خلاصة القوانين

الشيخ أحمد الأنصاري

خلاصة القوانين

المؤلف:

الشيخ أحمد الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٤٠

١
٢

٣
٤

اشعار حول الكتاب

تفضل بها الخال العلامة الشيخ عبدالغفار الانصاري

ادركت ما قال المحقق احمد

فخزلت مبحثه بما به تحمد

فذكرت من حسن البيان بلاغة

واتيت ما فيه البديع المورد

هذا قوانين المحقق بالذي

يحوى لطلاب الهداية مورد

فاتيت بالابداع في تلخيصه

فهماً بتوضيح المباني احمد

هذا هو الفكر الصحيح لمن له

رأى بانوار الحقيقة يوقد

قد جئت ما عجز العليم بفهمه

ادراك ما فيه المحقق بقصد

رواده الطلاب من اهل النهى

من كل فذ ذهنه يتوقد

باركته فيه واكبرت الفتى

علم به الاعلام دوماً يرشد

٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

احمده واشكره واستعينه واستهديه واصلى واسلم على نبيه المصطفى وعلى آله النجباء الاتقياء.

وبعد فهذه خلاصة كتاب عرقت جذوره : وامتدت الى الاعماق ، وامتصت الرى والغذاء من الدماغ العبقرى دماغ المحقق القمى ـ عطر الله تربته ـ فامتدت اغصانه وتدلت فروعه ، فكانت خير فيء يستظل بفيئها الوارف طلاب العلم ورواده ، وخير نمير لرى عطشى العلم وظمأى المعرفة ، وتمتعت بثمره الشهى وفود الرفد وحفاظ شرعة السماء من حملة فقه جعفر بن محمد عليهما والسلام.

دعانى الى ذلك رغبة ـ كانت لها بواعث ـ اعتلجت فى النفس واعتلت فى الفكر منذ امد ليس بالقصير من الزمن ، فنفثها القلم فوق الطرس لتحقيق هذه الرغبة لاختصار هذا السفر الجليل النفيس اعنى القوانين المحكمة ليكن متناوله اسهل وفهمه اقرب.

فها أنا ذا اضع هذا المختصر بين يدى من اكن لهم الحب والاخلاص ومن تجمعنى واياهم رابطة العلم وولاء آل الله ـ تعالى ـ ليكن ذكراى فى هذه الدنيا وذخرى فى معادى واخراى اذ لم يكن قصدى غير القربى الى الذات العلية الى الله ـ تعالى ـ وحده ، ورجائى من وراء عملى هذا ، الرحمة والرضوان من لدى الملكوت الاعلى من لدن من لا يخيب من رجاه وتوسل اليه ودعاه انه قريب مجيب.

وهو مرتب على مقدمة وابواب وخاتمة.

٦

المقدمة فى رسم العلم

و

موضوعه

و

نبذ من القواعد اللغوية.

٧

«رسم العلم»

اصول الفقه علم لهذا العلم وله اعتباران من جهة الاضافة ، ومن جهة العلمية ،

اما رسمه باعتباره العلمية فهو :

العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الاحكام الشرعية الفرعية.

فخرج بالقواعد ، العلم بالجزئيات ، وبقولنا الممهدة ، العربية وغيرها مما يستنبط منه الحكم ولم يمهد لذلك ، وبالاحكام ما يستنبط منها المهيات وغيرها ، وبالشرعية العقلية ، وبالفرعية الاصولية

واما رسمه باعتبار الاضافة فالاصول : جمع اصل وهو ـ لغة ـ ما يبتنى عليه ـ شىء ـ وعرفا ـ يطلق على معان.

منها : الظاهر والدليل والقاعدة والاستصحاب.

والفقه ـ لغة الفهم. وعرفا هو :

العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن ادلتها التفصيلية.

والمراد بالاحكام النسب ، وبالشرعية ما من شأنه ان يؤخذ من الشارع فخرج العقلية المحضة كبيان ان الكل اعظم من الجزء ، وبالفرعية ما يتعلق بالعمل بلا واسطة فخرج بها الاصولية.

