا ، أو أعلن بينهم ولكن بصورة العموم والإطلاق ليلحقه التقييد والتخصيص بعد ، بدليل آخر كالاحكام الكلية التي تنشأ على الموضوعات ولا تبقى على ما هي عليها في مقام الأجراء ، فالمطلقات والعمومات قبل ورود المقيدات والمخصصات أحكام إنشائية بالنسبة إلى موارد التقييد والتخصيص وان كانت فعليات في غير هذه الموارد والّذي نسميه حكما فعليا هو ما حاز مرتبة الإعلان وتم بيانه من قبل المولى بإيراد مخصصاته ومقيداته ، وآن وقت إجرائه وحان موقع عمله (فحينئذ) فقوله تعالى أوفوا بالعقود بهذا العموم ، حكم إنشائي وما بقي بعد التقييد أو التخصيص حكم فعلى ، (هذا) هو المختار في معنى إنشائية الحكم وفعليته

فتلخص ان الأحكام منقسمة إلى حكم إنشائي وهو ما لم ير الحاكم صلاحا في إجرائه وان كان نفس الحكم ذو صلاح كالاحكام المودوعة عند صاحب الأمر الواصلة إليه من آبائه عليهم‌السلام ، أو يرى صلاحا في إجرائه ولكن أنشأ بصورة العموم والإطلاق ليلحق به خصوصه وقيده هو نفسه أو وصى بعده ، وإلى حكم فعلى قد بين وأوضح بخصوصه وقيوده وآن وقت

٢٤١

إجرائه وإنفاذه و (عليه) إذا فرضنا حصول عائق عن وصول الحكم إلى المكلف ، وان كان قاصرا عن إزاحة علته أو عروض مانع كالعجز والاضطرار عن القيام بمقتضى التكليف ، لا يوجب ذلك سقوط الحكم عن فعليته ولا يمس بكرامتها ولا يسترجعه إلى ورائه فيعود إنشائيا ، لأن ذلك أشبه شيء بالقول بانقباض إرادة المولى عند طرو العذر وانبساطها عند ارتفاعه ، والسر في ذلك ان غاية ما يحكم به العقل هو ان المكلف إذا طرأ عليه العذر أو دام عذره وجهله ، ان لا يكون مستحقا للعقاب بل يخرج من زمرة الطاغين وعداد المخالفين لعدم المخالفة عن عمد ، واما كونه خارجا من موضوع التكليف بحيث تختص فعلية الحكم بغير الجهال وذوي الاعذار ، فلا وجه له وسيأتي ان الخطابات القانونية ليست مثل الخطابات الشخصية فان الثانية لا يجوز توجيهها لغير القادر بل يقبح خطاب العاجز بشخصه ، دون الأولى (فحينئذ) فلا وقع للسؤال عن ان إسراء الحكم إلى العاجز والجاهل إسراء بلا ملاك فارتقب

وبذلك يتضح ان الفعلية والشأنية بالمعنى المعروف من إنشائية الحكم بالنسبة إلى شخص كالجاهل والغافل والساهي والعاجز ، وفعليته بالنسبة إلى مقابلاتها ، مما لا أساس له لأن الاشتراط الشرعي في بعضها غير معقول مع عدم الدليل عليه في جميعها ، والتصرف العقلي أيضا غير معقول لعدم إمكان تصرف العقل في إرادة الشارع ولا في حكمه وسيأتي توضيحه و (بالجملة) ان الأحكام المضبوطة في الكتاب والسنة لا يعقل فيها هاتان المرتبتان بالمعنى الدائر بينهم فقوله تعالى (ولله على الناس حج البيت) إلخ لا يختلف بالنسبة إلى الجاهل والعالم ولا معنى للفعلية والشأنية في هذا الحكم المجعول المنضبط بل جعل الحكم على العنوان وإجرائه بين المكلفين عند ذكر مخصصاته ومقيداته ، يوجب فعلية الحكم على عامة الناس سواء العالم والجاهل والقادر والعاجز ، وقد عرفت ان العقل يرفع حكم العقاب لا نفس التكليف.

الخامسة كل حكم كلي قانوني فهو خطاب واحد متعلق لعامة المكلفين ، بلا تعدد ولا تكثر في ناحية الخطاب بل التعدد والكثرة في ناحية المتعلق ، ويشهد عليه وجدان الشخص في خطاباته فان الشخص إذا دعا قومه لإنجاز عمل أو رفع بلية ، فهو بخطاب واحد يدعو الجميع إلى ما رامه لا انه يدعو كل واحد بخطاب مستقل ولو انحلالا ، للغوية ذلك بعد كفاية الخطاب الواحد بلا تشبث بالانحلال وما اشتهر من انحلال الخطاب الواحد إلى الخطابات حسب عدد المكلفين غير تام ، لأن ملاك الانحلال

٢٤٢

في الاخبار والإنشاء واحد فلو قلنا بالانحلال في الثاني لزم القول به في الأول أيضا مع انهم لا يلتزمون به وإلّا يلزم ان يكون الخبر الواحد الكاذب ، أكاذيب في متن الواقع و (عليه) لو قال قائل بان النار باردة فقد كذب بعدة افراد النار ، وهو رأى عازب أو قول كاذب لا يلتزم به ذو مسكة فتحصل مما ذكر انه لا ينحل الخطاب إلى خطابات بحيث يكون كل واحد موردا لخطاب خاص واما الميزان في صحة الخطاب الكلي فهو إمكان انبعاث عدة من المخاطبين بهذا الخطاب لا انبعاث كل واحد منهم لبطلان القول بالانحلال والسر في ذلك ان امر الأمر إذا كان لداعي الانبعاث وان كان الانبعاث مستند المبادي آخر من الخوف والطمع أيضا ، يصح الخطاب به مولويا عند العقلاء لو قام بامتثاله طائفة من المأمورين كما يستهجن لو علم الأمر عدم انبعاث واحد منهم

ثم ان الخلط بين الأحكام الجزئية والكلية صار منشأ لاشتباهات (منها) حكمهم بعدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء لأن الخطاب بالنسبة إليه مستهجن (قلت) ان ما ذكروه صحيح لو كان الخطاب شخصيا قائما بمخاطب واحد فيستهجن خطابه بزجره مثلا عن ارتكاب ما في الإناء الموجود في بلدة قاصية واما إذا كان بطريق العموم فيصح الخطاب لعامة المكلفين ، لو وجد ملاك الخطاب أعني الابتلاء في عدة منهم كما في المقام ولذا التزمنا بوجوب الاجتناب في محله فيما إذا خرج أحد الإناءين من محل الابتلاء سواء كان قبل العلم أم بعده

ومما يؤيد ذلك ان الاستهجان المدعى لو صح في التكليفية ، لصح في الوضعيّة من الأحكام خصوصا على القول بمجعوليتها فيلزم ان لا يكون الخمر الواقع في أقاصي البلاد نجسا وان يكون الأحكام الوضعيّة نسبية وهو باطل بضرورة الفقه

(ومنها) توهم ان الخطاب لا يعقل ان يتوجه إلى العاجز والغافل ضرورة ان الخطاب للانبعاث ، ولا يعقل انبعاث العاجز ومثله ، (وأنت خبير) ان الخطاب الشخصي إلى العاجز ومثله ، لغو ممتنع صدوره من الملتفت وهذا بخلاف الخطابات الكلية المتوجهة إلى العناوين كالناس والمؤمنين فان مثل تلك الخطابات يصح من غير استهجان إذا كان فيهم من ينبعث عنها ولا يلزم ان تكون باعثة أو ممكنة البعث بالنسبة إلى جميعها في رفع الاستهجان كما تقدم (أضف) إليه ان الضرورة قائمة بان الأوامر الإلهية شاملة للعصاة لا بعنوانهم ، والمحققون على انها شاملة أيضا للكفار مع ان الخطاب الخصوصيّ إلى الكفار

٢٤٣

وكذا إلى العصاة المعلوم طغيانهم من أقبح المستهجنات ، بل غير ممكن لغرض الانبعاث فلو كان حكم الخطاب العام كالجزئي لوجب الالتزام بتقييد الخطابات بغيرهم وكذا الحال في الجاهل والغافل والساهي إذ لا يعقل تخصيص الخطاب في مرتبة الإنشاء بالعالم الملتفت وان كان يصح في مرتبة الفعلية كما سيأتي في المباحث العقلية.

