تهذيب الأصول - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

بطبيعة فيمتثله المكلف دفعة مع بقاء الأمر ثم يمتثله ثانيا ويجعل المصداق الثاني الّذي تحقق به الامتثال ، بدل الأول الّذي تحقق به الامتثال الأول واما تبديل مصداق المأمور به الّذي تحقق به الامتثال ، بمصداق آخر غير محقق للامتثال لكن محصل للغرض اقتضاء ، مثل المصداق الأول أو بنحو أوفى ، فهو لا يتوقف على بقاء الأمر بل من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر لا بصفة كونه مأمورا به ، واما قوله عليه‌السلام و «يجعلها فريضة» فالمراد منه انه يأتي الصلاة ناويا بها الظهر أو العصر مثلا ، لا إتيانه امتثالا للأمر الواجب ضرورة سقوطه بإتيان الصلاة الجامعة للشرائط ولهذا حكى عن ظاهر الفقهاء الا من شذ من المتأخرين تعين قصد الاستحباب في المعادة للأمر الاستحبابي المتعلق بها واما قضية الا وفي بالغرض واختيار أحبهما إليه وأمثالهما مما يتنزه عنها مقام الربوبي ، فهي على طبق فهم الناس وحسب محاوراتهم قطعا

ثم ان في كلام بعض محققي العصر رحمه‌الله وجها آخر لتوجيه الموارد التي توهم كونها من تبديل امتثال بآخر و «ملخصه» ان فعل المكلف ربما يكون مقدمة لفعل المولى الجوارحي كأمره بإحضار الماء ليشربه أو الجوانحي كأمره بإعادة الصلاة جماعة ليختارا حبهما إليه ، فهذه الأفعال امر بها لتكون مقدمة لبعض أفعاله (فحينئذ) ان قلنا بوجوب المقدمة الموصلة كان الواجب هو الفعل الّذي أوصل المولى إلى غرضه الأصلي وكان الآخر غير متصف به لعدم إيصاله فالواجب هو الماء الّذي حصل منه الشرب أو الصلاة المعادة التي اختاره فليس إلّا امتثال واحد ، وان قلنا بوجوب مطلق المقدمة فعدم إمكان التبديل أوضح لسقوط الأمر بالامتثال الأول انتهى

وفيه اما (أولا) فان جعل الأوامر الشرعية المتعلقة بافعال المكلفين من قبيل الوجوب الغيري دون النفسيّ لحديث كونها مقدمات إلى الأغراض ، مما لا يرضى به أحد كيف وهي من أشهر مصاديق الواجبات النفسيّة ومعه لا يبقى لما ذكره بشقيه وجه ، وقد قدمنا مناط الغيرية والنفسيّة في محله و «ثانيا» ان المقدمة الموصلة بأي وجه صححنا وجوبها انما تتحقق فيما إذا كان الإيصال تحت اختيار العبد وقدرته ، حتى تقع تحت دائرة الطلب والمفروض ان فعل المولى أو اختياره متوسط بين فعل العبد وحصول الغرض ، فلا بد ان يتعلق الأمر بنفس المقدمة من غير لحاظ الإيصال ، وما ربما يتكرر في كلامه قدس‌سره من ان الواجب هو

١٤١

الحصة بنحو القضية الحينية أو الحصة الملازمة للغاية «ففيه» مضافا إلى عدم كونه معقولا لأن الاعدام لا ميز فيها وان صيرورة الحصة حصة لا يمكن إلّا بالتقييد ولا تتوجه النّفس إلى حصة دون غيرها ما لم يتعين بالقيد ، ان الحصة بما انها ملازمة لأمر غير مقدور فهي غير مقدور لا يمكن تعلق الطلب بها.

و (ان شئت قلت) ان الإيجاب بنحو القضية الحينية أيضا انما يتصور فيما إذا كان الظرف موجودا أو يكون إيجاده تحت قدرة المكلف وهما مفقودان هاهنا فان الوجوب حين وجود ذي المقدمة لا يتصور والمفروض ان إيجاده غير مقدور «نعم» يمكن ان يقال ان الواجب أي ما يقع على نعت الوجوب هو ما يتعقبه اختيار المولى بنحو الشرط المتأخر فلا يكون الواجب هو المقدمة الموصلة ولو بنحو القضية الحينية على نحو الإطلاق حتى يلزم عليه تحصيل القيد ، بل الواجب هو المشروط بالشرط المتأخر ، فإذا أتى بها ولم يتعقبها اختياره يكشف ذلك عن عدم وجوبها «فحينئذ» يخرج عن موضوع تبديل الامتثال فتدبر.

الموضع الثاني في ان الإتيان بالفرد الاضطراري مقتض للاجزاء أولا وفيه مقامان «أحدهما» في الإعادة ولا يخفى ان البحث من هذه الجهة انما هو فيما إذا كان المكلف مضطرا في جزء من الوقت فأتى بوظيفته ثم طرأ الاختيار ، وفيما إذا كان الأمر بإتيان الفرد الاضطراري محرز أو يكون العذر غير المستوعب ، موضوعا للتكليف لأن الكلام في ان الإتيان بالمأمور به الاضطراري مجز أو لا وهو فرع وجود الأمر «وبالجملة» البحث فيما إذا كان الاضطرار في بعض الوقت موضوعا للتكليف بالإتيان ، واما إذا دلت الأدلة على ان استيعاب الاضطرار موضوع للإتيان فهو خارج عن محط البحث ، لأنه مع عدم الاستيعاب لا امر هنا ولا مصداق للمأمور به حتى نبحث عن اجزائه كما ان من مقتضى البحث أيضا هو طرو الاختيار في الوقت مع إتيان المأمور به فلو استوعب العذر ولم يظهر الاختيار فهو خارج عن موضوع الإعادة «ثم» انه على المختار من وحدة الأمر والمطلوب وان الاختلاف في الكيفيات الطارئة من خصوصيات المصاديق لا من مكثرات الطبيعة ، يكون اجزاء المأتي به الاضطراري في غاية الوضوح ، إذ العبد يكون مخيرا عقلا أو شرعا بين الإتيان بمصداقه الاضطراري في الحال وبدارا ، وبين انتظار آخر الوقت والإتيان بالفرد الاختياري وقد عرفت ان امتثال كل امر ، مسقط لأمره ، والمفروض ان المأمور به في حال الاضطرار مصداق

١٤٢

للطبيعة المأمور بها ومشتمل لجميع الخصوصيات المعتبرة فيها فلا معنى للبقاء بعد الإتيان «ليس قرى وراء عبادان».

واما القضاء مع استيعاب العذر ، فمثل الإعادة في عدم الوجوب ، لأن وجوب القضاء فرع الفوت ، ومع الإتيان بالطبيعة المأمور بها لا يبقى له موضوع «هذا كله» على الحق المختار ، واما على القول بتعدد الأمر في باب الاضطرار كما يستفاد من ظاهر الكلمات ، ففيه التفصيل فان قام الإجماع على عدم وجوب الزائد من صلاة واحدة في الوقت المضروب لها ، فالقول بالاجزاء هو المتعين ، لأن دلالة الدليل على وحدة التكليف حال تعدد الأمر يستفاد منه التخيير بين إتيانها في حال العجز مع الطهارة الترابية ، وبين الصبر إلى زوال العذر وإتيانها مع المائية ، فلا محالة يكون الإتيان بأحد طرفي التخيير موجبا للاجزاء وسقوط التكليف ، و (لو فرضنا) عدم قيام الإجماع المذكور لكنا استفدنا من الأدلة ان تعدد الأمر ليس لأجل تعدد المطلوب لبا ، بان تكون الصلاتان مطلوبتين مستقلتين ، بل لأجل امتناع جعل الشرطية والجزئية استقلالا ، وانه لا بد في انتزاع شرطية الطهارة الترابية في حال العجز من شمول الأمر ووقوعها تحت الأمر حتى تعلم شرطيتها فيكون تعدد الأمر من ضيق الخناق كتعدده في القربيات من الأوامر على القول بعدم إمكان أخذ ما يأتي من قبل الأمر في موضوعه (فحينئذ) الأمر الثاني ليس لإفادة مطلوب مستقل بل لإفادة خصوصيات الأول ، وبيان ما له دخل في الغرض (وعلى هذا المبنى) يكون مقتضى القاعدة هو الاجزاء أيضا ، لأن تعدده ليس ناشئا من تعدد المطلوب والمصلحة حتى لا يكون استيفاء الواحد منهما ، مغنيا عن الآخر.