وهنا اشكال مشهور بناء على تعريف الحكم الشرعى بانه خطاب الله المتعلق بأحكام المكلفين مع كون الكتاب من ادلة الاحكام وهو ـ ايضا ـ خطاب الله فيلزم اتحاد الدليل والمدلول.

والذى يخالجنى فى حله هو : جعل الاحكام عبارة عن ما علم ثبوته من الدين بالاجمال والادلة عبارة عن الخطابات المفصلة فانا نعلم ـ بالبديهة ـ ان لا كل الميتة وغيرها حكما ولكن لا نعرفه بالتفصيل الا من قوله ـ تعالى ـ «حَرَّمَت عليكم

٨

الْمَيْتَةَ» ونحو ذلك.

وهنا اشكال آخر هو : ان الاحكام ـ كما ذكرت ـ هى النسب. فموضوعاتها خارجة وقد تكون نفس العبادة ومعرفة ماهية العبادة وظيفة الفقه فلا ينعكس الحد.

ويمكن دفعه بالتزام الخروج لان تلك الموضوعات من جزئيات موضوع العلم وتصور الموضوع وجزئياته من مبادى العلم والمبادى قد تبين فى العلم وقد تبين فى غيره ولا منافاة بين خروجه عن تعريف العلم ودخوله فى مسائله.

وعن ادلتها من متعلقات العلم. فخرج علم الله والانبياء ويمكن اخراج الضروريات فانها قياساتها معها واما اخراج القطعيات عن الفقه فلا وجه له اذ الاستدلال قد يفيد القطع بالحكم.

وخرج بالتفصيلية (١) علم المقلد فانه ناش عن دليل اجمالى مطرد فى المسائل وهو : كلما افتى به المفتى فهو حكم الله فى حقى. هكذا قرره القوم.

ويرد عليه ان كون التفصيلية احترازا عن علم المقلد انما يصح اذا كان ما ذكره دليلا لعلمه بالحكم وليس كذلك بل هو دليل لوجوب امتثاله. ويمكن ان يقال ان قيد التفصيلية لاخراج الادلة الاجمالية ـ كما بينا ـ. ثم انهم اوردوا على الحد امرين :

الاول ان الفقه اكثره من باب الظن فما معنى العلم. واجيب بوجوه : اوجهها ان المراد بالحكم الاعم من الظاهرية والنفس الامرية واليه ينظر قول من قال : «ان الظن فى طريق الحكم لا فى نفسه وظنية الطريق لا تنافى قطعية الحكم».

الثانى ان المراد بالاحكام ان كان كلها يخرج منه اكثر الفقهاء ، وان كان البعض دخل فيه من علم بعض المسائل بالدليل.

__________________

(١) والظاهر خروجه من جنس التعريف بعد ان ليس المقلد الا الجاهل الآخذ بقول الغير فهو قبال العالم عرفا. فالقيد غير محتاج اليه من هذه الجهة.

٩

والجواب انا نختار اولا ارادة الكل ولكن المراد (١) بالعلم التهيؤ والاقتدار والملكة وثانيا ارادة البعض ونقول بحجيته وجواز العلم به. فلا اشكال ـ ايضا ـ لانه من افراد المحدود.

«موضوع علم»

واما موضوعه فهو ادلة الفقه وهى : الكتاب والسنة والاجماع والعقل. واما القياس فليس من مذهبنا.

«تقسیم»

اللفظ يتصف بالكلية والجزئية باعتبار المعنى فما يمنع عن وقوع الشركة جزئى وما لا يمنع كلى فان تساوى صدقه فى افراده فمتواط وإلّا فمشكك وهذا فى الاسم ظاهر.

