خلاصة القوانين

الشيخ أحمد الأنصاري

خلاصة القوانين

المؤلف:

الشيخ أحمد الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٤٠

«المبحث الاول في»

«منتهى التخصيص»

اختلفوا فى منتهى التخصيص. الاشهر انه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام وذهب جماعة الى جوازه حتى يبقى واحد.

والاقرب قول الاكثر لما تقدم من ان وضع الحقائق والمجازات يتوقف على التوقيف ولم يثبت جواز الاستعمال الى الواحد من اهل اللغة ، وعدم الثبوت دليل عدم الجواز والقدر المتيقن الثبوت هو ما ذكرنا غاية الامر التشكيك فى مراتب القرب وهو سهل اذ ما ترجح جوازه فى ظن المجتهد يجوز وما ترجح عدمه فلا ، وما تردد فيه يرجع الى الاصل.

والقول بأن الرخصة فى نوع العلاقة يوجب العموم فى الجواز ـ غفلة اذ اطراده غير معلوم بالنسبة الى جميع الاصناف وفى جميع انواع العلائق ، وسنبطل ما استدل به المجوزون.

احتج الاكثرون بقبح قول : اكلت كل رمانة فى البستان وفيه آلاف وقد اكل واحدة او ثلاثا. ولعل مرادهم استقباح اهل اللسان ذلك من جهة ما ذكر من عدم ثبوت مثله عن العرب ـ لا محض الغرابة والمنافرة الموجبتين لنفى الفصاحة.

احتج مجوزوه الى الواحد بأمور :

الاول ان استعمال العام فى غير الاستغراق مجاز وليس بعض الافراد اولى من بعض ، فيجوز الى ان ينتهى الى الواحد ومراده ان العلاقة المجوزة لاستعمال العام فى الخصوص هو العموم والخصوص وهو فى الكل موجود. والجواب

١٠١

ان الذى ثبت عن استقراء كلام العرب من الرخصة هو الاستعمال فى الجمع القريب ـ لا مطلق علاقة العموم والخصوص حتى يتساوى الكل فيه.

وما يظهر من بعضهم ان العلاقة هو علاقة الكل والجزء واستعمال اللفظ الموضوع للكل فى الجزء غير مشروط بشىء. فيه ان افراد العام ليست اجزاء له فان مدلول العام كل فرد ـ لا مجموع الافراد ـ مع ان استعمال اللفظ الموضوع للكل فى الجزء انما ثبت فيما لو كان الجزء غير مستقل بنفسه ويكون للكل تركب حقيقى وهو مفقود فيما نحن فيه.

ثم ان صاحب لم اجاب عن الدليل بأن العلاقة فى ذلك هو المشابهة وهى انما تتحقق فى كثرة تقرب من مدلول العام. وفيه منع حصر العلاقة فيها :

ولاصحاب هذا القول ـ ايضا ـ حجج اخرى.

منها قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وفيه انه من باب التشبيه لقصد التعظيم.

ومنها قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ...) والمراد نعيم بن مسعود باتّفاق المفسرين. والجواب ان ذلك ـ ايضا ـ ليس من باب التخصيص بل التشبيه.

ومنها انه علم ـ بالضرورة من اللغة صحة قولنا : اكلت الخبز وشربت الماء ويراد به اقل قليل مما يتناوله الماء والخبز. وفيه ان المراد به المعهود الذهنى فهو خارج عن المبحث.

«المبحث الثانی فی»

«كون العام مجازا فى الباقى»

اذا خص العام ففى كونه حقيقة فى الباقى او مجازا اقوال.

ذهب الاكثر الى كون العام مجازا فى الباقى. وقيل حقيقة مطلقا ، وقيل حقيقة ان خصص بغير مستقل ـ كالشرط والصفة والغاية والاستثناء ، ومجاز ان

١٠٢

خصص بالمستقل من سمع او عقل.

والاول اقرب.

لنا انه لو كان حقيقة فى الباقى ـ كما كان فى الكل ـ لزم الاشتراك والمفروض خلافه.