(وبالجملة) لا يصح إخراجهم ولا يمكن توجه الخطاب الخصوصيّ إليهم ، وقد تقدم ان الجاهل وأمثاله معذورون في مخالفة الحكم الفعلي والسر فيما ذكرنا مضافا إلى ان الخطاب الواحد لا ينحل إلى خطابات ، هو ان الإرادة التشريعية ليست إرادة متعلقة بإتيان المكلف وانبعاثه نحو العمل وإلّا يلزم في الإرادة الإلهية عدم تفكيكها عنه ، وعدم إمكان العصيان بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم وفي مثله يراعى الصحة العقلائية ومعلوم انه لا تتوقف عندهم على صحة الانبعاث من كل أحد كما يظهر بالتأمل في القوانين العرفية

السادسة ان الأحكام الشرعية غير مقيدة بالقدرة لا شرعا ولا عقلا وان كان حكم العقل بالإطاعة والعصيان في صورة القدرة (توضيحه) ان الأحكام الشرعية الكلية عارية بحكم الإطلاق عن التقييد بالقدرة فتشمل الجاهل والعاجز بإطلاقها (وتوهم) ان الإرادة الاستعمالية وان تعلقت بالمطلق إلّا ان الجدية متعلقة بالمقيدة بالقدرة (مدفوع) بان التقييد اما من جانب الشرع أو من ناحية العقل وكلاهما فاسدان اما الأول فلأنه لو كانت مقيدة بها من الشرع لزم القول بجريان البراءة عند الشك في القدرة وهم لا يلتزمون به بل قائلون بالاحتياط مع الشك فيها ، ولزم أيضا جواز احداث ما يعذر به اختيارا ولا أظن التزامهم به ، (ومنه) يعلم عدم كشف التقييد الشرعي عقلا ، على ان ذلك لا يجامع ما أجمعوا عليه من بطلان اختصاص الأحكام بالعالمين لأن التفكيك بين العلم والقدرة غير واضح ، إذ لو كشف العقل عن التقييد بالقدرة شرعا فلا بدّ وان يكشف عن التقييد بالعلم أيضا لأن مناط التقييد واحد وهو قبح خطاب العاجز والجاهل (واما الثاني) أعني تقييد العقل مستقلا فلان تصرف العقل بالتقييد في حكم الغير وإرادته مع كون المشرع غيره ، باطل إذ لا معنى ان يتصرف شخص في حكم غيره (والحاصل) ان تصرفه في الأدلة لا يرجع إلى محصل بل تصرف العقل في إرادة المولى أو جعله ، لا معنى معقول له إذ التقييد والتصرف لا يمكن إلّا للجاعل لا لغيره نعم يخص للعقل حكم مقام الإطاعة والعصيان ، وتشخيص ان مخالفة الحكم

٢٤٤

في أي مورد توجب استحقاق العقوبة وفي أي مورد لا توجبه وليس للعقل الا الحكم بان الجاهل والعاجز ونظيرهما معذورون في ترك الواجب أو إتيان الحرام من غير تصرف في الدليل

(فظهر) ان ما يطلب من العقل لإنقاذ الجهال والعجزة عن لهيب النار يحصل بحكمه بان هؤلاء معذورون في ترك الامتثال ، ولا حاجة معه إلى التقييد لو لم نقل انه محال ، والّذي أوقعهم فيه هو توهم قبح الخطاب إليهم غافلا عن ان الملاك في الأحكام الكلية ، غير الجزئية والشخصية كما نبهنا عليه

(فان قلت) لا بأس في خطاب العاصي بشخصه لكن لا بداعي الانبعاث عن البعث بل بداعي إتمام الحجة عليه ليهلك من هلك عن بينة ، (قلت) ما هو موضوع الاحتجاج من الموالي على العبيد هو صدور البعث عنهم بداعي انبعاثهم ، واما البعث لا بهذا الداعي فليس العقل حاكما بلزوم امتثاله كما لو فرضنا ان العبد اطلع على ان داعيه هو الامتحان وكشف الحال.

السابعة ان الأمر بكل من الضدين امر بالمقدور الممكن والّذي يكون غير مقدور هو جمع المكلف بين متعلقيهما في الإتيان وهو غير متعلق للتكليف و (توضيحه) انه إذا قامت الحجة في أول الزوال على وجوب الصلاة وقامت حجة أخرى على وجوب الإزالة عن المسجد ، فكل واحد حجة في مفاده مستقلا لا في الجمع بينهما ، وليس قيام الحجتين على الضدين الا كقيامها على الأمرين المتوافقين غير المتزاحمين ، في ان كل واحد حجة في مفاده لا في الجمع بينهما وكل واحد يدعو إلى إتيان متعلقه لا إلى الجمع والّذي صدر من الأمر على نحو القانون ، هو الأمر بهذا والبعث إلى آخر ، ومجموع الأمرين ليس موجودا على حدة والأمر بالجميع أو المجموع غير صادر من المولى وقد تقدم ان الأمر لا يتعلق إلّا بنفس الطبائع المطلقة من غير نظر إلى الخصوصيات والحالات الطارية وجهات التزاحم وعلاجه ، ومعنى إطلاقها ان المتعلق تمام الموضوع بلا دخالة قيد ، لا ان معناه انه المطلوب سواء اجتمع مع هذا أم لا ، إذ كل ذلك خارج من محط الإطلاق

وقد نبهنا فلا تنسى ، ان توارد الأمرين على موضوعين متضادين مع ان الوقت الواحد غير واف الا بواحد منهما ، انما يقبح لو كان الخطابان شخصيين واما الخطاب القانوني الّذي

٢٤٥

يختلف فيه حالات الأشخاص ، فرب مكلف لا يصادف أول الزوال الا موضوعا واحدا وهو الصلاة وربما يصادف موضوعين فيصح توارد الأمرين على عامة المكلفين ومنهم الشخص الواقف امام المتزاحمين ولا يستهجن ، والّذي يحكم به العقل هو ان العبد لا بد ان يتمحل لإجابة الأمرين على نحو لو خالف واحدا منهما لعدم سعة الوقت ، لعد معذورا إذا عرفت هذه المقدمات

فنقول ان متعلقي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة وقد يكون أحدهما أهم فعلى الأول لا إشكال في حكم العقل بالتخيير بمعنى ان العقل يرى ان المكلف مخير في إتيان أيهما شاء ، فإذا اشتغل بأحدهما يكون في مخالفة الأمر الآخر معذور عقلا ، من غير ان يكون تقييدا أو اشتراطا في التكليف والمكلف به ومع عدم اشتغاله بذلك لا يكون معذورا في ترك واحد منهما ، فانه قادر بإتيان كل واحد منهما ، فترك كل واحد يكون بلا عذر فان العذر عدم القدرة والفرض انه قادر بكل منهما وانما يصير عاجزا إذا اشتغل بإتيان أحدهما ، ومعه يعد معذورا في ترك الآخر واما مع عدم اشتغاله به فلا يكون معذورا في ترك شيء منهما ، وليس الجمع بمكلف به حتى يقال انه غير قادر عليه