واما الفعل والحرف فلا يتصفان بالكلية والجزئية فى الاصطلاح ولعل السر فيه ان نظرهم فى التقسيم الى المفاهيم المستقلة والمعنى الحرفى غير مستقل بالمفهومية بل هو آلة لملاحظة حال الغير فى الموارد وكذا الفعل بالنسبة الى الموضع النسبى فان له وضعين فبالنسبة الى الحدث كالاسم وبالنسبة الى نسبته الى فاعل ما كالحرف.

واما اسماء الاشارة والموصولات والضمائر ـ ونحوها ـ فان قلنا بكون وضعها عاما والموضوع له خاصا فلا بد ان لا يتصف بالكلية والجزئية واما على القول بكون الموضوع له فيها عاما ـ كالوضع ـ كما هو مذهب قدماء اهل العربية فداخل فى الكلى.

«تقسیم آخر»

اللفظ والمعنى اما ان يتحدا ، فاللفظ متحد المعنى والمعنى متحد اللفظ ،

__________________

(١) ورد بأن التهيؤ والملكة غير حاصلة عن الادلة بل عن الممارسة والمزاولة.

١٠

اولا ، فان تكثر كل منهما فالالفاظ متباينة ـ توافقت المعانى او تعاندت ـ وان تكثرت الالفاظ واتحد المعنى فمترادفة ؛ وان اتحد اللفظ وتكثرت المعانى فان وضع لكل منها مع قطع النظر عن الآخر ومناسبته فمشترك ويدخل فيه المرتجل ، وان اختص الوضع بواحد فهو الحقيقة والباقى ، مجاز ان كان الاستعمال بمجرد العلاقة مع القرينة ، ومنقول ان ترك المعنى الحقيقى ووضع لآخر بمناسبته او استعمل فى المعنى المجازى الى ان وصل الى حد الحقيقة فالمنقول تخصيصى وتخصصى هذا.

والمجاز المشهور المعبر عنه بالمجاز الراجح ـ على الحقيقة ـ ما يتبادر به المعنى بقرينة الشهرة واما مع قطع النظر عن الشهرة فلا وان كان الاستعمال فيه اكثر.

«علامات الحقيقة والمجاز»

الجاهل باصطلاح اذا اراد معرفة حقائق الفاظه مجازاته فله طرق :

الاول ـ تنصيصهم بأن اللفظ الفلانى موضوع للمعنى الفلانى وان استعماله فى الفلانى خلاف موضوعه.

الثانى ـ التبادر وهو علامة الحقيقة كما ان تبادر الغير علامة المجاز.

والمراد ان الجاهل بمصطلح اذا تتبع موارد استعمالاتهم وعلم انهم يفهمون من لفظ خاص معنى مخصوصا بلا معاونة قرينة وعرف ان ذلك من جهة اللفظ فقط يعرف ان هذا اللفظ موضوع عندهم لذلك المعنى وينتقل اليه انتقالا آنيا

ولما كان استناد الانفهام الى مجرد اللفظ وعدم مدخلية القرينة فيه امرا غامضا لتفاوت الافهام فى التخلية وعدمه اوجبوا استقراء غالب موارد الاستعمال.

فالاشتباه والخلط اما لعدم استفراغ الوسع واما لتلبيس الوهم ولذا قالوا : «ان الفقيه متهم فى حدسه» فالفقيه حينئذ كالجاهل بالاصطلاح.

١١

وبما ذكرنا يندفع ما يتوهم : ان التبادر موجود كذلك فى المجاز المشهور فلا يكون لازما خاصا لها وذلك ان المجاز المشهور هو ما يفهم منه المعنى ـ كما ذكرنا ـ باعانة الشهرة والذى اعتبر فى معرفة الحقيقة هو التبادر من جهة اللفظ مع قطع النظر عن القرائن.

وبالتأمل فيما حققناه تعلم معنى كون تبادر الغير علامة للمجاز.

الثالث (١) صحة السلب يعرف بها المجاز كما تعرف الحقيقة بعدمها. والمراد ـ ايضا ـ اصطلاح التخاطب.