وقد يقال ان ارادة الاستغراق باقية ـ فلا يراد الباقى حتى يلزم الاشتراك ـ فان المراد بقول القائل : اكرم بنى تميم الطوال. اكرم من بنى تميم من علمت من صفتهم انهم الطوال ـ سواء عمهم الطوال او خص بعضهم ـ ولذا تقول : واما القصار منهم فلا تكرمهم ويرجع الضمير الى بنى تميم .. لا الى الطوال منهم ـ. وكذا معنى اكرم بنى تميم الى الليل. او ان دخلوا. الحكم على جميعهم غايته انه ليس فى جميع الازمنة فى الاول وعلى جميع الاحوال فى الثانى. وكذا اكرم بنى تميم الا الجهال منهم. الحكم على كل واحد بشرط اتصافه بالعلم. وانت خبير بأن ذلك كله تكلفات باردة ، وتجشم حمل الهيئة التركيبية على خلاف وضعه ، ليس بأولى من حمل العام فقط على المعنى المجازى. واول قولنا. رأيت اسدا يرمى. مع قولنا : رأيت شجاعا. ـ مثلا ـ الى امر واحد لا يقتضى اتحادهما وكذا تأدية التراكيب الحقيقة لمعنى واحد لا يوجب اتحادهما فى الدلالة. وغرابة تفسير الاستثناء بما ذكر لا يحتاج الى البيان.

حجة القول بكونه حقيقة فى الباقى مطلقا ان اللفظ كان متناولا له حقيقة بالاتفاق ، والتناول باق على ما كان انما طرأ عدم تناول الغير. والجواب انه ان اراد من تناوله حقيقة التناول فى نفس الامر فهو لا يثبت الحقيقة المصطلحة ، وان اراد تناولها بعنوان الحقيقة المصطلحة نمنع ذلك قبل التخصيص اذا المتصف بالحقيقة هو اللفظ باعتبار تناوله للجميع وكون الباقى داخلا فى المعنى الحقيقى لا يستلزم كون اللفظ حقيقة فيه لان الوضع انما ثبت فى حال ارادة جميع الافراد الكلى التفصيلى الافرادى.

١٠٣

احتج القائل بأنه حقيقة ان خص بغير مستقل بأن لفظ العام حال انضمام المخصص المتصل ليس مفيدا للبعض لانه لو كان كذلك لما بقى شىء يفيده المخصص بل المجموع منه ومن المتصل يفيد البعض.

وفيه انه ان اراد عدم افادته البعض بخصوصه بحسب الوضع فلا كلام لنا فيه وان اراد انه لا يفيد البعض بحسب ارادة اللافظ فهو ممنوع غاية الامر عدم الافادة من حيث هو واما مع انضمام المخصص فلا ريب فى افادته ذلك ـ كما هو المدار فى المجازات.

«المبحث الثالث فی»

«حجية العام المخصص»

العام المخصص بمجمل ليس بحجة اتفاقا فان كان مجملا من جميع الوجوه ففى الجميع مثل قوله ـ تعالى ـ (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ). وان كان فى الجملة ففى قدر الاجمال.

واما المخصص بمبين فالمعروف من مذهب اصحابنا الحجية فى الباقى ونقل بعضهم اتفاقهم على ذلك.

لنا ظهوره فى ارادة الباقى بحيث لا يتوقف اهل العرف فى فهم ذلك حتى ينصب قرينة اخرى عليه غير التخصيص ولذا ترى العقلاء يذمون عبدا قال له المولى اكرم من دخل دارى. ثم قال. لا تكرم زيدا. اذا ترك اكرام غير زيد.

وايضا العام كان حجة فى الباقى فى ضمن الجميع قبل التخصيص ـ كان بحيث يجب العمل على مقتضاء فى كل من الافراد ـ خرج المخرج بالدليل وبقى الباقى ، فيستصحب حجيته فى الباقى.

ولنا ـ ايضا ـ احتجاج السلف بالعمومات المخصصة بحيث لا يقبل الانكار.

احتج المنكر بأن حقيقة العموم غير مراد والباقى احد المجازات فلا يتعين الحمل عليه لاحتمال ارادة سائر مراتب الخصوص ، ولا مرجح فيصير مجملا.

١٠٤

والجواب منع الاجمال وعدم المرجح اذا لا قربية الى العام مرجح ، فكما ان التبادر علامة الحقيقة ظهور العلاقة علامة تعيين المجاز ولذا لو قيل : رأيت اسدا يرمى. تبادر معنى الشجاع ـ لا البخر ـ. ولا ريب ان العام المخصص سيما مع عدم ذكر مخصص آخر معه ينصرف الى الباقى لكونه اقرب.

مع ان الوقوع فى كلام الحكيم ـ ايضا ـ يصرفه عن الاجمال والحمل على اقل الجمع وان كان يدفع الاجمال لكن الحمل على تمام الباقى اولى منه.

«المبحث الرابع فی»

«عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص»

الحق موافقا للاكثرين عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص. عن المخصص وعلى المختار فالحق الاكتفاء بالظن.