(وبعبارة أوضح) ان العبد لو سمع دعوة العقل بصرف القدرة في واحد من الغريقين وأنقذ واحدا منهما ، فقد عجز عن إنقاذ الآخر بلا اختيار فيقبح العقاب على ترك هذا الأمر الفعلي الجدي فيثاب لأجل إنقاذ الآخر ، وان تخلف عن حكم العقل ولم ينقذ واحدا منهما استحق عقوبتين لأنه ترك كل واحد من الأمرين بلا عذر ويقال لم تركت هذا بلا عذر ، ثم لم تركت الآخر كذلك ، (فان قلت) ليس هنا إلّا قدرة واجدة وهو يستدعى تكليفا واحدا ، وجزاء مخالفة التكليف الواحد ، عقاب فارد (قلت) كأنك نسيت ما حررناه في المقدمات لأن البحث في الأحكام القانونية ، والتكليف فيها لم يتعلق بافراد المردد ، ولا بالجمع حتى يستلزم التكليف بالمحال ، والمفروض ان كل واحد من الأمرين تام في الباعثية ، وليس ناظرا إلى حال اجتماعه مع الآخر لما عرفت ان التزاحم وعلاجه متأخران عن رتبة الجعل والفعلية ، (فحينئذ) كل واحد يقتضى تحقق متعلقه وإيجاده في الخارج ، إلّا ان يظهر من العبد عذر في ترك امتثاله فإذا صرف قدرته في واحد منهما فقد حقق دعوته بالامتثال ، وترك دعوة الآخر عن عذر واما إذا لم يصرف قدرته في شيء منهما فقد ترك دعوة كل واحد بلا عذر فيستحق عقابين

٢٤٦

(ويترتب على) ذلك انه لو ترك واشتغل بفعل محرم ، لاستحق ثلث عقوبات لملاك العصيان في كل واحد

(واما إذا كان) أحدهما أهم ، فان اشتغل بإتيان الأهم فهو معذور في ترك المهم لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضده بحكم العقل وان اشتغل بالمهم فقد أتى بالمأمور به الفعلي لكن لا يكون معذورا في ترك الأهم فيثاب بإتيان المهم ، ويعاقب بترك الأهم (وبالجملة) ان العقل يحكم بصرف القدرة في امتثال الأهم كي يكون معذورا في ترك المهم ولو عكس لاستحق عقوبة على الأهم لأنه تركه بلا عذر ولكنه يثاب على المهم لإتيانه ولو تركهما لاستحق عقوبتين ولو اشتغل بمحرم لاستحق ثلاثة عقوبات (فظهر) مما قدمنا امران (الأول) ان الأهم والمهم نظير المتساويين في ان كل واحد مأمور به في عرض الآخر ، وهذان الأمران العرضيان ، فعليان متعلقان على عنوانين كليين من غير تعرض لهما لحال التزاحم وعجز المكلف ، إذ المطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الأمرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعا ولا عقلا ، بل تلك المطاردة لا توجب عقلا الا المعذورية العقلية في ترك أحد التكليفين حال الاشتغال بالآخر في المتساويين ، وفي ترك المهم حال اشتغاله بالأهم و (الثاني) ان الأمر بالشيء لا يقتضى عدم الأمر بضده في التكاليف القانونية كما في ما نحن فيه

وأظن ان الّذي أوقع الأساتذة فيما أوقع حيث زعموا ان لازم ذلك هو الأمر بالضدين ، هو ان كل مكلف له خطاب خاص وإرادة مستقلة من المولى لامتثاله فجعلوا الخطاب شخصيا ورتبوا عليه ما رتبوا ، ذهولا عن ان وضع التكاليف القانونية غير هذا ، بل ليس هنا إلا خطاب واحد متوجه إلى العنوان ، والخطاب الواحد بوحدانيته إذا وضع الحكم فيه على العنوان ، يكون حجة على المكلفين ما دامت الشريعة قائمة ، ويحتج به الموالي على العبيد إذا دخلوا تحت العنوان واجتمع سائر الشرائط من العقل والبلوغ وغيرهما من دون ان يكون لكل واحد خطابا وإرادة

فان قلت ان الإهمال في عالم الثبوت غير معقول (فحينئذ) عجز المكلف والمطاردة والتزاحم وان كانت بوجودها متأخرة عن رتبة الجعل والتشريع إلّا ان الحاكم يمكن ان يتصور حين إرادة التشريع ، تزاحم هذا الحكم الكلي مع الكلي الآخر إذا أراد المكلف

٢٤٧

إيجادهما في الخارج و (بالجملة) يمكن ان يتصور تزاحم الحكمين الكليين في مقام الامتثال ، (فحينئذ) نسأل ان الإرادة المتعلقة على هذا العنوان هل باقية على سعتها وعمومها بالنسبة إلى حال التزاحم التي فرضنا ان المولى توجه إلى حال التزاحم حين تعلق الإرادة ، أولا ، فعلى الأول يلزم تعلق الإرادة التشريعية بشيء محال وعلى الثاني يلزم التقييد في جانب الإرادة ولازمه التقييد في جانب الخطاب وليس الكلام في مفاد اللفظ حتى يقال ان الإطلاق ليس معناه التسوية في جميع الحالات بل في الإرادة المولوية التي لا تقبل الإجمال والإهمال

قلت ليس معنى عدم الإهمال الثبوتي ان الحاكم حين الحكم يلاحظ جميع الحالات الطارية على التكليف والمكلف ، ويقايس التكليف مع ساير تكاليفه جمعا ومزاحمة ، ضرورة بطلان ذلك بل المراد من عدم الإهمال هو ان الأمر بحسب اللب اما ان تتعلق إرادته وحكمه بنفس الطبيعة بلا قيد فتكون الطبيعة بنفسها تمام الموضوع ، واما ان تتعلق بها مع قيد أو قيود فتكون موضوعها هو المقيد ، والإهمال انما هو في مقام البيان لا في مقام الواقع واما الحالات الطارية للمكلف أو للتكليف بعد جعله ، فهي ليست دخيلة في الموضوع حتى يتقيد بها أو يكون الحاكم ناظرا إليها ، فالحاكم في مقام الحكم لا ينظر إلّا إلى موضوع حكمه وكل ما ، هو دخيل فيه لا غير (ثم) ان ما ذكرناه من النقض والإبرام حول الأحكام القانونية أو الإرادة المولوية انما هو بالنظر إلى القوانين العرفية المرسومة بين الموالي والعبيد والرعايا والسلاطين ، واما الأحكام الشرعية فهي بما انها مشتملة على زجر وبعث وان الاحتجاج مطلقا امر عقلائي فلا بد ان يسلك فيها في قضية الاحتجاج ما سلكناه في العرفيات (واما الإرادة) المولوية فيه سبحانه وكيفية تعلقها بالأشياء تكوينا كان أو تشريعا فلا يصل إليه أفهامنا فلا بد من الاستمداد منه عزوجل وقد حقق عند أهله ان التشريع داخل في النظام الإلهي الكلي وتعلق الإرادة الأزلية به نحو تعلقها بالنظام التكويني والتفصيل يطلب من مظانه

