رسالة في الترتب

علي أكبر ابن محمّد باقر الوحيدي الهمداني

رسالة في الترتب

المؤلف:

علي أكبر ابن محمّد باقر الوحيدي الهمداني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة الغري الحديثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٩٢

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين.

أما بعد فقد لاحظت ما كتبه العالم العامل فخر الفضلاء والأعلام الشيخ الزكي المحقق التقي الشيخ علي أكبر الوحيدي الهمداني دامت تأييداته في هذه الصحائف تقريرا لما ألقيته في مجلس الدرس في مسألة الترتب فوجدته حاويا لمطالبها وجامعا لما ذكرته من المسالك ومبانيها وقد أتى بتحقيقاتها وقد بين دقائقها وما أوردت من الاشكالات والمطالب نفيا وإثباتا. فلله تعالى دره وعليه سبحانه أجره وزيد في أهل العلم والعلماء أمثاله ذي الحجة الحرام ١٣٧٨ هـ وأنا العبد الراجي إلى عفو به الغافر عبد الله بن السيد محمد طاهر الشيرازي عفى عنهما.

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين كما هو أهله. وأشهد أن لا إله إلا الله جل جلاله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن عليّا وأولاده المعصومين أوصيائه الحافظين لشريعته المقدسة وأقربائه عليهم صلوات الله الملك العلام وسلامه ولعنة الله على اعدائهم أجمعين من الآن إلى اليوم الذي يقوم حسابه وجزائه.

(أما بعد) فيقول العبد المذنب المحتاج إلى عفو ربه الغافر الأكبر (الوحيدي الهمداني) ابن محمد باقر المسمى بعلي اكبر عفى عنهما لما كان بحث الترتب من مهام مباحث اصول الفقه ومعركة الآراء بين الأعلام ونتيجته محل الابتلاء للخواص والعوام وكان بعض العلماء العظام بل أغلبهم في هذه الازمنة قائلون بصحته سيما في زماننا هذا. وكان نظر سيدنا الاستاذ المعظم على التحقيق والتدقيق النحرير الاعظم سماحة آية الله الاكبر الحاج السيد عبد الله الشيرازي دام ظله العالي مخالفا لآرائهم بالبيانات الشافية والأدلة المتقنة الساطعة فاردت أن اكتب وجيزة في هذه المسألة مما استفضت من بياناته الشريفة في مجلس درسه تقريرا لبحثه لعله كان ذخيرة لي في وقت لا ينفع فيه مال ولا بنون وتبصرة لغيري وبالله أستعين في أمري وعليه التكلان.

فنقول في بيانه وتحقيقه كل اتخذ اسلوبا وطريقا لتحقيق مرامه وعقيدته ونحن نجري أولا على النهج الذي اختاره بعض الاعاظم (قده)

٣

ونبين فيه كلما يمكن أن يقال ثم نعقبها ببيان مسالك سائر الاعلام في هذا الباب فلا بد قبل الورود في المطلب من تحرير محل النزاع والخلاف كي يكون الطالب على بصيرة وهو انه إذا تزاحم أمران اللذان اجتمعا اتفاقا وجودهما في زمان واحد وكان أحدهما أهم والآخر مهما هل فى ظرف عصيان الأهم يكون خطاب المهم فعليّا فى حق المكلف حتى يكون ح الاتيان به مجزيا بقصد الامر إذا كان عباديا أولا إن الذي قائل بصحة الترتب يقول بانه لا مانع عقلا في كون أمر الاهم مطلقا فعليّا وأمر المهم معلقا بعصيانه فاذا عصى أمر الاهم يوجد المحل لفعلية أمر المهم ولا يفرق في ذلك بين أن يكون تعليق فعليته بعنوان شرط المتقدم أو المقارن أو المتأخر كما انه لا مانع منه عرفا إذا علم ذلك فقال بعض الأعاظم إثبات المقصود متوقف على مقدمات خمسة.