ولا بد فى تحرير محل النزاع وتحقيق المقام من تمهيد مقدمة هى :

ان الفرق الواضح حاصل بين حالنا وحال اصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والائمة ـ عليهم‌السلام ـ فى طريق فهم الاحكام لانهم كانوا مشافهين لهم عارفين بمصطلحهم واجدين للقرائن الحالية والمقالية ، واكثرهم كانوا محتاجين حين السؤال فمكالمة المعصوم ـ (ع) ـ معهم لا بد ان يكون بحيث يفهمون ولا يؤخر بيانه عن وقت حاجتهم فربما كان الوقت يقتضى التعميم له والتخصيص لآخر وربما كان يتفاوت الحال من اجل التقية وغيرها.

واما نقلهم الاخبار الى آخرين وعملهم عليه فهو ـ ايضا ـ لا يشبه الاخبار الموجودة عندنا فانه كان اسباب الاختلال والاشتباه قليلا.

وبالجملة انحصر امرنا فى هذا الزمان فى الرجوع الى كتب الاحاديث الموجودة ولا ريب انها فى وجوده من الاختلاف.

من جهة العلم بالصدور عنهم وعدمه وجواز العمل بالخبر الواحد وعدمه وكذلك اشتراط العدالة وتحقيق معنى العدالة ومعرفة حصولها فى الراوى وكيفية الحصول.

١٠٥

ومن جهة الاختلال فى المتن من جهة النقل بالمعنى واحتمال السقط والتحريف والتبديل ، وحصول التقطيع الموجب لتفاوت الحال من جهة السند والدلالة.

ومن جهة الاختلال فى الدلالة بسبب تفاوت العرف وخفاء القرائن وحصول المعارضات.

وان التكليف اليقينى الثابت ـ بالضرورة من الدين ـ لا بد من تحصيله من وجه يرضى به الشرع. وسبيل العلم به منسد غالبا ، وليس لنا سبيل فى ذلك الا الرجوع الى الادلة المتعارفة.

والكتاب العزيز لا يستفاد منه الا اقل قليل من الاحكام والاجماع نادر الحصول ـ كالخبر المتواتر ـ.

والاستصحاب لا يفيد إلّا الظن.

والاخبار مع انها لا تفيد إلّا الظن ـ متخالفة متعارضة فى غاية الاختلاف والتعارض ، بل الاختلاف حاصل بينها وبين سائر الادلة ـ ايضا ـ بل موجود بين جميع الادلة ، ولا بد فى الاعتماد على شىء منها على بيان مرجح لئلا يلزم ترجيح المرجوح او المساوى ، والقول بالتخيير مطلقا او الاخذ بأحد الطرفين ـ من باب التسليم ـ انما يتم مع العجز عن الترجيح ـ كما هو منصوص عليه فى الاخبار مدلول عليه باعتبار ـ فالاخذ بكل ما رأيناه اولا من حديث او ظاهر آية او استصحاب مع وجود الظن الغالب بوجود المعارض مجازفة من القول.

وبالجملة الذى نجزم به بعد العجز عن تحصيل العلم وسد بابه هو استخراج الحكم عن هذه الادلة فى الجملة بمعنى انه يمكن الاعتماد على ما حصل الظن بحقيته من جملتها لا الاعتماد على كل واحد منها والاصل حرمة العمل بالظن الا ما قام الدليل عليه ولم يقم الا على هذا القدر.

فان قلت : انك قائل بان الخبر الصحيح من الخبر الواحد حجة فاذا رأينا حديثا صحيحا نعمل به لان الاصل عدم المعارض.

١٠٦

قلت : اجراء الاصل مع العلم بوجود المعارضات ـ غالبا لا معنى له.

ان قلت : العلم بوجود المعارضات ليس فى خصوص هذا الحديث.

قلت : هذا من الشبهة المحصورة التى حكموا بوجوب الاجتناب عنها مع ان جواز ارتكاب الشبهة المحصورة الى ان يلزم منه العمل بالحرام لا يتم هنا لان فتح باب الرخصة فى ذلك لآحاد المكلفين يقتضى تجويز الارتكاب فى الجميع فاين اعتبار المعارض ـ مع ان الغالب فى ذلك التعارض.

وحاصل المقام ان حجة الله على العباد منحصر فى النبى (ص) ـ والوصى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبعد العجز عن الوصول اليهما وبقاء التكليف لا دليل على جواز الاعتماد الا على ظن من استفرغ وسعه فى تحصيل الظن ولا يمكن ذلك الا بعد الفحص عن المعارض والاعتماد على الترجيحات.