الرابع من الوجوه المحررة لرد دعوى شيخنا البهائي ما سلكه أساطين العلم آخذين بنيانه من الشيخ الأكبر كاشف الغطاء وان كان لبه موجودا في كلمات المحقق الثاني (قده) وقد بالغ مشاهير العصر في الفحص والتحقيق حوله ، وكل أوضحه

٢٤٨

ببيان خاص إلّا ان مغزى الغالب يرجع إلى ما أفاده السيد المجدد الشيرازي ، ونقحه بعده تلميذه الجليل السيد المحقق الفشاركي ، وأوضحه وفصله بعض أعاظم العصر بترتيب مقدمات وذكر أمور ونحن نذكر تلك المقدمات مع ما فيها من الأنظار

المقدمة الأولى ان المحذور انما ينشأ من إيجاب الجمع بين الضدين المستلزم للتكليف بما لا يطاق ولا بد لرفع هذا المحذور من سقوط ما هو موجب له لا غير ، فإذا كان الخطابان طوليين لا يلزم منه ذلك كما سيأتي (فحينئذ) يقع الكلام في ان الموجب لذلك هل هو نفس الخطابين حتى يسقطا أو إطلاقهما حتى يسقط إطلاق خطاب المهم فقط ويصير مشروطا بعصيان الأهم (ثم) قال والعجب من الشيخ الأنصاري مع إنكاره الترتب ذهب في تعارض الخبرين على السببية إلى ما يلزم منه الالتزام بخطابين مترتب كل منهما على عدم امتثال الآخر فليت شعري لو امتنع ترتب أحد الخطابين على عدم امتثال الآخر فهل ضم ترتب إلى مثله يوجب ارتفاع المحذور إلّا ان الاشتباه من الأساطين غير عزيز

أقول هذه المقدمة سيقت لبيان محط البحث ولا إشكال فيها من هذه الجهة إلّا ان رمى الشيخ الأعظم قدس‌سره بالترتب من الجانبين واستظهار ذلك من عبارته من الغرائب جدا نشأ ذلك من قلة التأمل في عبارته وإليك نصّ عبارته قال قدس‌سره بعد إيراد شبهة في وجوب الأخذ بأحد المتعارضين بناء على السببية (ان الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما ليس لأجل شمول اللفظ لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع ، لأن ذلك غير ممكن كما تقدم وجهه في بيان الشبهة لكن لما كان امتثال التكليف بكل منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطا بالقدرة ، والمفروض ان كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر فكل منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال ، والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة وهذا مما يحكم به بديهة العقل) انتهى وأنت خبير بأنه أجنبي عن الترتب فضلا عن الترتبين اللذين يحكم العقل بامتناعهما للزوم تقدم الشيء على نفسه ، إذ الترتب باعتبار انه عبارة عن تقييد امر المهم بعصيان الأهم ، تقييد في مقام التكليف وعلاج في مقام الأمر ولكن التقييد بعدم الإتيان ، علاج في مقام الامتثال والإطاعة ، بمعنى حكم العقل بصرف القدرة في واحد منهما على القول بالسببية وهو تصرف في مقام الامتثال

٢٤٩

بلا تصرف في نفس الأدلة ، كما عرفت تفصيله منا والتقييد في هذا المقام لحكم عقلي ليس للشارع تصرف فيه وتعبد بالنسبة إليه وأين هذا من الترتب المتقوم باشتراط التكليف بعصيان الآخر في مقام الجعل (أضف إلى ذلك) انا سلمنا كون كلامه ناظرا إلى التصرف في نفس الأدلة ، إلّا ان الترتب متقوم باشتراط التكليف بعصيان الآخر وما ذكره الشيخ الأعظم متقوم بتقييد كل واحد من الدليلين بعدم إتيان الآخر وكم فرق بينهما لأن (الأول) مناط الترتب لأن الأمر المتعلق بالمهم يتأخر عن شرطه وهو يتأخر عن نفس الأمر المتعلق بالأهم ، والثاني مناط التخيير ونتيجته ، كما لا يخفى والعجب انه خلط بينهما إلّا ان الاشتباه من الأعاظم غير عزيز فافهم

المقدمة الثانية ان الواجب المشروط لا يخرج عما هو عليه بعد حصول شرطه لأن شرائط التكليف كلها ترجع إلى قيود الموضوع ، والحكم المجعول على موضوعه لا ينقلب عما هو عليه إذ لا يخرج الموضوع عن كونه موضوعا ، والسر فيه ان القضايا الشرعية على نهج القضايا الحقيقية لا الخارجية فالقائل بالانقلاب قوله مساوق للقول بان الموضوع بعد وجوده ينسلخ عن موضوعيته ولا يبعد ان يكون ذلك من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل وعلة التشريع ، بتوهم ان شرط التكليف خارج من موضوعه بل هو من قبيل الداعي للحكم على موضوعه فبعد وجوده يتعلق الحكم بموضوعه ولا يبقى للاشتراط مجال وقد بينا ان كون شرط الحكم من قبيل دواعي الجعل يبتنى على ان تكون القضايا المتكفلة لبيان الأحكام الشرعية من قبيل الاخبار من إنشاء تكاليف عديدة يتعلق كل واحد منها بمكلف خاص عند تحقق شرطه والمحقق الخراسانيّ مع اعترافه برجوع الشرط إلى الموضوع ذهب في جملة من الموارد إلى كون الشرط من علل للتشريع وهذا الخلط وقع في جملة من المباحث منها هذا المقام فانه توهم فيه انه بعد عصيان الأمر بالأهم يكون الأمر بالمهم مطلقا انتهى بتلخيص (قلت) وفيه اما (أولا) فان بقاء الواجب المشروط على ما هو عليه بعد حصول شرطه لا يحتاج إلى ما أتعب به نفسه الشريفة لأنك قد عرفت ان القيود بحسب نفس الأمر على قسمين (قسم) يرجع إلى المادة والمتعلق بحيث لا يعقل إرجاعه إلى الحكم والإرادة كما إذا تعلق بالصلاة في المسجد غرض مطلق ، فالوجوب المطلق توجه إلى الصلاة في المسجد فيجب على العبد بناء المسجد والصلاة فيه ، (وقسم) يرجع

٢٥٠

إلى الوجوب والحكم ولا يعقل عكسه كما إذا لم يتعلق بإكرام الضيف غرض معتد به بل ربما يبغض الضيف فضلا عن إكرامه إلّا انه إذا ألم به ونزل في بيته يتعلق به الغرض ويحكم على عبيده بان يكرموه إذا نزل ، فالقيد (ح) قيد لنفس التكليف ، لا يعقل إرجاعه إلى المادة لأنه يستلزم ان يتعلق بإكرامه إرادة مطلقة فيجب عليهم تحصيل الضيف وإنزال الضيف في بيته وقد فصلنا ذلك في محله (فحينئذ) فالقائل بصيرورة الحكم المشروط مطلقا اما ان يقول بتبدل الإرادة إلى أخرى وذلك مستحيل في حقه تعالى لاستلزامه ، التغير في ذاته ، سبحانه تعالى عن وصمة الحدوث والتغير بل يمتنع في حق غيره لأنها بسيطة والبسائط لا يمكن ان يدخلها التبدل واما ان يقول بتعلق إرادة جديدة بالحكم رأسا وهو أيضا مستحيل لامتناع تجدد الأحوال فيه تعالى ، مع انه خروج من الفرض أعني صيرورة المشروط مطلقا لأنه تجدد إرادة ، لا صيرورة إرادة مشروطة إرادة مطلقة ، واما ان يقول بتبدل إرادة التشريع بالأخرى وذلك أيضا مستحيل لما ذكر ، ولانتهاء أمد التشريع بتحققه فلا يبقى إرادة تشريعية حتى تتبدل لو فرض جواز هذه الأمور في حقه تعالى (وتوهم) ان معنى الصيرورة هو تبدل الحكم المنشأ على نحو المشروط ، إلى الإطلاق (باطل) لأن ما شرع وان كان امرا اعتباريا إلّا انه لا ينقلب عما هو عليه إلّا باعتبار جديد وهو إنشاء حكم آخر مطلق بعد حصول المشروط لكنه خلاف المفروض ، (وبالجملة) خروج الحكم المجعول عما هو عليه لا معنى معقول له (نعم) قبل تحقق الشرط لم يأن آن امتثاله وبعده يحضر وقت امتثاله ويصير حجة على العبد مع كونه مشروطا (فظهر) ان ما ذكره قدس‌سره من إرجاع شرائط الحكم إلى الموضوع تبعيد للمسافة بلا توقف للمطلوب عليه