المقدمة الاولى

إن منشأ المحالية والتضاد في مقام الامتثال إما أن يكون من جهة أصل الخطابين أو من جهة إطلاق الخطابين أما ان كان المنشأ إطلاق الخطابين فيلزم المحال في محل الاجتماع فلقبح التكليف بالمحال العقل يحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أحدهما أهم وإلا يقدم هو وأما إن كان من جهة أصل الخطابين فيلزم توجه الخطابين في زمان واحد لا يسعهما لشخص

٤

واحد وهو محال فيتساقطان لعدم القدرة على إتيانهما ولقبح الترجيح بلا مرجح ولعدم الاطلاق على الفرض حتى يقيد أحدهما بعدم الآخر لكن من حيث أنه كل واحد منهما يكون كاشفا عن ملاك واقعا فان قلنا بسقوطهما معا يلزم لغوية الواقع فلاجل دفع المحذور العقل يكشف عن الحكم التخييري الشرعي واقعا فحصل انه إن كان منشأ المحالية إطلاق الخطابين يكون التخيير عقليا وان كان بأصل الخطابين يكون التخيير شرعيا.

أقول ان التخيير في المقام ظاهرا عكس ما قاله (قده) حيث اذا تأملنا فى المقام الاول نجده أنه لا يكون إلا شرعيا وفي المقام الثاني لا يكون إلا عقليا لان التضاد والمحالية بين الحكمين المتضادين المتساويين إن كان من جهة إطلاق الخطابين العقل والعرف يقيد إطلاق كل واحد منهما بعدم الآخر وح يبقى أصل الخطابين بحالهما فيكون للشارع خطاب تخييري واقعا كما هو الحال في الواجبات التخييرية.

وبعبارة أخرى قد يكون الخطاب التخييري ببيان الشارع المقدس أولا وبالذات كخصال الكفارات وقد يكون بواسطة تقييد العقل والعرف إطلاق أحد الخطابين بعدم الآخر ثانيا وبالعرض حيث انه لا يمكن أن يطالب كل واحد منهما في زمان واحد والحال انا نعلم إن الشارع طلب منا هذين الحكمين غايته لا يمكن لنا الاتيان بكليهما في هذا الظرف المضيق فلا بد ح الاتيان باحدهما مخيرا بتقييد العقل والعرف اطلاق أحدهما بعدم الآخر

٥

كما هو شأن مقتضى الجمع العرفى بين الدليلين المتنافيين وهذا أيضا من جملته لان الداعي على ذلك عدم صدور القبيح عن المولى الحكيم وهو بعينه فى المقام أيضا موجود من غير فرق بين موارده أصلا ولا معنى للتخيير الشرعي إلا هذا فليس للعقل أن يحكم حكما تخييريا في قبال حكم الشرع.

ببيان أوضح الواجب التخييري كما هو التحقيق عبارة عن طلب الشيء مع المنع عن بعض أنحاء تروكه كما ذكرنا في الواجب التخييري والمقام يصير كذلك بعد تقييد العقل والعرف.

(والحاصل) أن هذا المورد كمواضع الأخر منه شرعا حيث إن التخيير على قسمين تارة بتصريح الشارع ابتداء كخصال الكفارات وتارة بمقتضى القاعدة أعني الجمع بين الدليلين كورود الدليلين من الشارع يدل أحدهما بوجوب صلاة الجمعة في يومها مثلا والآخر يدل بأن صلاة الظهر واجبة فيها وكل من الدليلين ظاهر فى التعيين مطلقا والحال أن المكلف عالم بانه لا صلاة له فى اليوم الواحد إلا الواحدة فبمقتضى الجمع العرفى يقيد اطلاق أحدهما بعدم الآخر فينتج أن الشارع أراد منه الفعلين كذلك لا مطلقا فيكون مخيرا بينهما شرعا وما نحن فيه أيضا من هذا القبيل باعتراف الخصم أن الحكمين بعد تقييد أحدهما بعدم الآخر باقيان كالمثال وإنما رفع اليد عن إطلاقهما الذي معناه أن ظاهرهما يدلان على التعيين مطلقا فيكون التخيير شرعيا كالتخيير الذي كان بين صلاة الجمعة والظهر وهذا واضح بلا اشكال

٦

وإلا يلزم أن يقال أن التخيير في المثال عقلي ولم يقل به أحد.