واورد على ذلك باستلزامه الدور المضمر فان كون المستعمل فيه مجازا لا يعرف إلّا بصحة سلب المعانى الحقيقية ولا يعرف سلب المعانى الحقيقية الا بعد معرفة ان المستعمل فيه ليس منها وهو موقوف على معرفة كونه مجازا فلو اثبت كونه ـ مجازا بصحة السلب لزم الدور المذكور.

واما لزوم الدور فى عدم صحة السلب فالحق انه ـ ايضا ـ مضمر لان معرفة كون الانسان حقيقة فى البليد موقوف على عدم صحة سلب المعانى الحقيقية للانسان عنه وعدم صحة سلب المعانى الحقيقية موقوف على عدم معنى حقيقى للانسان يجوز سلبه عنه كالكامل فى الانسانية ومعرفة عدم هذا المعنى موقوف على معرفة كون الانسان حقيقة فى البليد.

والذى يختلج بالبال فى حل الاشكال ان يقال : ان سلب ما علم كونه معنى حقيقيا

__________________

(١) لا بأس بذكر مقال لتوضيح حال وهو ان كل لفظ ، له معنى يتحقق بينهما بسبب الوضع ربط خاص يصير به هذا مدلول ذلك وذاك دالا عليه. وهذا الربط هو المعبر عنه يكون ذلك المعنى معنى لهذا اللفظ. فالمراد بسلب اللفظ من جهة المعنى عن المعنى المبحوث عنه انه لم يتحقق هذا الربط بين المعنى المقصود وهذا اللفظ ولم يصر هذا المعنى معنى لهذا اللفظ فيستكشف انا انه لم يتحقق الوضع الذى هو سبب صيرورة هذا معنى ذلك.

١٢

فى الجملة موجب لمجازيته وعدم صحة سلب المعنى الحقيقى فى الجملة علامة لكون ما لا يصح سلب المعنى الحقيقى عنه معنى حقيقيا والحاصل ان معرفة كونه حقيقة فى هذا المعنى الخاص موقوف على معرفة الحقيقة فى الجملة فافهم.

الرابع الاطراد (١) وعدم الاطراد ، فالاول علامة للحقيقة والثانى للمجاز.

واورد على الاطراد النقض بمثل اسد للشجاع فانه مطرد ومجاز وعلى عدم الاطراد النقض بمثل الفاضل والسخى فانهما موضوعان لدات ثبت له الفضيلة والسخاء ولا يطلق عليه ـ تعالى ـ والقارورة فانها موضوعة لما يستقر فيه الشىء ولا يطلق على غير الزجاجة.

واجيب عن الثانى بان الفاضل موضوع لمن من شأنه الجهل والسخى لمن من شأنه البخل فلا يشمله ـ تعالى ـ والقارورة للزجاج لا كل ما يستقر فيه الشىء.

والتحقيق ان المجاز ـ ايضا ـ بالنسبة الى ما ثبت نوع العلامة فيه مطرد ولو كان فى صنف من ذلك النوع (٢).

«في الاستعمال»

اذا تميز المعنى الحقيقى من المجازى فكلما استعمل اللفظ خاليا عن القرينة فالاصل الحقيقة لان مبنى التفهيم والتفهم على الوضع اللفظى غالبا ولا خلاف لهم فى ذلك.

واما اذا استعمل فى معنى لم يعلم وضعه له فهل يحكم بكونه حقيقة فيه ، او مجازا ، او حقيقة اذا كان واحدا او التوقف.

__________________

(١) الاطراد عبارة عما يستعمل فيه اللفظ من المعنى اينما وجد وعدمه عبارة عما يستعمل فيه اللفظ لا كذلك. (٢) فلا الاطراد علامه الحقيقة ولا عدمه علامة المجاز.

١٣

المشهور الاخير وهو المختار لعدم دلالة الاستعمال على الحقيقة.

والسيد على الاول لظهور الاستعمال فيه وهو ممنوع.

والثانى منقول عن ابن جنى (١) وجنح اليه بعض المتأخرين لان اغلب لغة العرب مجازات والظن يلحق الشىء بالاعم الاغلب ، وهو ـ ايضا ـ ممنوع.

