خلاصة الأصول

غلامحسين التبريزي

خلاصة الأصول

المؤلف:

غلامحسين التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٣٦

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اعلم يا أخي أني كثيرا ما صاحبت العلماء العظام (دامت بركاتهم) وكانوا يظهرون التنفر والانزجار من الإطناب في أصول الفقه وكان يقول بعضهم يا ليت واحدا من الأعاظم (ممن يرجع إليهم) شمر ذيله لهذا المهم ولخصه وهذبه وخلص طلاب العلوم الدينية من هذا الضيق والضنك الذي ابتلوا به بسبب إطالته وإني (وإن كنت ممن لا يعتنى بقوله) توكلت على الله وأقدمت على هذا الأمر الذي فيه رضاء الله ورضاء أوليائه مستعينا به راجيا منه نيل المقصود بفضله فإنه تعالى كثيرا ما يجري الأمور العظام بأيدي الضعفاء الأذلاء ليظهر قدرته فمن وقف فيه على ركاكة في ـ العبارة أو غفلة عن المرام فليصلحه أو يمر به كريما فإن أول كل شيء وابتداءه قد يكثر فيه الغلط والغفلة ولعل الله يوفق قوما صلحاء من بعد يصلحون ويهذبون ما أسسته فإن الله على كل شيء قدير وكان ذلك في سنة ثلاثمائة وسبعون بعد الألف من الهجرة النبوية على هاجرها ألف ألف تحية.

وأنا الأقل غلام حسين تبريزي مقيم مشهد

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا الكتاب المسمى بخلاصة الأصول

للعلامة التحرير جامع المعقول

والمنقول حجة الإسلام والمسلمين

الحاج شيخ غلام حسين المجتهد

التبريزي وقد فرغت من نسخته

في شوال ١٣٧٢ وأنا أقل المحصلين

سيد جواد علم الهدى خراساني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين

أما بعد فهذه أفكار فطرية يقبلها الذوق السليم الذي لا يشوبه تقليد ولا يدنسه أهواء (قل هذه سبيلي فمن شاء فليقبل ومن شاء فليعرض)

اعلم هداك الله وإيانا إلى الصراط المستقيم أن للناس في كل شيء أميالا وأهواء ولكن الحق أحق أن يتبع وإن صدر ممن لا يعبأ به من الناس فإن الحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيثما وجدها وقد كان يقول مولانا وأستاذنا الشريعة الأصبهاني طيب الله ورمسه أن الناس في العلوم يميلون إلى كل ما اقتضت أهواؤهم فقد كان في برهة من الدهر الفضيلة والمنقبة في علم النحو فأقبل إليه الناس وألفوا فيه كتبا وأطنبوا فيه غاية الإطناب واجتهدوا فيه غاية الاجتهاد حتى ظهر منهم نوابغ في هذا العلم من سيبويه

٣

وأخفش وأمثالهما ثم انتقلت الفضيلة والسيادة إلى علم المعاني والبيان فألفوا في هذه الصناعة كتبا مطولة مشروحة بشروح كثيرة مطنبة فكلما نبغ في هذا العلم نابغ أشاروا إليه بالبنان وأقبل إليه الناس من الصقع ومن كل مكان وهكذا كانت تلك السيادة في برهة من الأزمنة باقتضاء الأحوال والأمكنة في علم الفلسفة والرياضيات والحكمة وبعد الوحيد البهبهاني قدس‌سره انتقلت تلك السيادة في الشيعة إلى علم أصول الفقه الذي كان في بدئه مقدمة للفقه فحاز السبق من ذي المقدمة وظن أنه أعلى وأشرف مننه وأنه الغاية العظمى والمقصد الأسنى فأقبل المحصلون إليه بجد واشتياق حتى غفل بعضهم عن علم الفقه الذي هو بعد علم الكلام أشرف العلوم وأهمها وأوجبها فكانوا يشتغلون ويباحثون في المعنى الحرفي شهرين مثلا وفي مقدمة الواجب ستة أشهر وفي موضوع العلم وتعريفه أياما وأحقابا ويطنبون في تنقيح مباحث الأصول التي أكثرها فطريات وارتكازيات غاية الإطناب وكان لا يكون أحد منهم مجتهدا في هذا العلم كله إلا بعد تضييع أعوام كثيرة من عمره بل كان اجتهاده بعد صرف عمره في ذلك العلم عشرين سنة مثلا. في ريب وارتياب كما هو المشهود المحسوس لكل من له أدنى خبروية واطلاع فلذا غفل بعضهم عن الفقه والتفسير والحديث وسائر العلوم المهمة اللازمة فلو أنهم اقتصروا على مقدميته المحضة كما هو دأب [١] علمائنا السابقين رضوان الله عليهم

__________________

[١] ونزيدك وضوحا أن الشيخ الطوسي والمحقق والعلامة والشهيدين وأمثالهم رضوان

٤

أجمعين لما وقعوا في ريب وارتياب ونحن نقتصر منها على المباحث اللازمة ونستعين من الله أنه خير معين

 (في تعريف أصول الفقه)

