الفوائد الغرويّة

الشيخ إبراهيم المحقّق الرودسري

الفوائد الغرويّة

المؤلف:

الشيخ إبراهيم المحقّق الرودسري


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-6767-02-8
الصفحات: ١٥٦

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشّاكرين ، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد سيّد المرسلين ، وعلى آله السّادة الميامين ، الأئمة من ذرّيّته الأكرمين ، والتّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين.

٣
٤

تقديم

عالج العلامة الفقيه المغفور له الشيخ إبراهيم الرودسري ـ قدس الله نفسه الزكية ـ في كتابه الماثل بين يدي القارئ الكريم «الفوائد الغروية» بحوثا تتصل بالفقه وأصول الفقه ، وكانت معالجته لها معالجة عالم يقظ عارف بالمباني الأصولية والفقهية التي يتبناها الأصوليون والفقهاء الذين درس لديهم المؤلف أو اتصل عصره بعصرهم.

تلفت الفوائد النظر إلى تأني مؤلفها في الاستنتاج والحكم ، فهو غير متسرع إلى الحكم فيما يرتئيه والبت بما توصل إليه ، بل يقلب ما قيل في الموضوع وجها لبطن ويدرس مختلف الآراء والنظريات بعمق وتروي ، ثم يدلي رأيه بين الآراء غير مصر عليه ، بل ربما لا يقطع برأي خاص فيه ويجعل الطريق مفتوحا لباقي النظريات العلمية في المسألة التي يبحث عنها.

إن الكتاب يحتوي على بحوث عامة مهمة يجب أن يتنبه لها الفقيه المتصدي للاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية ، لا يمكن الاستغناء عنها وغض الطرف عن الدقة فيها إذا أراد الباحث أن يكون مدققا عميق النظر في المسائل المطروحة على الصعيد العلمي.

يعلمنا مؤلف هذه الفوائد كيفية البحث عن المسائل والغوص في بحار الآراء لاستخراج اللآلي الصافية وعرضها على الآخرين كنماذج ممتازة يحق الركون إليها والأخذ بها. فيخطط لنا عملا ـ بالرغم من معالجته العلمية المقصودة بالذات ـ طرق التصدي للاجتهاد والاستنباط ، وبه نعرف معنى «المجتهد» و«المستنبط» بالمفهوم الصحيح لهذين التعبيرين.

٥

إنه لمن المؤسف ضياع أكثر هذا الأثر العلمي القيم ، فإن الذي وجدناه منه بين أوراق مبعثرة من كتابات المؤلف ما هي إلا بعض الفوائد تمثل قطعة يسيرة من الكتاب ، ومع ذلك رأينا إحياءها بالطبع منعا من فقدان ما تبقى منه.

لقد عانينا كثيرا من الصعوبة في قراءة المتن ، فإن خط الشيخ ـ أعلى الله مقامه ـ بالرغم من وضوحه ظاهرا كثير الإبهام في كتابة حروفه ، فكان علينا التأني في القراءة والتدبر في السياق والمعنى لمعرفة الصحيح من الكلمات والمستقيم من العبارات. هذا بالإضافة إلى أخطاء أدبية سبق إليها قلم المؤلف ، صححناها من دون تصرف في تعابيره أو تغيير في أسلوبه ، وأوكلنا فهم ما استصعب من الجمل والعبارات إلى فطنة القارئ الذي نعلم أنه من الأفاضل العارفين بأساليب علماء الفن.

إن الذي يشجعنا على العمل في إخراج أمثال هذا الكتاب ، مع ما نلاقيه من المشاق وصرف الوقت الكثير ، شعورنا بضرورة إحياء تراثنا العلمي وإخراجه بشكل فني لائق بذوق العصر ، فإن آثار أعاظم علمائنا تكاد تنسى ويسدل عليها الستار ، وجهدنا في سبيل إحيائها ـ وإن كان ضئيلا لا يروي غليلا ـ إلا أنه خطوة نحو الضالة المنشودة نراها أفضل من وضع اليد على اليد.

ومن الله تعالى نسأل التوفيق والسداد فإنه خير موفق ومعين ...