والثالث مبنى على ان المجاز مستلزم للحقيقة.

ورد بمنع استلزام المجاز للحقيقة بل للوضع كالرحمن.

ثم اعلم ان العلم بالمستعمل فيه يتصور على وجهين.

الاول ان يعلم لفظ استعمل فى معنى ـ او معان ـ ولم يعلم انه موضوع لذلك ام لا فيحتمل عندنا ان يكون المستعمل فيه نفس الموضوع له وان يكون له معنى آخر وضع له ويكون هذا مجازا.

الثانى ان يعلم الموضوع له فى الجملة. وهو يتصور على وجهين :

احدهما انا نعلم ان له معنى حقيقيا ، ونعلم انه استعمل فى معنى خاص ولا نعلم انه هو او غيره ، فهل يحكم بمجرد ذلك انه الموضوع له اللفظ ، او يقال الاستعمال اعم من الحقيقة كما هو الظاهر لعدم دلالة الاستعمال على شىء.

الثانى انا نعلم ان اللفظ مستعمل فى معنى ـ او اكثر ـ ونعلم ان له معنى حقيقيا معينا ، ويتصور على وجهين :

احدهما ان نشك فى انه فرد من افراد المعنى الحقيقى او مجاز بالنسبة اليه.

ثانيهما ـ ان نشك فى ان اللفظ وضع له ـ ايضا ـ بوضع على حدة ، فيكون مشتركا ام لا مثل انا نعلم ان للصلاة معنى حقيقيا قد استعمل فيه لفظها وهو المشروط بالتكبير والقبلة والقيام ، فاذا استعملت فى المشروط بالطهارة والركوع والسجود ، نعلم جزما انها من معانيها الحقيقية ، واذا اطلقت على صلاة الميت ، فهل هذا الاطلاق علامة الحقيقة بمعنى ان المعنى الحقيقى للصلاة هو المعنى الاول العام ؛

__________________

(١) جنى بالتخفيف معرب كنى

١٤

او انها موضوع بوضع على حدة لصلاة الميت او الاستعمال اعم من الحقيقة.

فالمشهور على التوقف لان الاستعمال اعم.

والسيد على الحقيقة فان ظهر انها من افراد المحدود يلحقها بها وإلّا يحكم بكونها حقيقة بالوضع المستقل ، فيكون مشتركا لفظيا.

ويظهر الثمرة فى عدم اجراء حكم الحقيقة على المشكوك فيه على المشهور واجرائه على مذهب السيد على الاحتمال الاول والتوقف فى اصل حكم الحقيقة على الثانى.

«تعارض الاحوال»

الاصل عدم وضع اللفظ لاكثر من معنى حتى يكون مشتركا او منقولا ، وعدم ارادة معنى آخر من اللفظ غير المعنى الاول حتى يكون مجازا فحيث علم ارادة هذه من اللفظ فهو ، وان احتمل ولم يكن قرينة ، يحمل على الموضوع له ـ كما تقدم ـ.

واما لو كان الاحتمال بينها فهناك صور يعبر عنها بتعارض الاحوال يحصل من دوران اللفظ بين الاشتراك والنقل والتخصيص والاضمار والمجاز.

وذكروا لكل واحد منها مرجحا على الآخر حاصله : إبداء كون صاحب المزية الكاملة اولى بالارادة للمتكلم ، فلا بد من حمل كلامه على ما هو اكمل ، واحسن ، واتم فائدة.

وفيه انا نمنع ان غالب المتكلمين فى اغلب كلماتهم يعتبرون ذلك.

نعم اذا كان المراد اظهار البلاغة يعتبر ما له مزيد دخل بموافقة مقتضى الحال ، ولكن ليس له مزيد دخل فى بيان الاحكام الشرعية.