اذا تمهد هذا فتقول : العام المتنازع فيه واحد من الادلة واحتمال وجود المعارض اعم من المناقض الرافع لجميع حكمه والمخصص الرافع لبعضه ولما كان الغالب فى العمومات التخصيص قوى احتمال وجود المعارض هنا فصار مظنونا فصار اولى بوجوب الفحص عن المعارض (من ـ ظ) سائر الادلة.

وشبهة من لا يقول بوجوب الفحص عن المخصص انه لو وجب طلب المخصص فى التمسك بالعام لوجب طلب المجاز فى التمسك بالحقيقة ولا يجب ذلك اتفاقا وبدلالة قضاء العرف فكذا العام.

وفيه انه ان اراد انه لا يجب التفحص عن الحقيقة اصلا بمعنى انه اذا ورد حديث يدل على فعل شىء بعنوان الوجوب. واحتمل راجحا وجود آخر يدل على ان المراد بالامر فى الحديث الاستحباب فهو فى الحقيقة احتمال المعارض فلا معنى لعدم وجوب البحث عنه فكيف يدعى عليه الاتفاق.

وان اراد انه لا يجب فى الحقيقة طلب المجاز اذا لم يكن ظن بوجود المعارض بل ولا احتمال بمعنى ان يتفحص لاحتمال قيام قرينة دلت على ارادة المعنى المجازى

١٠٧

فهو صحيح ومسلم فى العام ـ ايضا من هذه الجهة فانا لا نتفحص فى العام عن المخصص لاحتمال ان يكون المراد معناه المجازى بل لان وجود دليل خاص يرفع حكم بعض افراد العام محتمل او مظنون ـ وان آل ذلك الى حصول التجوز فى العام و ـ ثانيا على فرض تسليم كون البحث عن العام من جهة دلالة اللفظ لكن نقول : الاتفاق الذى ذكره المستدل هو الفارق مع ان الفارق موجود بوجه آخر وهو تفاوت الحقائق فى الظهور.

ومما يوضح ما ذكرنا انه لا يجب الفحص عن احتمال سائر المجازات فى العام فتأمل فيما ذكرنا تجده حقيقا بالقبول.

واما الدليل على كفاية الظن فهو الدليل على كفاية الظن فى مطلق معارضات الادلة وهو ان بقاء التكليف وعدم السبيل الى تحصيل الاحكام الواقعية ـ بعنوان اليقين ـ يفيد جواز العمل به ـ وان فرض امكان الوصول اليه فى بعضها ـ لان استفراغ الوسع فى تحصيله انما يمكن بعد تتبع جميع الادلة وهو مستغرق للاوقات ـ غالبا ـ مفوت للمقصود مع انه عسر عظيم وحرج شديد وهما منفيان فى الدين بالاجماع والآيات والاخبار.

ثم ان المراد من الظن هو ما يحصل بعد الفحص ـ لا بأصالة الحقيقة ـ فلا معنى لمقابلة مختارنا بأنا نكتفى بالظن الحاصل من اصالة الحقيقة.

ومطلق الظن كاف ، وفى تحصيله يكفى تتبع كل باب بوبوه فى كتب الاخبار لكل مطلب وما يظن وجود ما له مدخلية فى المسألة من سائر الابواب ، وقد صار الآن ذلك سهلا من جهة تأليف الكتب المبوبة مثل الكافى والتهذيب والاستبصار والوافى ووسائل الشيعة.

ولا بد من ملاحظة الكتب الفقهية سيما الاستدلالية مثل المعتبر والمنتهى والمختلف والمسالك والمدارك وغيرها.

١٠٨

المقصد الثالث ـ في :

ما يتعلق بالمخصص

وفیه مباحث

١٠٩

«المبحث الاول في»

«الاستثناء المتعقب للجمل»

اذا تعقب المخصص عمومات وصح عوده الى كل واحد ، فلا خلاف فى ان الاخيرة مخصصة به ، انما الخلاف فى غيرها. وفرضوا الكلام فى الاستثناء ثم قاسوا عليه غيره.

والتحقيق ان ادوات الاستثناء وضعت بوضع عام لكل واحد من الافراد فلم يتصور الواضع حين وضع تلك خصوصية اخراج خاص بل عموم معنى الاخراج ووضع تلك الالفاظ لكل واحد من جزئيات الاخراج ، فعوده الى الاخيرة حقيقة ـ بمعنى ان رجوعه الى الاخيرة معنى حقيقى له ـ ولم يثبت استعماله ولا جوازه معه فى غيره.