قم ١٥ شعبان ١٤١٩ ه‍

السيد أحمد الحسيني

٦

ترجمة المؤلف

العلامة الفقيه الأصولي المتتبع الشيخ إبراهيم بن أحمد الجولمي الرودسري المعروف بالمحقق

ولد في مدينة رشت قاعدة جيلان ، وبها نشأ وقرأ الأوليات العلمية ، ثم هاجر إلى النجف الأشرف لأخذ العلم بجوار أبي الأئمة باب مدينة علم الرسول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأقام بها سنين متتلمذا على أعلامها ومدرسيها ، ومنهم الفقهاء العظام الشيخ محمد حسن المامقاني والميرزا حبيب الله الرشتي والسيد عبد العظيم الموسوي الخلخالي ، وطال بقاؤه في النجف بين سنتي ١٢٧٧ ـ ١٣٢١ حسب التواريخ التي رأيناها في كتاباته ، ولعل أكثر استفاداته فقها وأصولا من أستاذه الرشتي حيث نرى أسلوبه واضحا في ما كتبه من الأبحاث.

له نشاط في التأليف والتصنيف ، إلا أن خطه دقيق متداخل صعب القراءة وبعثرت الأوراق وخلط بعضها ببعض بعد موته بحيث لا يمكن إفرازها وترتيبها فعدمت الاستفادة منها.

رجع إلى جيلان بعد أن أكمل دراسته في النجف ونال المرتبة العالية في العلم والمعرفة ، وأقام في مدينة «رودسر» مشتغلا بالوظائف الدينية وإقامة الجماعة وإرشاد المؤمنين وتولي المهام الاجتماعية ، حتى وافاه الأجل وقبره الآن فيها.

لم نجد له ترجمة في كتاب ، ولم نعرف من يلقي ضوءا على حياة هذا العالم الكبير الذي صرف عمره في العلم والعمل ، وإنما ذكرنا ما تقدم اصيادا مما

٧

خلفه من آثاره العلمية ، وهذا مما يؤسف عليه حيث لم تحتفظ لنا تواريخ هؤلاء الفطاحل لنكون على علم بما جريات حياتهم.

خلف كما قلنا كتابات كثيرة مبعثرة بعضها من تقرير أبحاث أساتذته ، ومن تصانيفه التي تمكنا من إفرازها :

١ ـ أصول الفقه ، كبير استدلالي.

٢ ـ حاشية فرائد الأصول للشيخ الأنصاري.

٣ ـ حاشية كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري.

٤ ـ الفوائد الغروية ، وهي الماثلة بين يدي القارئ.

٥ ـ مسائل في الدعوى.

٨

٩
١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين المعصومين.

أما بعد :

فهذا ما نظمه الأحقر الخاطئ إبراهيم بن أحمد الرشتي الرودسري ، بما بلغه فكري وساعد عليه نظري ، وسمّيته ب «الفوائد الغروية» راجيا من الله وأمنائه الهداية.

***

١١

فائدة

[الفرق بين التعريف بالحد وبالرسم]

المعرّف ـ بفتح الراء ـ إما أن يكون كليا أو يكون جزئيا ، والثاني إما أن يكون موجودا خارجيا أو يكون موجودا ذهنيا ولا حظّ له في الخارج أبدا. فصارت الأقسام ثلاثة : أما الأول فيعرّف تارة بالحد تاما أو ناقصا باختلاف المقام ، وأخرى بالرسم أي بما هو المركب من الذاتي وغيره تاما أو ناقصا باختلاف المقام أيضا كما [هو مذكور] في محله مفصلا.

وقد يطلق الثاني مجازا على التعريف بالأشرف الخارج ، وهو بهذا المعنى مختص بالقسم الثاني من الأقسام الثلاثة ، أي لا يعرّف هو إلا به. ويشهد عليه ما هو المعروف المذكور وجهه في محله : من أن التعريف للماهية وبالماهية.

وأما الثالث فيعرّف بالتعريف اللفظي ويعبّر عنه بالتعريف المعنوي ، والشرح الاسمي يطلق عليه الرسمي بمعناه الثاني أيضا تسامحا لا بالحدي مطلقا ولا بالرسمي بمعناه الأول مطلقا ، لانتفاء ملاكهما فيه.

فظهر بما ذكرنا أمور :

منها : أن تعاريف أسماء العلوم التي حقيقتها مسائلها المختلفة التي تجمعها جهة واحدة بها تتميز اسما وتفرد تدوينا ، هي لغوية ولفظية لا غير ، ولذا يجعل لفظ الأول من المعرّف ـ بكسر الراء ـ فيها بمنزلة المعنى لا الجنس نفسه.

١٢

فإطلاق القول بأن تعاريفها رسمية ، لو لم يكن منزّلا على ما ذكرناه خال عن وجه الصحة فيها.

ومنها : الفرق بين التعريف الرسمي بمعناه الأول وفيه بمعناه الثاني المختص بالقسم الثاني ، فافهم.