فالتحقيق ان المجاز اغلب من غيره من المذكورات ولا يمكن انكار هذه الغلبة وكذا التخصيص اغلب افراد المجاز فى العام ـ لا مطلقا

١٥

وعلى هذا يقدم المجاز على الاشتراك والنقل ، بل ، ولا يبعد ترجيحه على الاضمار ـ ايضا ـ ويقدم التخصيص على غيره من اقسام المجاز وغيرها لان الظن يلحق الشىء بالاعم الاغلب.

«الحقيقة الشرعية»

فى ثبوت الحقيقة الشرعية خلاف والمشهور ان النزاع فى الثبوت مطلقا والنفى مطلقا والحق كما يظهر من بعض المتأخرين ـ التفصيل ـ ،

وتحرير محل النزاع هو : ان كثيرا من الالفاظ المتداولة على لسان المتشرعة ـ اعنى بهم من يتشرع بشرعنا ـ صار حقائق فى المعانى الجديدة التى استحدثها الشارع ـ مثل الصلاة فى الاركان المخصوصة والصوم فى الامساك المخصوص الى غير ذلك ـ ، فهل ذلك بوضع الشارع اياها إزاء هذه المعانى بأن نقلها ووضعها لهذه المعانى او استعملها مجازا مع القرينة وكثر استعمالها الى ان استغنى عن القرينة فصارت حقائق ، او لم يحصل الوضع الثانوى فى كلامه بأحد الوجهين وكان استعماله فيها بالقرينة. وقد طال التشاجر بينهم فى الاستدلال.

ولكل من الطرفين حجج واهية.

اقوى ادلة النافين اصالة عدم النقل.

واقوى ادلة المثبتين الاستقراء ، فيدور الحكم مدار الاستقراء.

وقد يستدل بالتبادر بانا اذا سمعنا هذه الالفاظ يتبادر فى اذهاننا تلك المعانى وهو علامة الحقيقة.

وهذا الاستدلال من الغرابة ؛ بحيث لا يحتاج الى بيان.

اذ من الظاهر ان المعتبر من التبادر هو تبادر المعنى من اللفظ عند المتحاورين بذلك اللفظ ، فاذا سمع النحوى لفظ الفعل من اللغوى وتبادر الى ذهنه! «ما دل على معنى فى نفسه مقترن بأحد الازمنة الثلاثة». لا يلزم منه كونه حقيقة فيه عند اللغوى وكيف كان.

١٦

فالحق ثبوت الحقيقة الشرعية فى الجملة واما فى جميع الالفاظ والازمان فلا.

والذى يظهر من استقراء كلمات الشارع ان مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج والركوع والسجود ـ ونحو ذلك ـ قد صار حقائق فى صدر الاسلام بل ربما يقال : انها كانت حقائق فى هذه المعانى قبل شرعنا ايضا. فحصولها فيها (وفى غيرها من الالفاظ الكثيرة الدوران ، فى زمان الصادقين (ع) ـ) مما لا ينبغى التأمل فيه. واما مثل الوجوب والسنة والكراهة ـ ونحو ذلك ـ فثبوت الحقيقة فيها فى كلامهما ـ (ع) ـ ومن بعدهما ـ ايضا محل تأمل ، فلا بد للفقيه من التتبع.

ثم ان ما ذكرنا من الوجهين فى كيفية صيرورتها حقيقة فالاول منهما فى غاية البعد بل الظاهر هو الوجه الثانى وعليه فلا يحصل الثمرة الا فيما علم انه صدر بعد الاشتهار فى هذه المعانى الى ان استغنى عن القرينة فان علم انه كان بعده ، يحمل على الحقيقة وإلّا فيمكن صدوره قبله وحينئذ فيمكن ارادة المعانى الجديدة واختفى القرينة ، ويمكن ارادة المعنى اللغوى فيحمل على اللغوى لاصالة العدم.

«في الصحيح والاعم»

اختلفوا فى كون العبادات اسام للصحيحة او الاعم منها.