نعم لو فرضنا ان تعدد الأمر لأجل تعدد المطلوب ، وان الأمر المتعلق بالبدل من قبيل الترخيص لا الإلزام «فلا مناص» عن القول بعدم الاجزاء ، لأن اجزاء أحد الأمرين عن الآخر مع تعدد المطلوب نظير اجزاء الصلاة عن الصوم ، (وان شئت قلت) ان مقتضى إطلاق دليل المبدل كونه مطلوبا على الإطلاق ، امتثل امر البدل أولا ، واما الإطلاق الموجود في دليل البدل فلا يضاد إطلاق المبدل ولا يدل على سقوط القضاء والإعادة ، لأن غاية مفاد إطلاقه هو جواز الإتيان به في أي زمان شاء وقت طرو العجز ، و (اما) اجزائه عن المأمور به بأمر آخر وقت زوال العذر فلا يدل عليه ، والإطلاق الموجود في دليل البدل لا يقتضى إلا جواز

١٤٣

البدار في إتيانه وسقوط امره لدى امتثاله ، لا سقوط امر آخر (فتلخص) ان مقتضى الأمر المتعلق بالصلاة مع الطهارة المائية هو كونه مطلوبا على الإطلاق ومقتضيا لاستيفاء مصلحته ولا بد (ح) لإثبات اجزائه عن امر آخر من دليل مستقل وراء الإطلاق ، ولكنه خارج من الفرض.

وبذلك يظهر ان ما أفاده المحقق الخراسانيّ من التفصيل بأنه اما يكون المأتي به وافيا بتمام المصلحة أولا ، وعلى الثاني اما ان يكون الفائت قابلا للتدارك أولا إلخ ، (لا طائل تحته) إذا لعلم بالاستيفاء وعدمه لا يستفاد من الإطلاق بل من دليل خارج ووجوده يوجب الخروج من محط البحث.

ثم ان هذا كله لو أحرزنا مفاد الأدلة ، وان الموضوع لجواز الإتيان أعم من العذر المستوعب ، و (قد مر ان البحث في باب الاجزاء بعد ذلك الإحراز) وقد عرفت مقتضى الحال على المختار من وحدة الأمر وعلى مختار المشهور من تعدده ، واما مع إهمال الأدلة في المبدل منه والبدل ، ووقع الشك في جواز البدار مع العذر غير المستوعب ، فعلى ما اخترناه من وحدة الأمر وان المأمور به طبيعة واحدة في الحالتين ، والاختلاف في الشرط من خصوصيات المصاديق لا من مكثرات الطبيعة ، (لا محيص) عن الاشتغال ، إذا لشك في سقوط التكليف المتيقن ، بالفرد الاضطراري ، وبعبارة أخرى ، ان الأمر دائر بين التعيين والتخيير حيث انه لو جاز البدار لثبت التخيير بين المصداقين في مقام الامتثال ، ولو لم يجز لكان المتعين هو الفرد الاختياري ومعه لا يمكن العدول إلى المشكوك.

واما بناء على مذهب القوم من تعدد الأمر على النحو الأخير كما هو مفروض كلامهم فمقتضى القواعد «ح» هو البراءة واختاره المحقق الخراسانيّ رحمه‌الله ، ومرجع هذا إلى ان الأمر المتعلق بالمطلوب الاضطراري هل هو مطلق كون المكلف مصداقا لعنوان الفاقد أو بشرط كون عذره مستوعبا و «وجه البراءة» هو ان المكلف حال الفقدان قاطع بعدم الأمر بإتيان الصلاة مع الطهارة المائية وهو يحتمل لدى الاضطرار ان يكون مأمورا بالأمر الاضطراري فيأتي به رجاء امتثاله على فرض وجوده ، ويمكن ان يكون المأتي رجاء هو الوظيفة الفعلية ، فإذا أتاه رجاء يشك في تعلق التكليف عليه بالصلاة المائية إذا أصاب الماء ، فيرجع الشك إلى حدوث التكليف لا في سقوطه بعد العلم به ، وما قلنا من كونه

١٤٤

مخيرا بين إتيانه للفرد الاضطراري حال الاضطرار ، وبين الصبر إلى زوال العذر ليس بمعنى تعلق تكليف المختار به من أول الأمر وان كان تعلقه بنحو التعليق في حال الاضطرار ، حتى يصير التخيير شرعيا ويخرج المقام من كون الشك في الحدوث.

فان قلت ان المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير لأنه اما يجب له الانتظار تعيينا والامتثال بالمائية آخر ، الوقت أو يجوز له البدار إلى الفرد الاضطراري كما يجوز له الانتظار والإتيان بالفرد الاختياري و «لكن» مطلوبية الأول قطعية ونعلم انه مسقط للتكليف قطعا ، بخلاف الثاني (فحينئذ) يجب له الانتظار حتى يأتي بما يعلم كونه مأمورا به ومسقطا للأمر.

قلت ان الفرق بين المقام ومقام دوران الأمر بين التعيين والتخيير واضح جدا إذ هو انما يتصور فيما إذا علم المكلف بتوجه تكليف واحد إليه حال الامتثال وشك عند الإتيان في ان المطلوب هل هو هذا الفرد متعينا أو هو مع عدله ، ولا ريب انه لا يجوز في شريعة العقل ، العدول إلى ما هو مشكوك ، «وهذا» بخلاف المقام فان المكلف الفاقد حين فقدانه يعلم انه ليس مكلفا بتكليف الواجد ويحتمل كونه مرخصا في إتيان الصلاة مع الطهارة الترابية كما يحتمل كونه غير مكلف بالصلاة حال الفقدان أصلا بل يتعلق به التكليف بالصلاة بالطهارة الترابية حال وجدانه فيما بعد (والحاصل) انه قاطع بعدم التكليف بالعنوان الاختياري حالة الاضطرار ويحتمل توجه التكليف عليه بالعنوان الاضطراري إذا كان الشرط هو الفقدان ولو في بعض الحالات «فحينئذ» إذا أتى الاضطراري رجاء ثم ارتفع العذر فهو قاطع لارتفاع الأمر الاضطراري وسقوطه على فرض وجوده بالامتثال أو لعدم وجوده من رأس ، ويشك عند تبدل الحالة في حدوث امر جديد وتكليف حديث «فالمحكم» هو البراءة (أضف) إلى ذلك ان وجوب الانتظار كما ذكر في الإشكال لا محصل له إذ الواجب هو إتيان الصلاة بما لها من الشرائط والاجزاء ، والانتظار لا دخل له فيها فتدبر.