وبيان ذلك يتوقف على امور :

الاول ـ ان وضع الحقائق والمجازات وحدانى ـ كما حققناه فى المشترك ـ ومنه وضع الادوات والمستثنى ، فلا يجوز ارادة اخراجين من الاداة ولا ارادة فردين من المستثنى.

الثانى ـ ان محل النزاع هو جواز كون كل من الجمل موردا للاخراج على البدل ـ لا كون المجموع موردا له ـ

ويؤيده المثال الذى ذكره السيد ـ رحمه‌الله ـ بقوله : «اضرب غلمانى والق اصدقائى الا واحدا» فان اخراج الواجد من كليهما محال.

١١٠

الثالث ـ ان جعل قول القائل : لا اكلت ولا شربت ولا نمت الا بالليل بمعنى لم افعل هذه الافعال الا بالليل ، مجاز لا يصار اليه إلّا بدليل. و ـ ايضا ـ جعل قول القائل : الا العلماء. بعد قوله : اضرب بنى تميم واهن بنى اسد واشتم بنى خالد. راجعا الى الجميع انما هو لاجل ان الجمع المحلى باللام حقيقة فى العموم وارادة علماء بنى خالد ـ فقط ـ توجب التخصيص ، لكن يعارضه لزوم تخصيص بنى تميم وبنى اسد ، او ارادة هذه الجماعات من الجمل فالامر يدور فيه بين مجازات ثلاثة (١).

اذا تحقق هذه فنقول :

كل استثناء يستدعى مستثنى منه واحدا فلا بد ان يكون كل من المستثنى منه والاستثناء والمستثنى وحدانيا فكما لا يجوز استعمال المشترك فى اكثر من معنى ولا اللفظ فى معنييه الحقيقى والمجازى ـ كما بينا ـ لا يمكن ارادة فردين من الماهية ولو على سبيل البدل ولو فرض الارجاع الى اكثر من جملة فلا بد من ارادة معنى مفرد منتزع من الجمل ـ مثل هذه الافعال او هذه الجماعات ونحو ذلك ـ وهو مجاز لا يصار اليه إلّا بدليل. ولما كان القرب مرجحا للاخيرة نرجعه اليها ولا نحكم بالخروج فى غيرها لكونه خلاف الوضع وخلاف الاصل.

والحاصل انه اذا ثبت من الخارج كون المتعدد فى حكم الواحد فلا اشكال فى الرجوع الى الجميع وانها حقيقة ـ ايضا ـ وان حصل التجوز ـ كما اشرنا ـ وإلّا فلا وجه له لا حقيقة ولا مجازا.

__________________

(١) الاول ارجاع الجمل المتقدمة الى الفرد المنتزع اعنى هذه الجماعات.

الثانى تخصيص الجمل المتقدمة مع ابقاء المستثنى على العموم.

الثالث تخصيص المستثنى بالاخيرة وابقاء الاوليين على العموم.

١١١

«المبحث الثانی»

(اذا تعقب العام ضمير يرجع الى بعض افراده)

اذا تعقب العام ضمير يرجع الى بعض ما يتناوله ، فقيل انه يخصص وقيل لا وقيل بالتوقف.

وذلك مثل قوله ـ تعالى ـ : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ...). الى ان قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.). فان الضمير فى قوله ـ تعالى ـ (بِرَدِّهِنَّ) بل وفى (بُعُولَتُهُنَّ) للرجعيات ، فعلى الاول يختص التربص بهن وعلى الثانى يعم البائنات.

احتج المثبتون بأن تخصيص الضمير مع بقاء عموم ما هو له يقتضى مخالفة الضمير للمرجع فلا بد من تخصيص العام لئلا يلزم الاستخدام فانه وان كان واقعا فى الكلام لكنه مجاز.

احتج النافون بأن اللفظ عام يجب اجرائه على عمومه ما لم يدل دليل على تخصيصه ومجرد اختصاص الضمير العائد فى الظاهر اليه لا يصلح لذلك.

احتج المتوقفون بتعارض المجازين وعدم المرجح.