ومنها : أن التعريف الذي هو مما يتوقف عليه الشروع في العلم هو اللفظي لا غير ، فجعله مطلقا منه لو لم يكن منزّلا عليه خال عن الوجه جزما.

بل يظهر بما ذكرناه حال التعاريف المذكورة في مظانها صحة وفسادا ، فتدبر واغتنم.

١٣

فائدة

[تعريف الفقه وما يرد عليه من الإشكال]

الفقه في اللغة بمعنى الفهم ، ومنه قوله تعالى (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً)(١) أو جودة الفهم ، ومنه ما قيل من أنه الذكاء والفطانة.

وفي اصطلاح المشهور : هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.

والنسبة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي على الأول أعم مطلق والنقل من الكلي إلى فرده ، وعلى الثاني أعم من وجه يجتمعان في العالم الفطن.

ويفترق الثاني عن الأول في الجاهل الفطن ، والأول عن الثاني في العالم الغير الفطن.

وفي كون النقل هنا تعيينيا أو تعيّنيا وجهان ، والمتعين منهما هو الثاني لا الأول ، لأصالة عدم تعدد وضع الواضع أولا ، ولأنه الغالب فيه ثانيا ، فافهم.

ثم العلم يطلق على الاعتقاد الجزمي المعبّر عنه بالتصديق ، وعلى الظن ، وعلى الاعتقاد الراجح الشامل للظن والقطع معا ، وعلى الإدراك المطلق ، وعلى الملكة ، وعلى التصور. وهو حقيقة في الأول دون غيره ، لتصريح أهل اللغة بذلك أولا وللتبادر الذي هو أمارة قطعية عليها لا ظنية ، كصحة التقسيم

__________________

(١). سورة الكهف : ٩٣.

١٤

بالنسبة إلى القدر المشترك ثانيا. فتوهم معارضتها ـ كما عن بعض ـ خال عن وجه الصحة جزما ، والمتعين إرادته منها في المقام هو الخامس لا ما بعده ولا ما قبله. أما الأول فظاهر لا خفاء فيه ، وأما الثاني فلما تأتي الإشارة إليه في دفع إشكال يأتي بيانه ، فانتظر.

ثم الحكم يطلق : على التصديق ، وعلى المسائل التي هي المحمولات ، وعلى النسبة الحكمية بينها وبين الموضوعات ، وعلى الأحكام التكليفية ، وعلى الأحكام الوضعية ، وعلى خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين الجامع بين الرابع والخامس. لأن التعلق إن كان من مصب الاقتضاء أو التخيير فهو الأول ، وإن كان لا من تلك الجهة بل لمجرد وضع الشارع فهو الثاني. والمتعين هاهنا بالإرادة في المقام هو المعنى الثاني الشامل للخامس بناء على عدم أولها إلى الرابع أيضا.

ولا ينافيه خروج الموضوعات التي يبحث عن بعضها المتشرعة كالصلاة والزكاة وأمثالهما في الفقه ؛ لأنها من المبادي التي هي خارجة عن حقيقة العلم ، والبحث عن بعضها المشار إليه في الفقه إنما هو لعدم تنبيه في غيره ، كما أن الأمر كذلك في المبادي كلها ، فلا تغفل.

لا الأول ، لأن المراد به إما تصديق الفقيه أو تصديق الشارع ، والأول مستلزم لكون علم الفقيه بتصديقه مع أنه ليس من الشرعية فقها أوّلا ، وحاصلا عن الأدلة ثانيا. نظرا إلى ما هو الظاهر من تعلق الجار أعني «عن أدلتها» بالعلم ، لاستلزام الثاني لكون علم الفقيه بتصديق الشارع مع أنه ليس من الفرعية بل هي مصدقه فقها أولا ، وحاصلا من الأدلة نظرا إلى ما مرّ ثانيا. وفساد اللازم كنفس الملازمة على التقديرين ظاهر.

١٥

وجعل الجار المزبور متعلقا بالأحكام ـ مع أنه خلاف الظاهر ـ مستلزم لكون تصديق الشارع حاصلا عن الأدلة على الثاني ، ولكون علم الفقيه بتصديقه فقها على الأول. وهو فاسد أيضا لا خفاء فيه ، مضافا إلى عدم متابعته المعنى الأول لاصطلاح المتشرعة ، فافهم.

ولا الثالث ، لأن النسبة الحكمية نفسها ليست من الشرعية ولا من الفرعية كما لا يخفى ، مضافا إلى عدم مناسبة لاصطلاح المتشرعة ، فتبصر.

ومن هنا ظهر ما فيما أفاده المحقق القمي قدس‌سره في القوانين : من أن المراد بالأحكام هو النسب الجزئية التي هي أعم من النسب الحكمية كما لا يخفى ، فافهم (١).