١ ـ فصل لا ريب أن أصول الفقه معناها واضح من معاني مفردات ألفاظها وتعريفها مستفاد من معناها والمقصود [١] من تعريفها ليس ببيان حقائقها وماهياتها بنحو يكون جامعا للأفراد ومانعا للأغيار حتى يكون محلا للنقض والإبرام بل هو بمنزلة التعريف اللفظي أو هو عينه للإشارة إجمالا إليه قبل الشروع ويكفينا أن نعلم في بدئها أنها قواعد مهدت

__________________

الله عليهم أجمعين قد كانوا مجتهدين جامعين شرائط الاستنباط محققا وما كان علم الأصول في أزمنتهم بهذا الطول والتفصيل بل الشهيد الثاني قدس الله سره بعد ما حقق في باب القضاء أن الاجتهاد لا يحتاج في مقدماته إلى التطويل وإن صرف العمر في ذلك تضييع للعمر وبعد ما قال إن كثيرا من مختصرات أصول الفقه كالتهذيب لابن الحاجب يشتمل على ما يحتاج إليه من شرائط الدليل المدون في علم الميزان استدرك وقال نعم يشترط مع ذلك كله أن يكون له قوة يتمكن بها من رد الفروع إلى أصولها واستنباطها منها وهذه هو العمدة في هذا الباب وإلا فتحصل تلك المقدمات قد صارت سهلة لكثرة ، حققه العلماء فيها وفي بيان استعمالها وإنما تلك القوة بيد الله يؤتيها من يشاء إلخ ...

أقول أيها الروح الطيب القدسي إنك حي مرزوق عند الله انظر بالعين التي أعطيكها الله إلى ما ابتلوا طلاب العلوم الدينية بالتطويلات التي لا طائل فيها وتحصيل المقدمات قد صارت صعبة لكثرة ما طول فيها حتى اختلطوا فيها ما ليس منها كالفلسفة اليونانية التي لا مساس لها بها فيا أيها الأساتيذ الكرام لخصوا الأصول وهذبوها ما استطعتم إن سعيكم عند الله مشكورا وعلموها الطلاب بألفاظ عذبة غير مغلقة ومشكلة يجزيكم ربكم جزاء المحسنين

[١] ونزيدك وضوحا أنه لم تنزل علينا آية محكمة تدل على أن التعريف لا بد أن يكون جامعا للأفراد ومانعا للأغيار وفي تفسير اللفظ لا مانع من العمومية كما في سعدانة نبت بل حسن التعريف وعدمه أنما يكون بكفايته بالمرام العقلائي الذي قصد منه وبعدمها مثلا

٥

لاستنباط الأحكام الشرعية عن دلائلها ومداركها ولا يهمنا [١] البحث في أوان الشروع أن موضوعها عنوان الدليل أو الكتاب والسنة والإجماع والعقل التي يقال لها الأدلة الأربعة وأن الموضوع ما هو وإن تعدد العلوم

__________________

المرام العقلائي لمن يقصد أصفهان أو التبريز أو غيرهما للتنزه والتفرج يكفيك أن تعرفه بأن بلدة أصفهان لها باغات وبساتين وأنهار جارية وفيها أراضي مبسوطة ذات أشجار ملتفة تنزه بها القلوب وتنشط بها النفوس ولا ينافي ذلك كون تبريز أو سائر البلدان كذلك وهكذا من يقصدها للتجارة أو غيرها من الأغراض فتعرفها من هذه الجهة وقد يتعلق بمعرفتها في الجملة ولن يعلم أنه اسم بلدة فيقال في هذا المقام إن أصفهان بلدة وقد يتعلق المرام بمعرفتها بجميع مشخصاتها ومميزاتها فلا بد في هذا المقام أن يكون تعريفها مانعا للأغيار وقد يتعلق بمعرفة ماهيته بأعراضها وخواصها وقد يتعلق بمعرفة ماهيته بحقائقها كما هي حقها ففي أي مورد كان التعريف كافيا للمرام كان حسنا وإلا فلا فما قاله في الكفاية من كون هذه التعريفات في بداية العلوم أو الأبواب بمنزلة تفسير اللفظ في غاية الجودة لأن المقصود ليس تعريف المبتدئ ومن يشرع في العلوم بحقائقها وجميع مميزاتها بل المقصود تعريفها في الجملة ليكون على بصيرة في مقام الشروع وكيف يمكن تعريفها لها بجميع مشخصاتها مع أن مهرة الفن يختلفون فيها وقلما يخلو التعارض من الخدشة ، وقد أشار إلى ما ذكر علماء المعقول في بيان أن الحد لا يطلق فقط على بيان الماهية بجنسها وفصلها بل له معان أخر غير ذلك

