تهذيب الأصول - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

تهذيب الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

صدقه على غير العالي والمستعلى كاشف عن تضيق مفهومه إذ لو أبقي على سعته كان عدم صدقه على غيرهما بلا ملاك و (بالجملة) فالامر دائر بين وضعه لمطلق القول الصادر ووضعه للصادر عن علو واستعلاء ، فعلى الثاني لا محيص عن الالتزام بتقييده بقيد حتى لا يصدق على غيرهما وعلى الأول لا يتم قوله ان الأمر الكذائي لا ينبغي صدوره خارجا الا من العالي المستعلى مع ان المفهوم باق على سعته.

في ان مادة الأمر يدل على الإيجاب أولا

الثالثة ، قد عرفت ان مادة الأمر موضوع لمفهوم جامع بين الهيئات الصادرة عن العالي المستعلى ، فهل هو الموضوع له بقول مطلق ، أو ذاك مع قيد آخر أعني كونه صادرا على سبيل الإلزام والإيجاب ، والدليل الوحيد هو التبادر ولا يبعد موافقته للثاني ويؤيده بعض الآيات والرواية المأثورة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لا ان أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وهو ظاهر في ان الأمر يوجب المشقة والكلفة وهذا يساوق الوجوب دون الاستحباب ، مضافا إلى ان السواك مطلوب استحبابا فلو كان ذلك كافيا في صدق الأمر لما صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الكلام.

وما قاله بعض محققي العصر بعد اختياره كون لفظ الأمر حقيقة في مطلق الطلب انه لا شبهة في ظهوره حين إطلاقه في خصوص الطلب الوجوبيّ ومنشأ ذلك اما غلبة استعماله في الوجوب أو قضية الإطلاق ولا وجه لدعوى الأول لكثرة استعماله في الاستحباب كما ذكره صاحب المعالم فينحصر الوجه ، في الثاني ثم استقربه بوجهين؟ (غير مفيد) بل من الغرائب لأن ما ذكره صاحب المعالم انما هو في صيغة الأمر دون مادته كما ان مورد التمسك بالإطلاق هو صيغة الأمر دون مادته.

الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الأوامر وفيه مباحث

(الأول) قد أسلفنا ما هو المختار في مفاد الماضي والمضارع بقي الكلام في هيئة الأمر فالتحقيق ان مفادها إيجادي لا حكائي فهي موضوعة بحكم التبادر لنفس البعث والإغراء نحو المأمور به ، فهي كالإشارة البعثية والإغرائية ، وكإغراء جوارح الطير والكلاب المعلمة وان شئت ففرق بينهما بان انبعاث الحيوانات يكون بكيفية الصوت والحركات والإشارات

١٠١

المورثة لتشجيعها أو تحريكها نحو المقصود لكن انبعاث الإنسان بعد فهم بعث مولاه وإحراز موضوع الإطاعة ، لأجل مباد موجودة في نفسه كالخوف من عقابه وعذابه والرجاء لرحمته وغفرانه ورضوانه وليس المراد من الإيجاد إيجاد شيء في عالم التكوين حتى يقال انا لا نتصور له معنى بل المراد هو إيجاد بعث اعتباري في دائرة المولوية والعبودية مكان البعث بالجوارح من يده ورجله وغيرهما وقد عرفت نظائره في حروف القسم والنداء فانها موجدات بنحو من الإيجاد لمعانيها ، وفي ألفاظ العقود والإيقاعات فانها عند العقلاء موضوعة لإيجاد الأمر الاعتباري من معاني البيع والإجارة والطلاق وقس عليه المقام.

واما ما أفاده المحقق الخراسانيّ من كونها موضوعة لإنشاء الطلب (فغير واضح المراد) إذا المقصود من الطلب ان كان هو الطلب الحقيقي الّذي هو عين الإرادة على مسلكه فيصير مآله انها لإنشاء الإرادة فهو واضح الفساد ، إذ لا معنى لإنشاء الإرادة التي هي امر تكويني «أولا» ويلزم ان يكون معنى اضرب هو أريد منك الضرب مع ان التبادر على خلافه «ثانيا» وان كان المراد هو الطلب الإيقاعي كما هو غير بعيد من سوق كلامه ففيه ، انا لا نتصور هنا غير البعث والإغراء شيئا آخر حتى نسميه طلبا إغرائيا ، ولو فرض له معنى محصل فيرد بحكم التبادر إذ هو غير متبادر من الهيئة.

«الثاني» قد تقدم منا تحقيق القول في الحقيقة والمجاز ومر أن اللفظ فيهما مستعمل في الموضوع له ولكن ليثبت الذهن فيه ولا يتجاوز إلى غيره في الحقيقة أو يتجاوز إلى شيء آخر بادعاء ان الثاني أيضا عينه «فحينئذ» يتضح ان الترجي والتمني والتهديد وان كانت ربما تراد من الأمر لكن لا في عرض البعث والإغراء ، بل المستعمل فيه مطلقا هو البعث وانما يجعل عبرة لغيره أحيانا.

ثم الانتقال من المعنى الحقيقي اما إلى معنى محقق في الواقع كما في قوله سبحانه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، استعمل الأمر في البعث لكن لا ليحق عليه بل لأجل الانتقال إلى امر محقق ثابت غير قابل للإنشاء وهو خطاؤهم في نسبة الافتراء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عجزهم عن المعارضة والمناضلة ، واما إلى معنى إنشائي إيقاعي ، فينشأ تبعا لصيغة الأمر كالترجي وتمني الاستخلاص في قول إمرئ القيس في معلقته.

١٠٢

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وبه تتضح مشكلة أخرى وهي ان الاستفهام والترجي والتمني التي استعملت في الذّكر الحكيم ، لو بقيت على حالها لاستلزمت النقص والجهل والعجز في ذاته ، تعالى عن العيوب والنقائص ، و (حلها) ان الكلمات الموضوعة لإنشاء تلك المعاني كلها مستعملة فيما وضعت له لأجل الانتقال إلى معنى آخر حسب مناسبة الموارد والمقامات (١)

في ان الهيئة هل تدل على الوجوب أولا

(الثالث) بعد ما عرفت ان الهيئة وضعت للبعث والإغراء يقع الكلام في انها هل وضعت للبعث الوجوبيّ أو الاستحبابي أو القدر المشترك بينهما أو لهما على سبيل الاشتراك اللفظي ، فلنقدم لتحقيقه أمورا.

الأول إذا راجعت وجدانك تعرف ان المصالح والغايات المطلوبة لها دخل تام في قوة الإرادة وضعفها ، كيف لا وان الإرادة المحركة لعضلاته لإنجاء نفسه من الهلكة أقوى من الإرادة المحركة لها نحو لقاء صديقه وهي أقوى من المحركة لها للتفريح والتفرج.

ويمكن ان يستكشف مراتب الإرادة واختلافها شدة وضعفا عن تحريك العضلات سرعة وبطءا ، فظهر أن إدراك أهمية المصالح واختلاف الاشتياقات علة لاختلاف الإرادة في الشدة والضعف والتوسط بينهما ، كما ان اختلاف الإرادة علة لاختلاف حركة العضلات سرعة وبطءا وقوة وضعفا كل ذلك مع الإقرار بان الإرادة من صقع النّفس وفاعليتها (ومن

__________________

(١) ان القوم فتحوا هنا بابا واسعا للبحث عن مسألة اتحاد الطلب والإرادة ، حتى جر البحث مقالهم إلى التحقيق عن مسألة الجبر والتفويض ، التي قلما يتفق لإنسان ان يكشف. مغزاها. وقد ألح رواد العلم وعشاق الحقيقة على سيدنا الأستاذ (دام ظله الوارف) ان يخوض في هذه المباحث ، فأجاب (دام ظله) مسئولهم ، فأتى بأفكار أبكار ، وآراء ناضجة ، ولما جاء ما أفاده على صورة كتاب ، أفردناه للتأليف وعلقت عليه ما بدا لي من التعمق في آيات الذّكر الحكيم ومن التدبر في اخبار المعصومين ، عليهم‌السلام مشفوعا بما استفدته من أساتذة الفن ، أو وقفت عليه في زبر الأولين ورسائل الآخرين من أكابر القوم وسميته به (لب الأثر) في الجبر والقدر ، وسيشمل للطبع بإذنه وتوفيقه تعالى المؤلف.