وهذا الخلاف لا يتوقف على ثبوت الحقيقة الشرعية بل يكفى فيه ثبوت الحقيقة المتشرعة ومطلق استعمال الشارع تلك الالفاظ فيها فالنزاع فى انه متى اطلق لفظ دال على تلك الماهية فهل يراد الصحيحة منها او الاعم.

وتظهر الثمرة فى الشك فى مدخلية شىء فى تلك الماهية ـ جزءا كان او شرطا ـ فلا يحكم بمجرد فقدان ذلك بالبطلان على الثانى بخلاف الاول للشك فى الصحة.

وما يظهر من بعضهم من التفرقة بين الجزء والشرط وان الاول مضر على القول الثانى ـ ايضا ـ فلعله مبنى على ان المركب لا يتم إلّا بتمام الاجزاء.

١٧

والحاصل انه لا ريب فى ان المهيات المحدثة امور مخترعة من الشارع ، ولا شك ان ما احدثه الشارع متصف بالصحة بمعنى انه لو اتى به على ما اخترعه الشارع يكون ممتثلا للامر بالماهية ، لكنهم اختلفوا بوجهين :

احدهما ان الالفاظ هل هى موضوعة للماهية مع اجتماع الشرائط او الماهية المطلقة. فمراد من يقول انها اسام للصحيحة ؛ انها اسام للماهية مجتمعة لشرائط الصحة. ومراد من يقول انها اسام للاعم ، انها اسام لنفس الماهية من حيث هى.

وتظهر الثمرة فيما لو حصل الشك فى شرطية شىء ، فعلى القول بكونها اسام للصحيحة لا بد من العلم بحصول الموضوع له فى امتثال الامر ولا يحصل إلّا مع العلم باجتماعه لشرائط الصحة.

واما على القول الآخر فيحصل امتثال الامر بمجرد الاتيان بها وبما علم من شرائطها.

وما يقال : «ان الشك فى الشرط يوجب الشك فى المشروط» معناه الشك فى تحقق الشرط المعلوم الشرطية ـ لا الشك فى ان لهذا الشىء شرطا يتوقف صحته عليه ام لا ـ.

الوجه الثانى ـ ان (انه ـ ظ) مع قطع النظر عن الشرائط ، قد يحصل الاشكال بالنظر الى الاجزاء فان النقص فى اجزاء المركب قد لا يوجب سلب اسم المركب عنه عرفا ـ كما فى الانسان المقطوع الاذن ـ فالصلاة اذا كانت موضوعة للتامة الاجزاء ولم يصح سلبها بمجرد النقص فى بعض الاجزاء يتم القول بكونها اسما للاعم ، فيرجع الكلام الى وضعها لما يقبل هذا النقص وذلك لا يستلزم كون الناقصة مأمورا بها لان كونها مصداق الاسم معنى وكونها مأمورا ومطلوبا يحصل به الامتثال معنى آخر اذ لا بد فى الامتثال ـ مضافا الى صدق الاسم ـ كونها صحيحة.

١٨

ويظهر الثمرة فيما اريد اثبات المطلوبية والصحة بمجرد صدق الاسم (كما) لو شك فى جزئية شىء للصلاة ولم يعلم فسادها بدونه فعلى الاعم يتم المقصود ، وعلى الصحيح لا لعدم معلومية تمامية الاجزاء.

والاظهر كونها اسامى للاعم بالمعنيين ـ كما يظهر من تتبع الاخبار ـ

ويدل عليه عدم صحة السلب عما لم يعلم فساده وصحته بل واكثر ما علم فساده. وتبادر القدر المشترك.

ويلزم القول بكونها اسام للصحيحة القول بالف ماهية لصلاة الظهر ـ مثلا ـ فصلاة الظهر للمسافر شىء وللحاضر شيء آخر وللحافظ شىء وللناسى شىء آخر وكذلك المتوهم والصحيح والمريض الى غير ذلك من اقسام الناسى فى جزئيات مسائل النسيان والشاك وهكذا.

واما على القول بكونها اسام للاعم فلا لان هذه احكام مختلفة ترد على ماهية واحدة والظاهر انه لا دخل فى اشتراط شىء بشىء اعتباره فى تسميته به.