[١] ويدلك على هذا أن مهرة هذا الفن قد اختلفوا في أن موضوعه هو عنوان الدليل أو الأدلة الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والعقل) من حيث إنها أدلة للفقه والحيثية مشخصة جهة البحث فيها ـ أو الموضوع هو الحجة للمكلف أو أنه ليس منحصرا بشيء ولا يلزمنا انتزاع جامع للموضوعات المتكثرة لأن وحدة العلم وتعدد العلوم ليس بوحدة الموضوع وتكثره بل بوحدة الغرض وتعدد الأغراض والمقاصد فإذا كان هذا حال أساتيذ الفن فكيف يكلف من يشرع في علم أصول الفقه أن يحقق قبلا موضوعه ليكون ذلك ميزانا لكل من ساءله أما ترى أن صاحب المعالم (قدس الله سره) مع كون كتاب المعالم من الكتب المبسوطة في أصول الفقه في زمانه لم يعرف أصول الفقه ولم يبين موضوعه في ديباجته بل اكتفى بتعريف الفقه لكونه مقدمة له

٦

هل هو بتعدد الموضوعات أم بتعدد الأغراض وأن مسائل [١] العلم هي العوارض الذاتية لهذا الموضوع وأن العرض الذاتي ما هو وأن العرض الغريب ما هو فإن هذه كلها مسائل لا طائل لها فيما نحن فيه فلو أعرض عنها الأساتيذ الكرام لكان أولى وأحق

(فصل في حجية الظواهر)

حجية ظواهر الألفاظ أمر فطري إلهي أودعها معلم البيان لئلا يختل النظام وتتم بها الحجة والبرهان (بيان ذلك) أن الذي جبلت عليه العقول وفطر عليه بارئها حتى يعرفه الطفل المميز بفطرته في جميع الملل والأقوام وفي جميع الألسنة أن يلقوا مقاصدهم بلغاتهم المستعملة بينهم والأنبياء عليهم‌السلام لم يبعثوا إلا بلسان قومهم كما دلت عليه الآية الشريفة (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) وما كلموا الناس إلا بما يعرفونه بمقتضى لغاتهم وعرفهم حتى إنهم عليهم‌السلام لو كانت لهم اصطلاحات مخصوصة لبينوها بما يعرفه الناس بلغاتهم وعرفياتهم وتوضيح ذلك بذكر مقدمات فطرية (الأولى) أنه لا ريب في أنه إن كان في ضمير أحد أن يطلب الماء مثلا من ابنه المميز ولم يقل له ولم يطلب منه الماء فذمه بترك إتيان الماء أو ضربه لذلك فيقول له ولده لم تذمني أو تضربني أقلت لي جئني بالماء فلم آتك به فاستحق بذلك ذمك أو ضربك فالآن أنت تظلمني بمجازاتك لي فالله الذي خلقه أودع في فطرته أن العقاب

__________________

[١] وإن شئت قلت إن مسائل العلم هي محمولات الموضوع ولا تقل العوارض لتبتل بهذه المتاعب التي ابتلوا بها طلاب علوم الدينية

٧

بلا بيان قبيح وظلم لا ينبغي صدوره من عاقل «الثانية» لو طلبت منه الماء بلسانه الذي يفهمه وبلغته التي يعرفها عربيا كان أو فارسيا أو غيرهما ثم لم يأتك بالماء عد نفسه مقصرا بفطرته وإن عاقبته لم يعدك بفطرته مرتكبا للقبيح وليس ذلك إلا لأن اللفظ بالنسبة إلى معناه المستفاد منه لغة وعرفا بيان بالفطرة التي فطر الناس عليها بل ليس من باب بناء العقلاء وإن كان بناء العقلاء عليها بل لأنه هو المنشأ لبناء العقلاء «الثالثة» أنه لا ريب أن في جميع اللغات أمرا أو نهيا ومطلقا ومقيدا وعاما وخاصا وشرطا ومشروطا وغاية ومغيا ومستثنى ومستثنى منه.

وكل الناس يستعملونها ليلا ونهارا في محاوراتهم ويستفاد منها معانيها بالفطرة التي فطر الناس عليها وبسنته التي أجراها بينهم (سنة الله فلن تجد لسنة الله تبديلا) والأنبياء وأوصياؤهم صلوات الله عليهم جمعيا قد جروا بهذه السنة الإلهية والوديعة الفطرية لإتمام الحجة وهداية الأمة ولو كان لهم اصطلاح خاص لبينوه بهذه الفطرة السليمة فلذا كان أصحاب نبينا وأئمتنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفهمون ما يلقى إليهم من دون أن يدرسوا مباحث الألفاظ في الأصول لأن اللغة العربية كسائر اللغات من هذه الجهة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبعث إلا بلسان قومه والأوصياء المرضيون لم يكلموا الناس إلا بما يعرفون من لغاتهم وبهذه تمت الحجة الإلهية البالغة «قل فلله الحجة البالغة فاتضح أن حجية ظواهر الألفاظ أمر فطري إلهي لا حاجة لنا فيها إلى تجشم الأدلة وتكلفها فإن اتضح في لفظ معناه اللغوي أو العرفي فهو الحجة وهو المبين وإن لم يتضح فهو المجمل والمتشابه ولا يحصل البيان به ولا تتم به

٨

الحجة ولا يحصل به البيان ونحن نجري بهذا المنوال في تحرير مباحث الأصول (وقد أطنبنا هذه المقالة لكونها أساسا لمطالبنا الآتية.