١٠٣

الغريب) ما في تقريرات بعض الأعاظم من ان تحريك النّفس للعضلات في جميع الموارد على حد سواء لأن الوجدان حاكم على خلافه ، ضرورة أقوائية إرادة الغريق لاستخلاص نفسه من الأمواج من إرادته لكنس البيت وشراء الزيت ، كما ان (من العجيب) ما عن بعض محققي العصر من ان الإرادة التكوينية لا يتصور فيها الشدة والضعف ، ولا يخفى بطلانه ، لأن الآثار كما يستدل بوجودها على وجود المؤثرات ، كذلك يستدل باختلافها شدة وضعفا على اختلافها كذلك ، إذ الاختلاف في المعلول ناش عن الاختلاف في علته ، ونحن نرى بداهة ان هناك اختلافا في حركة العضلات في إنجاز الأعمال سرعة وبطءا وشدة وضعفا وهو يكشف عن اختلاف الإرادات المؤثرة فيها ، فتلخص ان الإرادة تختلف شدة وضعفا باختلاف الدواعي ، كما انه باختلاف الإرادة تختلف حركة العضلات وفعاليتها ثم ان التفصيل بين الإرادة التكوينية والتشريعية لا يرجع إلى محصل.

«الثانية» قد حرر في موضعه ان الحقائق البسيطة التي تكون ذات التشكيك ، سنخ تشكيكها خاصي بمعنى انه يصير ما به الافتراق بين المراتب عين ما به الاشتراك كالوجود والعلم والإرادة والقدرة وغيرها ، «فحينئذ» افتراق الإرادة القوية عن الضعيفة بنفس حقيقة الإرادة ، إذ هي ذات مراتب شتى وصاحبة عرض عريض ، ولا يكون الاختلاف بينهما بتمام الذات المستعمل في باب الماهيات ضرورة عدم التباين الذاتي بين الإرادة القوية والضعيفة ولا ببعض الذات لبساطة الإرادة في جميع المراتب ، ولا بأمر خارج لأنه يلزم ان يكون كلتا الإرادتين في مرتبة واحدة وقد عرضت الشدة والضعف على ذاتهما كعروض الاعراض على موضوعاتها وهو كما ترى فالتشكيك واقع في ذاتها وبذاتها.

«الثالثة» الأفعال الإرادية الصادرة عن الإنسان لا بد وان تكون مسبوقة بالإرادة ومباديها من التصور حتى تنتهي إلى الإرادة ويتبعها تحريك العضلات وإعمال الجوارح من اليد والرّجل واللسان ، حسب ما يقتضيها سنخ الفعل.

والبعث باللفظ بما انه فعل اختياري صادر عن الأمر لا محيص عن مسبوقيته بمبادئ الاختيار ، حتى التحريك للعضلات ، وهو اللسان هنا ، كما ان ما سبق في الجهة الثانية من ان شدة الإرادة وضعفها تابعة لإدراك أهمية المراد ، جار في نفس البعث أيضا بل ربما تدرك شدة الإرادة من أثناء الكلام وزواياه ، كما لو أداه بلحن شديد أو بصوت عال أو قارنه بأداة

١٠٤

التأكيد أو عقبه بالوعد والوعيد كما انه يدرك من خلاله فتور الإرادة وضعفها ، إذا قارنه بالترخيص في الترك أو جعل جزاء الترك امرا طفيفا يرجع إلى حال العبد في دنياه. وغير ذلك مما يلوح منه الوجوب الكاشف عن شدة الإرادة بعرضها العريض ، أو الاستحباب الكاشف عن ضعفها كذلك.

ثم ان البعث بالهيئة ليس باعثا بالذات ومحركا بالحقيقة ، وإلّا لما انفك باعثيته عنه وما وجد في أديم الأرض عاص ولا طاغ ، ولما كان هناك ثواب لمن سلك في ربقة الإطاعة ، بل هي باعث إيقاعي اعتباري ، والباعث بالذات هو الملكات النفسانيّة والصفات الفاضلة كعرفان مقام المولى ولياقته وأهليته للعبادة ، كما في عبادة الأولياء ، وكحبه لمولاه أو لخوفه من ناره وسلاسله ، وطمعه في رضوانه وجنانه وغيرها ، مما تصير داعية للفاعل ، وانما الأمر محقق لموضوع الإطاعة وموضح للمراد.

«الرابعة» ان كل ذي مبدأ يكشف عن تحقق مباديها المسانخة له ، فالفعل الاضطراري يكشف بوجوده الخارجي عند العقل ، عن تحقق مبادئ الاضطرار ، كما ان الفعل الاختياري له كاشفية عن تحقق مباديه ، وليس هذا إلّا دلالة عقلية محضة ككاشفية المعلول عن علته بوجه ، «فاذن» الأمر والبعث بآلة الهيئة بما هو فعل اختياري كاشف عن الإرادة المتعلقة به ، كما انه بما هو بعث نحو المبعوث إليه ، كاشف عن مطلوبيته ، كل ذلك ليست دلالة لفظية وضعية بل عقلية محضة.

إذا عرفت ما مهدناه فاعلم انه قد وقع الخلاف في ان هيئة الأمر هل تدل على الوجوب أولا ، وعلى الأول هل الدلالة لأجل الوضع أو بسبب الانصراف ، أو لكونه مقتضى مقدمات الحكمة ، فيه وجوه بل أقوال ، و «هناك» احتمال آخر وان شئت فاجعله رابع الأقوال وهو انها كاشفة عن لإرادة الحتمية الوجوبية كشفا عقلائيا ككاشفية الأمارات العقلائية ، ويمكن ان يقال انها وان لم تكن كاشفة عن الإرادة الحتمية إلّا انها حجة بحكم العقل والعقلاء على الوجوب حتى يظهر خلافه ، وهذا خامس الوجوه.

«فنقول» اما الدلالة الوضعيّة فان أريد منها ان البعث متقيد بالإرادة الحتمية فهو ظاهر البطلان ، إذ قد أشرنا ان الإنشائيات ومنها البعث بالهيئة معان إيجادية ، لا يحكى عن مطابق خارجي لها بل توجد بشراشر شئونها في ظرف الإنشاء فاذن الهيئة موضوعة

١٠٥

للبعث بالحمل الشائع أي ما هو مصداق له بالفعل وقائم مقام إشارة المشير ، فلا معنى (ح) لتقييد البعث الخارج بالمفهوم أصلا (ولو كان) التقييد بوجود الإرادة الحتمية دون مفهومها ففيه انه يستلزم تقييد المعلول بعلته ، إذ البعث معلول للإرادة ولو بمراتب ، ولو تقيد البعث بوجوده الخارجي ، بوجود الإرادة الحتمية ، لزم كون المتقدم متأخرا أو المتأخر متقدما (نعم) هناك تصوير آخر وان كان يدفع به الاستحالة إلّا ان التبادر والتفاهم على خلافه ، وذلك انه قد مر في البحث عن معاني الحروف انه لا يمكن تصوير جامع حقيقي بين معانيها من غير فرق بين الحاكيات أو الإيجاديات ، إذ الجامع الحرفي لا بد وان يكون ربطا بالحمل الشائع وإلا صار جامعا اسميا ، وما هو ربط كذلك يصير امرا مشخصا لا يقبل الجامعية ، (وعليه) وان كان لا يمكن تصوير جامع حقيقي بين افراد البعث الناشئة عن الإرادة الجدية إلّا انه لا مانع من تصوير جامع اسمي عرضي بينها كالبعث الناشئ من الإرادة الحتمية ، ثم توضع الهيئة بإزاء مصاديقه ، من باب عموم الوضع وخصوص الموضوع له من غير تقييد ، «هذا» ولكن التفاهم من الهيئة لدى العرف هو البعث والإغراء كإشارة المشير لإغراء ، لا البعث الخاصّ الناشئ عن الإرادة الحتمية فتدبر.