ثم ان التخيير بين الإتيان في الحال والإتيان في الاستقبال ليس من قبيل التخيير الشرعي بل من قبيل امر انتزاعي انتزاع من احتمال الترخيص في إتيانها في الحال ، ومن احتمال الإيجاب في الاستقبال حين تعلق التكليف به على فرض عدم الإتيان ، ومثل ذلك لا يرجع إلى التعيين والتخيير ، «فتلخص انه مع إهمال الأدلة من الطرفين وتعدد الأمر

١٤٥

في المقام يتعين القول بالبراءة إذا أتى بالفرد الاضطراري «اللهم» إلّا ان يصار إلى القول بتنجيز العلم الإجمالي حتى في التدريجيات فيصير الاشتغال هو المحكم في الباب ويكون المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير «هذا حال» الإعادة مع الإهمال المفروض و «اما القضاء» مع ذاك الفرض فالأصل الجاري في المقام هو البراءة ، ما لم يرد هنا دليل على اللزوم لأن موضوع الوجوب فيه هو الفوت ، وهو غير محقق الصدق بعد إتيان المشكوك و «توهم» إثباته باستصحاب عدم إتيان الفريضة مبنى على حجية الأصول المثبتة لأن الفوت غير عدم الإتيان مفهوما ، وان كانا متلازمين في الخارج إذ الموضوع هو الفوت وإثباته باستصحاب عدم الإتيان كإثبات أحد المتلازمين باستصحاب الآخر.

الموضع الثالث في اجزاء الأمر الظاهري

وفيه مقامان «الأول» في مقتضى الأمارات والطرق و (الثاني) في الأصول العملية ، محرزة كانت أو غيرها ، وليعلم ان محل النزاع في كلا المقامين ما إذا كان المأمور به مركبا ذا شروط وموانع ، وقام دليل اجتهادي أو أصل عملي على تحقق الجزء والشرط أو عدم تحقق المانع ثم انكشف خلافه ، أو قام واحد منهما على نفى جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته ثم بان ان الأمر بخلافه ، فيقال ان الإتيان بمصداق الصلاة مثلا مع ترك ما يعتبر فيها استنادا إلى أمارة أو أصل هل يوجب الاجزاء أولا ، و (اما) ما يجري في إثبات أصل التكليف ونفيه كما إذا دل دليل على وجوب صلاة الجمعة ثم انكشف خلافه فهو خارج عما نحن فيه ولا معنى للاجزاء فيه.

اما المقام الأول فالتحقيق عدم الاجزاء فيه بناء على الطريقية كما هو الحق وفاقا لجملة من المحققين (سواء قلنا) بان الطرق التي بأيدينا كلها طرق وأمارات عقلائية وليس للشرع أمارة تأسيسية بل لم يرد من الشارع امر باتباعها ، وانما استكشفنا من سكوته وهو بمرآه رضائه ، ومن عدم ردعه إمضائه «أم قلنا» بورود امر منه بالاتباع لكنه بنحو الإرشاد إلى ما هو المجبول والمرتكز في فطرة العقلاء ، (أم قلنا) بان الطرق المتعارفة في الفقه مما أسسها الشارع كلها أو بعضها وصولا إلى الواقع ، ولم يكن عند العقلاء منها عين ولا أثر.

١٤٦

وتوضيح ذلك اما على الوجهين الأولين فلان المتبع فيهما حكم العقلاء وكيفية بنائهم ، ولا شك ان عملهم لأجل كشفها نوعا عن الواقع مع حفظ نفس الأمر على ما هو عليه من غير تصرف فيه ولا انقلابه عما هو عليه ، ومع هذا كيف يمكن الحكم بالاجزاء مع انكشاف الخلاف و (بالجملة) لا شك ان عملهم بها لأجل كونه مرآة إلى الواقع بلا تصرف فيه أصلا «فحينئذ» المطلوب الّذي تعلق به الأمر لم يحصل بعد لتخلف الأمارة ، وما حصل لم يتعلق به الأمر ، و (اما) على الوجه الأخير على فرض صحته فلا شك في ان لسان أدلة حجيتها هو التحفظ على الواقع لا التصرف فيه وقلبه إلى طبق المؤدى (أضف إلى ذلك) ان معنى كون شيء أمارة ليس إلا كونه كاشفا عن الواقع عند المعتبر فلو تصرف مع ذلك فيه ، وقلب الواقع على طبق مؤداه لدى التخلف ، لخرجت الأمارة عن الأمارية ، فلو فرضنا ان للشارع إيجابا وتأسيسا فليس إلّا لأجل الكشف عن الواقع المحفوظ في وعائه ومعه لا معنى للاجزاء.

ومن ذلك يظهر ضعف ما ربما يقال : ان لسان دليل الحجية في الأمارات والأصول سواء ، وهو وجوب ترتيب الأثر عملا على قول العادل ، فمقتضى قوله صدق العادل هو التصديق العملي وإتيان المأمور به على طبق قوله كما سيأتي في الأصول ، وهو يقتضى الاجزاء في كلا المقامين (انتهى).

قلت ان القائل جمع بين امرين متناقضين ، فان القول بالاجزاء في العمل بالأمارات والاعتقاد بان إيجاب العمل على طبقها لأجل الكشف عن الواقع «لا يخلو» من مناقضة ، والعرف والعقلاء شاهدان عليها «فظهر» ان كل ما كان الملاك في التعبد به هو الكشف لا يعقل فيه الاجزاء ما لم نصر إلى التصرف فيه وانقلاب الواقع عما هو عليه ، وهو لا يناسب ملاك الاعتبار في الأمارات ، و (ما ذكر) من وحدة اللسان غير تام إذ إيجاب العمل على طبق قول العادل أو الأخذ بقول الثقة لأجل كونه ثقة وعدلا ، يكشف عن ان الملاك ، كشفها عن الواقع كما هو الملاك عند العرف والعقلاء ، وأين هذا من انقلاب الواقع عما هو عليه.

وما أفاده بعض الأكابر من الأساطين دام ظله الوارف ، من الاجزاء في الأمارات عند التخلف ، مع الاعتقاد بان حجية الأمارات من باب الطريقية وان الشارع لم يتصرف فيها سوى الإمضاء أو عدم الردع «لا يخلو» من نظر وإشكال.

١٤٧

اما المقام الثاني أعني الامتثال على طبق مؤدى الأصول ، فالتحقيق هو الاجزاء فيها ، ولا بد في توضيحه من ملاحظة لسان كل واحد مستقلا فان الحكم يختلف باختلاف اللسان فنقول : اما أصالة الطهارة والحلية ، فلا دلتهما حكومة على أدلة الشرائط ، التي من تلك الأدلة قوله عليه‌السلام لا صلاة إلّا بطهور ، ان استفدنا منه أو من غيره طهارة الثوب فقوله عليه‌السلام كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ، محقق للطهور في ظرف الشك.

توضيحه ان ظاهر لسانه محكومية المشكوك بالطهارة والنظافة حتى يعلم قذارته ومعنى محكوميته بها هو جواز ترتيب آثار الطهارة عليه التي من جملتها إتيان الصلاة معها تعبدا وليس معناه ان الشك في الطهارة والنجاسة طريق إلى الطهارة لعدم تعقل طريقية الشك «وان شئت قلت» ان المراد من قوله عليه‌السلام نظيف اما الطهارة الواقعية بجعل مصداق لها أو الطهارة الظاهرية بمعنى معاملة الطهارة الواقعية معها وترتيب آثارها عليها ، لكن لا سبيل إلى الأول لمكان كونها مجعولة في ظرف الشك لبا ، وقد جعلت مغياة بحصول العلم بالنجاسة ، وهما من لوازم الظاهرية دون الواقعية ، «فحينئذ» يتعين الثاني ، ويكون مفاده جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك فيه لكن بلسان تحققها وان الشاك واجد لها فيفهم منه عرفا ان الصلاة المشروطة بالطهارة يجوز إتيانها بها في حال الشك بهذه الكيفية ويكون المأتي به مع هذه الكيفية مصداقا للصلاة المأمور بها وواجدا لما هو شرطها و «بالجملة» قول الشارع بكون مشكوك الطهارة والنجاسة طاهرا ، يوجب توسعة في ناحية الشروط المستفاد من قوله «صل في الطاهر» مثلا ، بحيث ينتقل العرف بعد الحكم بطهارة المشكوك ، إلى ان المفروض مصداق لما فرض شرطا وان الشرط في الصلاة أعم مما هو محرز بالوجدان أو بأصل تعبدي الّذي حكم الشارع بقوة تشريعه بكونه مصداقا للطاهر الّذي جعله شرطا للصلاة في قوله صل في الطاهر مثلا و «عليه» فالصلاة في المشكوك المحكوم بالطهارة ، واجدة لما هو الشرط واقعا وحقيقة لا ظاهرا فقط ، لأن الظاهر بعد هذه الحكومة ان الشرط بحسب الواقع أعم ، ولا يقبل ما فرض فيه الشرط أعم ، الخطاء والتخلف لأنه لم تلحظ فيه الطريقية.