ولا الرابع ، لاستلزامه لخروج الأحكام الوضعية المبحوث عنها في الفقه ـ بناء على عدم أولها إليه وتخصيص البحث بغيرها والتزام الاستطراد فيها على كثرتها مع بحث الفقيه عنها في جميع أبواب الفقه لا سيما المعاملات ، خال عن الوجه جزما.

ومن هنا يظهر ما في الخامس ، فتبصر.

ولا السادس ، لأنه مستلزم لاتحاد الدليل والمدلول ، ولا خفاء فيه وفي بطلانه.

وأجيب عنه بوجهين :

أحدهما : ما أفاده المحقق القمي قدس‌سره في القوانين : من أن الأحكام عبارة عما علم ثبوته من الدين بالإجمال والأدلة عبارة عن الخطابات

__________________

(١). إشارة إلى إمكان القول بأن مراده من النسبة الجزئية هو ما اخترناه من المسائل التي هي المحمولات (منه).

١٦

المفصلة ، فإنّا نعلم أولا بالبديهة أن لآكل الميتة وآكل الربا وغيرهما حكما من الأحكام ولكن لا نعرفه بالتفصيل إلا من قوله تعالى (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ)(١) و (حَرَّمَ الرِّبا)(٢) ونحو ذلك.

وثانيهما : ما عن الأشاعرة من أن كلا من الدليل والمدلول خطاب الله تعالى ، إلا أن الأول خطاب بمعنى أنه كلام لفظي والثاني خطاب بمعنى أنه كلام نفسي ، وهما متغايران جزما.

وفيهما ما لا يخفى ، أما الأول فلأنه ـ مضافا إلى أن المعلومات المجملة بوصفها ليست مفاهيم ومداليل للخطابات المفصلة كي تكون هي أدلة عليها ـ أنه خروج عن فرض كون الحكم بمعناه الاصطلاحي كما لا يخفى ، مع استلزامه لخروج الدليل كالكتاب مثلا عن معناه الاصطلاحي ، لأنه بناء عليه يكون كاشفا عن المدعى لا مثبتا للدعوى كما لا يخفى.

ومما ذكرنا يظهر فساد ما وجهه به بعض محشي القوانين قدس‌سرهما بما هذا لفظه : ولما كانت المعلومات بالإجمال التي يعرف تفاصيلها من الأدلة من قبيل القضايا العقلية والخطابات المفصلة من قبيل القضايا المفصلة ، فلا يتحد الدليل مع مدلوله. انتهى.

وجهه ما عرفته من أن المعلومات بالإجمال بوصفها ليست مفاهيم للخطابات المفصلة كي تكون بالنسبة إليها من قبيل القضايا المعقولة ، فتبصر.

وأما في الثاني فلأنه بالنظر إلى تفسيرهم له «بأنه مدلول للكلام اللفظي قائم بنفس المتكلم قديم مغاير للعلم والإرادة والكراهة» غير معقول ؛ لأن الكلام

__________________

(١). سورة البقرة : ١٧٣.

(٢). سورة البقرة : ٢٧٥.

١٧

اللفظي إما خبري أو إنشائي ، فغاية ما يتصور على الأول أمور أربعة :

أحدها : اللفظ المركب الصادر من المتكلم.

وثانيها : النسبة المستفادة منه المعبّر عنها بالنسبة الذهنية.

وثالثها : النسبة الواقعية النفس الأمرية.

ورابعها : الإذعان بها إثباتا أو نفيا.

والأول لفظي اتفاقا ، والثاني حادث بحدوث اللفظ ويدور معه وجودا وعدما ، والثالث أثر واقعي غير قائم بنفس المتكلم وليس وصفا له وموجودا فيه كسائر صفات النفس كما هو مراد الأشاعرة منه ظاهرا ، والرابع علم مغاير له لا خفاء فيه.

كما أن غاية ما يتصور على الثاني أمور ثلاثة :

أحدها : اللفظ الإنشائي الصادر من المتكلم.

وثانيها : النسبة المستفادة منه التي ليس لها نسبة خارجية تطابقها أو لا تطابقها.

وثالثها : الإرادة التي هي عين الطلب لا غيره.