(واما القول) بكون الوجوب مستفادا من انصرافه إلى البعث المنشأ من الإرادة الحتمية ، فمما لا ينبغي الإصغاء إليه ، إذ المنشأ الوحيد لذلك هو كثرة استعماله فيه بحيث يوجب استئناس الذهن ، وهي مفقودة ، وبه يتضح بطلان ما جعلناه قولا رابعا ، من دعوى كونه كاشفا عقلائيا عن الإرادة الحتمية ، والقدر المسلم كونه كاشفا عن إرادة الأمر في الجملة لا عن الإرادة الحتمية ، إذ الكشف من غير ملاك غير معقول ، وما يتصور هنا من الملاك هي كثرة الاستعمال فيما ادعوه بحيث يندك الطرف الآخر لديه ويحسب من النوادر التي لا يعتنى به العقلاء ، إلّا ان وجدانك شاهد صدق على ان الاستعمال في خلاف الوجوب لا يقصر عنه ، لو لم يكن أكثر واما القول بكون الوجوب مقتضى مقدمات الحكمة فقد قربه وقواه بعض محققي العصر (رحمه‌الله) على ما في تقريراته بوجهين :

(أحدهما) ما أفاده في مادة الأمر ، ان الطلب للوجوبي هو الطلب التام الّذي لا حد له من جهة النقص والضعف بخلاف الاستحبابي فانه مرتبة من الطلب محدودة بحد النقص والضعف

١٠٦

ولا ريب في ان الوجود غير المحدود لا يفتقر في بيانه إلى أكثر مما يدل عليه بخلاف المحدود فانه يفتقر بعد بيان أصله إلى بيان حدوده ، وعليه يلزم حمل الكلام الّذي يدل على الطلب بلا ذكر حد له ، على المرتبة التامة وهو الوجوب كما هو الشأن في كل مطلق.

وقرره في المقام بتعبير واضح من ان مقدمات الحكمة كما تجري لتشخيص مفهوم الكلام سعة وضيقا (كذلك) يمكن ان تجري لتشخيص أحد مصداقي المفهوم كما لو كان لمفهوم الكلام فردان في الخارج وكان أحدهما يستدعى مئونة في البيان أكثر من الآخر كالإرادة الوجوبية والندبية ، فان الأولى تفترق عن الثانية بالشدة فيكون ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك واما الثانية فتفترق عن الأولى بالضعف ، فما به الامتياز فيه غير ما به الاشتراك ، فالإرادة الندبية تحتاج إلى دالين بخلاف الوجوبية (انتهى ملخصا).

وفيه نظرات وتأملات «منها» ان المقدمات المعروفة لو جرت فيما نحن فيه لا تثبت إلا نفس الطلب الّذي هو القدر المشترك بين الفردين «وتوضيحه» انه قد مر في بحث الوضع ان اللفظ لا يحكى إلا عما وضع بإزائه دون غيره ، من اللوازم والمقارنات ، والمفروض ان مادة الأمر وضعت لنفس الجامع بلا خصوصية فردية ، والإطلاق المفروض لو ثبت ببركة مقدماته لا تقييد الا كون ما وقع تحت البيان تمام المراد ، وقد فرضنا ان البيان بمقدار الوضع ولم يقع الوضع الا لنفس الجامع دون الخصوصية ، فمن أين يستفاد كون الوجوب هو المراد دون الجامع مع ان مصب المقدمات هو الثاني دون الأول ، والدلالة والبيان لم يتوجه الا إلى الجامع دون الوجوب.

(ودعوى) عدم الفرق بين القدر الجامع والطلب الوجوبيّ واضح الفساد لاستلزامها اتحاد القسم والمقسم في وعاء الحد ، والضرورة قاضية بلزوم افتراق الفرد عن الجامع بخصوصية زائدة ، وسيأتي بقية المقال في تقسيم الأمر إلى النفسيّ والغيري ، «فان قلت :» لازم إجراء المقدمات في المقام كون الأمر ظاهرا في نفس الجامع مع انا نقطع بأنه ليس له وجود الا بوجود افراده وليس له حصول الا في ضمن أحد الفردين ، فكيف ينسب إلى المولى بأنه تمام المراد.

قلت : هذا لو سلم يكشف عن كون المقام خارجا عن مصب المقدمات ، وما ذكرنا من ان جريانها يوجب كونها ظاهرا في نفس الطلب لأجل المماشاة بل كما لا يوجب

١٠٧

ظهورها في الجامع لا يوجب ظهورها في أحد القسمين مع كونه متساوي النسبة إليهما ، وما ذكرنا في المادة جار في مفاد الهيئة حرفا بحرف.

«ومنها» ان كون ما به الاشتراك في الحقائق الوجودية عين ما به الامتياز ، لا يوجب عدم الاحتياج في صرف الجامع إلى أحد القسمين إلى بيان زائد عن بيان نفس الطبيعة ضرورة ان الأقسام تمتاز عن المقسم بقيد زائد في المفهوم وان لم يكن زائدا في الوجود ، فالوجود المشترك مفهوما بين مراتب الوجودات لا يمكن ان يكون معرفا لمرتبة منها ، بل لا بد في بيانها من قيد زائد ولو من باب زيادة الحد على المحدود فنفس مفهوم الوجود لا يكون حاكيا الا عن نفس الحقيقة الجامعة بينهما ، ولا بد لبيان وجود الواجب مثلا إلى زيادة قيد كالتام والمطلق والواجب بالذات ونحوها ، فاذن الإرادة القوية كالضعيفة تحتاج إلى بيان زائد وكذا نظائرها.

«وبالجملة» الخلط ، حاصل من إسراج حكم الخارج إلى المفهوم وكون شيء جامعا أو فردا في لحاظ التحليل ووعاء المفهوم انما هو لأجل تميز بينهما بإضافة قيد أو شرط ولو من باب زيادة الحد على المحدود ، و «منها» ان ما ذكره من ان ما به الاشتراك في طرف الناقص غير ما به الامتياز عجيب جدا ، بل غفلة عن حقيقة التشكيك في الحقائق البسيطة ، إذ الجمع بين البساطة في الوجود وبين كونه ذا مراتب تتفاوت بالشدة والضعف ، لا يصح إلّا بالالتجاء إلى ان ما به الامتياز في جميع المراتب عين ما به الاشتراك قضاء لحق البساطة وعلى ذلك ليست الإرادة الضعيفة مركبة من إرادة وضعف ، بل بتمام هويتها إرادة ، وتعد من المرتبة البسيطة وتكون بنفس ذاتها ممتازة عن القوية كما ان القوية ليست مركبة من إرادة وقوة (وللحاصل) ان كلتا المرتبتين بسيطتان جدا بحيث كان ما به الاشتراك فيهما عين ما به الامتياز وتكون الحقيقة ذات عرض عريض لكن في مقام البيان والتعريف يحتاج كلاهما إلى معرف غير نفس المفهوم المشترك ، فالإرادة التامة أو الطلب التام يحتاج إلى بيان زائد عن أصل الطلب كالإرادة الناقصة.