وبذلك يظهر لك ضعف ما ربما يقال من ان هذا انما يصح إذا لم ينكشف الخلاف والمفروض انكشافه و «ذلك» لأن الأصل ليس طريقا إلى الواقع حتى يوافقه تارة ، ويخالفه

١٤٨

أخرى ، فلا يتصور لانكشاف الخلاف هاهنا معنى ، و (بعبارة أوضح) انه بعد التصرف في مدلول الشرط في ظرف الشك بجعله أعم من الطهارة الواقعية لا يتصور لانكشاف الخلاف معنى معقول ، لأنه ان كان المراد من انكشافه هو انه بعد حصول العلم بالنجاسة يستكشف ان ما حكمناه معتضدا بفهم العرف من كون الشرط في الصلاة أعم من الطهارة الواقعية ، لم يكن هذا الحكم صحيحا ، فهو ساقط جدا لا يستأهل للجواب ، وان كان المراد منه ان أدلة النجاسة تقتضي نجاسة المحكوم فيما بعد وفيما قبل ، فهو حق لكن لا يضرنا ، إذ قاعدة الطهارة ليست حاكمة على أدلة النجاسات بضرورة الفقه بل على أدلة الشرائط والاجزاء ، فاغتنم فانى به زعيم والله به عليم.

وبذلك يظهر الكلام في أصالة الحل فان قوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه ، حاكم على ما دل على عدم جواز الصلاة في محرم الأكل ، ومعنى الحكومة على أدلة الشروط هنا ، هو ان العرف بعد ما فهم ان المشكوك محكوم بالحلية تكليفا ووضعا ، ينتقل لا محالة إلى ان الوظيفة في هذا الحال إتيان الصلاة بهذه الكيفية ، وان الشرط بعد هذا الحكم أعم من الحلية الواقعية والظاهرية فيكون المأتي به كذلك مصداقا للمأمور به حقيقة بعناية التعبد ، ومعه لا يعقل بقاء الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة ، و (حديث كشف الخلاف) قد عرفت جوابه.

ثم ان بعض الأعاظم رحمه‌الله أورد على الحكومة إشكالات «منها» ان ذلك انما يتم ما دام المكلف شاكا وبعد ارتفاع شكه لا معنى لإجزائه لارتفاع ما كان عذرا له ، و (فيه) ان الحكم بطهارة المحكوم ليس عذريا حتى يرتفع بارتفاع عذره ، بل على فرض حكومته لأدلة الشروط ، حكم حقيقي صادر لأجل توسيع الأمر على المكلفين وافهام ان المطلوب منها هو الأعم لا الطهارة الواقعية فقط و «منها» ان وجود الحكم الظاهري لا بد وان يكون مفروغا عنه حين الحكم بعموم الشرط للواقعي والظاهري ، ومن الواضح ان المتكفل لإثبات الحكم الظاهري ليس إلا نفس دليل القاعدة فكيف يمكن ان يكون هو المتكفل لأعمية الشرط و (فيه) ان الحكومة لم يرد فيها نصّ حتى نتحرى في مغزاها ، بل هي من خصوصيات لسان الدليل يفهمها أهل المحاورة ، فلو قال الشارع المشكوك طاهر يرى العرف المتوجه إلى أحكام الشريعة ونسكها وشروطها ، حكومة هذا الدليل وتقدمه على أدلة الشروط

١٤٩

التي منها قوله مثلا صل في الطاهر ، ولا يلزم فيها التصريح بان الشرط أعم من الواقعي والظاهري كما لا يخفى.

ومنها ان الحكومة وان كانت مسلمة إلّا انها لا تستلزم تعميم الشرط لكونها على قسمين (قسم) لا يكون الشك في المحكوم مأخوذا في لسان الحاكم كما في قوله لا شك لكثير الشك بالنسبة إلى أدلة الشكوك ، ويكون معمما ومخصصا ويسمى حكومة واقعية و «قسم» يكون الشك في المحكوم مأخوذا فيه فلا محالة يكون متأخرا عنه لأخذ الشك في موضوعه فيستحيل كونه معمما أو مخصصا بل يكون حكومة ظاهرية يترتب عليه الأثر ما دام شاكا ، و (فيه) مضافا إلى ان الحكم يكون ظاهريا أو واقعيا لا الحكومة ، وان ادعاء الاستحالة في العلوم الاعتبارية (مثل علم الأصول ونحوه) التي لا يخرج من محيط الاعتبار «لا يخلو من غرابة» عند أهله ، ـ يرد عليه ان ما ذكره على فرض صحته انما يتم لو كان حاكما على أدلة نجاسة الأشياء وطهارتها إذا قلنا بقبولهما الجعل فيكون الشك متأخرا عن أدلتهما ، وليس كذلك وانما هو حاكم على دليل الشرط أعني قوله (صل في الطاهر) مثلا وهما في رتبة واحدة «والحاصل» ان القائل بالاجزاء لا يدعى ان أصالة الطهارة مثلا حاكمة على أدلة النجاسات وانها في زمان الشك طاهرة ، بل يقول انها محفوظة في واقعيتها وان ملاقيها نجس حتى في زمان الشك ، لكن يدعي حكومتها على الدليل الّذي دل على طهارة ثوب المصلى وانه لا بد ان يكون طاهرا ، وخلاصة حكومتها ان ما هو نجس واقعا يجوز ترتيب آثار الطهارة عليه في ظرف الشك ، ومن تلك الآثار إتيان الصلاة المشروطة بها لكن بلسان تحقق الطهارة ، ولازمه تحقق مصداق المأمور به لأجل حكومتها على أدلة الشرائط والموانع فراجع وجدانك ترى الحق ظاهرا.

ومن ذلك يظهر ضعف ما أفاده في رابع الوجوه من ان الحكومة لو كانت واقعية فلا بد من ترتيب جميع آثار الواقع لا خصوص الشرطية وان لا يحكم بنجاسة الملاقى لما هو محكوم بالطهارة ظاهر أو لو انكشف نجاسته بعد ذلك «انتهى» ان الخلط بين المقامين أوقع المستشكل فيما أوقعه ، وقد عرفت ان الحكومة بين القاعدة ودليل شرطية طهارة لباس المصلى وبدنه لا بينها وبين أدلة النجاسات ، إذ الحكومة عليها باطلة بضرورة الفقه لا ينبغي للفقيه ان يتفوه بها أو يحتملها.

١٥٠

ولكن أين هذا من الحكومة على أدلة الشروط و «ح» يصير نتيجتها توسيع الأمر من الشارع في كيفية أداء العبادة ، ولا يأبى تلك الحكومة شيء لا ضرورة الفقه ولا فهم العرف وأنت إذا كنت ذا تفحص في الفقه ومآثر الفقهاء تجدان الأكابر من القدماء كلهم قائلون بالاجزاء في الأحكام الظاهرية ، أمارة كان أو أصلا تعبديا.