وإن كان التضاد والمحالية من جهة أصل الخطابين تعارضا وتساقطا كما قاله (قده) وبعد تساقط الحكمين الشرعيين العقل يلزم المكلف باتيان أحدهما لا بعينه لأن المفروض عدم قدرته على إتيانهما فبحكم كلما لا يدرك كله لا يترك كله يكون مخيرا فى الاتيان بأيهما شاه فيكون الحكم التخييري هنا عقليا لا شرعيا خلافا لما ذهب إليه (قده) لأن الحكمين الشرعيين سقطا بقاعدة التعارض وبعد السقوط العقل مستقل لإدراكه وجود الملاك الملزم كما اعترف به المستشكل بعدم ترك ما يقدر له باتيان أحدهما ولا تصل النوبة إلى الكشف عن الحكم الشرعى حتى يكون التخيير شرعيا. ثم لا يخفى إن قلنا بصحة الترتب يكون مبتنيا بلزوم التضاد والمحالية من اطلاق الخطابين وإلا فلا.

ثم إنه نقل عن الشيخ (قدهما) بأنه قال في باب التزاحم لا يمكن القول بالترتب ثم قال في موضع آخر إن وقع التعارض بين الخبرين المتضادين يكون المكلف مخيرا في مقام الامتثال بأيهما شاه أخذ لأن المفروض الشارع أمر المكلف باتيان كليهما ولما لم يمكن الاتيان بهما معا فلا بد أن يقيد العقل إطلاق أحدهما بعدم الآخر فحينئذ ارتفع التعارض من بينهما انتهى.

واستعجب منه بان الطريق الذي اختاره في التعارض ليس إلا بترتيب الترتب وكيف يكون هذا صحيحا بما بينه في التزاحم فهل يكون

٧

الترتب صحيحا على فرضه إلا من الترتبين غير الصحيحين وإلا ان كانت المسألة في التعارض معتبرا لازمه أن يقال على اعتباره في التزاحم أيضا لاجل أنه لا نقول في باب التزاحم إلا تقييد اطلاق أحدهما بعدم الآخر.

أقول أن قول الشيخ (رض) بالتخيير عند تعارض الخبرين بعد إعمال المرجحات أو عدم أعمالها كما هو ظاهر بعض الاخبار العلاجية مبني على حجية الأخبار للسببية والموضوعية كما صرح به المستشكل على ما في بعض تقريرات بحثه كما أن المشهور بل المسلم بين العلماء (رضم) سيما من زمان الشيخ إلى الحال أن القاعدة في تعارض الخبرين التساقط لو لم يكن مرجح بينهما لقولهم بحجيتها على الطريقية والكاشفية والتخيير الذي ذكر في الأخبار يكون على خلاف القاعدة ولكنا قد حققنا في محله ان مقتضى القاعدة التخيير حتى على القول بالطريقية في الأمارات وان التخيير الوارد في الأخبار يكون موافقا للقاعدة وقد بينا وجهه في محله ثم العجب كل العجب من المستشكل حيث لم يفرق بين مرادي الشيخ (قده) في المقامين لانه يمكن أن يقال :

أولا بأن مراده الواجب التخييري الذي يكون في مقابل الواجب التعييني بمعنى أنه عبارة عن الامر بالشيء مع المنع عن بعض أنحاء تروكه كخصال الكفارات الثلاث كلها متعلقة للطلب عن قبل الشارع غايته بنحو الطلب الناقص لا من جهة الترتب وإلا لا بد أن يكون كل الواجبات

٨

التخييرية من باب الترتب ولا نعني منها إلا نحو وجوب الناقص الذي يكون نتيجته فى عالم الامتثال فعلية حكم فرد من أفراد التخيير عند عدم الاتيان بالآخر وهذا معنى تقييد الشيخ (قده) بعدم الآخر وإلا لو كان كل واحد منهما مشروطا بعدم الآخر يلزم فعلية خطابهما عند تركهما وهو كما ترى.

وثانيا ان الاشتراط لو سلم في المقام غير الترتب في التزاحم حيث أنه في باب التعارض قبل الأمر يلاحظ الشارع وجوب هذا الفرد مثلا عند عدم صاحبه وبالعكس ثم يأمر به بخلاف باب التزاحم لأن الأمر ورد فيه على الموضوع مطلقا ثم في مقام الامتثال نقول هل صار خطاب المهم فعليا عند عصيان خطاب الأهم أم لا فيكون الترتب هنا بعد ورود الأمر مطلقا من دون أن يلاحظ في مقام التشريع فيد من قبل المولى فحينئذ لو قلنا بفعلية الخطاب عند عصيانه يكون القيد بعد ورود الامر كذلك فيكون في الطول بخلاف الواجب التخييري يكون من أول الامر ورود الامر مقيدا بعدم الآخر عرضا فحينئذ لا يتصور بينهما ترتب لان مورده بين الامرين الطوليين إن قلنا به.