٣ ـ فصل قد استدل الإمام عليه‌السلام في الروايات الصحيحة أو المعتبرة بألفاظ الصلاة والزكاة والصوم والحج الواردة في الكتاب الكريم أو في السنة النبوية المجردة من القرائن على هذه الصلاة والزكاة والصوم والحج المشروعة والاستدلال لا يصح إلا حيث تكون هذه الألفاظ ظاهرة في هذه المعاني المعروفة سواء كان بوضع الشارع لها أو بوضعها قبل شرعنا وكونها حقائق لغوية كما قاله في الكفاية واستشهد عليه بقوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم : وقوله تعالى وأذن في الناس بالحج إلخ وقوله تعالى (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا الآية) وكيف كان فهي ظاهرة في هذه المعاني المعروفة في كل ما ورد في الكتاب العزيز والسنة النبوية وهو يكفينا ولا يهمنا البحث فيما زاد عن ذلك فمن تلك الروايات صحيحة معاوية بن وهب قال سألت أبا عبد الله عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم وأحب ذلك إلى الله تعالى عزوجل ما هو فقال عليه‌السلام ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ألا ترى إلى العبد الصالح عيسى بن مريم عليه‌السلام قال وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا.

٢ ـ ومنها حسنة زرارة التي كالصحيحة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال بني الإسلام على خمسة أشياء على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية قال زرارة فقلت وأي شيء من ذلك أفضل فقال عليه‌السلام الولاية أفضل لأنها مفتاحهن

٩

والوالي هو الدليل عليهن قلت ثم الذي يلي ذلك في الفضل فقال الصلاة قلت ثم الذي يليها في الفضل فقال الزكاة لأنه تعالى قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها قلت فما الذي يليها في الفضل قال الحج قلت ما ذا يليه قال الصوم الحديث.

فقد استدل عليه‌السلام أفضلية الصلاة بمعناها المعروفة بأن الله بدأ بها قبل الزكاة وعلى أفضلية الزكاة بأنه تعالى قرنها بها والروايات الدالة على ما ذكرنا كثيرة جدا بل قد يستفاد من الآية الشريفة التي أشار إليها في صحيحة معاوية بن وهب ومن آية (وأذن في الناس بالحج) إلخ أنها كانت مستعملة في هذا المعاني قبل شرعنا وإنما كان الاختلاف في الكيفيات نظير اختلاف الكيفيات في شرعنا باختلاف الأحوال والظاهر أن معنى كل منهما ما هو أعم [١] من الصحيح والفاسد وإن كان المقصود حين ما أمر بها هو الصحيح لكنه غير المعنى الذي استعمل فيه اللفظ وبهذا الاعتبار قد يصح السلب عن غير الصحيح بنحو من التنزيل كما في سائر المفاهيم العرفية والله العالم

__________________

[١] ويؤيد ذلك أو يدل عليه أمور منها تقسيمها إلى الصحيحة والفاسدة والمقسم لا بد أن يكون أعم ومنها أن هذه الألفاظ كما أشرنا إليه كانت مستعملة في المعاني المخصوصة بها قبل شرعنا وإنما كان الاختلاف في الكيفيات كاختلاف شرعنا في الكيفيات ولم توضع كهذه المعاني في شرعنا فتكون حقائق شرعية حتى يبحث عنها في أنها وضعت للصحيحة منها أو الفاسدة ومنها أن لصحيحة لها أنواع مختلفة مثلا لصلاة الصحيحة لها أنواع وأقسام ربما يكون بالكيفية المخصوصة في حال صحيحة وغير صحيحة وحال أخرى وليس لها مفهوم جامع بجميع مصاديق مختلفة العوارض ومنها أن الصحة والفساد من الأوصاف والأوصاف لا تكون داخلة في أصل المفهوم

١٠

«الكلام في الحقيقة والمجاز»

٤ ـ فصل كل معنى أو معان لم يحتج استعمال اللفظ فيه أو فيها إلى مئونة التنزيل ودعوى واعتبار وعلاقة فاستعمال اللفظ فيه أو فيها يكون على نحو الحقيقة فمن لوازم ذلك التبادر وعدم صحة السلب والاطراد في جميع أفرادها وكل معنى أو معان احتاج استعمال اللفظ فيه أو فيها إلى الاعتبار وتنزيل وعلاقة يكون استعماله فيه أو فيها على المجاز.

فالأول مثل لفظ الأسد بالنسبة إلى الحيوان المفترس المعهود.