ومما يؤيد كونها اسام للاعم ، اتفاق الفقهاء على ان اركان الصلاة هى ما تبطل الصلاة بزيادتها ونقصانها عمدا او سهوا. اذ لا يمكن زيادة الركوع ـ مثلا ـ عمدا الا عصيانا ولا ريب فى كونه منهيا عنه ومع ذلك يعد ركوعا.

احتجوا بالتبادر وصحة السلب عن العارى عن الشرائط وكون الاصل فى مثل «لا صلاة إلّا بطهور» نفى الحقيقة.

وفى الاولين منع. ولعل المدعى لذلك غفل من جهة الاوامر فان الامر لا يتعلق بالفاسد وهذا فاسد لعدم انحصار محل النزاع فى الاوامر فان الامر قرينة لارادة الصحيحة

واما قوله ـ (ع) ـ «لا صلاة إلّا بطهور». فتوجه المنع فيما ادعوه فى خصوص هذا التركيب كما لا يخفى على من لاحظ النظائر كقوله «لا عمل إلّا بنية» و «لا نكاح الا بولى». وغير ذلك. فان القدر المسلم فى اصالة الحقيقة انما هو فى مثل

١٩

لا رجل فى الدار واما مثل هذه الهيئات التى نفس الذات موجودة فيها فى الجملة فلا.

ولذا تداولها العلماء فى المجمل والمبين ولم يحتملوا ارادة نفى الحقيقة الاعلى تقدير هذا القول وذلك ـ ليس لان الاصل الحمل على الحقيقة بل ـ لان دعوى كون هذه الالفاظ اسام للصحيحة صارت قرينة لحملها على مقتضى الحقيقة. فحينئذ نقول حمل هذه العبارة على نفى الذات انما يمكن اذا ثبت كون الصلاة اسما للصحيحة فاذا اردنا اثبات كون الصلاة اسما للصحيحة بسبب مقتضى الحقيقة يوجب الدور (١) إلّا ان يكون مراد المستدل ان اصالة الحقيقة يقتضى ذلك خرجنا عن مقتضاه. في غيرها بالدليل وبقى الباقى وذلك خلاف الانصاف.

ولذا لم يتمسك احد من العلماء فى ذلك المبحث لاثبات نفى الاجمال باصالة الحقيقة.

__________________

(١) توضيحه على ما فى التوضيح ـ ان حمل كلمة لا على نفى الحقيقة فى مثل «لا صلاة إلّا بطهور». موقوف على كون مدخولها اسما للصحيحة فاذا توقف كون المدخول اسما للصحيحة على نفى الحقيقة لزم المحذور. هذا ولما كانت المقدمة الاولى فى حيز المنع لامكان ان يقال : لا نسلم توقف حمل كلمة لا على نفى الحقيقة على كون الصلاة اسما للصحيحة بل نفيها بمقتضى اصالة الحقيقة كما ذكره بقوله : إلّا ان يكون مراد المستدل الخ اجاب عنه بقوله وذلك خلاف الانصاف.

اقول : الظاهر ان الحمل على نفى الحقيقة مقتضى الاصل هنا وهناك لكن على القول** بكون الالفاظ موضوعة للصحيح واما على القول الآخر فلا لعدم امكان ذلك بسبب وجود نفس الماهية فيها فى الجملة فيصير مجملا وبعبارة اخرى الحمل على نفى الحقيقة على القول بالوضع للصحيح هناك ليس لانه موقوف على الوضع للصحيح بل لان الصحيح يكون هو المورد لاجراء الاصل المذكور بخلاف الاعم لوجود نفس الذات فلا يكون موردا له فلا يجرى فيكون مرددا بين نفى الصحة والكمال فافهم وعليه فالنزاع هناك يكون بين القائلين بالاعم بل مبتنيا على الاعم واما على الصحيح فلا لان المورد من صغريات الاصل المذكور.

٢٠