وتوهم ان التخيير الذي يحصل بمقتضى الجمع العرفي بين الدليلين بعد تقييد أحدهما بعدم الآخر يصير طوليا كالتزاحم بملاك أنه هذا أيضا ليس في مقام التشريع واللحاظ.

مدفوع بان جمع العرفي يستكشف عن إرادة المولى واقعا عرضيا من

٩

دون نظر له بتقديم أحدهما على الآخر حتى يصير طوليا بخلاف باب التزاحم لانه يستكشف فيه عن تعلق إرادته أولا بالأهم ثم لولاه بتركه أو امتثاله تكون إرادته بالنسبة الى المهم فعلية في حق المكلف فيصير طوليا ومترتبا وبالجملة ان الواجبات التخييرية بأقسامها من أفراد الواجبات المطلقة عند الكل والشيخ (قده) أجل شأنا من أن يجعله من المشروطة حتى يترتب عليه التوالي الفاسدة التي ذكر في محله حيث ان الترتب من فروعات الواجب المشروط ان قلنا في التخيير ذلك يلزم إلحاقه به مع انه لا يقول به المستدل والمستشكل ولكن الاشتباه من الاعاظم غير عزيز.

المقدمة الثانية

اختلفوا في أن الواجب المشروط كالحج مثلا بعد حصول شرطه يخرج عن كونه واجبا مشروطا ويصير مطلقا أولا ينقلب عما هو عليه والحق عندي هو الثاني حيث قلنا أن الأحكام الشرعية تكون مجعولة بعنوان قضايا الحقيقية مقدرة الوجود فان وجد أفراده في الخارج ينطبق عليها الحكم بانطباق الكلي على الفرد فيصير الحكم فعليا وحين الجعل يلاحظ الشارع كل قيد وشرط له دخل في موضوع الحكم ثم يجعل الحكم على الموضوع الكذائي فيكون القيود والاجزاء داخلة فى الموضوع بعبارة اخرى حين الجعل أما أن تكون الشروط والقيود من قبيل الواسطة في الثبوت أو العروض أما ان كانت واسطة في الثبوت

١٠

فتكون مرتبتها في مرتبة العلة كشرط المقتضى مثلا فتكون خارجة عن مرتبة المعلول والمعروض أما ان كانت واسطة فى العروض تكون نفسها معروضا للعارض أعني الحكم فتكون من اجزاء الموضوع والمعلول كحركة السفينة وجالسها كلاهما معروضان للحركة لكن السفينة تكون واسطة في عروض الحركة على الجالس والشروط والقيود من قبيل الثاني بمعنى انه يكون الموضوع واجبا بهذا القيد والواسطة فالقيود والشروط تكون من اجزاء الموضوع والمعلول وبعد حصول شرطه أيضا لا ينقلب عما هو عليه فكما أنه قبل وجود الموضوع كان الحكم مجعولا فى الواقع على الموضوع المقدر بانه ان استطعت فحج مثلا بعد حصول الشرط أيضا كذلك مخاطب بهذا الخطاب حيث أن المجعول الواقعي لا ينقلب عما هو عليه بحصول موضوعه وعدمه ملخص الكلام أن جعل الاحكام في الواقع يكون من قبيل النار حارة بمعنى انه أينما وجدت تكون كذلك وكذلك أينما وجد زيد العاقل البالغ المستطيع في المثال يتوجه حكم ايها المستطيع عليه فيكون متصفا به فيصل مرتبة الفعلية كما أن جسم الكذائي الحارة ينطبق عليه النار حارة فتكون فعلية لكن قبل وجود النار في الخارج كان لفظا محضا ولم يكن له فعلية ولا أثر فيما نحن فيه أيضا كذلك نعم إذا كانت الاحكام مجعولة بعنوان القضايا الخارجية تختلف الموضوعات بمقتضى اختلاف الازمان والحالات وكذلك الاحكام العارضة لها أيضا كما توهمه بعض فحصل أنه ان كان جعل الاحكام من قبيل