والاظهر عندى هو القول الاوسط وذلك لان التشاغل بالكلام مع احتمال عروض ما يخرجه عن الظاهر ـ من اللواحق ـ لا يخرج اللفظ الظاهر فى معنى مثل العموم ـ عن الظاهر حتى يثبت تعلق اللواحق به واخراجه عن الظاهر ، ففيما نحن فيه اذا ابتدأ فى الكلام بذكر العام ـ مثل المطلقات ـ فنقول ان ظاهرها العموم واذا قيل (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) علمنا ان الحكم بالرد مختص بالرجعيات لكن لم يظهر من ذلك ان المرجع كان هو الرجعيات او الاعم. فأصل العموم بحاله وعدم ثبوت الارجاع كاف ، ولا يجب ثبوت العدم. فظهر ان احتمال كون مخالفة الضمير مخصصا للمرجع لا يضر ظهور المرجع فى العموم.

هذا مع ان الظاهر اصل والضمير تابع والدلالة الاصلية اقوى من الدلالة التبعية.

١١٢

«المبحث الثالث فی»

«ان المورد لا یخصص العام»

لا خلاف فى ان اللفظ الوارد بعد سؤال او عند وقوع حادثة يتبع السؤال وتلك الحادثة فى العموم والخصوص اذا كان اللفظ محتاجا الى انضمام السؤال اليه فى الدلالة على معناه ـ باعتبار الوضع او بحسب العرف ـ وكذا لو كان مستقلا مساويا للسؤال فى العموم والخصوص او اخص مع دلالته على حكم الباقى على سبيل التنبيه ؛

ولو كان اعم منه فى غير محل السؤال مثل قوله (ص) ـ وقد سئل عن ماء البحر : «هو الطهور مائه الحل ميتته» فيتبع عموم الجواب فى المقامين ـ ايضا ـ لعدم مانع من ذلك.

واما لو كان اعم منه فى محل السؤال مثل قوله (ص) وقد سئل عن بئر بضاعة : «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شىء الا ما غير لونه او طعمه او رائحته». فاختلفوا فيه.

والحق ـ كما هو مختار المحققين ـ ان العبرة بعموم اللفظ ـ لا بخصوص المحل.

لنا ان المقتضى ـ وهو اللفظ الموضوع للعموم ـ موجود والمانع مفقود ، ولعمل الصحابة والتابعين على العمومات الواردة على اسباب خاصة بحيث يظهر منهم الاجماع على ذلك كما لا يخفى على من تتبع الآثار وكلام الاخيار ـ.

احتجوا بأنه لو كان عاما لفاتت المطابقة بين الجواب والسؤال. وفيه ان المطابقة تحصل بإفادة مقتضى السؤال ، والزيادة لا تنفى ذلك.

وبأنه لو كان يعم غير السبب لجاز تخصيص السبب واخراجه ـ كما يجوز فى غيره والتالى باطل وفيه ان عدم جواز اخراج السبب لاجل انه بمنزلة المنصوص عليه المقطوع به.

١١٣

وبأن من حلف : والله لا تغذيت. بعد قول القائل : تغذ عندى. لا يحنث بكل تغذ بل بالتغذى عنده فلو لم يكن السبب مخصصا لحصل الحنث بكل تغذ وهو باطل بالاتفاق وفيه ان العرف دل على هذا التخصيص ـ كما اشرنا ـ.

«المبحث الرابع فی»

«تخصيص العام بمفهوم المخالفة»

اختلفوا فى جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة ـ بعد اتفاقهم على جوازه فى مفهوم الموافقة.

والاكثر على الجواز لانه دليل شرعى عارض مثله وفى العمل به جمع بين الدليلين فيجب.

احتج الخصم بان الخاص انما يقدم على العام لكون دلالته على ما تحته اقوى من دلالة العام على ذلك والمفهوم اضعف دلالة من المنطوق فلا يجوز حمله عليه.

والجواب عنه منع كون المفهوم اضعف من العام المنطوق مطلقا سيما مع غلبة تخصيص العمومات وشيوعه ، فيحمل العام على الخاص لان اجتماعهما قرينة لارادة ذلك فى العرف.

وما يقال من الرجوع الى مراتب الظن باعتبار الموارد ، فحيث حصل فى المفهوم ظن اقوى من العام يخصص به وإلّا فلا ، فخروج عن طريقه ارباب الفن ورجوع الى القرائن ونظر الاصولى ملاحظة المقام خاليا عنها.

«المبحث الخامس فی»

«تخصيص الكتاب بخبر الواحد»

لا ريب فى جواز تخصيص الكتاب بالكتاب وبالاجماع وبالخبر المتواتر.

وفى جوازه بخبر الواحد اقوال :

ثالثها ـ التوقف. وقد ينسب الى المحقق ـ رحمه‌الله ـ نظرا الى انه قال : «الدليل على العمل بخبر الواحد هو الاجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة

١١٤

ومع وجود الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به.