والثاني استعماله بالنسبة إلى الرجل الشجاع لتنزيله منزلة الأسد ومن لوازم ذلك صحة السلب وعدم الاطراد في جميع أفراد الإنسان و

__________________

والسبب في ذلك أن اللفظ إذا تعين لمعنى لغة أو عرفا لا يحتاج في استعماله في هذا المعنى المعين له في هذه اللغة أو العرف إلى تكلف ودعوى وتنزيل لأنه المعين له وهو المستفاد منه في اللغة أو العرف ولذا لا يتبادر منه هذا المعنى عند أهل هذه العرف أو اللغة ولا يصح سلبه عنه عندهم ويكون التبادر وعدم صحة السلب عندهم دليلا لغيرهم على كونه حقيقة فيه عندهم وبهذا يرتفع الإشكال الذي يورد على جعل التبادر وعدم صحة السلب دليلا على كونه حقيقة فيه من استلزامه الدور المحال وأما إذا استعمل في غير المعنى المعين له فلا بد أن يكون ذلك لمناسبة وعلاقة يصح بها تنزيله منزلة معناه وجعله هو ادعاء وتنزيله لمشابهة ولعلاقة تقتضي ذلك وإلا كان استعماله فيه غلطا لأنه ليس معناه وليس بينه وبين معناه علاقة تصلح بها إقامة مقامه والعلائق غير مضبوطة ولا منحصرة تعدد بل كلما يصلح عند العقلاء وأهل العرف أقامه مقامه بهذه العلاقة ويصح بها ادعاؤه أنه هو تنزيلا جاز بها استعماله فيها وليس محتاجا إلى الوضع وإجازة الواضع كما زعم بعض لعدم الدليل على ذلك.

ولما كان المعنى المجازي غير المعنى اللغوي أو العرفي وإنما جعل مقامه ادعاء وتنزيلا فلذا يصح سلبه عنه عندهم ولا يتبادر ذلك من حاق اللفظ عندهم وعلى هذا يصح جعل صحة السلب وعدم التبادر علاقة المجاز ولا يأتي إشكال الدور الذي أشرنا إليه فيما سبق

١١

عدم التبادر ومن لوازم عدم التبادر احتياج استفادة المعنى منه إلى قرينة والله العالم.

الكلام في صحة استعمال في أكثر من معانيه

٥ ـ فصل قد عرفت أن أصول الفقه أنما هي قواعد مهدت لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن مداركها فهذا التعريف والغاية لا بد أن يكونا ملحوظين في مباحثنا فنقول اللفظ إن كان له [١] معاني متعددة في العرف واللغة فإن كانت قرينة على إرادة واحدة منها أو على إرادة أكثر من معنى واحد كأن يقول المولى إني كلما قلت لك ائتني بعين أريد

__________________

[١] معاني متعددة إلخ قد أحال الاشتراك اللفظي بعضهم وقال إنه نقض للمرام لأن المقصود من الوضع التفهيم والتفهم وهو لا يحصل مع تعدد المعاني وصفا له فهو فكل ما كان من هذا القبيل راجع إلى معنى جامع ولكنك خبير أنه قد يتعلق الغرض العقلائي بالتفهيم والتفهم الإجمالي هذا مضافا إلى أنه اجتهاد في اللغة مخالف للحس وأنه لا يقصد المعنى الجامع ولا يستعمل فيها غالبا ولا ينظر إليه وقد لا يكون بينها جامع يناسبها.

وذهب صاحب الكفاية بعد اختيار جوازه ووقوعه إمكان إرادة المعاني المتعددة مستقلا كل منها في استعمال واحد واستدل عليه بما لا يهمنا ذكره وخلاصة القول فيه أنه لا إشكال في إمكان إرادتها ولو باستعماله في معنى جامع مجازا ولا إشكال في أنه إذا كان للفظ معاني متعددة لا يكون ظاهرا في واحد منهما بالخصوص فحينئذ فإن لم تكن قرينة على إرادة واحدة منها بالخصوص أو على إرادة أكثر منها بالخصوص فلا إشكال في إجمال اللفظ وعدم الحكم بشيء منها والرجوع إلى القواعد الأخر وإن نصبت قرينة وكانت القرينة أيضا مجملة فيسري إجماله إلى إجمال اللفظ وإن كانت القرينة واضحة معينة فيعمل بها وهذا المقدار يكفينا في هذا المقام ولا يهمنا البحث عن سائر الجهات التي جعلوها مورد البحث وأطالوا فيها وقد كان بعض الأساتيذ كثيرا يقول في الدرس هذا مبحث علمي وإن لم يكن له فائدة فقهية وليكن نقول الغاية القصوى من أصول الفقه هي هذه ولو لم تكن لمبحث هذه الفائدة فإعراضنا عنه أولى كما أشار إليه الشهيد الثاني (قدس الله سره)