الوجه الثاني : ان كل طالب انما يأمر لأجل التوسل إلى إيجاد المأمور به فلا بد ان يكون طلبه غير قاصر عن ذلك ، وإلّا فعليه البيان والطلب الإلزامي غير قاصر عنه دون الاستحبابي فلا بد ان يحمل عليه الطلب.

١٠٨

قلت : ان كان المراد من هذا الوجه ان الطلب الوجوبيّ لا يحتاج إلى بيان زائد بخلاف الاستحبابي ، ففيه انه يرجع إلى الوجه الأول وقد عرفت جوابه ، وان كان الغرض هو ان الآمر بصدد إيجاد الداعي في ضمير المأمور لأجل تحصيل المأمور به فهو مسلم ولكن لا يفيد ما رامه ، إذ البعث لأجل إحداثه أعم من الإلزامي وغيره ، وان كان المقصود دعوى ان كل آمر بصدد تحصيل المأمور به على سبيل اللزوم فمع كونها مصادرة ، ممنوعة ، لأن الأوامر على قسمين «وهناك» تقريب آخر ، أفاده شيخنا العلامة من ان الحمل على الوجوب لأجل ان الإرادة المتوجهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس إلّا والندب انما يأتي من قبل الاذن في الترك منضما إلى الإرادة المذكورة ، فاحتاج الندب إلى قيد زائد بخلاف الوجوب فانه يكفى فيه تحقق الإرادة فقط ثم أفاد ، ان الحمل إليه لا يحتاج إلى مقدمات الحكمة لأجل استقرار الظهور العرفي بمجرد عدم ذكر القيد في الكلام ، ونظير ذلك قولنا أكرم كل رجل إذ لا نرى من أنفسنا في الحكم بالعموم في افراد الرّجل الاحتياج إلى مقدمات الحكمة في لفظ الرّجل بحيث لولاه كنا نتوقف في المراد من القضية المذكورة «انتهى».

والعارف ، بما أسلفناه في توضيح الإرادة القوية والضعيفة وما سيأتي منا في توضيح الأحكام الخمسة ، يقف على الخدشة فيما أفاده ، إذ الوجوب والندب من الأمور الاعتبارية ينتزع من نفس البعث باعتبار مباديه ، إذ البعث الصادر عن الإرادة الشديدة ينتزع منه الوجوب ، كما ان الصادر عن الضعيفة ينتزع منه الندب ، لا ان الندب يأتي من قبل الاذن في الترك منضما إلى الإرادة المذكورة «وبعبارة أوضح» ان الإرادة في الوجوب والندب مختلفة مرتبة كما تقدم ولا يمكن ان تكون الإرادة فيهما واحدة ويكون الاختلاف بأمر خارج (فحينئذ) فالإرادة الحتمية نحو اقتضاء لها ، ليس لغير الحتمية.

واما قياسه نفى الاحتياج إلى مقدمات الحكمة ، على القضية المسورة بلفظة كل فغير صحيح ، إذ عدم الاحتياج في المسورة بلفظة كل. (وسيوافيك تفصيله في مباحث العموم) لأجل بيان لفظي بالنسبة إلى نفس الافراد دون أحوالها ، إذ سور القضية متعرض وضعا لكل فرد فرد بنحو الجمع في التعبير ، ومع البيان كذلك لا معنى لإجراء المقدمات بخلاف المقام «نعم» هنا إشكال آخر يرد على كل من قال بدلالة الأمر على الوجوب أو الندب بأي دليل تمسك ، ومن قال باستعماله فيهما حقيقة أو مجازا إذ انتزاعهما أو اعتبارهما ، (على الفرق المقرر في محله بين الانتزاعيات والاعتباريات) ان

١٠٩

كان بلحاظ الإرادة الحتمية أو المصلحة الملزمة في الوجوب وعدمهما في الندب فمن البين ان ذلك من مبادئ الاستعمال وهو مقدم بالطبع على الاستعمال وان كان بلحاظ حتمية الطاعة أو عدمها فمن الواضح انهما منتزعتان بعد الاستعمال فلا يعقل الاستعمال فيهما على جميع الأقوال.

«لكن» بعد اللتيا والتي لا إشكال في حكم العقلاء كافة على تمامية الحجة على العبد مع صدور البعث من المولى بأي دال كان ، وقطع عذره وعدم قبوله باحتمال نقص الإرادة وعدم حتمية البعث وغير ذلك.

ولا ريب في حكمهم بلزوم إطاعة الأوامر الصادرة من المولى من غير توجه إلى التشكيك العلمي من احتمال كونه صادرا عن الإرادة غير الحتمية ، أو ناشئا عن المصلحة غير الملزمة ، وليس ذلك لدلالة لفظية أو لجهة الانصراف ، أو لاقتضاء مقدمات الحكمة ، أو لكشفه عن الإرادة الحتمية ، بل لبناء منهم على ان بعث المولى لا يترك بغير جواب كما لا يترك باحتمال الندب ، فتمام الموضوع لحكمهم بوجوب الطاعة هو نفس البعث ما لم يرد فيه الترخيص (هذا) من غير فرق بين ما دل على الإغراء والبعث ، سواء كان الدلالة بآلة الهيئة أو بإشارة من يده أو رأسه ، فالإغراء بأي دال كان هو تمام الموضوع لحكم العقلاء بتمامية الحجة إلّا ان يدل دليل على الترخيص ولعل ذلك منظور شيخنا العلامة أعلى الله مقامه.

إذا أحطت خبرا بما ذكرنا من ان تمام الموضوع لحكم العقلاء هو نفس البعث من غير فرق بين الدوال ، يتضح لك ان الجمل الخبرية المستعملة في مقام البعث والإغراء كالهيئات في حكم العقلاء بلزوم إطاعتها ، (نعم) الكلام كله في كيفية دلالتها على البعث ، وما ذكرنا سابقا في تحقيق معنى المجاز وانه استعمال فيما وضع له بجعله عبرة إلى المقصود يوضح كيفية دلالتها فالجمل الخبرية مستعملة في معانيها الاخبارية بدعوى تحققها من المخاطب وانه يقوم به من غير احتياج إلى الأمر ، بل فطرته السليمة ورشده في حيازة المصالح تبعثه إليه بلا دعوة داع ، فقول الوالد لولده ولدي يصلى ، أو يحفظ مقام أبيه ، لا يريد منها الا الأمر لكن بلسان الاخبار عن وقوعه وصدوره عنه بلا طلب من والده بل بحكم عقله ورشده وتمييزه.

١١٠

في التعبدي والتوصلي

(المبحث الرابع) في التعبدي والتوصلي ، وفيه بيان مقتضى الأصل ولنقدم أمورا (الأول) في معنى التعبدية والتوصلية ربما يقال في تعريف الأولى بأنها عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها العبد لربه ويظهر عبوديته ، وهي المعبر عنها في الفارسية (پرستش) ويقابلها التوصلية وهي ما لم يكن تشريعه لأجل إظهار العبودية.