١١

القضايا الحقيقية لا ينقلب الواجب المشروط بعد حصول شرطه أن يكون مطلقا وإما أن كان جعل الاحكام بعنوان قضايا الخارجية حين حصول الشرط ينقلب مطلقا لانه بعد حصول شرطه لا يكون في الخارج مشروطا فاذا انقلب إلى الاطلاق يلزم فيما نحن فيه ان لا يكون الترتب صحيحا إذ بعد سقوط شرطه وانقلابه من المشروطية يكون الاهم والمهم في عرض واحد فوقع التضاد بينهما حينئذ حيث ان صحته مبنى بان يكون المهم مشروطا بعصيان الاهم مثل ان عصيت امر الازالة أو أداء الدين في سعة الوقت فصل فاذا لم يكن مشروطا يكون كل منهما في عرض واحد.

أقول إنا حققنا في محله ان الاحكام ليست مجعولة بنحو القضايا الحقيقية التي ذكرها بل بنحو آخر ومع ذلك لا يختلف النتيجة التي أشار إليها فلا يكون طريق اخذ النتيجة منحصرا بجعل الاحكام بعنوان الذي عينه (قده) وان لم يكن المقام موضع بحث كيفية جعل الاحكام لكن لاشارته ولاجل كيفية أخذ النتيجة بغير النهج الذي اخذ لا باس بالاشارة إلى تحقيقها اجمالا حتى يكون لنا تذكر وللطالبين بصيرة فنقول انا اذا تأملنا في الاحكام التي دائرة بين العقلاء لا نجدها إلا منتزعة من الاخبار عما في ضميره يريده ويطلبه أو يكرهه وينهاه الشخص توضيحه ان المولى إذا شاء أو أراد مثلا فى مقام التشريع من عبده أو من عبيده ماء للسقي أو لامر آخر لا فرق فيه ان يخبره عما فى ضميره بجملة خبرية أو انشائية مثل أن يقول اني أريد الماء

١٢

منك أو منكم أو اعطني الماء أو اعطوني فى كل منهما العقل بل العرف واللغة ينتزع منه الحكم أعني الوجوب أو الايجاب أو غيرهم وليس الحكم والايجاب عند العقلاء إلا هذه الارادات والكراهات المبرزة للمولى بواسطة التكلم أو غيره والشارع رئيس العقلاء كما صرح به (قده) بارتكاز ذهنه الشريف على ما في احد تقريري بحثه في الاشكال الثاني من التنبيه الاول فى المقام ولفظه وهل للحكم معنى غير الارادة فراجع فعلم أنه لا يكون الحكم مجعولا بل هو امر انتزاعي وارادة المولى عند طلبه امرا تكون فعلية وجدية وإلا لا يتعقل اظهار ارادته اصلا إلا أن يكون المتكلم ساهيا أو في مقام الاختبار أو غير ذلك ولكن هذه الامورات كلها خارجة عما نحن فيه ويكفي لهذا شاهدا كل من راجع إلى وجدانه وبالجملة لا ينتزع الحكم إلا عن ارادة جدية فعلية فيكون فعليا عند الخطاب على المكلفين غير أنه لم يصر منجزا في حقهم إلا بعد تحقق الموضوع والعلم.

والحاصل ان الاحكام منتزعات من اظهار الارادات وابراز الكراهات كما ان المفاهيم منتزعات من الخارجيات حيث ان الواضع أخذ عن المعنى صورة ووضع الألفاظ في مقابلها فيكون المعنى مصداقا للفظ كذلك فيما نحن فيه أيضا لان المولى بأي لفظ في مقام التشريع اخبر عما في ضميره يكون مصداقا للإيجاب أو الحرمة ولو اطلق اللفظ ولم ينصب قرينة على خلاف التشريع انتزع العقل منه الحكم وان ما اراده التشريع في الواقع