(وثانيا) ان إرجاع جميع الشروط إلى الموضوع يستلزم إلغاء ما هو الدائر بين العقلاء من إنشاء الحكم على قسمين بل ظهور الإرادة على ضربين ، وقد عرفت ان اختلاف الواجب المشروط والمطلق لبي واقعي ثبوتي ، فلا يجوز الإرجاع بعد كون كل واحد معتبرا لدى العرف بل بينهما اختلاف في الآثار المطلوبة منهما في باب الأحكام ، فعلى ما ذكره يتفاوت الرّأي في بقاء الموضوع وعدمه على القول بشرطية بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب وان كان ما ذكروا في ذلك المقام عن شرطية بقائه خلاف التحقيق عندنا كما سيوافيك بإذنه تعالى لأن إرجاع الشرط إلى الموضوع وجعله من قيوده يوجب التفاوت في بقاء الموضوع بخلاف ما إذا قلنا

٢٥١

بعدم إرجاع الشرط إلى الموضوع وجعلناه من قيود الحكم فيختلف الأنظار في جريانه وعدمه وسيوافيك ان القيود الدخيلة في جعل الحكم كليا ، كلها من مقومات الموضوع لا من حالاته فارتقب

(فان قلت) ان لازم ذلك كون كل من السبب والشرط امرا تكوينيا ، مؤثرا في المسبب والمشروط تكوينا (وعليه) فيخرج زمام أمرهما من يد الشارع وهو واضح الفساد (قلت) ان جعل السببية والشرطية تشريعا لشيء ، وان شئت قلت ان اعتبار السببية والشرطية لشيء ، لا يوجب انقلاب التشريع إلى التكوين ولا خروج الأمر من يد الجاعل كما هو واضح لأن الاعتبار وضعه ورفعه ونسخه وإبقاؤه في يده ، نعم لو اعتبر الشيء سببا أو شرطا لا يجوز له التخلف عما جعل ، وإلّا يلزم اللغوية في الاعتبار اللهم إذا أراد نسخه وهو خلاف المفروض ، (والحاصل) انه لا وجه لرفع اليد عن الظواهر بغير دليل هذا بناء على جعل السببية والشرطية واما بناء على جعل الحكم مترتبا على شيء فالامر أوضح

(وثالثا) ان ما ذكره من توهم الخلط بين موضوع الحكم وبين داعي الجعل وعلة التشريع بتوهم ان شرائط التكليف من قبيل الداعي لجعل الحكم واضح البطلان لأن الأمر ليس منحصرا في كون الشيء من قيود الموضوع أعني المكلف البالغ العاقل أو من دواعي الجعل التي هي غايات التشريع وجعل الحكم بل هنا امر ثالث أعني كون الشيء من قيود المتعلق أعني نفس الصلاة كما مثلناه من إيجاب الصلاة في المسجد على عبيده ، (وامر رابع) وهو ان يكون من شروط الحكم والمجعول كما في المثال الثاني إذا جاءك الضيف أكرمه (والحاصل) ان شرائط التكليف غير قيود الموضوع وغير دواعي الجعل وليست من قيود المتعلق بل من شرائط المجعول ، وهو رحمه‌الله خلط بين شرائط المجعول ودواعي الجعل مع انهما مفترقان لأن دواعي الجعل هي غايات جعل الأحكام وضعية كانت أو تكليفية ، مطلقة كانت أو مشروطة وشرائط التكليف أي المجعول الاعتباري ما يكون الحكم معلقا عليه ومنوطا به وهي غير مربوطة بقيود الموضوع ودواعي الجعل وقيود المتعلق ، بل إرجاع الشرائط إلى قيود الموضوع يرجع إلى إنكار الواجب المشروط (ثم) ان كون القضايا حقيقية لا خارجية أجنبي عن المطلب كما ان القول بالانقلاب أجنبي عن انسلاخ الموضوع عن الموضوعية كما يظهر بالتأمل والتطويل موجب للملال.

٢٥٢

المقدمة الثالثة التي هي أهم المقدمات عندنا في استنباط الترتب وعليها يدور رحاه ، وان ظن القائل انها غير مهمة وهي ان المضيق على قسمين (قسم) أخذ فيه الشيء شرطا للتكليف بلحاظ حال الانقضاء كالقصاص والحدود فان القصاص مترتب على مضي القتل وانقضائه ولو آناً ما ، و (قسم) أخذ فيه الشيء شرطا بلحاظ حال وجوده فيثبت التكليف مقارنا لوجود الشرط ، ولا يتوقف ثبوته على انقضائه ، بل يتحد زمان وجود الشرط وزمان التكليف وزمان الامتثال كأغلب الواجبات المضيقة كالصوم ففي مثله يستحيل تخلف التكليف عن الشرط ولو آناً ما لما عرفت من رجوع كل شرط إلى الموضوع ونسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول فلازم التخلف اما عدم موضوعية ما فرض موضوعا للحكم أو تخلف الحكم عن موضوعه وكذا يستحيل تخلف زمان الامتثال عن التكليف لأن التكليف يقتضى الامتثال فنسبة اقتضاء التكليف للحركة كنسبة اقتضاء حركة اليد لحركة المفتاح (نعم) الفرق بين المقام والعلل التكوينية هو دخل العلم والإرادة في الامتثال دون العلل التكوينية (وبالجملة) مقتضى البرهان هو ان لا يتخلف التكليف عن الشرط ولا الامتثال عن التكليف زمانا بل يتقارنان في الزمان وان كان بينهما تقدم وتأخر رتبي ، إلى ان قال إذا عرفت ذلك ظهر لك دفع بعض الإشكالات في المقام (منها) انه يتوقف صحة الخطاب الترتبي على صحة الواجب المعلق وأجاب عنه بان ذلك مبنى على بناء فاسد وهو لزوم تأخر زمان الامتثال عن الأمر وقد عرفت فساده (ومنها) ان خطاب المهم لو كان مشروطا بنفس عصيان الأهم لزم خروج المقام عن الترتب ولو كان مشروطا بعنوان انتزاعي أي كون المكلف ممن يعصى ، يلزم الأمر بالجمع بين الضدين وهو محال وأجاب عنه بأنا نختار الشق الأول وتوهم استلزامه تأخر طلب المهم عن عصيان الأمر بالأهم زمانا انما يتم على القول بلزوم تأخر الخطاب عن شرطه واما على ما حققناه من مقارنة الخطاب بوجود شرطه فلا بد من فعلية خطاب المهم في زمان عصيان خطاب الأهم بلا تقدم وتأخر بينهما خارجا (ونختار) الشق الثاني ولا يلزم منه طلب الجمع بين الضدين بداهة ان عنوان التعقب بالمعصية انما ينتزع من المكلف بلحاظ تحقق عصيانه في ظرفه المتأخر فإذا فرض وجود المعصية في ظرفها وكون التعقيب بها شرطا لخطاب المهم فيكون الحال فيه بعينه الحال في فرض كون نفس العصيان شرطا لطلب المهم وبالجملة فرض تحقق امتثال طلب الأهم في ظرفه هادم لشرط

٢٥٣

خطاب المهم فكيف يمكن ان يكون المهم مطلوبا في ظرف وجود الأهم ليرجع الأمر إلى طلب الجمع بين الضدين انتهى.