١٢

منك الذهب فقط أو قال أريد منك الذهب والجارية كل واحد منهما فاللازم أن يتبع ما دلت عليه القرينة وإن لم تكن قرينة على إرادة واحدة منها أو أكثر كان اللفظ من المتشابهات ولا تتم به الحجة ولا يحصل به البيان سواء في ذلك المفرد والتثنية والجمع حقيقة فإنه لا إشكال في أنه يمكن إرادة الأكثر ولو بإرادة عموم المجاز وهذا المقدار يكفينا فيما نحن بصدده ولا يلزمنا البحث في أنه هل يمكن إرادة معنيين مستقلين في استعمال واحد أولا يمكن أو أنه بطريق الحقيقة أو المجاز أو أنه في المفرد مجاز وفي التثنية والجمع حقيقة فإنه لا إشكال في أنه يمكن إرادته ولو بإرادة عموم المجاز بأن يريد المسمى بعين مثلا في المثال السابق ولا إشكال أيضا في أنه ليس ظاهرا في واحدة منها بالخصوص أو في أكثر منها ولو في التثنية والجمع لأنهما وإن كانا ظاهرين في إرادة أكثر من فرد ولكنهما ليسا ظاهرين في إرادة المعاني المتعددة ولا إشكال أيضا في أنه إذا نصبت قرينة على واحدة أو أكثر أو على إرادة المعاني المتعددة في المفرد أو التثنية أو الجمع فيتبع ما دلت عليه القرينة وبها يتم البيان والحجة وبدونها يكون من المتشابهات فيجب أن يرجع إلى المحكمات ولا يبغي تأويلها بالرأي فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والله تعالى أعلم

الكلام في أنه هل يجوز إرادة المعنى الحقيقي أو

المجازي في استعمال واحد

٦ ـ فصل إن استعمل اللفظ ولم تنصب قرينة على إرادة المعني

١٣

المجازي وحده أو إرادته مع المعنى الحقيقي فلا إشكال في أنه يحمل على المعنى الحقيقي وإن نصب قرينة على إرادة المعنى المجازي وحده أو نصبت قرينة على إرادة المعنى المجازي والحقيقي لزم اتباعها على حسب ما دلت عليه القرينة ولا يهمنا البحث في أنه هل يجوز إرادة المعنى الحقيقي والمجازي في استعمال واحد أو يجوز الأعلى نحو إرادة عموم المجاز بأن يريد مجازا معناها ما شاملا للمعنى الحقيقي والمجازي كأن يريد بقوله لا أضع قدمي في دار فلأن مطلق الدخول الشامل لوضع القدم ولغيره الذي هو المعنى المجازي وفي أنه على تقدير الجواز هل هو مجاز فيهما أو حقيقة بالنسبة إلى المعنى الحقيقي ومجاز بالنسبة إلى المعنى المجازي لأن الفرض أنه أراد ونصب قرينته على إرادته ولا يلزم التفتيش عن كيفية إرادته بعد ما كانت جائزة في بعض صورها والله العالم.

الكلام في المشتقات

٧ ـ فصل لا إشكال في أن اللغة العربية كسائر اللغات التي أرشد الله عباده إليها وجعل من آياته اختلافها (ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم) فيها أسماء للذوات من دون اعتبار اتصاف الذات بصفة من الصفات وأسماء باعتبار اتصافه بصفة من الصفات وفي كل اللغات أسماء للفاعل وأسماء للمفعول وأسماء للمعاني وغيرها يعبر عنها بالمشتقات وفي كل اللغات قد يقصد بها الفعلية والشأنية والحرفة والصناعة والملكة يعرف كل ذلك جميع أهل اللغة بطبيعتهم الفطرية التي جعلها الله في فطرتهم وبها هداهم ولا شك أن إطلاقها باعتبار حال التلبس وإن كان ماضيا أو مستقبلا

١٤

أو حالا حقيقة لا مجاز مثلا إطلاق المقتول على سيد الشهداء عليه‌السلام أرواحنا فداه باعتبار مقتوليته يوم العاشوراء في الأيام الماضية والقرون السابقة حقيقة كما أن إطلاق المقتول على من يقتل غدا أو حالا باعتبار حال تلبسه كأن نقول فلان مقتول غدا أو حالا باعتبار وقوع القتل عليه حالا أو غدا حقيقة وأما إذا أطلق على غير حال التلبس باعتبار تنزيله بنحو من الاعتبارات منزلة حال التلبس كأن يقال للسيد الشهداء المقتول يوم الإثنين ويوم قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وارتقى إلى أعلى منازل درجات المقربين باعتبار من الاعتبارات التي يعرفها كل أحد أو أنه المقتول الآن بنحو من الاعتبارات فلا شك في كونه تجوزا يحتاج إلى قرينة تدل عليه ولا يتفاوت في ذلك تفاوت أنواع التلبسات من الفعلية والشأنية والحرفة والصناعة فاتضح أن إطلاق المشتقات باعتبار حال التلبس سواء كان التلبس ماضيا أو حالا أو مستقبلا حقيقة وباعتبار غير حال التلبس بنحو من الاعتبارات والتنزيلات مجاز سواء كان ذلك ماضيا أو حالا أو مستقبلا ومن ذلك يعلم أن الاستشهاد على كونه حقيقة في الماضي باستدلال الإمام عليه‌السلام واستعماله تأسيا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في غير واحد من الأخبار بقوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين على عدم لياقة من عبد صنما لمنصب الإمامة تعريضا بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مديدة لا يدل عليه لأن الإمام لم يستشهد بإطلاق الظالم فعلا على من ظلم سابقا لأن صحة الاستدلال لا يكون مبنيا على إطلاق الظالم فعلا بنحو من الاعتبارات على من كان ظالما سابقا بل مبنى الاستدلال على أن من تلبس بالظلم ولو في وقت من الأوقات ليس قابلا

١٥

للإمامة بمقتضى الآية الكريمة وهذا هو الموضوع في الآية وهذا لا ينافي ما ذكرناه.