(قلت) يظهر ما فيه من الخلل وكذا في غيره من التعاريف بتوضيح أقسام الواجبات فنقول (منها) ما يكون الغرض من البعث إليه صرف وجوده بأي نحو حصل وكيف ما تحقق كستر العورة وإنقاذ الغريق و «منها» ما لا يحصل الغاية منها إلّا بقصد عنوانه وان لم يكن بداعي التعبد والتقرب كرد السلام والنكاح والبيع «ومنها» ما لا يحصل الغرض بقصد عنوانه بل يحتاج إلى خصوصية زائدة من الإتيان به متقربا إلى الله تعالى وهذا على قسمين أحدهما ما ينطبق عليه عنوان العبودية لله تعالى ، بحيث يعد العمل منه للرب عبودية له ويعبر عنه في لغة الفرس ب (پرستش) كالصلاة والاعتكاف والحج «وثانيهما» ما لا يعد نفس العمل تعبدا أو عبودية وان كان قربيا لا يسقط امره إلّا بقصد الطاعة كالزكاة والخمس ، وهذان الأخيران وان كان يعتبر فيهما قصد التقرب لكن لا يلزم ان يكونا عبادة بالمعنى المساوق ب (پرستش) إذ كل فعل قربي ، لا ينطبق عليه عنوان العبودية.

فإطاعة الولد لوالده والرعايا للملك ، لا تعد عبودية لهما بل طاعة كما ان ستر العورة بقصد امتثال الأمر ، وإنقاذ الغريق ، كذلك ليسا عبودية له تعالى بل طاعة لأمره وبعثه ، و «ح» يستبدل التقسيم الثنائي إلى الثلاثي فيقال : الواجب اما توصلي أو تقربي والأخير اما تعبدي أو غير تعبدي ، التعبدي ما يؤتى به لأجل عبودية الله تعالى والثناء عليه بالعبودية كالصلاة وأشباههما ، ولأجل ذلك لا يجوز الإتيان بعمل بعنوان التعبد لغيره تعالى إذ لا معبود سواه ، لكن يجوز إطاعة الغير متقربا إليه ، وغير التعبدي من التقربي ما يؤتى به إطاعة له تعالى ، لا ثناء عليه بالمعبودية فإذا يكون المراد من التعبدي في المقام هو الواجب التقربي بالمعنى الأعم الشامل لكلا القسمين ، إذ مدار البحث ما يحتاج سقوط امره إلى قصد الطاعة سواء أتى به بقصد التقرب متعبدا به لربه أم بعزم التقرب فقط ، فالأولى دفعا للالتباس حذف عنوان التعبدية وإقامة التقرب موضعها ، فظهر ان الّذي يقابل التوصلي هو

١١١

التقربي أعني ما لا يسقط الغرض بالإتيان به الا بوجه مرتبط إلى الله تعالى لا التعبدي بل هو قسم من التقربي ، كما ظهر الخلل فيما تقدم من التعريف وغيره فاغتنم.

«الثاني» كون الشيء قربيا انما هو لأجل اعتبار الإتيان به مع أحد الدواعي القربية ولكن وقع البحث بين الاعلام في جواز أخذه في المتعلق وعدمه إذا أريد به اعتبار قصد امتثال الأمر وإطاعته ، دون غيره من سائر الدواعي القربية ، وان كان بعض الإشكالات مشتركا بين الجميع وسيأتي توضيحه ، وقد تضاربت الآراء في إمكان أخذ قصد الأمر في متعلق البعث وعدمه فمن قائل بامتناع أخذه فيه امتناعا ذاتيا أي نفس التكليف محال ، ومن قائل بامتناع أخذه امتناعا بالغير لكونه تكليفا بغير المقدور ، ومن ثالث قال بالجواز وهو المختار ، ويظهر وجهه بعد دفع ما توهم من الإشكالات التي أورد على المختار.

«اما الأول» أعني القول بالامتناع الذاتي فقد قرر بوجوه (منها) انه يستلزم تقدم الشيء على نفسه لأن الأحكام أعراض للمتعلقات ، وكل عرض متأخر عن معروضه ، وقصد الأمر والامتثال متأخر عن الأمر برتبة ، فأخذه في المتعلقات موجب لتقدم الشيء على نفسه برتبتين ، «ومنها» ان الأمر يتوقف على الموضوع ، والموضوع يتوقف على الأمر لكون قصده متوقفا عليه فيلزم الدور.

«ومنها» ان الأخذ موجب لتقدم الشيء على نفسه في مراحل الإنشاء والفعلية والامتثال ، اما في مرحلة الإنشاء فلان ما أخذ في متعلق التكليف في القضايا الحقيقية لا بد وان تكون مفروض الوجود سواء كان تحت قدرة المكلف أولا ، فلو أخذ قصد الامتثال قيدا للمأمور به فلا محالة يكون الأمر مفروض الوجود في مقام الإنشاء وهذا عين تقدم الشيء على نفسه ، واما الامتناع في مقامي الفعلية والامتثال فيرجع إلى القول الثاني أعني الامتناع بالغير وسيأتي الكلام فيه ، وأنت خبير على ان هذه الوجوه غير خالية عن المغالطة (اما الأول) فلان الأحكام ليست من قبيل الاعراض القائمة بالمتعلقات ، إذ المراد من الحكم ان كان هو الإرادة باعتبار كونها مبدأ للبعث ، ففيه انها قائمة بالنفس قيام المعلول بعلته ، ولها إضافتان : إضافة إلى علته أي النّفس وإضافة إلى المتصور أعني الصورة العلمية للمراد فهي كإضافة العلم إلى المعلوم بالذات في كلتا الإضافتين ، وان كان المراد هو الوجوب والندب وغيرهما فهي أمور اعتبارية لا خارج لها وراء الاعتبار حتى تكون قائمة بالموضوعات

١١٢

أو المتعلقات ، ولو فرضنا كونها من قبيل الاعراض لكنها ليست من الاعراض الخارجية ، بان يكون العروض في الخارج ، ضرورة ان الصلاة بوجودها لا يعقل ان تكون معروضة للوجوب ومحلا لثبوته ، لأن الخارج ظرف سقوطه على وجه ، لا لثبوته ، فاذن لا محيص عن القول بكونها أعراضا ذهنية ، سواء كانت عارض الوجود الذهني أو الماهية (على فرق بينهما يعلم مما سيأتي في توضيح الفرق بين لازم الوجودين ولازم الماهية) وبذلك يندفع ما توهم من تقدم الشيء على نفسه ، إذ المتعلقات بشراشر اجزائها ممكنة التعقل قبل تصور الأمر وان كان في الوجود الخارجي على عكسه ، فالأحكام على فرض تسليم كونها من قبيل الاعراض ، متعلقة بالمعقول الذهني على تحقيق ستعرفه ، والمعقول بتمام قيوده متقدم على الأمر في ذلك الوعاء.

أضف إلى ذلك ان هنا فرقا بين الاجزاء الدخيلة في ماهية المأمور بها وبين ما هو خارج عنها ، وان كانت قيدا لها إذ جزئية الأولى ودخالتها فيها انما هو بنفس لحاظ الماهية من غير لزوم لحاظ مستأنف بخلاف الثانية ، إذ قولك صل مع الطهور تقييد لها بلحاظ ثان وتصور مستأنف بعد تصور الصلاة ، ولا فرق بين قصد الأمر والطاعة وبين ساير القيود في لزوم لحاظ مستأنف في مقام التقييد ومعه يندفع الإشكال.

«واما الوجه الثاني» فيعلم ما فيه بما أوضحناه إذ هو مبنى على ما هو خلاف التحقيق في باب تعلق الأحكام ، من جعل المتعلق هو الموضوع الخارجي وهو باطل بالضرورة ، لأن الخارج ظرف السقوط لا العروض ، وان شئت قلت : ان إيجاد الموضوع في الخارج أعني إتيان الصلاة في الخارج بقصد الأمر ، يتوقف على الأمر لكن الأمر متوقف على الموضوع في الذهن ، كما عرفت دون الخارج ، فاختلف الطرفان فلا دور.