(أقول) ما ذكره قدس‌سره من عدم تأخر الحكم عن شرطه زمانا متين جدا سواء جعلت الشرائط من قيود الموضوع أم لا ، ولو فرضنا صحة مدعاه الثاني أيضا وهي عدم إمكان تخلف البعث عن اقتضاء الانبعاث زمانا وأنكرنا الواجب التعليقي لما كان يجديه أصلا.

إلّا ان ما أجاب به عن الإشكال الواقع في كلامه من ان خطاب المهم لو كان مشروطا بنفس عصيان الأهم لزم خروج المقام عن الترتب إلخ لا يخلو عن خلط (وتوضيحه) ان كل شرط انما يتقدم رتبة على مشروطه في ظرف تحققه لا حال عدمه وبعبارة أخرى ان الشرط بوجوده يتقدم على المشروط تقدما رتبيا ، فقبل وجود الشرط لا يمكن تحقق المشروط بالضرورة (فحينئذ) يلاحظ فان كان الشرط امرا زمانيا فلا بد من تحققه في زمانه حتى يتحقق بعده مشروطه بلا فترة بينهما ، وكذا لو كان غير زماني ، فإذا فرضنا واجبين مضيقين أحدهما أهم كإنقاذ الابن في أول الزوال وإنقاذ العم في أوله أيضا ويكون ظرف إنقاذ كل منهما ساعة بلا نقيصة ولا زيادة ، فمع امر المولى بإنقاذ الابن مطلقا لا يعقل تعلق امره بإنقاذ العم مشروطا بعصيان امر الأهم لأن العصيان عبارة عن ترك المأمور به بلا عذر في مقدار من الوقت يتعذر عليه الإتيان بعد ، ولا محالة يكون ذلك في زمان ولا يعقل ان يكون الترك في غير الزمان محققا للمعصية لعدم تحقق الفوت به ، ففوت الأهم المحقق لشرط المهم لا يتحقق إلّا بمضي زمان لا يتمكن المكلف بعده من إطاعة امره ، ومضى هذا الزمان كما انه محقق فوت الأمم محقق فوت المهم أيضا ، فلا يعقل تعلق الأمر بالمهم في ظرف فوته ولو فرض الإتيان به قبل عصيان الأهم يكون بلا امر ، وهو خلاف مقصود القائل بالترتب (وبالجملة) قد وقع الخلط في كلامه بين عدم تخلف الشرط عن التكليف وعدم تخلف التكليف عن اقتضاء البعث ، وبين لزوم كون الشرط بوجوده مقدما على المشروط وظن ان التقدم الرتبي يدفع الإشكال غفلة عن ان العصيان ما لم يتحقق لا يعقل تعلق الأمر بالمهم لامتناع تحقق المشروط قبل شرطه وبتحققه يفوت وقتي الأهم والمهم في المضيقين ولو فرض زمان إطاعة المهم بعد زمان عصيان الأهم يخرج عن فرض الترتب.

والعجب انه تنبه للإشكال وتخيل ان التأخر الرتبي يدفعه مع انه لا يندفع إلّا

٢٥٤

بصيرورة العصيان غير زماني ، على انه لا معنى للعصيان الرتبي لأن ترك المأمور به إلى ان يفوته ويتعذر عليه لا يكون إلّا في الزمان ويعد من الأمور الزمانية لا الرتب العقلية كما هو واضح

وبذلك ظهر لك ما أو عزنا إليه من ان إصلاح هذه المقدمة من أهم المقدمات وان ظنه المستدل غير مهم وإلّا فما ذكرنا من الإشكال يهدم أساس الترتب سواء كان الواجبان مضيقين أم مضيقا وموسعا (اما الأول) فقد عرفت واما الثاني فبعين ما ذكرناه لأنه إذا فرض كون أحدهما موسعا لكن يكون أول زمانه أول الزوال الّذي هو ظرف إتيان المضيق (فحينئذ) لا يعقل تعلق الأمر بالموسع أول الزوال مشروطا بعصيان المضيق لما عرفت من ان العصيان عبارة عن ترك المأمور به في مقدار من الزمان الّذي يفوت بمضيه الأهم ، فلا بد من تعلق الأمر بالموسع بعد مضي زمان يتحقق به العصيان ، وهو يهدم أساس الترتب وكذا الحال لو فرض ان العصيان آني الوجود لأنه قبل مضي هذا الآن لا يتحقق شرط المهم ، فيكون ظرف تحقق امر الأهم فقط وبتحقق هذا الآن سقط امر الأهم بحصول العصيان ومضى أمد اقتضائه ولا يعقل بقائه على فعليته بعد عصيانه ومضى وقته (فظهر) ان تفويت متعلق الأهم في آن ، متقدم على تعلق امر المهم ولكن سقوط امر الأهم وثبوت امر المهم في رتبة واحدة أو آن واحد فأين اجتماعهما

وان شئت قلت ان اجتماعهما مستلزم لتقدم المشروط على شرطه أو بقاء فعلية الأمر بعد عصيانه ومضى وقته وكلاهما باطلان (هذا كله) إذا كان العصيان بوجوده الخارجي شرطا كما أصر به المستدل واما إذا كان العنوان الانتزاعي كالذي يعصى ، شرطا فلا إشكال في لزوم مفسدة طلب الجمع لأن العنوان الانتزاعي ثابت للمكلف من أول الأمر فأول زمان ظرف الامتثال ، يكون امر المهم فعليا لحصول شرطه ولا يكون امر الأهم ساقطا لعدم الامتثال وعدم مضي وقته فلا محالة يتوجه إلى المكلف امران فعليان (أحدهما) بعنوان الّذي يعصى فيأمره بإنقاذ العم في أول الزوال (وثانيهما) بعنوان آخر فيأمره بإنقاذ الابن فيه ، ومجرد أخذ العنوان الانتزاعي من العاصي بلحاظ ظرف العصيان لا يدفع التضاد لأن ملاك دفع التضاد بين امر المهم المشروط بالعصيان وامر الأهم ليس إلّا إمكان اجتماعهما في آن واحد لا كونهما في رتبتين كما زعمه المستدل وسيأتي فساده في المقدمة التالية و