والأول لفظي اتفاقا ، والثاني حادث بحدوث اللفظ يدور معه وجودا وعدما. وليس بقديم جزما ، والثالث ليس بكلام نفسي كما هو صريح تفسيرهم المزبور ، فأين الكلام اللفظي الذي يكون مدلوله متصفا بالصفات المزبورة ومسمى بالكلام النفسي؟

ومما ذكرنا يظهر فساد ما أفاده بعض محشي القوانين قدس‌سرهما في المقام بعد كلام له بما هذا لفظه : ويمكن دفعه بأن الخبر يعتبر فيه أمر رابع ، وهو النسبة الذهنية الحاكية عن النسبة الواقعية التي هي مناط الصدق والكذب

١٨

باعتبار مطابقتها الواقعية ولا مطابقتها ، وهي تغاير العلم مغايرة العارض والمعروض ؛ فإنها معروضة له. كما أن الإنشاء يعتبر فيه أمر ثالث ، وهو الطلب المغاير للإرادة والكراهة ، كما عليه الأشاعرة خلافا للمعتزلة ، وهو الحق. انتهى.

وجهه بعد ما مرت الإشارة إليه ظاهر ، فتبصر.

ثم ان هنا إشكالين مشهورين أحدهما ما ينشأ من ظاهر لفظي العلم والأحكام ، ويناسب لما اخترناه سابقا من معنى الحكم لا غيره كما مرت إليه الإشارة ، وقرّره في القوانين قدس‌سره بما هذا لفظه : إن الفقه أكثره من باب الظن لإثباته غالبا على ما هو ظني الدلالة أو السند فما معنى العلم ، ومحصّله إن لفظ العلم ظاهر في القطع ولفظ الأحكام بمادته ظاهر في الحكم الواقعي الأولي ، فإرادة الظاهر منهما ـ كما هو الظاهر ـ مستلزمة لخروج أكثر المسائل للبناء المزبور ، فلا ينعكس التعريف جزما.

وأجيب عنه تارة بالتصرف في لفظ العلم وهو لوجهين :

أحدهما : أن المراد بالعلم هنا الظن ، وإنه استعارة منه بمثابة رجحان الحصول كما عن الزبدة.

وثانيهما : أن المراد به هو الاعتقاد الراجح معبرا عنه بذكر الخاص وإرادة العام الشامل للظن والقطع معا كما في المعالم.

ولا يخفى ما فيهما : أما الأول فلأنه وإن كان مما يندفع به الإشكال ، إلا أن الالتزام بكون مظنون الفقيه كله أو مقطوعه كله حكما واقعيا أوّليا دائما لا يناسب مع مذهب المخطئة كمناسبته مع المصوبة ، فهو كرّ على ما فرّ منه بوجه آخر لا خفاء فيه. ومنه يظهر ما في الثاني.

١٩

بل يرد ما ذكرنا إذا أريد بالعلم الإدراك المطلق أيضا كما لا يخفى ، فتبصر.

فإن قلت : إنه يرد إذا أريد بالعلم الملكة أيضا كما اعتبرته سابقا ، لأن المستنبط منها ليس كان حكما واقعيا أوّليا على رأي المخطئة ، فلا فرق بينه وبين غيره من المعاني المزبورة ولا فائدة فيه أيضا.

قلت : هذا متوجه إذا كان وجه ما احترزه من الملكة هو الاحتراز عن هذا الإشكال ، وإلا كما ستأتي الإشارة إليه في الإشكال الثاني ويظهر فيه الفرق والفائدة أيضا فلا ، كما أن جوابنا عن الإشكال الأول وجه آخر لا فرق فيه بين أن يكون المراد من العلم معناه الحقيقي أو ما اخترناه من الملكة أيضا دون غيرهما ، وأخرى بالتصرف في لفظ الأحكام بصرفه عن ظاهره ، ويناسب ما اخترناه من معنى الحكم سابقا وهو المتعين محصّله : إن الأحكام الشرعية تنقسم إلى أقسام ثلاثة :

الأول : الواقعية الأولية التي لم يلحظ في جعلها وصفا من أوصاف المكلف ، كالضرر والخوف والجهل ونحوها.

الثاني : الواقعية الثانوية المعبر عنها بالأحكام الظاهرية ، التي لوحظ في جعلها وصفا من الأوصاف المزبورة.

الثالث : الأحكام الفعلية التي هي عبارة عما يتعلق بالمكلف باجتماع شرائطه وارتفاع موانعه يكون جامعا بين الأولين ومنشأ للمثوبة والعقوبة.

والمراد من الأحكام في التعريف هو القسم الثالث الذي قطعيتها خالية عن الشبهة ، فلا مجال للإشكال حينئذ بالبديهة.

وإليه يرجع ما عن العلامة قدس‌سره من أن الظن في طريق الحكم لا فيه نفسه ، وظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم. فالاعتراض عليه بأنه يناسب

٢٠