واما البراءة الشرعية فلما كان الظاهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي تسعة إلخ هو رفع الحكم في الشبهات الحكمية حقيقة ، واختصاصه بالعالمين ، ولما كان ذلك مستلزما للتصويب الباطل ، «حمل» لا محالة على رفعه ظاهرا بعد ثبوته واقعا ، و (وجه الرفع) هو الامتنان للأمة وتوسيع الأمر عليهم «فحينئذ» إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته ، أو شك في كون شيء مانعا من جهة الشبهة الموضوعية ، فمقتضى حديث الرفع هو مرفوعية المشكوك ظاهرا ، وجواز ترتيب آثار الرفع عليه كذلك ، ومن الآثار إتيان العبادة على مقتضى الرفع في مقام الفراغ عن عهدتها فيكون رخصة في ترك المشكوك وإتيانها مع الاجزاء الباقية.

وان شئت قلت ان الأمر قد تعلق بعنوان الصلاة الصادق على فاقد الجزء وواجده ، وحديث الرفع ناظر إلى العنوان الّذي قيد لبا ، ولكن نظره ليس نظر وضع بل نظر رفع بمعنى ان العنوان الّذي تعلق به الأمر يجوز إتيانها بلا هذا الشرط أو هذا الجزء أو غير ذلك ، ويكون العبد ذا حجة في امتثاله وتركه ولا معنى «ح» للإعادة والقضاء ، لأن عنوان الصلاة منطبق عليه ، وترك القيد نشاء من اذنه وإشارته إلى كيفية امتثال امرها في ظرف الشك ، (فإذا) ورد قوله سبحانه (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) ، وفرضنا ان السنة دلت على اعتبار اجزاء وشرائط ، ثم حكم الشارع امتنانا برفع ما لا يعلمون من الاجزاء والشرائط ، (يفهم) العرف ان كيفية إطاعة الأمر في حال الشك في وجوب السورة مثلا ، هو إتيانها بلا سورة ، وفي حال الشك في مانعية شيء ، جواز إتيانها معه ، فإذا امتثله كذلك فقد امتثل قوله سبحانه «أقم الصلاة» بحكومة أدلة الرفع على أدلة الجزء والشرط والمانع.

واما الاستصحاب فمفاده متحد مع ما مر من قاعدتي الحل والطهارة من

١٥١

حكومته على أدلة الشرائط والموانع قائلا بان الشاك بعد اليقين يبنى عليه. فهو متطهر في هذا الحال ، وليس له ان يرفع اليد عن يقينه أبدا ، و (بعبارة أخرى) ان الظاهر من دليله هو البناء العملي على بقاء المتيقن في زمان الشك أو البناء العملي على وجوب ترتيب آثاره وان كانت الآثار ثابتة بالأدلة الاجتهادية ، و (الاستصحاب) محرز موضوعها تعبدا ، لأن استصحاب عدالة زيد لا يثبت عدا بقاء عدالته ، واما جواز الطلاق عنده ، وإقامة الصلاة خلفه ، فلا يثبت بدليل الاستصحاب بل بالكبريات الكلية الأولية التي هي المجعولات الأولية فيكون دليله حاكما على الأدلة فيفيد الاجزاء كما مر.

واما قاعدة التجاوز والفراغ

فقد أشبعنا فيها الكلام وحققناها بما لا مزيد عليه في مباحث الوضوء وخاتمة الاستصحاب و (أثبتنا) ان مفاد الاخبار هو جعل قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز لا قاعدتين ، وان ما قيل أو يمكن ان يقال في إثبات كونهما قاعدتين غير مقبول أصلا (واما البحث عن اجزائه) فان ثبت كونه طريقا عقلائيا إلى وجود الشيء الّذي شك في إتيانه في محله ، أو ثبت كونه أصلا عقلائيا بالبناء على تحقق الشيء عند مضي محله «فلا بد» من تنزيل أدلتها على ما هو المرتكز عندهم ، لصلاحيتها للقرينية على المراد من الاخبار ، والّذي «يسهل الخطب» هو عدم وجود تلك المزعمة عند العقلاء ، لا بنحو الطريقية كما هو واضح ، ولا بنحو التعبدية أيضا ، ويتضح ذلك إذا راجعت سيرتهم في مهام الأمور ، وفي تركيب المعاجن وتأسيس الأبنية ، فلا أقل من عدم إحراز بنائهم على عدم الاعتبار ، «فاذن» لا بد في فهم المراد من التفحص في لسان الروايات ، فنقول ربما يتوهم ظهور بعضها في الأمارية كما في قوله عليه‌السلام هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك قائلا بأنه من باب إقامة العلة مقام المعلول ، والمراد ان الذاكر مما له جهة الذّكر يأتيه في محله البتة.

قلت وفيه مضافا إلى ان مدعى الطريقية لا بد وان يدعى ان الظن النوعيّ بالإتيان لأجل الغلبة ، جعل طريقا إلى الواقع ، والحال ان الرواية لا يتعرض لحاله وكون الذاكر طريقا لا معنى له ، ومضافا إلى انه يحتمل ان يكون واردا لأجل نكتة التشريع كما هو غير بعيد ـ يرد عليه انه لو سلمنا انه من باب إقامة العلة مقام المعلول ، و «لكن» المعلول كما يحتمل ان يكون ما ذكره من انه أتى به في محله لأذكريته كذا يحتمل ان يكون المعلول انه يبنى

١٥٢

على وجوده أو فليمض أو شكه ليس بشيء أو غير ذلك مما يناسب كونه أصلا محرزا أو أصلا مطلقا ، وان كان كونه أصلا محرزا حيثيا ، غير بعيد ، لأنه مقتضى قوله عليه‌السلام «بلى قد ركعت» وغير ذلك من الشواهد التي تؤيد كونه أصلا محرزا حيثيا ، (فحينئذ) ان البناء التعبدي على وجود المشكوك فيه كما يستفاد من صحيحة حماد وموثقة عبد الرحمن ، أو الأمر بالمضي وعدم الاعتناء بالشك ، ـ كل ذلك ـ يساوق معنى جواز إتيان المأمور به بهذه الكيفية أو لزوم إتيانه كذلك ، فيصير المأتي به مصداقا للمأمور به ، ويصدق عليه عنوان الصلاة ولازمه سقوط امره ولا نعنى من الاجزاء الا هذا

فتلخص ان مقتضى التحقيق عدم الاجزاء في الأمارات ، والاجزاء في الأصول و (اما) حال تبديل رأي المجتهد بالنسبة إلى أعماله وإعمال مقلديه فقد أسهبنا فيه الكلام في بحث الاجتهاد والتقليد (فارتقب حتى حين)

في مقدمة الواجب

فصل وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم أمور

الأول : التحقيق ان ما يمكن ان يكون محط البحث فيها أحد امرين (الأول) في تحقق الملازمة بين وجوب ذي المقدمة أو الإرادة المتعلقة به وبين وجوب عنوان ما يتوقف عليه أو الإرادة المتعلقة به ولو على الإجمال ، ولكن هذا انما يصح بناء على كون عنوان المقدمية أو التوقف حيثية تقييدية كما هو المنصور المختار ، لا تعليلية حتى يتعلق الوجوب أو الإرادة بما هو بالحمل الشائع كذلك (الثاني) ان يقع النزاع في تحقق الملازمة بين الإرادة المتعلقة بذي المقدمة وبين إرادة ما يراه المولى مقدمة وقس عليهما الملازمة بين وجوبه ووجوب ما يراه مقدمة ، (لا الملازمة) بين إرادة ذي المقدمة مع إرادة المقدمة الواقعية ، ويتضح ذلك بعد تصور إرادة الفاعل وكيفية تعلقها بالمقدمة وذيها