٢٥٥

عند التعرض لبعض أمثلة الترتب فارتقب

المقدمة الرابعة وقد عدها المستدل من أهم المقدمات وذكر انه عليها يبتنى أساس الترتب وسيتضح عدم دخالتها في رفع الإشكال ومحصلها ان انحفاظ كل خطاب بالنسبة إلى ما يتصور من التقادير على أنحاء (الأول) ما يكون انحفاظه بالإطلاق والتقييد اللحاظي ، وذلك بالنسبة إلى كل تقدير يمكن لحاظه عند الخطاب وهي التقادير المتصورة في المتعلق مع قطع النّظر عن الخطاب كقيام زيد وقعوده ، حيث يكون الأمر بالصلاة محفوظا عنده بالإطلاق اللحاظي ، وكالوقت حيث يكون الأمر محفوظا معه بالتقييد اللحاظي ، (الثاني) ان يكون الانحفاظ بنتيجة الإطلاق والتقييد كالتقادير التي تلحق المتعلق بعد تعلق الخطاب به كالجهل والعلم بالخطاب فلا يمكن فيها الإطلاق والتقييد اللحاظي بل لا بد اما من نتيجة الإطلاق كما في العلم والجهل بالحكم بعد قيام الضرورة والأدلة على اشتراك العالم والجاهل بالاحكام وامتناع الإهمال الثبوتي ، واما ان يكون الملاك محفوظا في تقدير خاص فلا بد من نتيجة التقييد (الثالث) ما كان انحفاظ الخطاب لا بالإطلاق والتقييد اللحاظي ، ولا بنتيجة الإطلاق والتقييد ، وذلك في التقدير الّذي يقتضيه نفس الخطاب وهو الفعل والترك ، حيث يكون انحفاظ الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه لا بإطلاقه ، لحاظا أو نتيجة ، إذ لا يعقل الإطلاق والتقييد بالنسبة إليهما بل يؤخذ المتعلق معرى عن حيثيتهما لأنه مع التقييد بالفعل يلزم طلب الحاصل ومع التقييد بالترك يلزم طلب الجمع بين النقيضين ومع الإطلاق كلا المحذورين فليس في الخطاب بالنسبة إليهما إطلاق وتقييد مطلقا ، ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظا بالاقتضاء الذاتي في كلتا الحالتين ما لم يتحقق العصيان والطاعة والفرق بين هذا القسم والسابقين من وجهين

(الأول) ان نسبة تلك التقادير السابقة إلى الخطاب ، نسبة العلة إلى المعلول لمكان رجوعها إلى قيود الموضوع وهي تتقدم على الحكم تقدم العلة على المعلول والإطلاق أيضا يجري مجرى العلة من حيث ان الإطلاق والتقييد في رتبة واحدة فالإطلاق في رتبة علة الحكم ، وهذا بخلاف تقديري فعل المتعلق وتركه فان هذا التقدير معلول الخطاب لأن الخطاب يقتضى فعل المتعلق ويمنع تركه (الثاني) ان الخطاب في التقادير السابقة يكون

٢٥٦

متعرضا لبيان امر آخر غير تلك التقادير غايته انه تعرض عند وجودها و (هذا) بخلاف تقديري الفعل والترك فان الخطاب بنفسه متكفل لبيان هذا التقدير حيث انه يقتضى فعل المتعلق وعدم تركه

إذا عرفت ذلك فاعلم انه يترتب على ما ذكرنا طولية الخطابين وذلك لأن خطاب الأهم يكون متعرضا لموضوع خطاب المهم ومقتضيا لهدمه ورفعه تشريعا لأن موضوع خطاب المهم هو عصيان خطاب الأهم فالأهم يقتضى طرد موضوع المهم ، والمهم لا يتعرض لموضوعه وليس بينهما مطاردة وليسا في رتبة واحدة بل خطاب الأهم مقدم على خطاب المهم برتبتين أو ثلث ومع هذا الاختلاف في الرتبة لا يعقل عرضيتهما انتهى

أقول لا يذهب عليك ان في هذه المقدمة مواقع للنظر نذكر مهماتها

الأول ان تقسيم الإطلاق والتقييد إلى اللحاظي وما هو نتيجتهما والفرق بينهما بان نتيجة الإطلاق لا بد في إثباتها من دليل آخر ، (مما لا طائل تحته) غير انه تكثير في التقسيم والاصطلاح ، وتشويش للأذهان ، إذ الإطلاق كما في اللغة والعرف هو المسترسل من القيد مقابل التقييد وفي الاصطلاح جعل طبيعة مثلا متعلقا أو موضوعا للحكم من غير تقييدها بقيد ، وهو لا يتقوم باللحاظ أو بإرسال الطبيعة سارية في المصاديق بل يتقوم جعلها موضوعا للحكم بلا قيد و (بذلك) يبطل تقسيمه إلى ما يمكن لحاظه عند الخطاب ، وإلى ما لا يمكن ، إذ قد عرفت ان اللحاظ وإمكانه امر زائد على الإطلاق ، لأن محور الاحتجاج بين الموالي والعبيد هو جعل الشيء موضوعا للحكم بلا قيد من غير توجه إلى ان المقنن أو الحاكم أرسل الموضوع في المصاديق ، ولاحظه بالنسبة إلى التقادير المتصورة في المتعلق مع قطع النّظر عن الخطاب ، أولا بل لحاظ الإرسال والتقادير على فرض إمكانه مضر بالإطلاق ، فالحكم في الإطلاق ليس الأعلى نفس الطبيعة بلا قيد ، ولا يكون الحاكم ناظرا الا إلى موضوع حكمه ، فلحاظ التقادير لو أمكن يهدم أساس الإطلاق

(وبعبارة أخرى) إذا قال القائل يجب على المظاهر عتق رقبة ولم يقيدها بشيء يحكم العقلاء بان تمام الموضوع للوجوب عتق الرقبة من غير دخالة شيء ويقال ان الظهار سبب لوجوب العتق من غير قيد ، فملاك الاحتجاج هو أخذ شيء سببا أو متعلقا أو موضوعا بلا قيد و (به يظهر) ان الاحتجاج به ليس لأجل انه من الدلالات اللفظية ، بل لأجل ان المتكلم

٢٥٧

بما ان بيده زمان البيان وهو عاقل مختار في وضع ما يطلبه ، ورفع ما لا يطلبه لا بد ان يكشف عن مقصوده ويصرح به ويجمع ما له دخل من قيوده فلو كان قيد دخيلا في غرضه لأتى به وبينه ، اما في ضمن هذا الدليل أو بدليل منفصل ، وحيث لم يأت به لا في ضمن هذا الدليل ولا بدليل آخر يحكم العقل بان ما وقع موضوعا ، تمام المطلوب لا بعضه ، فيصير من الدلالات العقلية وسيجيء في المطلق والمقيد زيادة توضيح لذلك بل لو سلم عدم إمكان التقييد بما يتأخر عن الحكم ، في هذا الحكم لا يضر ذلك بجواز التمسك بالإطلاق بعد إمكان بيان القيد بدليل آخر ، فلا نحتاج في تسوية العالم والجاهل في الأحكام إلى التمسك بالإجماع بل التمسك بإطلاق الأدلة كاف في إثبات المطلوب وليس الشرط إمكان بيانه في الخطاب الأول بل تمكن المولى من بيانه بأي خطاب شاء

(لا يقال) فرق بين ما يمكن التقييد به في اللفظ وبين غيره بان الأول إطلاق لفظي والآخر حالي (لأنا نقول) كأنك غفلت عن ان الإطلاق ليس من المفاهيم التي يدل عليها اللفظ حتى نجعله قسمين (أضف) إلى ذلك انه لا يضر بالمطلوب لجواز التمسك بالإطلاق الحالي لرفع احتمال القيد