الكلام في الأوامر

٨ ـ فصل البحث في أن لفظ [١] الأمر مشترك لفظا بين معان منها الطلب الإلزامي وأنه إذا استعمل في مقام الطلب ظاهر في الإلزام وأن ما كان بمعنى الطلب جمعه على أوامر وما كان بمعنى غيره جمعه على أمور كما في قوله تعالى وإلى الله تصير الأمور راجع إلى مباحث اللغة وليس من مباحث أصول الفقه التي هي القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية وإنما المهم أن البحث في أن صيغة الأمر بأي لفظ كان هل هو ظاهر في الوجوب لتكون قاعدة في مقام استنباط الأحكام الوجوبية من الأوامر اللفظية فنقول اللغة العربية كسائر اللغات لها صيغ تستعمل في مقام الطلب في جميع اللغات يعرفها جميع أهل اللسان من كل الملل والأقوام بفطرياتهم المركوزة فيهم لطفا من الله الذي علمهم البيان حتى يعرفها بتلك الفطرة كبارهم وصغارهم المميزون والشارع لم يحدث طريقة جديدة بل أرسله الله بلسان قومه (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) واللغة العربية ليست ممتازة منها بطريقة خاصة وإنما الاختلاف في الألفاظ والصيغ ولا شك أن التركي إذا قال لولده المميز (سو گتي) أو الفارس

__________________

[١] قد عنون بعضهم لمناسبة ما مبحث الطلب والإرادة وأنهما متغايران بناء على ما يقول الأشاعرة أو أنهما متحدان كما تقوله المعتزلة وأصحابنا ثم انجر كلامه بناء على اتحاد الطلب والإرادة إلى أنه تعالى طلب الأحكام التكليفية وأرادها فحينئذ كيف يتخلف ما أراده الله وطلبه فالتكاليف الشرعية لا تخلو من أن تكون أرادها الله وطلبها فحينئذ كيف

١٦

قال له «آب بيار» أو العربي قال له ائتني بماء يفهم الطفل المميز من العربي والتركي والفارسي مثلا إنه يلزمه إتيان الماء ولم يعذر نفسه من عدم إتيانه إلا أن يجيزه مولاه في تركه وهذه سنة الله التي أودعها في فطرتهم وبها تتم الحجة ويحصل بها البيان الذي لولاه يكون العقاب قبيحا مع المخالفة بل لم يعد مخالفة لولاه نعم لو أجاز المولى مع أمره في تركه لم يكن مذموما في تركه فخلاصة الكلام أنه يلزم حمل الأوامر الواردة في كلام الله والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام بمقتضى الفطرة الربانية والسنة الإلهية المودعة على الإلزام واللزوم ما لم نجد في كلامهم ما يصرفنا عن ذلك وما استدلوا به من الروايات والآيات والعرف أساسه هذه الفطرة الإلهية ولا يلزمنا إثبات العرف أولا ثم إثبات اللغة ثانيا بأصالة عدم النقل نعم يمكن أن يقال إن ذلك لا لأن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب ومجاز في الندب أو غيره بل لأن المولى إذا طلب ممن يليه بأي لفظ كان ولو بلفظ اطلب منك كذا بصيغة المتكلم تلزمه فطرته أن يأتي بما طلبه مولاه ما لم يكن مأذونا في تركه وذلك مقتضى إطلاق الطلب لا لأن الأمر كان حقيقة فيه ومجازا في غيره ولذا إن أمرنا بأمور وأجاز في ترك بعضها ولم يأذن في ترك بعض الأخر لزمنا إتيان تلك البعض ولا يكون ذلك قرينة على استعماله في الندب أو القدر المشترك وبهذه الفطرة السليمة فهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة وكلام الله تعالى من دون أن يستحكموا مباحث الأوامر ويجثوا فيها والله العالم

١٧

الكلام في أن صيغة الأمر بنفسها لا تدل على كونه

نفسيا أو غيريا

٩ ـ فصل لا دلالة في صيغة الأمر في أي لغة كانت على كون المأمور به مطلوبا نفسيا أو غيريا ولا على كونه توصليا أو تعبديا وإنما تدل على كونه مطلوبا نعم يمكن أن يقال إن الغيرية بمنزلة القيد للمطلق يحتاج إلى دليل وقرينة تدل عليها ومع عدمها تحمل على كونه مطلوبا بنفسه وإن لم يكن التعبد به وقصد الامتثال من قيود المأمور به ولكن اعتباره يحتاج إلى البيان وبدونه لا تتم الحجة وبدونها لا يمكن المؤاخذة من قادر حكيم متعال

(الكلام في كيفيات استعمال صيغة الأمر)

١٠ ـ فصل كل الناس يستعملون صيغ الأوامر الواردة في لغاتهم بمقتضى فطرياتهم المركوزة من دون أن يعلمهم معلم في مقام التهديد مثل اعملوا ما شئتم الآية وفي مقام التعجيز (مثل فأتوا بسورة من مثله) وفي مقام الترخيص مثل قوله تعالى كلوا واشربوا ، وإنما المقام قرينة على ذلك فكما أن المقام يكون قرينة على كونها مستعملة في التهديد أو التعجيز كذلك يكون قرينة على الترخيص إذا وردت في مقام رفع الحذر والقرائن في المقامات قد تكون مختلفة في الوضوح والخفاء فإن اتضحت القرينة فقدتم البيان وإلا فتلحق بالمتشابهات أو يؤخذ بما دلت عليه الصيغة بنفسها والله العالم.