فنقول لا إشكال في ان الإرادة من الفاعل انما تتعلق بشيء بعد تصوره والإذعان بفائدته وغير ذلك من مبادئ الإرادة سواء في ذلك الإرادة المتعلقة بذي المقدمة ومقدمته ولا يلزم ان يكون الشيء ، موافقا لغرضه بحسب الواقع ، لأن ما يتوقف عليه تحقق الإرادة ، هو تشخيص الفاعل ان فيه صلاحه وانه موافق لغرضه ولو كان جهلا مركبا (ثم) انه قد تتعلق الإرادة

١٥٣

بشيء لأجل نفسه والعلم بوجود صلاح فيه لا لكونه مقدمة لشيء آخر وقد تتعلق به لأجل غيره وتوقف الغير عليه «وما ذكرنا» من الميزان من انه هو تشخيص الصلاح لا الصلاح الواقعي جار في هذا القسم أيضا فتتعلق بعد تصور المقدمة والتصديق بكونها مقدمة لمراده النفسيّ بما يراه مقدمة ، وربما يكون ما أدركه مقدمة ، جهلا محضا ، وبه يتضح انه لا يعقل تعلقها بما هو في نفس الأمر مقدمة غافلا عن تصوره ضرورة امتناع تعلقها بالواقع المجهول عنده فالملازمة في الإرادة الفاعلية دائما انما يكون بين إرادة ذي المقدمة وإرادة ما يراه مقدمة

هذا حال الإرادة التكوينية من الفاعل ، و «منها» يظهر حال الإرادة التشريعية فلا يمكن تعلقها بما هو مقدمة بحسب نفس الأمر بلا تحقق المبادي المتوقف عليها الإرادة فلا بد من تصويره بأحد الوجهين المتقدمين و «من ذلك» يظهر بطلان جعل النزاع في تحقق الملازمة بين إرادة ذي المقدمة ومقدمته الواقعية ، ضرورة عدم إمكان تعلق الإرادة بها ، وعدم إمكان الملازمة الفعلية بين الإرادة الموجودة والمعدومة لأن ذلك مقتضى القول بان الملازمة بين إرادته وإرادة المقدمة الواقعية ، وان لم يقف عليها المولى ولم يشخصها «فحينئذ» يمتنع تعلق الإرادة بالمجهول ، ولا يبقى من المتلازمين سوى الإرادة المتعلقة بذيها و «هذا» معنى الملازمة بين الموجود والمعدوم «وأيضا» لا يمكن تحقق الملازمة الفعلية بين الإرادة المتعلقة بذي المقدمة وبين الإرادة التقديرية لعدم إمكان اتصاف المعدوم بصفة وجودية التي هي الملازمة إلّا ان يرجع إلى ما ذكرنا ودعوى الملازمة بين الإرادة الفعلية لذي المقدمة مع قوة إرادة مقدمته إذا التفت ، «رجوع» إلى إنكار وجوب المقدمة لأن معنى وجوبه إذا التفت هو ان المولى لو التفت إلى ان له مقدمة ، وان هذا مقدمته ، لأراده ، ولكنه ربما لا يلتفت إلى شيء مما ذكره ولا ينقدح الإرادة ، «على» انه يرد عليه أيضا ، ما قدمناه من عدم إمكان الملازمة الفعلية بين الموجود والمعدوم والتشبث ببعض الأمثلة العرفية لتصحيح هذه الملازمة الممتنعة بالبرهان ، لا يفيد شيئا

«فان قلت» ما ذكرت أيضا لا يخلو من إشكال لأنه يستلزم عدم وجوب المقدمات الواقعية إذا لم يدركه المولى فلا تتعلق به الإرادة الفعلية ، فتنحصر وجوبها فيما رآه المولى مقدمة «قلت» لا نسلم صحة ما ذكرت بل إذا وقف المأمور على تخلف إرادة الأمر عن الواقع لسوء تشخيصه ، لا يجوز اتباع إرادته ، بل يجب تحصيل غرضه بعد العلم به وان لم يتعلق

١٥٤

به الإرادة أو البعث «أضف إليه» انه لو سلم ما زعمت فالامر في الأوامر الشرعية سهل لأن ما رآه الشارع مقدمة يساوق ما هو مقدمة بالحمل الشائع واقعا لامتناع تخلف علمه عن الواقع «وليعلم» ان التعبير بتبعية إرادة المقدمة لإرادة ذيها كما في كلمات بعضهم ربما «يوهم» تولد إرادة ونشوها من أخرى ، ولا يخفى انه بظاهره من أفحش الأغلاط ، إذ كل إرادة توجد بتحقق مباديها وعللها ، وان كانت الغاية منها تحصيل ذيها لا نفسها ، ومع ذلك لا تصير الإرادة مبدأ لإرادة أخرى وبذلك يتضح ان معنى الملازمة هنا ليس كون إحداهما لازمة لأخرى بل معناها ان كل واحدة منهما تتحقق بمبادئها وان الغاية من تعلقها بالمقدمة تحصيلها لأجل الغير «وبالجملة» ان الملازمة المدعاة هنا غير الملازمات واللوازم والملزومات العقلية الاصطلاحية ، مما يكون الملزوم علة اللازم إذا كان لازم الوجود ، أو يكون المتلازمان معلولين لعلة واحدة ، ضرورة ان إرادة المقدمة ووجوبها ليست لازمة لإرادة ذيها ووجوب ذيها بالمعنى بالمزبور ، بل إرادة كل ، تحتاج إلى مبادئ من التصور والتصديق وغير ذلك ، وكذلك الوجوب والإيجاب في كلا المقامين.

الثاني لا شك ان المسألة عقلية محضة إذا فرضنا ان النزاع في وجود الملازمة وعدمها ، إذ الحاكم عليها هو العقل ولا دخل للفظ فيها ، و «دعوى» كون النزاع في الدلالة الالتزامية وهي مع كونها عقلية ، تعد من الدلالات اللفظية «مردودة» اما (أولا) فلان عد الدلالة الالتزامية من الدلالات اللفظية غير صحيح لأنها عبارة عن انتقال النّفس من تصور الملزوم الموضوع له إلى تصور لازمه بملازمة عقلية أو عرفية ، وليس للفظه دخالة في هذا الانتقال سوى ان الانتقال إلى الملزوم بسبب اللفظ ، وهو لا يوجب ان يعد ما هو من لوازم معناه من مداليل نفس اللفظ إذ حكاية اللفظ تابعة لمقدار الوضع وسعته ، وهو لم يوضع الا لنفس الملزوم ، فكيف يدل على ما هو خارج عن معناه ، «نعم» للعقل ان ينتقل عن مدلوله إلى لوازمه بلا مئونة شيء؟ فظهر ان الالتزام عبارة عن دلالة المعنى على المعنى ، ولهذا لو حصل المعنى في الذهن بأي نحو ، حصل لازمه فيه ، و «ثانيا» ان الفارق موجود بين المقام وبين الدلالة الالتزامية ، لأن اللازم في الدلالة الالتزامية لازم لنفس المعنى المطابقي بحيث لو دل اللفظ عليه دل عليه ولو بوسائط ، «لكن» الانتقال إلى إرادة المقدمة غير حاصل من المعنى المطابقى للفظ الأمر ، أعني البعث نحو المطلوب حتى يصير من لوازم المعنى