(ثم) انك لو أحطت خبرا بما قدمناه في عدة مواضع خصوصا في تقييد مفاد الهيئة الّذي بعد من المعاني الحرفية حيث ذكرنا فيها ان امتناع التقييد فيها ممنوع وعلى فرض تسليمه انما هو في النظرة الأولى واما إذا كان بنظر مستأنف كما هو الحال في غالب القيود فلا بأس به ، تعلم هنا انه لا إشكال في إمكان النّظر المستأنف في الحكم المجعول في الكلام وتقييده بالعلم والجهل إذ لا فرق في قوله أعتق رقبة مؤمنة وأعتق رقبة معلومة الحكم في جواز التقييد بالنظر المستأنف نعم ما لا يمكن التقييد فيه مطلقا لا يجوز التمسك فيه بالإطلاق لأن التمسك لرفع القيد المحتمل وهو مع امتناعه غير محتمل ، لا لأجل ما توهم المستدل من ان الإطلاق مستلزم لفساد التقيدين يعنى فساد التقييد بالفعل والتقييد بالترك وفسادهما عبارة عن طلب الحاصل وطلب الجمع بين النقيضين ، ضرورة ان الإطلاق ليس الجمع بين التقييدين حتى يلزم ما ذكر ، بل عبارة عن عدم التقييد أمكن ذلك أولا ، غاية الأمر ما هو موضوع البحث في باب الإطلاق والتقييد وموضوع احتجاج العقلاء هو الإطلاق الّذي يمكن تقييده ولو منفصلا ، وبين الإطلاق والتقييد الكذائيين

٢٥٨

شبيه العدم والملكة وهذا لا ينافى ان يكون هنا إطلاق يكون النسبة بينه وبين التقييد تقابل الإيجاب والسلب فتبصر

الثاني ان ما تخيله في رفع غائلة إيجاب الجمع من كون امر الأهم والمهم في في رتبتين غير مجد أصلا ، إذ لو كفى تأخر خطاب المهم عن الأهم رتبة ، في رفع الغائلة مع اتحاد زمان فعليتهما ، لوجب ان يكفى مع اشتراط المهم بالإطاعة ، فانها كالعصيان من طوارئ امر الأهم ولو جعلت شرطا لصار قيدا للموضوع ويتقدم على امر المهم تقدم الموضوع على حكمه مع انه لا إشكال في انه يقتضى الجمع (فظهر) ان ما هو الدافع للغائلة هو سقوط امر الأهم بعصيانه ومضى وقته وعدم ثبوت امر المهم الا بعد سقوط الأهم ، لا ما تخيلوه من ترتب الأمرين (هذا) وللمقال تتمة سيوافيك عن قريب

الثالث ان العصيان لا يكون متأخرا رتبة عن الأمر لعدم ملاك التأخر الرتبي فيه فان التأخر الرتبي اما من ناحية العلية والمعلولية أو كون شيء جزءا للعلة أو جزءا للماهية أو شرطا للتأثير أو التأثر وأمثال ذلك وكلها مفقودة بالنسبة إلى العصيان (فان قلت) يمكن تقريب تأخر العصيان عن الأمر بوجهين (الأول) ان الإطاعة من العوارض أو الحالات اللاحقة للأمر ، فتتأخر عنه بداهة لأنها عبارة عن الانبعاث عن البعث ولا إشكال في تأخر الانبعاث عن البعث تأخر المعلول عن علته أو جزئها ، بناء على ان الأمر ليس علة تامة للانبعاث بل العلة هو مشاركا مع ملكات آخر من الخوف والطمع ، (وعليه) فالعصيان وان لم يكن نقيضا للإطاعة لأن نقيض كل شيء رفعه إلّا انه لازم للنقيض أو مصداق له ، إذ نقيض الطاعة ، والامتثال هو عدم الطاعة والامتثال ، وهو يتحقق في ضمن العصيان الّذي هو عبارة عن ترك الامتثال بلا عذر و (ح) فالنقيضان أعني الطاعة وعدمها في رتبة واحدة والعصيان مصداق للنقيض ، والماهية ومصداقها ليستا في رتبتين لمكان اتحادهما الذاتي فيستنتج ان العصيان في رتبة نقيض الطاعة ونقيض الإطاعة في رتبتها ، والإطاعة ونقيضها متأخران رتبة عن الأمر فهكذا العصيان لأن ما مع المتأخر رتبة ، متأخر كذلك (الثاني) ان الأمر بالأهم مستلزم للنهي عن ضده العام فالامر به متقدم على النهي عن ترك الأهم ، والنهي متقدم على عصيانه ، والعصيان متقدم على امر المهم تقدم الموضوع على حكمه فظهر تأخر امر المهم عن امر الأهم بثلث مراتب.

وان شئت قلت الأمر بالأهم دافع للعصيان وعلة لرفعه وعلة الشيء متقدمة عليه

٢٥٩

والعصيان ورفعه في رتبة واحدة لكونهما نقيضين وما مع المعلول ، مؤخر عن العلة

(قلت) كلا الوجهين لا يخلو من خلط وما قدمناه في إبطال كون أحد الضدين مقدمة على الآخر ، كاف في إبطالهما ونشير إليه هنا إجمالا ، وهو ان التقدم والتأخر الرتبيين ليسا من الاعتبارات المحضة من دون واقعية لهما في نفس الأمر كيف وحكم العقل بأنه وجد هذا فوجد ذاك بنحو تخلل الفاء ليس إلّا لاستشعاره امرا واقعيا وشيئا ثبوتيا ، (فحينئذ) فإثبات امر واقعي للشيء كالتأخر الرتبي فرع كون الشيء الموصوف ذا تقرر في ظرفه وذا حظ من الوجود ، وظرف النسبة والاتصاف بعينه ظرف الطرفين فلو كانت واقعيا فلا محالة يتصف الطرفان بالواقعية ، مع ان الواقعية مفقودة في النقيض ومصداقه لأنهما إعدام ليس حقيقتهما سوى انهما لا واقعية لهما وقد تقدم ان كون الملكات والاستعدادات من مراتب الوجود ، لا يلازم كون إعدامهما كذلك ، مع ان للوجه الثاني مبنى على اقتضاء الأمر للنهي عن تركه وهو باطل مبنى على باطل آخر

والحاصل ان كون النقيضين في رتبة واحدة ممنوع تقدم الكلام فيه وكون ما مع المتأخر رتبة ، متأخرا رتبة ممنوع أيضا لأن قياس المساواة لو صح فانما هو في المسائل الهندسية ، لا في الأحكام العقلية التي تدور مدار وجود المناط وقد عرفت ان مناط التأخر الرتبي هو ما قدمناه ومع فقدانه لا وجه للتأخر وقياس التأخر الرتبي الّذي يدركه العقل لأجل بعض المناطات بالتأخر الزماني قياس مع الفارق نعم العصيان يتأخر عن الأمر زمانا على مسامحة وهو غير التأخر الرتبي ، (وبالجملة) ان العصيان عبارة عن ترك المأمور به بلا عذر وهو معنى عدمي لا يمكن ان يتصف بحيثية وجودية مطلقا وقد تكرر منا ان القضايا الصادقة التي موضوعاتها أمور عدمية لا بد وان تكون من السالبة المحصلة أو ترجع إليها ، والموجبات مطلقا لا تصدق في الاعدام الا بتأول كما في بعض القضايا غير المعتبرة كقولنا العدم عدم ، فالعصيان بما انه امر عدمي لا يمكن ان يتأخر عن شيء أو يتقدم على شيء ولا يكون موضوعا لحكم ولا شرطا لشيء أو مانعا وبذلك يظهر ان أخذ امر عدمي لا يؤثر ولا يتأثر ولا يوجب مصلحة ولا مفسدة في الموضوع ، لا يجتمع مع ما عليه العدلية من كون الأحكام تابعا لمصالح أو مفاسد يقتضيها موضوعاتها والعدم لا اقتضاء فيه إلّا ان يرجع إلى مانعية الوجود وهو غير مجد أصلا في المقام.

٢٦٠