١٣

حيث ان اللفظ حاك عن ارادة المتكلم إلا أن ينصب قرينة على خلافها داخلية كانت أم خارجية كما في محاورات العرفية فلا يكون الحكم دائرا مدار جعل المولى واعتباره كما زعمه (قده) وبعبارة اخرى ان للاشياء ثلاثة اقسام اما جوهر او عرض او امر اعتباري اما الجوهر فهو الذي إذا وجد في الخارج وجد لا في الموضوع والعرض بالعكس ويقال له المحمول بالضميمة أيضا والثالث امر خيالي اعتباري يكون مقيدا لاعتبار المعتبر مثل الزوجية والملكية فان العلاقة بين الزوج والزوجة أو المالك والمملوك امر خيالي اعتباري إمضاء الشارع وجعله ذا أثر وإلا أين وجود الزوجية والملكية فلا يكون إلا محض اعتبار إذا عرفت ذلك ان المقام لا نجده إلا من قبيل الثاني أعني محمولا بالضميمة لان الارادة ليست لها استقلال بل هي قائمة بالنفس فتكون عرضا حيث انها من كيفيات النفسانية وكذا اظهارها وهو اخبارها ولا نعني من الحكم إلا منتزعا من هذه الارادة المبرزة فيكون الحكم حينئذ فعليا لفعلية منشائه وان كان الواجب استقباليا بخلاف ما قاله (قده) من انه لم يكن فعليا إلا إذا وجد موضوعه ينطبق عليه قهرا فيكون فعليا هذا لا يتم إلا أن يكون الحكم امرا اعتباريا كالملكية والزوجية ولا يفرق فيما قلنا ان يكون الواجب مطلقا او مقيدا او مشروطا ان قلت ان في المشروط كيف يكون الحكم فعليا والحال ان وجوبه معلق لحصول شرطه مثل ان استطعت فحج وان عصيت امر الاهم فأت بالمهم كما فيما نحن بصدده حيث

١٤

إن ظاهر الجملة الشرطية تدل على ان حكمه يكون بعد حصول الشرط فعليا قلت ان الارادة على قسمين مطلقة ومنوطة أما الاول فقد مر بيانه مفصلا واما الثاني فنقول إذا نظرنا فيه نجد ان الارادة التي تعلقت بالفعل الاستقبالي تكون فعلية وموجودة فى النفس ولكن الفعل الذي يقع في الخارج يكون معلقا لوجود شرطه مثل أن يقال فى جواب من يسأل عن ارادة الكذائي اني اردت وبنيت لذلك الفعل ان وافقني فلان مثلا افعل كذا فتكون الارادة والبناء فعلية إنما الاتيان بالعمل معلق على حصول شرطه نعم سنخ هذه الارادة التقديرية والمنوطة غير سنخ الارادة المطلقة ومنه ظهر ان الارادة ليست على تقدير بل الارادة تقديرية فتأمل جيدا هذا فى الارادة التكوينية وارادة التشريعية أيضا كذلك طابق النعل بالنعل لانهم لا يقولون بالاختلاف بينهما غايته فى الارادة التكوينية يكون المكلف نفسه متصديا للفعل وفى التشريعية عوضا عن التصدي يأمر غيره وهذا لم يكن فارقا بينهما لان العمل في مرتبة متأخرة عن الارادة وليس جزء منها فحصل ان الحكم يكون فعليا قبل وجود موضوعاتها خارجا مطلقا لانه ثبت بما بينا ان الحكم يكون منتزعا من الارادة المبرزة والمفروض ان ارادة المولى حين الامر تكون فعلية فيكون الحكم المنتزع منها أيضا فعليا لانه تابع لها ولا يتصور تخلف التابع عن المتبوع وبعد وجود موضوعاتها أيضا يكون كذلك فينتج فى المشروط بعد حصول شرطه لا ينقلب عما هو عليه فتكون النتيجة كما بينه لكن

١٥

الاختلاف فى للسالك لان الارادة والامر لا يختلف بحصول شرط المأمور به في الخارج.