وهذا ليس معنى التوقف بل هو نفى للتخصيص ـ كما لا يخفى.

والاظهر الجواز ـ كما هو مذهب اكثر المحققين.

احتجوا بأنهما دليلان تعارضا فاعمالها ولو من وجه اولى ولا ريب ان ذلك لا يحصل إلّا مع العمل بالخاص اذ لو عمل بالعام بطل الخاص ولغى بالمرة وفيه ان العام كما انه يخرج عن حقيقته بالتخصيص فكذلك الخاص ان اريد به معنى مجازى بحيث لا يوجب ترك ظاهر العام وحقيقته ، فمحض كونه جمعا بين الدليلين لا يوجب القول بالتخصيص ، مع انه ليس جمعا بل هو الغاء لاحدهما اذ المعارضة بين ما دل عليه العام من افراد الخاص ونفس الخاص وهو ملغى ـ باجمعه ـ.

فالاولى ان يقال دليلان تعارضا وتساويا احدهما عام والآخر خاص ، و (لكن) فهم العرف وشيوع التخصيص وكونه اقل استلزاما لمخالفة المراد فى نفس الامر مرجحة لاختيار تخصيص العام.

احتج المانع بان الكتاب قطعى وخبر الواحد ظنى والظن لا يقاوم القطع. والجواب ان الكتاب ـ وان كان قطعى الصدور لكنه ـ ظنى الدلالة فهما ظنيان تعارضا وتساويا لان المعيار فى الاستدلال اللفظ من حيث الدلالة ـ لا من حيث هو ـ والذى نقطع بصدوره هو لفظ العام لا الحكم عليه بعنوان العموم فكون العموم مراد الشارع مظنون وكذا الحكم فى الخاص على الخصوص.

والقول بان الخطاب بماله ظاهر وارادة غيره قبيح ، فيثبت وجوب العمل بظاهر القرآن انما يتم بالنسبة الى من يوجهه الخطاب ، وينقض بمدلول خبر الواحد لكونه خطابا بما له ظاهر ـ ايضا ـ مع ان جواز العمل بظاهر الكتاب قد خالف فيه الاخباريون والتمسك فى اثبات جواز العمل به بالاخبار يحتاج الى دفع الاخبار المعارضة وبالاجماع مدفوع بمنعه فى موضع النزاع.

فظهر بطلان كلام المحقق ـ ايضا ـ بالمعارضة بالقلب فكما ان الاجماع لم يعلم انعقاده على جواز العمل بخبر الواحد فيما كان هناك عام من الكتاب

١١٥

لم يعلم انعقاد الاجماع على حجية ظاهر الكتاب وعامه فيما ثبت ما يعارضه سيما والقائلون بجواز التخصيص كثيرون و ـ ايضا سد باب تخصيص الكتاب بخبر الواحد يوجب المنع من العمل بخبر الواحد اذ قلما وجد خبر لم يكن مخالفا لظاهر الكتاب لا اقل من مخالفته لاصل البراءة الثابتة بمثل (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها).

ان قلت ان الاخبار الكثيرة وردت بان الخبر المخالف لكتاب الله يجب طرحه وضربه على الجدار فكيف يصح الخروج عن ظاهر الكتاب بخبر الواحد. قلت : الظاهر من المخالفة فى هذه الاخبار المخالفة المخصوصة بصورة التناقض والمنافاة رأسا.

«المبحث السادس»

«اذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر»

اذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر فاما يعلم تاريخهما ـ بالاقتران او تقدم الخاص او العام ـ او يجهل ـ وان كان بجهالة تاريخ احدهما ـ فهذه اقسام اربعة.

ومراد الاصوليين بالعام والخاص فى هذا المبحث العام والخاص المطلق ـ لا من وجه ـ اذا المعارضة بين العامين ـ بالمعنى الثانى ـ مثل المعارضة بين المتناقضين لا بد فيه من ملاحظة المرجحات الخارجية فى التخصيص كما لا يخفى.

القسم الاول ـ ما علم اقترانهما ـ قد يتصور فى القول والفعل ، والقولين المتصلين من دون تراخ ان جعلنا المقارنة اعم من الحقيقة.

والحق فيه بناء العام على الخاص لما مر من الفهم العرفى والرجحان النفس الامرى والشيوع والغلبة.

القسم الثانى ـ وهو ما علم تقدم العام على الخاص.