(واما الوجه الثالث) ففيه «أولا» ان جعل الأحكام من قبيل القضايا الحقيقية حتى ما صدر من الشارع بصيغة الإنشاء ، غير صحيح جدا وسيأتي لب القول فيها في مبحث العموم والخصوص فانتظر و «ثانيا» ان ما ذكره (قدس‌سره) من أخذ المتعلقات وقيودها مفروض الوجود فمع ممنوعيته ، كاف في رفع الدور ، وفي دفع تقدم الشيء على نفسه ، إذ فرض وجود الشيء قبل تحققه ، غير وجوده واقعا قبل تحققه ، إذ تحقق الأول بمكان من الإمكان فانه لا يحتاج إلّا إلى فرض فارض وتصور متصور ، وأخذ الأمر مفروض الوجود فرضا مطابقا للواقع لا يلزم منه التقدم الممتنع

١١٣

بل يلزم منه فرض وجوده قبل تحققه ، ويوضح الحال القيود المأخوذة في متعلقات الأحكام مع كونها خارجة عن دائرة الاختيار ، فقوله تعالى : (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ،) يحكى عن ان الأمر تعلق بأمر مقيد بالوقت ، وانه فرض تحقق الوقت في محله قبل وجوده وهنا نقول إذا امر الأمر بشيء بقصد الأمر فقد أخذ الأمر مفروض الوجود فرضا مطابقا للواقع ولا معنى لمطابقته الا كونه متحققا في محله.

«والحاصل» ان هذه الوجوه الثلاثة مع كونها متقاربة المضمون لا تصلح للمانعية لأن مرجع الأول إلى عدم تصور الشيء قبل وجوده وهو لا ينبغي ان يصدر عمن تأمل فيما يفعله يسيرا ، إذ الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان يكون تصورها مقدما على وجودها كما ان البرهان الثاني مبنى على أساس منهدم في محله إذ الأمر متعلق بالطبائع المتصورة الذهنية لا بقيد التحقق الذهني ، دون الخارج ، وهي متقدمة بقيودها على الأمر فلا يلزم تقدم الشيء على نفسه ، كما ان الوجه الثالث مشتمل على مغالطة بينة حيث ان فرض تحقق الشيء قبل وجوده ، غير تحققه كذلك فتدبر واجد فتجد.

وهناك وجه آخر لتقرير امتناعه الذاتي وملخصه : ان التكليف بذلك المقيد موجب للجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، لأن الموضوع بقيوده لا بد وان يكون ملحوظا استقلالا ، والأمر بما انه طرف لإضافة القيد المأخوذ في الموضوع لا بد من لحاظه أيضا استقلالا ، والأمر بما انه آلة البعث إلى المطلوب لا يلحظ إلّا آلة إليه فيجمع فيه بين اللحاظين المتنافيين (انتهى) والعجب ان القائل كيف لم يتفطن على ان اللحاظين المتنافيين لم يجتمعا في وقت واحد ، وان اللحاظ الاستقلالي مقدم على الآلي منهما ، إذ قد عرفت ان الموضوع بتمام قيوده ومنها قصد الأمر ، على المفروض ، مقدم تصورا على الأمر والبعث به فاللحاظ الاستقلالي المتعلق بالموضوع في ظرف التصور وقيوده ، متقدم على الإنشاء وعلى الاستعمال الآلي.

هذا حاله في عالم التصور ، واما تقييد الموضوع في مقام الإنشاء الآلي فلا محيص عن تصور ذلك الأمر الآلي في مرتبة ثانية بنحو الاستقلال حتى يرد عليه القيد ، بل هذا هو الطريق الوحيد في تقييد المعاني للحرفية إذ الظرف في قولنا زيد في الدار يوم الجمعة قيد للكون الرابط الّذي هو معنى حرفي وهو ملحوظ في وقت التقييد استقلالا وفي لباس المعنى الاسمي

١١٤

وقد مضى ان القيود في المحاورات العرفية والعلمية راجعة كثيرا إلى النسب والروابط وان تقييدها والاخبار عنها وبها لا يمكن استقلالا إلّا انه يمكن تبعا فراجع.

«ثم» ان هنا وجها خامسا للامتناع الذاتي وملخص ما أفيد بطوله : انه يلزم منه التهافت في اللحاظ ، والتناقض في العلم لأن موضوع الحكم متقدم عليه في اللحاظ ، وقصد الأمر متأخر عنه في اللحاظ ، كما انه متأخر عنه في الوجود فيكون متأخرا عن موضوع الأمر برتبتين ، فإذا أخذه جزءا من موضوع الأمر أو قيدا فيه لزم ان يكون الشيء الواحد في اللحاظ الواحد متقدما في اللحاظ ومتأخرا فيه ، وهو في نفسه غير معقول وجدانا اما للخلف أو لغيره «ثم» ان هذا الإشكال غير الدور والتناقض في المعلوم والملحوظ بل يرجع إلى لزوم التهافت والتناقض في اللحاظ والعلم «انتهى» ولعمر الحق انه لا ينبغي ان يجعل في عداد الإشكالات ، فضلا عن جعله من البراهين القاطعة ، «اما أولا» إذ اللحاظ والعلم في المقام ونظائره لم يؤخذ موضوعيا حتى يثبت له حكم ويقال انه بنفسه متهافت مع غيره ، بل أخذ طريقا إلى ملحوظه ومرآة إلى معلومه ، فاذن يكون ملاك التهافت المفروض في الملحوظ بما هو ملحوظ دون نفس اللحاظ ، و «اما ثانيا» بعد ما كان مورد التهافت هو الملحوظ نقول : انا لا نتصور ان يكون شيء أوجب ذلك التناقض سوى تقييد الموضوع بما يأتي من قبل الأمر فيرجع الكلام إلى ان لحاظ الشيئين المترتبين في الوجود في رتبة واحدة ، موجب للتهافت في اللحاظ والتناقض في العلم ، وقد عرفت تقريره من الوجوه السابقة وأجوبتها (واما القول الثاني) أعني امتناع أخذه في المتعلق امتناعا بالغير فقد استدل له بوجوه عليلة نشير إلى مهماتها :

(الأول) ان فعلية الحكم الكذائي تستلزم الدور لأن فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه أي متعلقات متعلق التكليف ، ضرورة انه ما لم تكن القبلة متحققة لا يمكن التكليف الفعلي باستقبالها ، وفعلية الموضوع فيما نحن فيه يتوقف على فعلية الحكم فما لم يكن امر فعلى لا يمكن قصده فإذا كانت فعلية الحكم ممتنعة يصير التكليف ممتنعا بالغير ، ضرورة ان التكليف إنما هو بلحاظ صيرورته فعليا ليعمل به المكلف.