المقدمة الثالثة

ان المضيق له معنيان أحدهما أن يكون واجبا فورا ففورا بمعنى ان تأخيره موجب للمعصية مثل صلاة الزلزلة أو القضاء على قول وثانيهما ان يكون وقته مضيقا ان اهمل في وقته فات وبعد الفوت بحسب القاعدة لا تجب القضاء إلا ان قام دليل على وجوبه وكيف كان قال (قده) في المقام ان المضيق قسمان قسم لا بد في تحققه ان يمضي مقدار من الزمان والزماني في الخارج مثل باب الديات والقصاص حيث انه قبل تحقق القتل في الخارج أو حين مقارنته لا يمكن القصاص لانه يكون قصاصا قبل الجناية وهو ممنوع ولو وقع قبل تحققه آناً ما فمتى لم يفرغ القاتل مثلا عن جزء الاخير من القتل لم يتحقق فحينئذ لا بد من انقضاء زمان وزماني وهو مشغول به حتى يفرغ منه فاذا يثبت عليه القصاص وان ابيتم المثال نقول ان الاتيان به كان لاجل الفرض لا الاثبات فيه أيضا وقسم آخر بانه يكون زمان توجه التكليف والامتثال ونفس التكليف واحدا ولا يكون زمان التكليف أوسع منهما وكذا بالعكس كالصوم في شهر رمضان حيث ان التكليف يتوجه من اول جزء من طلوع الفجر إلى الغروب الشرعي وهو موافق مع زمان التكليف

١٦

والامتثال في الخارج لانه قلنا فيما تقدم ان الشرائط والقيود راجعة إلى الموضوع فتكون جزء منه مثل ان الشارع يقول اني أريد منكم الصوم بهذه الخصوصية والكيفية لا بأي نحو اتفق وان الأحكام تكون بمنزلة المعلولات وهي لا تكون منفكة عن العلل في الخارج لانه قرر في محله ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد النفس الامرية فانها تكون بمنزلة العلة والأحكام بمنزلة المعلول وان كانت رتبة العلة عند العقل مقدمة عن رتبة المعلول كحركة اليد والمفتاح وان الارادة التشريعية كالارادة التكوينية في صدور الفعل عن الشخص من دون فرق بينهما نعم فى ارادة التشريعية علم المكلف وارادته بالاتيان يكون فاصلة وهذه الفاصلة لا تضر بالاتّحاد لأنه في بعض الموارد تكون للعلة اجزاء كثيرة مع انها لا تخرج عن الوحدة والمذكور أيضا كذلك وبالجملة كثرة الاجزاء لا تخرجها عن رتبها ومن هنا ظهر فساد قول صاحب الكفاية من انه لا بد في الواجب المضيق تقدم توجه التكليف آناً ما من ظرف الامتثال وقول بعض الأعلام من انه لا بد في كلية الواجبات من ذلك حيث انهم يقولون لو لم نقل بذلك اما يلزم تحصيل الحاصل بمعنى انه ان كان عالما بالتكليف قبل توجهه إليه في ظرف الامتثال يكون توجهه إليه في ظرفه تحصيلا للحاصل وهو محال أو القبيح بان لم يكن عالما به قبل ظرف الامتثال وتوجهه في ظرفه لا يصيره ممتثلا فيبقى التكليف لغوا فلا بد ان يتوجه قبل ظرف الامتثال آناً ما كي لا ينافي مع الامتثال وحصول العلم به وفيه ما لا يخفى على

١٧

المتأمل بانه ان كان هذا الاشكال واردا يلزم في كلية العلل والمعلولات والحال إنا نشاهد ان الحركة في اليد والمفتاح مثلا يحصل في الخارج معا من غير تقدم إحداهما على الاخرى ومع ذلك لا يلزم تحصيل الحاصل وكذا غير المثال من العلل والمعلولات مع ان حركة اليد والمفتاح أيضا لا تخلو من العلة لانهما معلولان لعلة ثالثة وهو الارادة التكوينية فتكون علة لتحريك اليد وهو علة لحركة المفتاح ومجموعها يكون علة لافتتاح القفل مثلا وكلها حاصل في الخارج معا دفعة واحدة من دون تقدم أو تأخر لاحدهما ولا يلزم المحال أيضا فكذلك ارادة التشريعية كما بيناه نعم كما قلنا لا بد علم المكلف بالتكليف قبل توجهه فما سمعت من ان توجهه لا بد ان يكون مقدما حتى تعلق عليه علم المكلف ممنوع بان المعلوم لا بد أن يكون مقدما من حيث الرتبة لا خارجا كما يشهد بذلك رد العلامة أعلى الله مقامه المصوبة من أنه يلزم على قولهم ان يجعل العلم لنفسه موضوعا حيث انهم يقولون أن الاحكام تابعة لعلم المجتهد فالاحكام تتولد عن علمه ثم يتعلق عليها بانه لا بد أن يكون الواقعيات محفوظة حتى تعلقت عليها العلم أو الظن أو غيرهما فثبت بما بينا ان توجه التكليف والتكليف وظرف الامتثال كلها تكون في مرتبة واحدة ولا يلزم المحال كما قلنا غايته لا بد ان يكون العلم بها مقدما ومن هذا الباب يقولون يجب على المكلفين تعلم الاحكام قبل ان يحصل شرط التكليف وتوجهه وظرف الامتثال من باب مقدمة مفوتة حيث ان التعلم ان لم يكن واجبا يلزم تفويت اكثر الاحكام