١٥٥

الموضوع له ، بل (الدال) عليه هنا هو صدور الفعل الاختياري من المولى أعني البعث باللفظ فانه كاشف بالأصل العقلائي عن تعلق الإرادة بهذا البعث ، ثم ينتقل ببركة مرادية البعث إلى ان مقدماته مرادة أيضا ، فأين الانتقال من المعنى الموضوع له ، إذ مبدأ الانتقال إلى إرادة الواجب ثم إلى إرادة مقدماته انما هو نفس صدور الفعل الاختياري لا مفاد الأمر ومعناه «فظهر» ان صدور البعث اللفظي المتعلق بشيء كاشف عن كون فاعله مريد إياه لأجل كونه متكلما مختارا ثم ينتقل إلى إرادة مقدماته ، وأين هذا من الدلالة الالتزامية ، و (الحاصل) ان إرادة المقدمة ليست من لوازم المعنى المطابقي لنفس اللفظ أعني البعث الاعتباري بل من لوازم إرادة مدلول الأمر جدا ، والكاشف عنها هو نفس صدور امر اختياري من العاقل الّذي تطابق العقلاء فيه على ان كل فعل اختياري صادر عنه لا بد ان يكون لأجل كونه مرادا لفاعله وإلّا يلزم كونه لغوا ، فهو بحكم العقلاء مراد فينتقل إلى إرادة ما يتوقف عليه ومراديته و (ثالثا) ان هذا اللزوم ليس عرفيا ولا ذهنيا بل ثبوته يتوقف على براهين صناعية دقيقة و «رابعا» ان هذا اللزوم ليس على حذو اللزومات المصطلحة كما مر الإيعاز إليه فتدبر

واما كونها مسألة أصولية ، فلا شك انها كذلك لما وقفت في مقدمة الكتاب على ميزانها من انها عبارة عن (القواعد الآلية التي يمكن ان تقع كبرى لاستنتاج الحكم الفرعي الإلهي أو الوظيفة العملية) فحينئذ لو ثبت وجود الملازمة يستكشف منها وجوب مقدمات الصلاة وغيرها ، لأن البحث عن وجود الملازمة ليس لأجل الاطلاع على حقيقة من الحقائق حتى يصير البحث فلسفيا بل لأنها مما ينظر بها إلى مسائل وفروع هي المنظور فيها ، ولا نعنى من الأصولية غير هذا

وما عن بعض الأكابر «أدام الله أظلاله» من ان المسألة من مبادئ الأحكام وان كان البحث عن وجود الملازمة ، لأن موضوع الأصول هو الحجة في الفقه ، والشيء انما يكون مسألة أصولية إذا كان البحث فيها بحثا عن عوارض موضوع علمه ، ولكن البحث عن وجود الملازمات ليس بحثا عن عوارض الحجة في الفقه بخلاف البحث عن حجية الخبر الواحد وغيره «غير تام» لما تقدم من بطلان وجوب وجود موضوع في العلوم حتى الفقه وأصوله والفلسفة كما انه لا يحتاج ان يكون البحث عن العوارض الذاتيّة بأي معنى فسرت على انه لو سلمنا

١٥٦

لزوم وجود الموضوع في العلوم ، وان موضوع علم الأصول هو (الحجة في الفقه) ، يمكن ان يقال ان البحث عن وجوب المقدمة ، بحث عن عوارض ذاك الموضوع ، لا بما انه عرض خارجي ، بل بما انه عرض تحليلي ـ وبذلك ينسلك أكثر ما يبحث عنه في هذا العلم في عداد مسائله وأوضحناه بما لا مزيد عليه في مبحث حجية اخبار الآحاد (١)

__________________

(١) إشارة إلى ما ذكره (دام ظ له) في الدورة السابقة في ذلك المبحث وملخص ما أفاده هناك هو ان الاعراض الذاتيّة التي يبحث في العلم عنها أعم من الاعراض الخارجية والاعراض التحليلية ألا ترى ان موضوع علم الفلسفة هو الوجود أو الموجود بما هو موجود ومباحثه هي تعيناته التي هي الماهيات وليس نسبة الماهيات إلى الوجود نسبة العرض الخارجي إلى الموضوع بل العرضية والمعروضية انما هي لأجل تحليل من العقل فان الماهيات بحسب الواقع تعينات الوجود ومتحدات معه ومن عوارضها التحليلية فان قيل الوجود عارض الماهية ذهنا صحيح ، وان قيل الماهية عارض الوجود فانها تعينه ، صحيح

إذا عرفت ذلك فاعلم ان موضوع علم الأصول هو الحجة في الفقه فان الفقيه لما رأى احتياجه في الفقه إلى الحجة توجه إليها وجعلها وجهة نفسه وتفحص عن تعيناتها التي هي الاعراض الذاتيّة التحليلية لها المصطلحة في باب الكليات الخمس فالحجة بما هي حجة موضوع بحثه وعلمه وتعيناتها التي هي الخبر الواحد والظواهر والاستصحاب وساير المسائل الأصولية من العوارض الذاتية لها بالمعنى الّذي ذكرنا فعلى هذا يكون البحث عن حجية الخبر الواحد وغيره بحثا عن العرض الذاتي التحليلي للحجة ويكون روح المسألة ان الحجة هل هي متعينة بتعين الخبر الواحد أولا وبالجملة بعد ما علم الأصولي ان لله تعالى حجة على عبادة في الفقه يتفحص عن تعيناتها التي هي العوارض التحليلية لها فالموضوع هو الحجة بنعت اللابشرطية والمحمولات هي تعيناتها واما انعقاد البحث في الكتب الأصولية بان الخبر الواحد حجة أو الظاهر حجة وأمثال ذلك فهو بحث صوري ظاهري لسهولته كالبحث في الفلسفة بان النّفس أو العقل موجود مع ان موضوعهما هو الوجود وروح البحث فيها ان الوجود متعين بتعين العقل أو النّفس أو الجوهر أو العرض هذا مع انه لو كان البحث في حجية الخبر الواحد هو بهذه الصورة فأول ما يرد على الأصوليين ان الحجة لها سمة المحمولية لا الموضوعية كما ان هذا الإشكال يرد على الفلاسفة أيضا ونسبة الغفلة والذهول إلى أئمة الفن والفحول غفلة وذهول*

١٥٧

الثالث للمقدمة تقسيمات «منها» تقسيمه إلى الداخلية والخارجية ويظهر من المحقق (صاحب الحاشية) خروج الأولى من حريم النزاع (بتقريب) ان الاجزاء بالأسر عين المركب في الخارج فلا معنى للتوقف حتى يترشح الوجوب مع انه يستلزم اجتماع المثلين وهو محال ، و (ربما) يقال ان المقدمة هي الاجزاء لا بشرط والواجب هي الاجزاء بشرط الاجتماع فتحصل المغايرة الاعتبارية (ولا يخفى) ما فيه من التكلف ، والّذي يقتضيه الذوق العرفي ويساعده البرهان ان المقدمة انما هو كل واحد واحد مستقلا لا الاجزاء

__________________

* بل لنا ان نقول ان الموضوع في قولهم موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ليس هو الموضوع المصطلح في مقابل المحمول بل المراد ما وضع لينظر في عوارضه وحالاته وما هو محط نظر صاحب العلم ولا إشكال في ان محط نظر الأصولي هو الفحص عن الحجة في الفقه ووجدان مصاديقها العرضية وعوارضها التحليلية فالمنظور إليه هو الحجة لا الخبر الواحد فافهم واغتنم