اما ان يكون ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام فيكون ناسخا ـ لا تخصيصا ـ للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وقد يستشكل ذلك فى اخبارنا المروية عن ائمتنا ـ (ع) فانه اذا

١١٦

كان الخاص فى كلامهم ، يلزم وقوع النسخ بعد النبى ـ (ص) ـ وهو باطل لانقطاع الوحى بعده وهو مدفوع بأن لزوم النسخ انما هو اذا علم ان هذا التخصيص كان بعد حضور وقت العمل بالعام ـ لا مجرد تراخى رواية الامام ـ (ع) من حيث هو عن زمان العام ، فلا بد فى الحكم بالنسخ من اثبات ان الخبر الخاص ـ من حيث انه ناسخ ـ متأخر عن زمان العمل بالعام. وهو غير معلوم بل خلافه معلوم لاتفاقهم على ان الاحكام الكلية بعد الرسول (ص) باقية الى يوم القيامة ولذا لو فرض ان احد الرواة سمع العام من امامه ـ (ع) ـ وتأخر سماع الخاص عنه عن زمان حضور وقت العمل به من دون مانع ظاهر فلا بد ان يكون ظهور كونه مكلفا بالعام الى ذلك الحين من جهة اخرى غير النسخ ـ مثل تقية او ضرورة ـ علمها الامام ـ (ع) ـ فتأخيره ـ ايضا ـ قد يكون من غير جهة النسخ.

وان كان قبل حضور وقت العمل فالاقوى كونه مخصصا لجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

واما القسم الثالث ـ وهو ما علم تقدم الخاص ـ فالاقوى ـ وفاقا لاكثر المحققين ـ ان العام يبنى على الخاص ، وذهب جماعة منهم السيد والشيخ الى كونه ناسخا للخاص.

لنا رجحان التخصيص بما مر ؛ وترجيح الراجح واجب.

واستدل ـ ايضا ـ بأنه لو لم نخصص العام والغينا الخاص لزم ابطال القطعى بالظنى وهو باطل.

بيان الملازمة ان دلالة الخاص على مدلوله قطعى ودلالة العام محتمل لجواز ان يراد به الخاص. ومرجع هذا الى ان الترجيح من جهة قوة الدلالة ـ وان لم يكن قطعيا ـ ولا بأس به.

احتج القائل بالنسخ بأن المخصص للعام بيان فكيف يتقدم عليه. وجوابه ان المتقدم ذات البيان واما وصف البيانية فهو متأخر.

١١٧

القسم الرابع ـ وهو ما جهل التاريخ (تاريخه. ظ) والمعروف من مذهب الاصحاب العمل بالخاص وهو الاقوى لانه لا يخرج عن احد الاقسام السابقة وقد عرفت فى الكل رجحان تقديم الخاص اما من جهة كونه ناسخا او لكونه مخصصا.

١١٨

الباب الرابع فى :

المطلق والمقيد

وفيه : مبحثان

١١٩

«المبحث الاول في»

«معنى المطلق والمقيد»

المطلق ما دل على شائع فى جنسه اى على حصة محتمله الصدق على حصص كثيرة مندرجة تحت جنس ذلك الحصة فيدخل فيه المعهود الذهنى والنكرة ، ويخرج منه العام والجزئى الحقيقى والمعهود الخارجى.

والمقيد ما دل لا على شائع فى جنسه.

وله تعريف آخر وهو : ما اخرج من شياع مثل رقبة مؤمنة. والاصطلاح الشائع بينهم هو ذلك وعلى هذا فالمطلق ما لم يخرج عن هذا الشياع.

اذا عرفت هذا فاعلم ان جميع ما مر فى احكام معارضة العام والخاص وتخصيص العام بالخاص واقسام معلومية التاريخ وجهالته ـ وغير ذلك ـ يجرى هنا ـ ايضا ـ ويزيد هذا المبحث بانه :

«المبحث الثاني في»

«المطلق والمقيد المتنافيان»

اذا ورد مطلق ومقيد فاما ان يختلف المحكوم به فيهما ـ وان لم يختلف نفس الحكم الشرعى ـ مثل اطعم يتيما واكرم يتيما هاشميا.

او يتحد مثل اطعم يتيما واطعم يتيما هاشميا.

اما على الاول فلا يحمل المطلق على المقيد اجماعا الا عن اكثر الشافعية ـ على ما نقل ـ فحملوا اليد فى آية التيمم على اليد فى آية الوضوء فقيدوها بالانتهاء الى المرفق لاتحاد الموجب وهو الحدث. وهو باطل لانه يرجع الى اثبات العلة والعمل بالقياس. وفيه منع القياس اولا ومنع العلة ثانيا.

١٢٠