والجواب انك قد عرفت ان إنشاء التكليف على الموضوع المقيد لا يتوقف الا على تصوره ، فإذا أنشأ التكليف كذلك يصير الموضوع في الآن المتأخر فعليا لأن فعليته تتوقف

١١٥

على الأمر الحاصل بنفس الإنشاء ، «وبعبارة أخرى» ان فعلية التكليف متأخرة عن الإنشاء رتبة ، وفي رتبة الإنشاء يتحقق الموقوف عليه ، بل لنا ان نقول : ان فعلية التكليف لا تتوقف على فعلية الموضوع توقف المعلول على علته بل لا بد في حال فعلية الحكم من فعلية الموضوع ولو صار فعليا بنفس فعلية الحكم لأن الممتنع هو التكليف الفعلي بشيء لم يكن متحققا بالفعل ، واما التكليف الفعلي بشيء يصير فعليا بنفس فعلية الحكم ، لم يقم دليل على امتناعه بل الضرورة قاضية بجوازه (الثاني) ان الأمر يتوقف على قدرة المكلف وهي في المقام تتوقف على الأمر ، وفيه ما مر ، من ان الأمر لا يتوقف على قدرة العبد في ظرف البعث والأمر ، إذ ربما يكون المأمور به مقيدا بقيد غير حاصل في زمان البعث ، كالوقت بناء على جواز الواجب المعلق كما سيأتي تحقيقه بل يتوقف على قدرته في مقام الامتثال وفي ذلك الوعاء يكون الأمر متحققا.

(الثالث) ان امتثال ذلك الأمر المقيد بقصد امره محال ، فالتكليف وانقداح الإرادة لأجله محال (توضيحه ،) ان الأمر لا يدعوا إلّا إلى متعلقة والمتعلق هاهنا هو الشيء المقيد بقصد الأمر فنفس الصلاة مثلا لا تكون مأمورا بها حتى يقصد المأمور امتثال امرها ، والدعوة إلى امتثال المقيد محال ، للزوم كون الأمر داعيا إلى داعوية نفسه ومحركا لمحركية نفسه وهو تقدم الشيء على نفسه برتبتين وعلية الشيء لعلة نفسه.

(والجواب) عنه يظهر بتوضيح امرين وان مضت الإشارة إليهما (الأول) ان متعلقات الأوامر ليست إلّا الماهيات المعقولة ، لا أقول ان المأمور به انما هي الصلاة في الذهن حتى يصير امتثاله محالا ، بل طبيعة الصلاة بما انها ماهية كلية قابلة للانطباق على كثيرين والوجود الذهني آلة تصورها فالبعث إليها في الحقيقة امر بإيجادها وتحصيلها ، فهي بما انها مفهوم ، مأمور به ومعروض للوجوب ومتعلق للحكم على تسامح في إطلاق العرض عليه ، والوجود الخارجي مصداق للمأمور به لا نفس الواجب ولذلك يكون الخارج ظرف السقوط دون الثبوت ، وعليه فالموضوع في المقام ليس إلّا الصلاة المتصورة مع قصد امرها والإنشاء والأمر إنشاء على ذلك المقيد (الثاني) ان الأمر ليس إلّا المحرك والباعث الإيقاعي لا المحرك الحقيقي والباعث التكويني ، ولهذا ليس شأنه الا تعيين موضوع الطاعة من غير ان يكون له تأثير في بعث المكلف تكوينا ، وإلّا لوجب اتفاق الافراد في الإطاعة بل المحرك والداعي حقيقة ليست إلّا بعض المبادي الموجودة في نفس المكلف كمعرفته لمقام ربه ودرك عظمته

١١٦

وجلاله وكبريائه أو الخوف من سلاسله وناره أو الطمع في رضوانه وجنته «فحينئذ» نقول : ان أراد القائل من كون الأمر محركا إلى محركية نفسه ، ان الأمر الإنشائي المتعلق بالعنوان المقيد موجب لذلك المحال ، فقد عرفت ان الإنشاء والإيقاع لا يحتاج إلى مئونة أزيد من تصور الطرفين ، مع انه قد أقر بصحة ذلك الإيقاع.

وان أراد ان الأمر المحرك للمكلف تكوينا محرك إلى محركية نفسه ، فهو باطل بحكم الأمر الثاني وان نسبة التحريك إليه بضرب من التشبيه ، إذ العبد إذا أدرك استحقاق المولى للإطاعة أو خاف من ناره وغضبه ورأى ان الإطاعة لا يحقق إلّا بالإتيان بالصلاة المقيدة فلا محالة يقوم بامتثاله كيف ما امر.

(واما) قوله : ان الصلاة غير متعلقة بالأمر حتى يأتي بها بقصد امرها لأن المفروض ان الأمر لم يتعلق إلّا بالمقيد بقصد الأمر (فالجواب) عنه يتوقف على رفع الحجاب عن كيفية دعوة الأمر في المركبات والمقيدات إلى اجزائها وقيودها و (سنحقق الحال في ذلك إذا حان حينه عند البحث عن المقدمات الداخلية) ، ومجمل القول فيه : ان الأوامر المتعلقة بالمركبات والمقيدات انما تتعلق بهما بما انهما موضوعات وحدانية ولو اعتبارا ، ولها امر واحد لا ينحل إلى أوامر متعددة ولا فرق بينهما وبين البسائط في ناحية الأمر فهو بعث وحداني تعلق بالبسيط أو المركب والمقيد ، فالمطابق للبرهان والوجدان هو ان البعث في هذه الأقسام الثلاثة على وزان واحد لا ينحل الأمر إلى أوامر ولا الإرادة إلى إرادات ، وان كانت تفترق في انحلال الموضوع في الأولين دون الثالث ، ولكن دعوة الأمر إلى إيجاد القيود والاجزاء بعين الدعوة إلى إيجاد المركب والمقيد ، وإيجاد القيد أو الجزء امتثال للأمر المتعلق بالمقيد والمركب لا امتثال لأمرهما الضمني أو الانحلالي كما اشتهر بين القوم ، لأن العقل حاكم على ان كيفية امتثال الأمر المتعلق بالمركب والمقيد انما هو بالإتيان بالاجزاء وإيجاد القيود (فحينئذ) فالجزء أو القيد ليس غير مدعو إليهما رأسا ولا مدعو إليهما بدعوة خاصة منحلة ، بل مدعو إليهما بعين دعوته إلى المركب أو المقيد ، إذ الأمر واحد والمتعلق فارد ، إذا عرفت ذلك تقدر على حل العويصة إذ المأمور به وان كان هو المقيد بقصد الأمر وهو قد تعلق بنعت التقيد ، إلّا ان نفس الصلاة المأتي بها تكون مدعوة بنفس دعوة الأمر المتعلق بالمقيد ، لا بأمرها الخاصّ وهذا يكفى في مقام الإطاعة.

١١٧

(وبعبارة أخرى) ان المكلف إذا أدرك ان الأمر متعلق بالمقيد بقصد الأمر ورأى ان إتيان الصلاة أعني ذات المقيد بالأمر المتعلق بالمركب ، محصل لتمام قيود الواجب فلا محالة يأتي بها كذلك ، ويعد ممتثلا لدى العقلاء : «على ان هنا» جوابا آخر مبنيا على ما أخذه القوم قولا مسلما وهو كون الأمر بذاته باعثا ومحركا مع قطع النّظر عن المبادي والملكات ، إذ غاية ما يلزم من هذا الوجه ان تكون محركيته بالنسبة إلى نفس الصلاة جائزة وبالنسبة إلى القيد الآخر أعني قصد امره ممتنعة ، لكن لا معنى لمحركيته بالنسبة إليه بعد التحريك إلى نفس الطبيعة لأن التحريك إليه لغو لكونه حاصلا وتحصيله بعد حصوله محال ، لأن التحريك إلى نفس الصلاة بداعي امتثال الأمر المتعلق بالمركب يكفى في تحقق المتعلق مع قيده ويقال انه أتى بالصلاة بقصد امرها ـ وعن بعض محققي العصر (قدس‌سره) هنا جواب مبنى على انحلال الأمر إلى أوامر بعضها موضوع لبعض ، وأنت بعد الوقوف بما أشرنا إليه إجمالا تجد النّظر في نقضه وإبرامه.