ان قلت هب ان البحث عن الحجية في مسائل حجية الظواهر والخبر الواحد والاستصحاب وأمثالها مما يبحث عن حجيتها يرجع إلى ما ذكرت ولكن أكثر المسائل الأصولية لم يكن البحث فيها عن الحجية أصلا مثل مسألة اجتماع الأمر والنهي ووجوب مقدمة الواجب ومسائل البراءة والاشتغال وغيرها مما لا اسم عن الحجية فيها (قلت) كلا فان المراد من كون موضوع علم الأصول هو الحجة هو ان الأصولي يتفحص مما يمكن ان يحتج في الفقه سواء كان الاحتجاج لإثبات حكم أو نفيه كحجية خبر الثقة والاستصحاب أو لإثبات العذر أو قطعه كمسائل البراءة والاشتغال (والتفصيل) ان المسائل الأصولية اما ان تكون من القواعد الشرعية التي تقع في طريق الاستنباط كمسألة حجية الاستصحاب وحجية الخبر الواحد بناء على ثبوت حجيته بالتعبد واما ان تكون من القواعد العقلائية كحجية الظواهر والخبر الواحد بناء على ثبوت حجيته ببناء العقلاء واما من القواعد العقلية التي تثبت بها الأحكام الشرعية كمسائل اجتماع الأمر والنهي ومقدمة الواجب وحرمة الضد من العقليات واما من القواعد العقلية لإثبات العذر وقطعه كمسائل البراءة والاشتغال وكل ذلك ما يحتج به الفقيه اما لإثبات الحكم ونفيه عقلا أو تعبدا أو لفهم التكليف الظاهري وليس مسألة من المسائل الأصولية الا ويحتج بها في الفقه بنحو من الاحتجاج فيصدق عليها انها هو الحجة في الفقه.

١٥٨

بالأسر حتى يصير المقدمة عين ذيها ، و (بعبارة أخرى) ليس هنا مقدمة واحدة وهو الأمر الوحداني من الاجزاء بل هنا مقدمات وكل جزء مقدمة ، برأسها وفي كل واحد ملاك الغيرية ، والجزء يغاير الكل الاعتباري في وعاء الاعتبار

وتوضيح المقام يتوقف على بيان كيفية الإرادة الفاعلية كي يعلم منه حال الإرادة الأمرية ، (فنقول) تعلق الإرادة بشيء اما لأجل إدراك مصلحة فيه نفسه فيطلبه بذاته ، واما لأجل كونه مما يتوصل به إلى ما فيه المصلحة «ثم» انه ربما تتعلق الإرادة بالواحد البسيط وأخرى بالمركب والأول خارج من المقام و «الثاني» على قسمين : قسم يكون تركيبه تركيبا حقيقيا لتألفه مما هو شيء بالقوة أعني المادة ، ومما هو شيء بالفعل أعني صورته وفصله : وقسم يكون تركيبه تركيبا صناعيا ، وهو المؤلف من اجزاء ملتئمة ومجتمعة على ما يقتضيه الأصول الفنية لا كالتئام اللامتحصل بالمتحصل حتى يحصل الفناء والاندكاك بل لها بعد التركيب أيضا فعلية ، إلّا ان الفاعل الفني قد ألصق بعضها بعضا بحيث قد حصل له نحو وحدة وتركيب مع قطع النّظر عن اعتبار المعتبر كالمعاجين والسيارة والبيت والمسجد) (وقسم ثالث) يكون التأليف اعتباريا ، مثل اجتماع الأمور المتغايرة التي اعتبرت امرا جعليا وواحدا اعتباريا ومنه الفوج والعسكر والماهيات الاختراعية كالصلاة والحج فان الوحدة في هؤلاء ليست إلّا بحسب الجعل والاعتبار ومع قطع النّظر عن الاعتبار فهي وحدات عديدة مستقلة و (هناك وحدات أخرى قد قررت في محله)

ثم ان ما هو المنظور من التقسيم انما هو القسمان الأخيران ، فنقول ان الغرض (قد يكون) قائما بوجود كل واحد من الافراد وان كان بينهما وحدة وارتباط كدفع الملالة الحاصل من لقاء الأصدقاء إذ هو يحصل بلقاء كل واحد منهم مستقلا : فعند تصور كل واحد يريد لقائه بإرادة مستقلة ، و (قد يكون) قائما بالمجتمع لا بالافراد كمن يريد فتح عاصمة أو هزم جند الخصم فانه لا يحصل إلّا بالمئات المؤلفة والوفود المجتمعة من أنصاره وعساكره (فحينئذ) كل واحد منها غير مراد ولا يحصل به الغرض ، وانما المراد والمحصل له هو الفوج فيتصوره ويشتاقه ويريد إحضاره ففي هذا التصور تكون الآحاد مندكة في الفوج ولا يكون كل واحد مشتاقا إليه ولا متعلقا بالإرادة النفسيّة ، لعدم قيامه بفرد فرد مستقلا حتى يتوجه إليه الاشتياق والإرادة النفسيّة (نعم) بعد ما أراد إحضار الفوج ثم أدرك ان وجود الفوج يتوقف على وجود

١٥٩

كل واحد واحد ، لا جرم يقع كل واحد في أفق النّفس مورد التصور ويتعلق به الإرادة لأجل غيره لا لأجل نفسه ، فيريد كل فرد فرد مستقلا لأجل المقصود الأسنى و (عليه) ففي الفوج المؤلف ملاك الإرادة النفسيّة لا الغيرية ، وفي كل واحد ملاك الإرادة الغيرية لا النفسيّة «فهناك» إرادة نفسية واحدة ، وملاك إرادات غيرية بحسب الافراد فيتعلق الإرادة الفاعلية

فان قلت ان هنا شيئا ثالثا وهو غير الفوج الّذي فيه ملاك النفسيّة ، وغير كل فرد فرد الّذي فيه ملاك الغيرية ، بل عبارة عن تألف هذا مع الآخر أعني اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة من الافراد «فهل» فيه ملاك الإرادة أو لا «قلت» قد عرفت ما هو الملاك للإرادة في صدر البحث ، وما ذكر ليس فيه ملاك النفسيّة كما هو واضح ، ولا الغيرية لعدم توقف العسكر عليهما زائدا على توقفه على الآحاد (والحاصل) ان زيدا موقوف عليه بنفسه وعمراً موقوف عليه رأسا بالضرورة لكن زيدا وعمراً لا يكونان موقوفا عليهما مقابل زيد منفردا وعمرو مستقلا

وقس عليه المركبات الصناعية أعني ماله وحدة خارجية في نظر أهل الفن وغيرهم ، فإذا كان الغرض قائما بمركب صناعي كالبيت فيخطر بباله إيجاده وإحداثه فإذا وقف على توقف البيت على الأحجار والأخشاب. فلا محالة يدرك فيهما ملاك الغيرية ، فيريد كل واحد لأجل تحصيل الغير ، ففي المصنوع ملاك النفسيّة ، وفي كل واحد ملاك الغيرية «هذا كله» حال الإرادة الفاعلية. ويستوضح منها حال الأمرية ، فيقال ان الإرادة الأمرية المتعلقة بماله وحدة صناعية أو اعتبارية ، فهل هي ملازمة لإرادة ما رآه مقدمة من غير فرق بين الداخلية والخارجية ، و «توهم» ان ما هي المقدمة هي عين ما تعلقت به النفسيّة فكيف تتوارد الإرادتان على امر واحد «مدفوع» بان ما هي المقدمة بالحمل الشائع ليس نفس الاجزاء مجتمعة إذ هو مصداق لذيها بل كل جزء جزء مما أدرك المولى انه موقوف عليه ، والخلط انما هو لأجل تخيل ان المقدمة هي الاجزاء بالأسر ، مع انك قد عرفت ان هنا مقدمات لا مقدمة واحدة

ثم ان ما ذكرنا هنا لا ينافى مع ما أشرنا إليه سابقا من ان الداعي إلى إتيان الاجزاء عين الإرادة المتعلقة بالكل ، ولا تحتاج إلى إرادة أخرى «لأن» الغرض هنا بيان إمكان تعدد الإرادة بتعدد متعلقهما ودفع ما يتوهم كونه سببا للاستحالة.

١٦٠