١٨

الواقعية أقول أما قوله شرط التكليف لا بد ان يحصل مع توجهه آه فيتم بناء على ما ابتنى عليه مذهبه من ان الشروط والقيود كلها تكون من قيود المادة والموضوع في باب التكاليف كذلك لا بد ان يحصل كلها في الخارج معا لكنا أثبتنا في الواجب المشروط ان الشروط وبعض القيود تكون من قيود الهيئة لا من قيود المادة وليس هنا مورد بحثه فعليه لا يلزم كون شرط التكليف مع ظرف الامتثال في آن واحد مضافا بان حصول الوجوب في الخارج غالبا يكون كذلك كما أنه ربما يكون حصول الاستطاعة فى أول السنة والحال ان ظرف الامتثال يكون في آخرها لو سلمنا لا يتم ايضا إذ من المعلوم ان الاستطاعة عند خروج الرفقة وقبل الموسم لازمة في وجوب الحج فان فرط فيها بعد ذلك بحيث أزال الاستطاعة عن نفسه استقر على ذمته ولا بد من الاتيان به ولو متسكعا مع ان هذا ليس فى رتبة المشروط كما هو واضح وبالجملة وقت الامتثال أما عند خروج الرفقة وأما في أيام الحج على التقديرين لا بد من تقدم الاستطاعة غالبا وليس جميع الشرائط مثل الوقت بالنسبة إلى الصلاة إن قلت لم لا يجوز ان يكون جزء المقارن من الاستطاعة لظرف الامتثال شرطا فى وجوب الحج مثلا كما يشهد بذلك لو كانت الاستطاعة موجودة ثم انتفت قبل ظرف الامتثال ولو دقيقة لا يستقر الحج بذمته اتفاقا لو كان شرطيتها أعم من ذلك ليستقر على ذمته لو لم يصل وقت الامتثال أيضا وكذا لو استطاع فى الآن الأول من ظرف الامتثال يتصف حجه بالوجوب واقعا

١٩

ولو لم يعلم نفسه ويكون الاتيان به مسقطا عن حجة الاسلام لثبوت أن قصد الوجه ليس معتبرا فى العبادة كما قد يتفق ذلك في الارث وغيره فلو كان لتقدم الاستطاعة دخلا في الشرطية لما كان صرف الاستطاعة وحصولها فى حال الامتثال كافيا في وجوبه فيستكشف من هذا كله ان شرط وجوب الحج هو وجودها المقارن للامتثال فقط لا غير فيكون ظرف الخطاب والشرط والامتثال واحدا.

قلت لو سلمنا المثال الثاني وخلوه عن الشبهة والاشكال لامكان ان يقال ان التمكن شرط في الاستطاعة لمكان الاستطاعة وهو ينافي مع الجهل بالموضوع في الفرض :

أولا على ما بينا يكون الحكم من اول الامر فعليا لكن بقيد الاناطة بحصول الاستطاعة وبقائها تكون شرطا في استقرار الحج عليه فلو انتفت ولو في الجزء الآخر من الامتثال يكون كاشفا عن عدم وجوبه في الواقع فلا اختصاص لها بالآن الأول منه وصرف وجودها فيه لا يكون موجبا لاستقرار حجة الاسلام عليه مطلقا حتى في صورة عدم تفريطه كما هو لازم قول القائل نعم ابطاله حرام لكن لا لكونه حجة الاسلام بل بما ان ابطاله في نفسه مطلقا غير مشروع ولو كان ندبا لأجل دليل من خارج كما حقق في محله وأيضا عرفت مما سبق أن الاستطاعة غالبا تكون مقدمة لا منافاة في ذلك ان يكون حصولها في بعض الاحيان في آن الأول من الامتثال فهذا

٢٠