١٨

«الكلام في المرة والتكرار»

١١ ـ فصل في جميع الألسنة واللغات إذ أمر المولى عبيدهم والسلاطين رعاياهم في مقام تنظيم القوانين وتعيين الدستور يستفاد منه أنه لا ينحصر بمرة بل يتكرر بحسب تقنينهم ودستورهم ومن هذا القبيل أوامر الصلاة والصوم ولا يدل ذلك على كون الأمر مفيدا للتكرار كما استدل بذلك فإن التكرار فيما كان من هذا القبيل مستفاد من القرائن وكذا قد يستفاد المرة أيضا من القرينة كان قال المولى لعبده في يوم افتح صندوقي وائتني بالثوب الفلاني فإنه لا يسوغ له أن يفتح كل يوم صندوقه ويأتي بثوبه ولكن إن لم تكن قرينة مقامية أو حالية ولا مقالية على أحدهما فإنما يستفاد منه طلب نفس الفعل من دون أن يكون مقيدا بالتكرار أو المرة ولكنه إن أتى به مرة واحدة فقد أتى بما أمره وامتثله وأجزأه وسقط أمره لامتثاله فكفاية المرة لا لكون الصيغة بنفسها دالة عليها حقيقة فيكون استعماله في التكرار مجازا بل هو أمر بالفعل من دون تقييد وقد امتثل وأجزأ وسقط أمره لامتثاله والله العالم

الكلام في الفور والتراخي

١٢ ـ فصل كل الناس باختلاف ألسنتهم ولغاتهم قد يأمرون عبيدهم وأولادهم بصيغتهم المستعملة في ألسنتهم ويشهد حالهم أو القرائن الحالية تدل على أن مقصودهم أن يفعلوا ما أمروا به على الفور وقد يأمرونهم وتشهد القرائن أن مرادهم أن يفعلوا ما أمروا به على التراخي فالصيغة بنفسها قابلة للتقييد بكل منهما نعم يمكن أن يقال إن الصيغة بنفسها تدل على طلب الفعل

١٩

وهو يصح بإطلاقه للفورية والتأخير بحيث إذا استعملت في مقام الفورية أو التراخي لم يكن مجازا ولكن لما كان إيجاد الطلب في حال التكلم فالعقل لا يجوّز للعبد بعد طلب مولاه أن يتسامح بتراخي مطلوبه أياما أو شهورا أو أعواما ما لم يجوّز مولاه ويقل له إن أمرك لا يدل على الفور وأما ما استدل به على الفور من الآيات مثل قوله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم الآية وكذا قوله تعالى فاستبقوا الخيرات فهي بنفسها تدل على أن ما يؤتى به بغير استياق ومسارعة [من الخيرات وأسباب المغفرة] فهي بعكس المطلوب أقوى دلالة ولو فرض دلالتها لكانت الفورية بأمر خارج عن مفاد الصيغة والله العالم.

البحث في الإجزاء

١٣ ـ فصل [١] في اقتضاء الأمر الإجزاء أقول لا ريب في أنه إذ أتى العبد ما أمر به المولى كما أمر به لا يعقل أن لا يجزئ فإن أمر المولى ثانيا كان ذلك أمرا آخر يقتضي امتثالا آخر ولا يتفاوت في ذلك أن يكون ما أمر به المولى

__________________

[١] قبل هذا البحث نزيد مبحثا آخر وهو أن صيغة فعل المضارع المستعملة في مقام الطلب كلفظ يصلي أو يتوضأ هل هي ظاهرة في الوجوب لكونه المتبادر بعد عدم استعمالها في الأخبار أو ليست بظاهرة فيه بل هي ظاهرة في مطلق الطلب سواء كان استحبابيا أو وجوبيا لتعدد المجازات فيها وليس الوجوب أقربها فلا تكون ظاهرا فيه بعد عدم كونها مستعملة في معناه المعنى الحقيقي وهو الأخبار عن وقوع فعل في المستقبل أو الحال.

قلت هذه الصيغة إذا استعملت في مقام بيان الوظائف الراجعة إلى الصلاة أو الوضوء أو غيرهما ظاهرة في استمرار هذه الوظيفة وإنها لازمة له وهذا مقتضى الوجوب ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا إنها ظاهرة في مطلق الطلب فقد ذكرنا أيضا أن المولى إذا طلب من عبده شيئا فمقتضى لزوم إطاعته امتثاله وإتيانه ما لم يرخص المولى في تركه فتأمل.

٢٠