بقي شيء

هذا كله إذا كان الأخذ في المتعلق بأمر واحد وقد عرفت إمكانه وجوازه «ثم» على القول بامتناع الأخذ فهل يمكن تصحيحه بأمرين : أحدهما متعلق بنفس الطبيعة والآخر بالإتيان بها بداعي الأمر بها.

واستشكل المحقق الخراسانيّ بأنه مع القطع بأنه ليس في العبادات الا امر واحد كغيرها ، ان الأمر الأول ان يسقط بمجرد موافقته ولو لم يقصد الامتثال ، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني بعد موافقة الأول فلا يتوسل الأمر إلى غرضه بهذه الوسيلة ، وان لم يسقط فلا يكون الا لعدم حصول الغرض ومعه لا يحتاج إلى الثاني لاستقلال العقل بوجوب الموافقة بما يحصل به الغرض.

(وفيه) وجوه من النّظر اما أولا فانك قد عرفت ان ألفاظ العبادات موضوعة لمعنى غير مقيد بشرائط آتية من قبل الأمر سواء قلنا بكونها موضوعة للصحيح أم للأعم ، إذ الشرائط الآتية من قبل الأمر خارجة من حريم النزاع والموضوع له اتفاقا ، فاذن نفس الأوامر المتعلقة بالطبائع غير متكفلة لإفادة شرطيتها لخروجها من الموضوع له ، فلا بد من إتيان بيان منفصل لإفادتهما بعد امتناع أخذها في المتعلق بل مع جوازه أيضا يكون البيان لا محاله منفصلا لعدم عين وأثر منها في الأوامر المتعلقة بالطبائع ، والإجماع والضرورة

١١٨

القائمتان على لزوم قصد الأمر أو التقرب في العبادات يكشفان عن وجود امر آخر كما لا يخفى.

«وان» شئت قلت : انا نختار الشق الثاني من كلامه وهو ان الأمر الأول لا يسقط بمجرد الإتيان ، لقيام الإجماع والضرورة على اعتباره في صحة العبادات ولكن يستكشف «ح» عن ورود تقييد لمتعلق الطبائع لكون الصحة وعدمها دائرتين مداره ، كما يستكشف بهما وجود امر آخر ودليل منفصل إذا قلنا بعدم جواز الأخذ في المتعلق كما هو المفروض في كلامه قدس‌سره.

«وثانيا» ان ما ذكره في آخر كلامه من استقلال العقل بوجوب الموافقة بما يحصل به الغرض غير صحيح ، لأن مرجعه إلى ان العقل يستقل بالاشتغال ومعه لا مجال لأمر مولوي وفيه مضافا إلى جريان البراءة في المورد كما سيأتي بيانه ، ان حكم العقل بالاشتغال ليس ضروريا بل امر نظري تضاربت فيه الأفكار ، واكتفاء الشارع بحكمه انما يصح لو كان الحكم بالاشتغال مقتضى جميع العقول ، ومع هذا الاختلاف يبقى مجال لاعمال المولوية ولو لأجل رد القائلين بالبراءة والحاصل ان ما قرع سمعك من انتفاء مناط المولوية في موارد الأحكام العقلية ليس بالمعنى الّذي تتلقاه من الأفواه بل له حدود وشروط.

«وثالثا» ان ما أفاده من ان المولى لا يتوسل بغرضه بهذه الوسيلة ، مدفوع ، بان ترك الأمر الثاني ولو برفع موضوعه ، موجب للعقوبة فيحكم العقل بلزوم إطاعته وليس للمولى وسيلة إلى التوسل بأغراضه الا الأمر والإيعاد بالعقاب على تركه.

توهم ودفع

ربما يختلج في البال ، انه إذا فرضنا ان المصلحة قائمة بالطبيعة المقيدة بقصد الأمر كما هو المفروض في العبادات إذ روحها هو التقرب وقصد الامتثال أو ما يقوم مقامهما ، وإلّا لصار لزوم إتيانها مع القربة لغوا يكشف «هذا» عن خلو الطبيعة المجردة عن القيد من المصلحة «فحينئذ» لا يمكن ان تتعلق الإرادة بالمجرد عن القيد ثبوتا كما لا يمكن البعث الحقيقي إليه إذ الحكم أعني البعث ومبدأه الّذي هو الإرادة يتبعان الملاك الّذي هو المصلحة بالضرورة ومع فرض عدمها لا ينقدح الإرادة كما لا يقع مورد البعث إذا عرفت هذا «فنقول» إذا فرضنا ان الأمر المتعلق بنفس الطبيعة الخالية عن القيد ، ليس صالحا للباعثية

١١٩

فكيف يمكن الأمر ثانيا بالإتيان ، بها بباعثية الأمر وداعويته بل لا يمكن للمولى ان يأمر بالإتيان بها بداعي امره بعد ما فقدت المصلحة وخلت عن الإرادة ولم تقع مورد البعث الحقيقي «ثم» انه لو فرضنا تعلق الأمر به لكنه لا يكون إلّا امرا صوريا أعني ما لا يترتب عليه غرض ولا يكون ذا مصلحة وفائدة وقصد هذا الأمر الصوري لا يكون مقربا بل القصد وعدمه سواء فلا يصل المولى إلى مطلوبه بهذه الوسيلة أيضا.

«قلت» ان الإشكال بل الإشكالين لأجل مغالطة في البين ، إذ ما زعم من امتناع تعلق الإرادة والبعث بالطبيعة المجردة عن القيد انما هو فيما إذا كان المولى مكتفيا به ، واما إذا صار بصدد افهام القيد بدليل آخر فلا نسلم امتناعه بل إذا كان الغرض قائما بوجود مركب أو مقيد ، كما يجوز ان يأمر بالاجزاء دفعة ، كذلك يجوز ان يبعث إلى الاجزاء واحدا بعد واحد و «بذلك» يظهر لك مقربية هذا الأمر فيما نحن فيه لأن تمام المحصل للغرض هو الطبيعة مع قصد امرها ، ففرق بين المقام الّذي يكون قصد الأمر قيدا متما للغرض وبين ساير القيود التي لم يكن بتلك المثابة فعلى الأول يكون قد الأمر المتعلق بالطبيعة محصلا للغرض ومقربا من المولى بخلاف الثاني فلا تغفل.

تتميم

هذا كله لو قلنا بان المعتبر في العبادات هو قصد الأمر ، واما لو قلنا بان المعتبر فيها هو إتيان الفعل بداعي المصلحة أو الحسن أو المحبوبية فقد ذهب المحقق الخراسانيّ إلى ان أخذها بمكان من الإمكان لكنها غير مأخوذة قطعا لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال.

الظاهر ان بعض الإشكالات المتقدمة واردة على المفروض فيقال في تقريره ان داعوية المصلحة مثلا لما كانت مأخوذة في المأمور به تصير الداعوية متوقفة على نفسها أو داعوية إلى داعوية نفسها لأن الفعل لا يكون بنفسه ذا مصلحة حتى يكون بنفسه داعيا إلى الإتيان بل بقيد داعويتها فلا بد ان يكون الفعل مع هذا لقيد القائم بهما المصلحة داعيا إلى الإتيان وهذا عين الإشكال المتقدم و (أيضا) لما كانت المصلحة قائمة بالمقيد يكون الفعل غير ذي المصلحة فلا يمكن قصدها الا على وجه دائر لأن قصد المصلحة يتوقف عليها وهي تتوقف على قصدها بالفرض ويرد أيضا ما قرر هناك من ان الداعي مطلقا في سلسلة علل الإرادة التكوينية

١٢٠